وما أريد أن أتزيد ولا أن أتكلف، ولا أن أوذي بعض الضمائر، ولا أن أحفظ بعض الصدور، ولكني مع ذلك ألاحظ أن جماعة من أصحاب النبي قد حسن بلاؤهم في الإسلام حتى رضي النبي عنهم وبشرهم بالجنة أو ضمنها لهم، ثم طال عليهم الزمن واستقبلوا الأحداث والخطوب، وامتحنوا بالسلطان الضخم العظيم، وبالثراء الواسع العريض، ففسدت بينهم الأمور، وقاتل بعضهم بعضا، وقتل بعضهم بعضا، وساء ظن بعضهم ببعض إلى أبعد ما يمكن أن يسوء ظن الناس بالناس، فما عسى أن يكون موقفنا نحن من هؤلاء؟ لا نستطيع أن نرضى عن أعمالهم جميعا، فلا نلغي عقولنا وحدها، وإنما نلغي معها أصول الدين التي تأمر بالعدل والإحسان وتنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، ولا نستطيع أن نحكم بالخطيئة على من نظن أنه قد خطئ؛ لمكانهم من النبي أولا، ولما بشرهم به النبي من الجنة ورضا الله ثانيا، ولحسن ظنهم بالله ورسوله وثقتهم بما وعد الله ورسوله، وإيمانهم بالجنة التي بشروا بها، وما نحب أن نذهب في أمرهم مذهب الذين عاصورهم من خصومهم وأنصارهم، فنحكم على بعضهم بالخير، ونحكم على بعضهم الآخر بالشر؛ فالذين عاصروهم من الأنصار والخصوم كانوا شركاءهم فيما ألم بهم من الفتنة، فكانوا يرضون أو يسخطون حسب مكانهم من أولئك أو هؤلاء. أما نحن فلسنا نعاصرهم ولا نشاركهم فيما شجر بينهم من الخلاف، وليس من المعقول لذلك أن نقحم عواطفنا في أمرهم إقحاما، وإنما سبيلنا أن ننظر في أعمالهم وأقوالهم من حيث صلتها بحياة الناس وأحداث التاريخ، وأن نخطئ من نخطئ ونصوب من نصوب منهم من هذه الجهة وحدها دون أن نقضي في أمر دينهم بشيء؛ فإن الدين لله، ودون أن نستبيح لأنفسنا أن نقول كما كان يقول أنصارهم وخصومهم: هؤلاء مؤمنون وهؤلاء كافرون، وهؤلاء في منزلة بين بين، وهؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار؛ ذلك شيء لا نخوض فيه وليس لنا أن نخوض فيه، وإنما أمره إلى الله وحده. فأما الذي إلينا فهو أن نتبين من أعمالهم وأقوالهم وسيرهم ما يلائم الحق والعدل والصواب وما لا يلائمها، وهذا في نفسه كثير، ولكن لا بد مما ليس منه بد.
فالعنصر الأول إذن من عنصري نظام الحكم في ذلك الصدر من الإسلام، وهو الضمير الديني اليقظ الحي، معرض كما رأيت لكل هذه الأخطاء، ولو قد عصم أصحاب النبي جميعا من الخطأ وأمنوا التعرض للفتنة واستقامت لهم أمورهم على ما يلائم تلك العصمة وهذا الأمن، لما كان بد من أن يتعرض أبناؤهم وحفدتهم لضروب الفتن والمحن والغرور.
فلم يكن بد إذن من أن يصل المسلمون في ذلك العصر إلى ما يمكنهم من ألا يتركوا أمورهم إلى حساب الضمير وحده، أو إلى ما بين الخليفة وبين الله، إلى ما يمكنهم من أن يضعوا النظام المقرر المكتوب الذي يبين حدود الحكم جملة وتفصيلا، ويبين للخلفاء ما يجب عليهم أن يفعلوا، وما يجب عليهم أن يتركوا، وما يجوز لهم أن يترخصوا فيه، ويبين للشعب حقوقه وواجباته مفصلة، والوسائل التي يختار بها الخليفة ويراقبه بها بعد اختباره ويعاقبه بها إن حاد عن الطريق؛ كان المسلمون في حاجة إلى أن ينشئوا لأنفسهم في حدود القرآن والسنة دستورا مكتوبا مبين الحدود والأعلام يعصمهم من الفرقة والاختلاف، ولو قد فعلوا لما تعرضوا لما تعرضوا له من الشر أيام عثمان. وانظر إلى هذا المثل الذي يقف الناس أمامه حائرين يرضى منهم الراضي ويسخط منهم الساخط؛ فقد كلم عثمان فيما أعطى لذوي قرابته من بيت المال فقال: «إن عمر كان يحرم قرابته احتسابا لله، وأنا أعطي قرابتي احتسابا لله، ومن لنا بمثل عمر؟» فقد كان عمر إذن محسنا حين كان يحرم ذوي قرابته مال المسلمين، وكان عثمان محسنا حين كان يصل أرحامه من مال المسلمين؛ لأن الله أمر أن توصل الأرحام.
