وبعد فهؤلاء أيضا خليقون ألا يلاموا؛ فقد ينبغي أن نسأل أنفسنا: متى عرف العالم وضع الدساتير؟ وقد ينبغي أن نلاحظ أن وضع النظم السياسية المكتوبة ذات الأعلام الواضحة والحدود البينة ظاهرة حديثة لم يكد العالم يعرفها إلا في عصور متأخرة جدا، وأنا أعلم أن قد كانت للمدن اليونانية القديمة نظم سياسية مكتوبة، وأعرف كذلك أن قد كانت لروما نظم سياسية مقررة؛ ولكني أعرف أن الملك في الشرق والغرب قد ألغى هذه الدساتير وباعد بينها وبين الناس، حتى نسيتها الإنسانية نسيانا يوشك أن يكون تاما، ولم تستكشفها إلا قليلا قليلا بعد النهضة في هذا العصر الحديث.
على أن من الحق أن نلاحظ شيئا أشرت إليه في بعض هذا الحديث، وهو أن عمر رحمه الله قد كان يلقى عماله وأهل أقاليمه في الموسم من كل عام، فيسمع من العمال في أمر الرعية، ويسمع من الرعية في أمر العمال. وقد جعل هذا نظاما مقررا، فكان يحج بالناس طول خلافته ليلقى المسلمين في موسمهم؛ لا نستثني من ذلك إلا العام الأول لخلافته، فلو قد مدت أسباب الحياة لعمر لكان من الممكن، وهو من نعرف في حدة الذكاء وتوقد الذهن ونفاذ البصيرة وبعد الرأي والنصح للمسلمين، أن يتطور هذا الاجتماع الموسمي بين عمال الأقاليم والحجيج من أهل هذه الأقاليم إلى نظام ثابت إلا يكن هو النظام البرلماني الذي عرفه القدماء أو الذي استنبطه المحدثون، فهو قريب منه قربا شديدا. ولم يكن عمر رحمه الله يكتفي بهذا الاجتماع الموسمي، وإنما كان يستقصي أمور الناس ما وسعه الاستقصاء: يستقصي ذلك بنفسه في المدينة وما حولها وحين يلقى أهل الأقاليم في موسم الحج، ويستقصي ذلك بوساطة عماله وأمنائه الذين كان يرسلهم بين حين وحين لتتبع أمور العمال، ويستقصي ذلك بما كان يرفع إليه من أمور الناس؛ يرفعه إليه العمال حينا والرعية أحيانا، ثم كان رحمه الله يفكر في آخر أيامه في زيارات تفتيشية للأقاليم؛ فكان يتحدث بأن لو عاش لتنقل فأقام في كل مصر شهرين، ويرى بنفسه كيف يعمل الولاة وكيف رضا الرعية عما يعملون، ولكن الموت أعجله عن هذا كله، ولم يكد رحمه الله يوارى في قبره مع صاحبيه حتى سلكت سياسة المسلمين طريقا غير الطريق التي سلكوها.
