وقد قدمنا ما كان من موقف عمار في شأن ابن مسعود وفي شأن أبي ذر، وما قيل من أن عثمان هم بنفيه ثم كف عنه. ومهما يكن من شيء فقد كان عمار من أشد الناس معارضة لعثمان وأكثرهم تشهيرا به وطعنا عليه، يشارك في ذلك المعتدلين من أصحاب النبي، ويشارك فيه الغلاة من الطارئين على المدينة، ولقي في ذلك ما لقي من الأذى.
هؤلاء هم زعماء المعارضة في المدينة، وكلهم كما ترى من كبار الصحابة وأعلام المهاجرين. فأما الأنصار فلم يكونوا يتصدرون المعارضة لأنهم أبعدوا عن الحكم، ولكنهم كانوا يشاركون فيها كما تشارك الجماهير. وقد يقول القائل منهم كلمة هنا وهناك، كالذي روينا من شعر زياد البياضي في عبيد الله بن عمر. وكانت كثرة الأنصار منحرفة عن عثمان لا يكاد يواليه منهم إلا نفر قليل، في مقدمتهم زيد بن ثابت وكعب بن مالك وحسان بن ثابت. وكان كبار الأنصار ربما توسطوا بين عثمان ومعارضيه، كما سترى من توسط محمد بن مسلمة بين عثمان والمصريين. وقد نشأت في المدينة أيام عثمان معارضة شعبية خفية تجري بها الألسنة ولا يعرف صاحبها، كالذي كان حين وسع عثمان مسجد النبي، فقال الناس: يوسع مسجد النبي ويترك سنته. وكالذي كان حين كثر الحمام في المدينة وأقبل الشباب على الرمي، فتقدم عثمان إلى الناس في ذبح الحمام وولى رجلا يمنع الرمي بالبندق. فقال الناس: يأمر بذبح الحمام ويئوي طريدي رسول الله! يشيرون إلى إيواء عثمان للحكم بن أبي العاص وبنيه.
وأظن أني قد صورت لك تصويرا مقاربا حال الناس حين حدثت الأحداث أيام عثمان، وحال المعارضة في الأمصار وفي المدينة. وأصبح من اليسير الآن أن نستقبل هذه الأحداث نفسها، فنعرضها ونعرض رأي القدماء فيها، ونقول بعد ذلك فيها برأينا نحن، لا نتوخى إلا الحق والقصد والصواب ما وجدنا إلى ذلك سبيلا.
الفصل الثاني والعشرون
ونحب أن نلاحظ قبل كل شيء أن الذين عابوا عثمان ونقدوا سيرته من القدماء لم يعرضوا في عيبهم ونقدهم لسياسته في الفتح. فقد جرت هذه السياسة فيما يظهر على النهج الذي جرت عليه أيام عمر، والذي أخذ عثمان به قواده حين استخلف في الكتاب الذي رويناه من قبل. والذين يتتبعون تاريخ الفتح أيام عثمان يلاحظون أن عماله وقواده قد أبلوا في ذلك أحسن البلاء، وأغنوا فيه أجمل الغناء. فقد كانت بعض الكور والأقاليم التي فتحت أيام عمر تنتقض أو تحاول الانتقاض، فلا يلبث العمال والقواد أن يردوها إلى الطاعة بالحرب غالبا، وبإظهار القوة والبأس أحيانا.
ومات عمر ولم يتم افتتاح بلاد الفرس كلها، بل مات عمر وما زال كسرى يزدجرد حيا يتنقل بالهزيمة من كورة إلى كورة ومن مدينة إلى مدينة، يجتمع الناس إليه هنا ويتفرقون عنه هناك، ولكنه على ذلك قائم يعتز بما ورث من حقه في الملك والسلطان، وبما له في أعناق المغلوبين والمقاومين والذين لم تصل الحرب إلى أقطارهم بعد من وجوب الطاعة له والاعتراف بحقه. فما زال عمال عثمان وقواده في الثغور التي تلي الكوفة والبصرة يوغلون في الأرض، ويمضون في الفتح، ويتتبعون أنصاره ويفرقونهم عنه، ويقتطعون المدن والأقاليم التي كان له عليها سلطان فعلي أو وهمي، حتى ألجئوه إلى أن يمضي هاربا ليس له نصير ولا عون، وانتهى أمره إلى ان قتل. وانقرضت بذلك دولة الأكاسرة في أيام عثمان. ثم مضى قواده وعماله حتى بلغوا أرض الترك، وحتى كانت بينهم وبينهم خطوب. وفي أيام عثمان فتحت إرمينية، وفي أيامه كذلك امتد سلطان الدولة في المغرب، ففتحت إفريقية، وكانت الغارة على الأندلس. وفي أيامه أقدم معاوية وعبد الله بن سعد بن أبي سرح على ما لم يكن من الممكن أن يقدم عليه وال أو عامل في أيام عمر، فغزوا الروم من قبل البحر حتى أخذت منهم قبرس، وحتى بلغ أسطول المسلمين مضيق القسطنطينية، وحتى انتصر عبد الله بن سعد انتصارا حاسما على أسطول الروم في واقعة ذات الصواري.