فهذا كلام قد يستقيم عند الذين يحاولون أن يتأولوا في الفقه؛ فأما المصالح العامة فلا تحتمل هذا التأول، فالأموال العامة إما أن تكون للشعب فلا يحل للإمام أن يتصرف فيها إلا بإذنه، وإما أن تكون للإمام فلا يحل للشعب أن يعترض عليه إن تصرف فيها؛ فأما أن يتقرب بعض الأئمة إلى الله بحفظها على المسلمين ، وأن يتقرب بعضهم الآخر إلى الله بصلة رحمه منها؛ فهذا شيء لا يستقيم. وواضح أنا نذهب في ذلك مذهب عمر؛ لأنه وحده يلائم الحق والعدل وما ينبغي للأئمة من التعفف، ويلائم فقه الأمور العامة كما نفهمه الآن.
ومثل آخر يرويه المؤرخون، وما ندري أنقف منه موقف الإعجاب أم نقف منه موقف العجب؟ فقد قال عثمان لخصومه حين اشتد عليه الحصار: «إن رأيتم في كتاب الله أن تضعوا رجلي في القيد فافعلوا.» أقال هذا معتبا لهم نازلا عند حكم الله في كتابه؟ وإذن فأين هذا الحكم الذي يبيح للمسلمين أن يضعوا رجلي إمامهم في القيد؟ أم قال هذا متحديا؛ لأنه يعلم أن ليس في كتاب الله نص يبيح للمسلمين أن يضعوا رجلي إمامهم في القيد حين يخطئ أو حين ينحرف عن الجادة عن عمد؛ لأن القرآن لم يعرض لشيء من هذا؟ وإذن فقد كان عثمان على هذا الفرض يرى أن ليس لخصومه عليه سبيل من كتاب الله، وأن له أن يفعل ما فعل دون أن يكون قد قارف ذنبا أو تورط في إثم، ولو قد كان للمسلمين هذا النظام المكتوب لعرف المسلمون في أيام عثمان ما يأتون من ذلك وما يدعون دون أن تكون بينهم فرقة أو خلاف.
وربما كان من أوضح الأمثلة على حاجة المسلمين في ذلك الوقت إلى هذا النظام المكتوب ما يروى من أن عليا حين عرض عليه عبد الرحمن بن عوف أن يبايعه على أن يلزم الكتاب والسنة وسيرة الشيخين لا يحيد عن شيء من ذلك، أبى أن يعطي ما طلب إليه من العهد وقال: «اللهم لا، ولكن أجتهد في ذلك رأيي ما استطعت.» يريد أنه لا يستطيع أن يلتزم ما لا سبيل إلى التزامه، فالقرآن مكتوب محفوظ في الصدور، ولكنه لم يعرض لسياسة الحكم في تفصيلها ووقائعها اليومية.
وسنة النبي معروفة في جملتها، ولكن منها ما يجهله الحاضر ويحفظه الغائب، ومنها ما ذهب مع من ذهب من أصحاب النبي فيما كان من حرب الردة والفتوح، وسيرة الشيخين كسنة النبي؛ منها المعلوم ومنها ما قد يكون النسيان عرض له، ولعلي بعد الحق كل الحق في أن يخالف عن سيرة الشيخين إن تغير الزمن أو رأى في المخالفة عن هذه السيرة منفعة للرعية ونصحا للمسلمين، فلما عرض عبد الرحمن هذا العهد على عثمان قبله وأعطى مثله وقال: «اللهم نعم!» يريد أنه سيجتهد في إنفاذ كتاب الله وسنة نبيه وسيرة الشيخين، وأنه متى اجتهد في ذلك مخلصا فقد التزم الكتاب والسنة ونهج الشيخين. وقد أصاب علي ما في ذلك شك، ولم يبعد عثمان، ولكن انظر إلى ما حدث بعد أن مضت أعوام على إمرة عثمان: ذهب في أموال المسلمين مذهبا مخالفا لمذهب عمر وسيرته؛ فأما الذين بايعوه على التزام هذه السيرة فيما التزم فقد رأوا أنه خالف عنها ولم يف بالعهد كاملا، وأما هو فرأى أنه لم يخالف بحال من الأحوال؛ لأن قوام سيرة عمر إنما هو التقرب إلى الله، وهو قد وصل رحمه تقربا إلى الله، فهو يتقرب إلى الله كما كان عمر وأبو بكر يفعلان، ولا عليه أن تختلف وسائل هذا التقرب إلى الله. ولو قد كان للمسلمين في ذلك الوقت نظام مكتوب بين الحدود واضح الأعلام، لما أبى علي أن يبايع على هذا الدستور، ولما احتاج عثمان إلى أن يبايع ثم يتأول، ولما انقسم الناس بعد ذلك فريقين: فريقا يشتد ويتحرج كما تحرج علي ومن لاموا عثمان، وفريقا يتأول كما تأول عثمان.