وقد يكون من الإنصاف إذا أردنا أن نستوفي هذا البحث أن نلاحظ سياسة عمر لهذه الطبقة الممتازة من أصحاب النبي، فهو قد أمسكها في المدينة كما قلنا آنفا؛ لم يأذن لها في أن تتفرق في الأرض، خوفا عليها وخوفا منها. فكان راشدا في هذه السياسة كل الرشد، ولم لا نسمي الأشياء بأسمائها؟ أو لم لا نترجمها بلغة العصر الحديث فنقول إن عمر إنما أمسك هذه الطبقة الممتازة في المدينة ضنا بها وضنا بالمسلمين على ما نسميه في هذه الأيام باستغلال النفوذ؛ فقد استقامت أمور المسلمين وأمور هذه الطبقة نفسها ما أمسكها عمر في المدينة ووقفها عند حدود معينة من الحركة والاضطراب، فلما تولى عثمان وخلى بينها وبين الطريق لم تلبث الفتنة أن ملأت الأرض شرا، لا لأن هذه الطبقة أرادت الشر أو عمدت إليه، بل لأنها استكثرت من المال والأنصار من جهة، ولأن الناس افتتنوا بها من جهة أخرى، فكان لكل واحد من زعمائها مواليه وأنصاره وشيعته. ولم يكن عمر يحب أن يعطي من أموال المسلمين فلانا أو فلانا صلة منه له أو عناية منه به أو تألفا منه إياه، وإنما كان يفرض لكل واحد منهم ومن الناس عطاء ويبيح لهم ما باح الله لهم من الاكتساب، لا يضيق عليهم في ذلك إلا بهذا المقدار الذي عرفناه. فلما استخلف عثمان لم يفتح لهم الطريق إلى الأقاليم فحسب، وإنما وصلهم أيضا بالصلات الضخمة من بيت المال، فيقال إنه أعطى الزبير ذات يوم ستمائة ألف، وأعطى طلحة ذات يوم مائتي ألف، وإذا كثر المال على هذا النحو لفريق بعينه من الناس، وأتيح لهم أن يشتروا الضياع في الأقاليم، ويتخذوا الدور في الأمصار، ويتخذوا القصور في الحجاز، ويستكثروا من الموالي والأتباع والأشياع في كل مكان؛ فقد فتحت لهم أبواب الفتنة على مصاريعها، وكان من أعسر العسر عليهم أن يتجنبوا الولوج في هذه الأبواب، وقد تجنبها منها متجنبون: تجنبها سعد بن أبي وقاص الذي لم يشارك في فتنة وإنما اعتزل الناس حين أخذهم الشر، وتجنبها عبد الرحمن بن عوف الذي يقال إنه ندم على ما كان من اختياره لعثمان، والذي أقام في دار الهجرة مصرفا تجارته في الأقاليم متصدقا بكثير من ريعه، كما كان يفعل أيام النبي وأيام الشيخين، وتجنبها علي رحمه الله، فلم نعلم أنه اتجر أو اتخذ الضياع والدور في الأقاليم، وإنما أقام في المدينة حيث بوأه رسول الله، وكان له مال في ينبع يذهب إليه من حين إلى حين، ولكن لعلي قصة أخرى كما يقول القائلون.
ومغزى هذا كله أن عمر قد حمى هذه الطبقة الممتازة، وحمى المسلمين من استغلال النفوذ، وأمسك عليهم جميعا دينهم، وحال بينهم جميعا وبين الفتنة، واتخذ من خاصة أصحاب النبي مجلسا يوشك أن يكون مجلس شوراه، ولو مد له في العيش لكان خليقا أن يضطرهم إلى أن يرضوا بهذه المنزلة فيكونوا أصحاب الحل والعقد؛ يشيرون على الخلفاء دون أن يدخلوا في أمور الحكم التفصيلية من قريب أو بعيد.
فهذه واحدة، والثانية أن عمر رحمه الله حين أحس أنه ميت قد اقتدى بالنبي فلم يستخلف شخصا بعينه، واقتدى بأبي بكر فلم يترك المسلمين دون أن يشير عليهم وينصح لهم؛ فاختار أصحاب الشورى لمكانهم من رضا النبي عنهم، ولمكانهم من زعامة المهاجرين ، ولمكانهم من زعامة قريش، ثم لمكانهم من رضا المسلمين عنهم وثقة المسلمين بهم، ثم ترك لهم أن يختاروا من بينهم خليفة.
