ولتعلم أن الذين ينكرون الله يهدمون كرامة الإنسان، إذ كان الإنسان بجسده قريبا من الحيوان، فإن لم يكن بروحه قريبا من الله فهو مخلوق لئيم خسيس.
كذلك يهدم من ينكرون الله مروءة الإنسان وما في طبعه من سمو وشرف، ولنراقب ذلك في مثال الكلب وما يتمثل فيه من الكرم والشجاعة حين تشمله رعاية مولاه، وهو عنده بديل من الإله، أو طبيعة عليا بالقياس إليه، وما كانت لتخامر مخلوقا مثله تلك الشجاعة لولا اعتماده على طبيعة خير من طبيعته تكلؤه وترعاه.
والإنسان على هذا المنوال يستجمع القوة واليقين الذي لا قبل للطبيعة الآدمية به حين يركن إلى العناية الإلهية والرعاية السماوية.
فالإلحاد وهو خلة بغيضة من شتى الوجوه يزداد بغضا بهذه الجناية التي تحرم الطبيعة الآدمية وسائل الترفع عن ضعتها والسمو على ضعفها.
وشأن الأفراد في ذلك شأن الأمم والأقوام، وما تناهت النخوة بآل رومة إلا من ذاك، كما قال شيشرون وهو يخاطب أبناء قومه: «سادتي، إننا نكبر أنفسنا ما نشاء، ولكننا على أية حال لا نفوق الأسبان في الكثرة ولا الغاليين في القوة، ولا القرطجنيين في الحيلة، ولا الإغريق في الفن، بل لا نفوق الإيطاليين واللاتين في الغرام الفطري بهذا الوطن وهذه الأمة، ولكننا في التقوى أو الحاسة الدينية، أو في تلك الحكمة الخاصة التي ترجع بتدبير جميع الأشياء وهدايتها إلى العناية الإلهية - نحسبنا قد تفوقنا ولا ريب على جميع الأمم وجميع الأقوام.»
الظن
الظنون بين الأفكار كالخفافيش بين الطيور، لا تطير إلا في غسق المساء.
ومن الحق أن تكبح أو تراقب على حذر؛ لأنها تغيم على العقل وتضيع الأصدقاء وتعطل العمل، فلا يجري في مجراه على استقامة وسهولة.
وهي تغري الملوك بالطغيان والأزواج بالغيرة والحكماء بالتردد والوجوم، وهي عيوب في الرءوس لا في القلوب؛ لأنها تتسل إلى أقوى الطبائع كما رأينا في مثال هنري السابع ملك هذه البلاد، فلم يكن قط رجل أقوى منه ولا أميل منه مع الظنون، وذاك الذي يعصم بعض العصمة، فلا ينجم من الظن إلا اليسير من الأضرار؛ لأنه لا يؤخذ على علاته ولا يقبل إلا بعد امتحان وترجيح.
ولكنه سريع التمكن في الطبائع التي يملكها الخوف، ولا شيء يدعو إلى إفراط في الظن من الإقلال في العلم اليقيني، فمن التمس دواء للظن فليلتمسه في زيادة العلم واستقصائه، ولا يقنع بكظمه والسكوت عليه.
Unknown page