فقال له علي: إذن تمنع من ذلك. وعلى كل حال لم يخرج علي قط في سيرته مع عثمان عن النصح والمشورة والنقد الشديد أحيانا. وهو كان يتوسط بين عثمان وبين الناقمين منه والخارجين عليه، يبصر عثمان بالحق، ويرد الناس عن الفتنة. حتى إذا استيأس من مقاومة عثمان لأهل بيته، لزم داره ولم يتوسط بينه وبين الناس. ثم هو مع ذلك ظل بارا بعثمان أثناء الحصار، فأنفذ إليه الماء وأرسل ابنيه لمقاومة المحاصرين. وما ينكر أحد أن التنافس بين علي وعثمان قد اتصل أثناء خلافة عثمان كلها. ولكن الشيء الذي لا شك فيه هو أن قرابة عثمان ما زالت به حتى أخافته من علي إلى أبعد حد ممكن. ولو قد سار عثمان سيرة عمر، ولو لم تدخل قرابة عثمان بينه وبين الناس؛ لكان من غير المشكوك فيه أن يسير معه على سيرته مع الشيخين من قبل. ولكن لو سار عثمان سيرة عمر ولو لم تدخل قرابته بينه وبين الناس؛ لما كانت الفتنة، ولما احتجنا إلى إملاء هذا الكتاب.
والدليل على أن قرابة عثمان هي التي أفسدت الأمر بينه وبين علي حتى هم ذات يوم أن يبطش به، ما رواه البلاذري في «أنساب الأشراف» بإسناده من أن العباس توسط بينهما، فقال لعثمان: أذكرك الله في أمر ابن عمك وابن خالك وصهرك وصاحبك مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ فقد بلغني أنك تريد أن تقوم به وبأصحابه. فقال: «أول ما أجيبك به أني قد شفعتك. إن عليا لو شاء لم يكن أحد عندي إلا دونه، ولكنه أبى إلا رأيه.» ثم قال لعلي مثل قوله لعثمان، فقال علي: «لو أمرني عثمان أن أخرج من داري لخرجت.»
1
ولكن هذه الوساطة لم تغن شيئا؛ فقد مضى عثمان في سياسته، ومضى علي في معارضته، ومضت قرابة عثمان في إفساد الأمر بينهما، حتى اشتد الحرج. فروى البلاذري بإسناده أيضا عن عبد الله بن عباس: «أن عثمان شكا عليا إلى العباس، فقال له: يا خال، إن عليا قطع رحمي وألب الناس ابنك. والله لئن كنتم يا بني عبد المطلب أقررتم هذا الأمر في أيدي بني تميم وعدى، فبنو عبد مناف أحق ألا تنازعوهم فيه ولا تحسدوهم عليه. قال عبد الله بن العباس: فأطرق أبي طويلا، ثم قال: يا ابن أخت، لئن كنت لا تحمد عليا فما يحمدك له، وإن حقك في القرابة والإمامة للحق الذي لا يدفع ولا يجحد. فلو رقيت فيما تطأطأ أو تطأطأت فيما رقي تقاربتما، وكان ذلك أوصل وأجمل. قال: قد صيرت الأمر في ذلك إليك، فقرب الأمر بيننا. قال: فلما خرجنا من عنده دخل عليه مروان فأزاله عن رأيه. فما لبثنا أن جاء رسول عثمان بالرجوع إليه، فلما رجع قال: يا خال أحب أن تؤخر النظر في الأمر الذي ألقيت إليك حتى أرى من رأيي. فخرج أبي من عنده ثم التفت إلي فقال: يا بني ليس إلى هذا الرجل من أمره شيء، ثم قال: اللهم اسبق بي الفتن ولا تبقني إلى ما لا خير لي في البقاء إليه. فما كانت جمعة حتى هلك.»
2
فقد سفر العباس إذن سفارة الخير بين الرجلين فوفق للنجح. وهم عثمان أن يسفره للمرة الثانية، وكان خليقا أن يصيب من النجح ما أصاب في المرة الأولى، ولكن مروان صرفه عن هذا الرأي، فجعلت الأمور تمضي من فساد إلى فساد حتى كانت الفتنة التي توقعها العباس.
وقد رأيت في هذه الفصول الخمسة الأخيرة أطرافا من سيرة أصحاب الشورى ومن موقفهم بإزاء عثمان بعد استخلافه. ولعل خير ما نختم به هذه الفصول ما يروى من رأي عمر في هؤلاء النفر. وسواء أصحت بذلك الرواية عن عمر أم لم تصح؛ فإن هذا الرأي يصور ما استقر في نفوس الناس وفي نفوس الرواة والمؤرخين وأصحاب الحديث خاصة من صورهم.
روى البلاذري بإسناده عن ابن عباس قال: «قال عمر: لا أدري ما أصنع بأمة محمد، وذلك قبل أن يطعن. فقلت: ولم تهتم وأنت تجد من تستخلفه عليهم؟ قال: أصاحبكم؟ - يعني عليا - قلت: نعم، هو أهل لها في قرابته برسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وصهره وسابقته وبلائه. فقال عمر: إن فيه بطالة وفكاهة. فقلت: فأين أنت عن طلحة؟ قال: فأين الزهو والنخوة؟ قلت: عبد الرحمن بن عوف؟ قال: هو رجل صالح على ضعف. قلت: فسعد؟ قال: ذاك صاحب مقنب وقتال، لا يقوم بقرية لو حمل أمرها. قلت: فالزبير؟ قال: لقيس مؤمن الرضا، كافر الغضب شحيح. إن هذا الأمر لا يصح إلا لقوي في غير عنف، رفيق في غير ضعف، جواد في غير سرف. قلت: فأين أنت عن عثمان؟ قال: لو وليها لحمل بني أبي معيط على رقاب الناس، ولو فعلها لقتلوه.»
Unknown page