ولا يعلم الرواة من أمر عثمان في جاهليته إلا نسبه، فهو ابن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي. فهو يلتقي مع النبي في عبد مناف من قبل أبيه، ولكنه يلتقي مع النبي من قبل أمه لقاء أقرب من هذا؛ فأمه أروى بنت كريز، وأم أروى هي البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم؛ فقد كانت أروى إذن بنت عمة النبي.
وقد تعلق الأمويون فيما بعد على علي وأصحابه من بني هاشم بهذه الرحم، فلاموا عليا لأنه خذل ابن عمته وابن عمه، وهو ابن عمته لما رأيت، وهو ابن عمه لالتقائه مع بني عبد المطلب في عبد مناف الذي ولد هاشما جد الهاشميين وعبد شمس جد الأمويين. وكان عفان، كما كان أبوه، وكما كان بنو أمية جميعا، بل بنو عبد شمس، بل كثرة قريش، صاحب تجارة يخرج فيها إلى الشام. وقد مات في إحدى خرجاته وترك لابنه ثراء حسنا. وذهب عثمان مذهب أبيه، بل مذهب قومه جميعا في التجارة، فأفاد منها مالا كثيرا.
وعاد من الشام ذات يوم، فسمع بالدعوة الجديدة التي كان النبي قد أخذ يدعوها: سمع بذلك في أهل بيته في حديث طويل يرويه المحدثون وأصحاب السير؛ فقد زعموا أن خالته سعدى أنبأته بأمر النبي ورغبته فيه، وكانت كاهنة، وزعموا كذلك أنه أنبئ بأمر النبي أثناء عودته من الشام مع طلحة بن عبيد الله. سمع وهو بين النائم واليقظان مناديا ينبئ بخروج أحمد في مكة، فلما عاد إلى مكة أنبئ النبأ فوقع في قلبه منه شيء. والذي يتفق عليه الرواة هو أنه لقي أبا بكر فتحدث إليه وسمع منه، ودعاه أبو بكر إلى الإسلام فمال قلبه إليه. ثم صحب أبا بكر إلى النبي، فدعاه النبي ووعظه، فاستجاب له ولم يقم عنه إلا بعد أن أسلم. ويقال إن طلحة أسلم معه في ذلك المجلس، ويقال إنهما أسلما، في أثر الزبير بن العوام. ومهما يكن من شيء فقد كان عثمان من السابقين إلى الإسلام؛ كان أحد العشرة الرابعة من الرجال الذين سبقوا إليه، وكان إسلامه قبل أن يستقر النبي بدعوته في دار الأرقم.
ثم أصهر عثمان إلى النبي فتزوج ابنته رقية، وأصبح بعد هذا الصهر من أقرب الناس إليه وآثرهم عنده، ثم كانت المحنة؛ أصابته كما أصابت غيره من المسلمين، فقد قيل: إن عمه الحكم بن أبي العاص لما علم بإسلامه عنفه تعنيفا شديدا وأوثقه، وأقسم لا يضع عنه وثاقه حتى يعود إلى دين آبائه، فلما رأى تشدد عثمان في دينه رد إليه حريته. ويقال كذلك إن أمه أعرضت عنه إعراضا شديدا، فلما لم يغن عنها ذلك شيئا ثابت إليه. ولما أذن النبي لأصحابه في الهجرة إلى الحبشة هاجر عثمان ومعه زوجه، ثم عاد بها، ثم هاجر معها الهجرة الثانية إلى الحبشة أيضا، ثم هاجر إلى المدينة حين اتخذها النبي للإسلام دارا، فلما خرج النبي بأصحابه إلى بدر لم يخرج معه عثمان؛ كانت زوجه رقية مريضة فأقام على تمريضها، وأنزل الله نصره على المسلمين يوم بدر، فأسهم له النبي مع الذين شهدوا الموقعة وعده منهم. وماتت رقية فجزع لموتها جزعا شديدا لانقطاع الصهر بموتها بينه وبين النبي، ولكن النبي زوجه أختها أم كلثوم، فلم تلبث عنده إلا قليلا حتى ماتت.