وسنرى أن نظام الشورى هذا كما وضعه عمر لم يكن كافيا ولا مقنعا، ولكن المهم هو أن عمر فكر في الشورى واتخذها أصلا لاختيار الخلفاء، وليس هذا بالشيء القليل. ولا ينبغي أن ننسى أن عمر إنما وضع نظام الشورى هذا بعد أن طعن؛ وضعه في هذا الوقت الذي كان يخرج فيه من الدنيا ويدخل فيه إلى الآخرة، ويعاني فيه ما يعاني المطعون من الألم، ويعاني فيه ما يعاني المشرف على الموت حين يكون له ضمير يقظ حي دقيق كضمير عمر من خوف الله، والإشفاق من حسابه، ومن حساب نفسه على ما قدم بين يديه من الجليل والخطير، ثم يعاني فيه بعد ذلك ما يعاني من تدبير أمر نفسه وأهله والاحتياط لهم من أن يحتملوا من الأعباء مثل ما احتمل، والاحتياط لنفسه من أن يلقى الله وفي ذمته شيء من مال المسلمين، ثم هو يعاني بعد هذا كله ما يعاني من التفكير في الاحتياط لقبره؛ فقد كان حريصا على أن يدفن مع صاحبيه، وعلى أن يدفن معهما بإذن من عائشة صاحبة البيت الذي دفن فيه، وعلى أن يطمئن إلى أنها قد أذنت له في ذلك قبل أن يموت، وعلى أن يطمئن إلى أن عبد الله بن عمر سيستأذن عائشة في إدخاله بيتها بعد أن يموت - في أثناء هذا كله فكر عمر في نظام الشورى، فاحتاط للمسلمين ما وسعه الاحتياط.
وكان المسلمون خليقين بعد أن مات عمر، وبعد أن اختاروا خليفتهم أن يفكروا في نظام الشورى هذا، فيقيموه على أساس ثابت مضطرد متين، يؤمنهم الفرقة أولا، ويؤمنهم أن تعجل الأحداث خليفتهم عن أن يعهد لهم كما عهد أبو بكر، وعن أن يشير عليهم كما أشار عمر. ولكن الغريب أنهم لم يفكروا في شيء من ذلك، وإنما استخلف عثمان، فلم يكد يستخلف حتى زاد في العطاء، ويسر على الناس ما كان عسر عليهم عمر، وأذن لهم فتفرقوا في الأرض، ثم أذن لهم فاستكثروا من المال والأنصار.
ونظن أن هذا الحديث الذي قد تراه طويلا، وما أراه إلا قصيرا مسرفا في القصر، قد مهد لما ينبغي أن نعرض له الآن من الحديث عن عثمان، وما أثير في خلافته من فتنة، وما أثير حوله من جدال. وما نظن إلا أن هذا الحديث، على طوله فيما قد ترى وعلى قصره فيما أرى، يدل منذ الآن على أن الأحداث التي حدثت والنتائج التي ترتبت عليها كانت أكبر وأوسع وأضخم من الأشخاص الذين شاركوا فيها من قريب أو بعيد؛ فما ينبغي أن يلام فيها هذا أو ذاك، وإنما ينبغي أن تلام فيها الظروف إن كان من الممكن أو من المعقول أن تلام الظروف.
الفصل الرابع
وعثمان كغيره من أصحاب النبي: ذهب الصدر الأول من حياتهم في الجاهلية على التاريخ، فلم يكد يحفظ منه شيئا، ولم يخلقهم الإسلام خلقا جديدا من حيث حياة نفوسهم وعقولهم وقلوبهم فحسب، وإنما خلقهم خلقا جديدا في تاريخهم أيضا؛ فجب ما كان من حياتهم قبل أن يسلموا، حتى كأنهم ولدوا حين أسلموا. وكان يقال إن عثمان ولد في العام السادس بعد وقعة الفيل، وكان يقال كذلك إنه ولد بالطائف؛ ولعل هذا كل ما حفظ من تاريخه الأول على غير ثقة من الذين رووه. وليس أدل على ذلك من الاختلاف في سنه حين قتل؛ فقد كان قوم يرون أنه قتل وهو ابن خمس وسبعين سنة، وكان قوم آخرون يرون أنه قتل وهو ابن تسعين أو ثمان وثمانين أو ست وثمانين سنة، وكان آخرون يرجحون أنه قتل في الثانية أو الثالثة والثمانين من عمره. ولو أنهم عرفوا تاريخ مولده بالضبط لما اختلفوا في سنه هذا الاختلاف، بل لما قال قائل منهم: إنه قتل وهو ابن ثلاث وستين سنة؛ يريد بذلك أن يلحقه بالنبي وخليفتيه، فقد اختارهم الله لجواره في هذه السن، مع بعض الاختلاف في ذلك بالقياس إلى عمر.
Unknown page