أمضينا أنا وإليزابيث كل لحظة معا، وعادة ما كان ينضم إلينا صديقنا هنري كليرفال، الذي كان ودودا محبا للهو والمرح، وكان ثلاثتنا مختلفين اختلاف الليل والنهار، ومع ذلك أحببنا بعضنا بعضا. نعم ثلاثتنا بطفولة سعيدة سعادة بالغة، وكانا هما أعز أصدقائي، وكنت على يقين من أننا سنظل على الدوام مقربين بعضنا من بعض.
كنت صبيا رزينا دائم التفكير. وأردت أن أتعلم كل شيء وأي شيء، وقد استهوتني أسرار السماء والأرض إلى ما لا نهاية، فكان لا يشغلني شيء سوى العالم من حولي: كيف يسير؟ ولم نحن هنا؟ وكيف جئنا كلنا إلى هذا العالم؟ وما الذي يبعث الحياة في شيء ما؟ ومتى أثارت دراستي اضطرابي - وهو ما كان يحدث كثيرا - كانت إليزابيث تهدئ من روعي. وعندما كنت أصب جم تركيزي على موضوع واحد كان هنري يضحكني.
ولما كبرت تعمقت في دراستي أكثر فأكثر، وأذهلتني قوة العلوم الحديثة، فكنت أقرأ طوال الوقت، وسودت الدفاتر بأفكاري. وباتت كلمات العلماء هي حياتي. وكلما استذكرت تعاظمت رغبتي في معرفة المزيد، فقرأت المزيد والمزيد. لكن كلما قرأت أكثر ازداد انزعاجي؛ إذ لم يجب ولا عالم واحد عن أسئلتي قط، ولم يخبرني ولا كتاب واحد بما أردت أن أعرفه بالضبط. كانت الأفكار تتزاحم برأسي طوال الليل عادة. وكان أصدقائي وأفراد عائلتي لطفاء، فتغاضوا عن أمزجتي المتقلبة، وكانوا يدعمونني مع أنني كنت أمضي أوقاتا طويلة منكبا على قراءة كتب قديمة تعلوها الأتربة.
وظلت الطبيعة مثار تساؤل وغموض لي. بحثت عن سر الحياة. في حقيقة الأمر أردت أن أصنع حياة، لكنني علمت أنه ليس في مقدوري فعل هذا. ولم يكن الوقت والمال يعنيان لي الكثير. الشيء الوحيد الذي كان يهمني هو الاهتداء إلى اكتشاف عظيم. لعلي أستطيع إنقاذ البشرية من الأمراض. وربما أمكنني منع الموت العنيف. ولعلي أستطيع في نهاية المطاف الإجابة عن تلك الأسئلة الغامضة.
وفيما كنا نقيم في بيتنا الصيفي الصغير، في الصيف الذي بلغت فيه الخامسة عشرة من العمر، إذ بعاصفة عنيفة هوجاء تهب دون سابق إنذار تقريبا، والرعد يهزم عاليا في السماء، والسماء تتقد بوميض البرق. وقفت عند الباب الخلفي وحدقت في السحب أتابع العاصفة. وفجأة قصف الرعد بقوة في كل الأرجاء! وبعد لحظة ضربت صاعقة برق شجرة بلوط قديمة أمامي مباشرة، فقسمت قوة الصاعقة الشجرة إلى نصفين ثم اضطرمت النيران فيها.
وعندما خرجت في الصباح التالي لأتفقد الشجرة، كان كل ما وجدته هو جذل محترق وقطع خشب متناثرة في كل مكان.
ومن ثم ركزت بشدة على الكهرباء، إذ أردت أن أعرف كيف اجتمعت كل هذه القوة في صاعقة برق؛ فبدأت بالأساسيات ودرست الرياضيات. علمت أن المبادئ الأساسية تحوي الخيط الذي سيمكنني من بناء مجدي الشخصي. وسرعان ما انشغلت بمنطق الأعداد. لعلي لو علمت حينذاك ما الذي سيحل بي في السنوات اللاحقة، لامتنعت عن الدراسة، لكن القدر دبر الأمور بطريقته، وحدثت العاصفة لسبب ما.
الفصل الثالث
مأساة تحل بالأسرة
مرت السنون وكبرنا. وسرعان ما آن أوان سفري للالتحاق بالجامعة. وقبل رحيلي إلى ألمانيا مباشرة مرضت إليزابيث بشدة بالحمى القرمزية، واستبد بنا جميعا القلق من أجلها، وما زاد الأمر سوءا أن الطبيب أخبرنا أن نبتعد عنها خشية أن تنتقل العدوى إلى أي أحد آخر.
Unknown page