نعم، ولكن ينبغي ألا ننسى أن عمر قد قتل سنة ثلاث وعشرين للهجرة، أي قبل أن يمضي على الهجرة وتأسيس الدولة ربع قرن، وأن هذه المدة القصيرة لم تنفق في حياة هادئة مطمئنة قد استقرت فيها الأمور وفرغ فيها البال، وإنما أنفق منها عشرة أعوام في حمل العرب على الإسلام، ثم أنفق منها عام وبعض عام في رد العرب إلى الإسلام بعد أن انتقضوا عليه، ثم أنفق سائرها في دفع العرب إلى نشر الإسلام في أقطار الأرض: في الإدالة من الفرس، وإخراج الروم من الشام ومصر، ثم في تمصير الأمصار وتجنيد الأجناد، ووضع النظم الأولى لسياسة الحرب والسلم، وللإدارة خارج بلاد العرب وداخل بلاد العرب؛ فليس من العدل ولا من الإنصاف أن يقال إن المسلمين في صدرهم ذاك قد قصروا أو تخلفوا أو تركوا ما كان يمكن أن يفعلوا دون أن يفعلوه.
فإذا أضفت إلى ذلك أن الشيخين إنما كانا يبتكران ما كانا يقبلان عليه من تنظيم أمور الحكم ابتكارا في هذه البيئة العربية البدوية التي لم تكن لها سابقة ذات خطر في الإدارة أو السياسة أو الحضارة بوجه عام، ثم لم يكونا يبتكران فحسب، وإنما كانا يسوسان قوما لم يتعودوا أن يساسوا، ويحضران قوما لم يتحضروا من قبل، عرفت أن من الشطط أن يقال إن الشيخين لم يضعا للمسلمين من النظم السياسية ما كان ينبغي أن يضعا. وقد كان عمر رحمه الله يجتهد في ذلك ما وسعه الاجتهاد، لا يكاد يعرف من نظم الأمم التي سبقت إلى الحضارة شيئا إلا استقصاه واستخلص منه ما يلائم المزاج العربي، وما يلائم الإسلام، وما يلائم هذه الدولة الناشئة التي أسرعت إلى النمو والانتشار إسراعا عظيما سبقت به تفكير المفكرين وتدبير المدبرين.
أما العنصر الثاني من عناصر هذا النظام السياسي، وهو هذه الأرستقراطية الممتازة من أصحاب النبي؛ فقد كان بطبعه معرضا للزوال حين يمضي الزمن ويبلغ الكتاب أجله، وتنشأ أجيال جديدة ليس لها ما كان لهذا الجيل من الامتياز. وقد كان من الطبيعي أن يوضع لهذه الأجيال النظام الذي يعلمها كيف تختار خلفاءها وكيف تراقبهم وتحاسبهم وتعاقبهم إن تعرضوا لما يقتضي العقاب. ولو قد وضع هذا النظام لما تفرق أمر المسلمين بعد مقتل عثمان على النحو الذي عرفه التاريخ، ولما ذهب فريق من المسلمين مذهب المحافظة الهوجاء على سنة النبي والشيخين: وهم الخوارج، وفريق آخر مذهب المحافظة على أن تكون الإمامة في آل بيت النبي، وفريق ثالث على أن تستحيل الخلافة ملكا قيصريا أو كسرويا، وفريق رابع إلى أن يكون الأمر شورى بين المسلمين دون أن يعرفوا لهذه الشورى نظاما ولا حدودا. ولكن ما قلناه بالقياس إلى العنصر الأول نقوله بالقياس إلى هذا العنصر الثاني؛ فلم يتح للشيخين وأصحابهما من الوقت ولا من الفراغ والدعة ولا من التطور والاتصال بأسباب الحضارة ما كان من شأنه أن يمكنهم من وضع هذا النظام. إنما السبيل على الذين جاءوا بعدهم فأتيحت لهم السعة والدعة والفراغ، ولم يفكروا مع ذلك لا في أن يضعوا نظاما لتداول الحكم، ولا في أن يضعوا نظاما يكفل رعاية العدل السياسي والاجتماعي، وإنما أهملوا ذلك إهمالا وآثروا أنفسهم بالحكم والغلب والاستعلاء.
Unknown page