فقد أتيح لعثمان من القوة العسكرية مثل ما أتيح لعمر، وأتيح له من التوسع في الفتح والقضاء على دولة الأكاسرة وإذلال الروم في البر والبحر ما لم يتح لعمر. ولكن هذا نفسه كان مصدرا من مصادر الفتنة والخلاف؛ فقد كان الفتح يتيح للمسلمين من الغنائم والفيء شيئا كثيرا، وكان تصرف عثمان في بعض تلك الغنائم وهذا الفيء ربما أحفظ الجند، كالذي كان من أمر عبد الله بن سعد ومروان بن الحكم في فتح إفريقية، وربما أحفظ المهاجرين والأنصار كالذي كان من تصرف عثمان في بعض ما كان في بيت المال من الجوهر والحلي، حتى لامه المسلمون وأغضبوه، فخطب خطبته تلك التي انتهت بضرب عمار بن ياسر. ولكن الشيء الذي ليس فيه شك هو أن سلطان الدولة لم يضعف من الناحية الخارجية، وإنما ازداد قوة إلى قوة وبأسا إلى بأس أيام عثمان.
ويجب أن نلاحظ بعد ذلك أن الناس وقفوا من الأحداث التي حدثت أيام عثمان ومن نصيب عثمان منها مواقف متباينة أشد التباين: فقوم أراحوا أنفسهم جملة، وقالوا إن أكثر هذه الأحداث مكذوب مصنوع لم يصح وقوعه، وإنما تكلفه المتكلفون، أراد بعضهم به الكيد للإسلام، ودفع بعضهم إليه بما كان من الخصومة العنيفة بين الأحزاب. وهم من أجل ذلك يرفضون أكثر الأحداث، ويرون فيما يقبلون منها أنها أمور ليست بذات خطر، ذهب فيها الإمام مذهب الاجتهاد، فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، وهو على كل حال لم يرد إلا الخير، ولم يكن يريد ولا يمكن أن يريد إلا الخير. وهم يرون مثل هذا الرأي فيما يقبلون من الروايات التي تتحدث ببعض ما كان بين عثمان وأصحاب النبي من الخصومة. أكثر هذه الروايات عندهم مكذوب مصنوع، وقليل منها يقبل على ما مضى من التأول، أي على أنه كان نتيجة الاجتهاد؛ ومن اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد.
وأكثر الذين يذهبون هذا المذهب إنما يدفعون إليه لأنهم يقدسون ذلك العصر من عصور الإسلام، ويكرهون أن يحملوا على أصحاب النبي ما يحمل عادة على الذين يستقبلون أمور الدنيا بما في نفوسهم من استعداد للمنافسة والاصطراع حول أعراض وأغراض لا تلائم قوما صحبوا رسول الله، وأبلوا في سبيل الله أحسن البلاء، وأسسوا الدولة بما أنفقوا في ذلك من دمائهم وأموالهم وجهودهم. فهم يخطئون ويصيبون، ولكنهم يجتهدون دائما، ويسرعون إلى الخير دائما. فلا يمكن أن يتورطوا في الكبائر ولا أن يحدثوا إلا هذه الصغائر التي يغفرها الله للمحسنين من عباده. وقليل من الذين يرون هذا الرأي ويذهبون هذا المذهب يدفعون إلى ذلك بحكم الكسل العقلي الذي يمنعهم من البحث والدرس والاستقصاء.
وقوم آخرون يريحون أنفسهم نوعا آخر من الإراحة، فيستبعدون أن تقع هذه الأحداث والفتن من أصحاب النبي، ويرون أنها مؤامرات دبرها الكائدون للإسلام، كعبد الله بن سبأ ومن لف لفه من أهل الكتاب وغير أهل الكتاب.
Unknown page