وقال النبي فيما يروي أصحاب السير: لو كانت عندنا أخرى لزوجناها عثمان. وكانت رقية قد ولدت له عبد الله، ولكنه مات في السادسة من عمره. وكذلك كاد عثمان أن يعقب من إحدى بنات النبي، ولو قد عاش ابنه عبد الله لكان له ولأبيه شأن أي شأن، ولكان أمره غير بعيد من أمر الحسن والحسين ابني فاطمة، رحمهم الله جميعا.
وشهد عثمان مع النبي أحدا، ولكنه لم يثبت مع القلة التي ثبتت معه، وإنما فر مع كثرة المسلمين التي تولت، فأنزل الله عفوه عنها في الآية الكريمة:
إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم .
ثم شهد المشاهد كلها مع رسول الله كما شهدها غيره من كبار أصحابه ، ولكنه كان كريما سخي النفس واليد بماله في سبيل الله، فعل من ذلك ما لم يفعله غيره من أغنياء المسلمين حينئذ، فهو اشترى بئر رومة من ماله بألوف كثيرة وجعلها للمسلمين يدلي فيها كما يدلون، ووعده النبي بخير منها في الجنة. وهو كذلك اشترى أرضا وسع بها النبي المسجد حين ضاق بالناس ووعده النبي خيرا منها في الجنة، فلما كانت غزوة تبوك واشتد العسر وندب النبي الناس إلى الإنفاق في سبيل الله، قام عثمان بتجهيز الجيش، فقيل: إنه حمل المسلمين على ما احتاجوا أن يحملوا عليه من الإبل والخيل، وقيل: إنه أقبل بألف دينار فوضعها في حجر النبي واستعان النبي بها على تجهيز الجيش، ودعا لعثمان أن يغفر له الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر ووعده بالجنة.
وكان عثمان أبر الناس بالناس، وأرفق المسلمين بالمسلمين وأحرصهم على صلة الرحم وأسخاهم يدا وأسمحهم نفسا وأعظمهم حلما، وكانت الخصلة التي ميزه بها النبي فيما روى المحدثون وأصحاب السير، صدق الحياء، وكان النبي يقول: إن الملائكة لتستحيي من عثمان. وكان النبي يلقى أصحابه متفضلا غير متكلف، فإذا أذن لعثمان احتشم وقال: كيف لا نستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة. وكان النبي يعلل احتشامه حين يأذن لعثمان بأنه إن لم يفعل استحيا عثمان أن يثبت بين يديه وأن يبلغه حاجته ويأخذ حظه من التحدث إليه. ولما كان يوم الحديبية اختار النبي عثمان سفيرا إلى قريش؛ لمكانه من بني أمية، ولمنزلته من قريش، وللينه وسماحة خلقه وحسن تأتيه لما كان يراد من الأمر، فلما جاء الخبر إلى النبي بأن قريشا قد كادت لعثمان، بايع أصحابه على الجهاد لنصره، وأنزل الله في ذلك قرآنا:
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ، وبايع النبي بإحدى يديه عن عثمان. وقد روى المحدثون وأصحاب السير أحاديث كثيرة، منها الصحيح الظاهر الصحة، ومنها الموضوع الذي يظهر وضعه، ومنها ما يتعرض لشك قليل أو كثير، وكلها تحدث بأن عثمان كان عند النبي محببا إلى نفسه مقربا إليه بين المقربين إليه من خاصة أصحابه، وبأن النبي قد بشر عثمان بالجنة غير مرة، وأنبأه برضا الله عنه غير مرة أيضا. وقد تحدث عبد الله بن عمر رحمه الله بأن المسلمين كانوا في أيام النبي يقدمون أبا بكر وعمر وعثمان، ثم لا يفاضلون بين أصحاب رسول الله؛ فهؤلاء النفر الثلاثة - إن صح هذا الحديث - كانوا في طليعة أصحاب النبي في أيام النبي نفسه. ومهما يكن من شيء فقد كان السلف يسمون عشرة ضمن النبي لهم الجنة، وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبد الله والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح وسعيد بن زيد بن نفيل.
Unknown page