ومهما يكن من شيء فقد نشأت هذه الأرستقراطية القرشية فجاءة على غير حساب من الناس، وكانت أرستقراطية قد غلط بها: أراد أبو بكر أن تكون الإمامة في المهاجرين ما وجد بينهم الكفء القوي على النهوض بها. فحولت قريش ذلك فيما بعد إلى منافعها وعصبيتها، وخرجت بذلك عن أصل خطير من أصول الإسلام وهو المساواة بين المسلمين.
ولم تكد قريش تخطو هذه الخطوة حتى أتبعتها خطوة أخرى كان لها أبعد الأثر في حياة المسلمين، وهي تفضيل العرب على غيرهم من الذين اعتنقوا الإسلام، ولم يكن لهم في العرب نسب صريح. والناس جميعا يعلمون أن استئثار قريش بالخلافة جر على المسلمين كثيرا من الفتن، وأن استئثار العرب بالسلطان والفضل أدال من بني أمية لبني العباس بفضل من ناصرهم من الموالي.
فلنظام الحكم في هذا الصدر في الإسلام عنصران متميزان إذن: أحدهما معنوي، وهو الدين الذي يأمر بالعدل والمعروف يفرضهما على الرعاة والرعية جميعا، والآخر هذه الأرستقراطية الخاصة التي قام أمرها على الكفاية والتقوى وحسن البلاء والاتصال برسول الله ، والتي انحرفت بها قريش بعد ذلك عن طريقها. وواضح جدا أن هذين العنصرين لم يكن من شأنهما أن يطاولا مر الدهر، وتقلب الخطوب وتتابع الأحداث؛ فأما أولهما وهو هذا الضمير الديني القوي اليقظ الحي، فشيء يتاح لأصحابه، وليس من المكفول ولا من المحتوم أن يرثه عنهم الأبناء والحفدة، فالذين اتصلوا برسول الله اتصالا قريبا وتعلموا منه وتأدبوا بأدبه، خليقون أن يتأثروه في سيرته وأن يتمثلوه كلما عملوا أو قالوا أو فكروا، فأما الأجيال التي تأتي بعدهم من الأبناء والحفدة فقد يتأثرون بهم وقد لا يتأثرون، وهم لم يتصلوا بالنبي إلا قليلا أو لم يتصلوا به أصلا، فليس غريبا ألا يتاح لضمائرهم الدينية من اليقظة والقوة والحياة ما أتيح لخاصة النبي وصفوة أصحابه الأقربين.
وأخرى لا ينبغي أن تفوتنا، وهي أن أمور الحكم إنما تستقيم حين يكون التعاون والتضامن بين الحاكمين والمحكومين في الأصول التي يقوم عليها النظام، فليس يكفي أن يكون الحاكم يقظ الضمير مؤثرا للعدل مصطنعا للمعروف حريصا على رضا الله كافيا بعد ذلك لمشكلات السياسة خراجا منها إذا ادلهمت، وإنما يجب أن يكون لرعيته حظ من هذا الضمير الحي اليقظ، ومن حب العدل وإيثار المعروف والحرص على رضا الله.
وهذه هي المشكلة الأولى التي واجهت نظام الحكم الجديد، فلم يكن العرب كلهم أصحاب رسول الله، بل لم تكن كثرة العرب قد صاحبت النبي واتصلت به، وإنما كان أصحاب رسول الله كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض، ولم يكن إيمان العرب بالدين الجديد مطابقا أو مقاربا لإيمان هذه الطبقة من أصحاب النبي، وإنما كان من العرب من حسن إيمانه، ومنهم من أسلم ولم يؤمن، كما جاء في القرآن:
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم .
بل كان من العرب من جرت كلمة الإسلام على لسانه، ولكنه احتفظ بجاهليته كاملة في قلبه ونفسه وضميره، والله يقول في بعض هؤلاء:
الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله .
فلم يكن هناك توازن بين الحاكم والمحكوم، ولم يكن هناك تضامن صحيح بين الخليفة والكثرة الضخمة من رعيته العربية، وإنما كان التضامن والتوازن قائمين بين الخليفة وهذه الطبقة الممتازة من أصحاب النبي، وبفضل هذا التضامن والتوازن استطاع أبو بكر أن يعيد العرب إلى الإسلام بعد أن ارتدوا، وأن يشغلهم بعد ذلك بما وجههم إليه من الفتوح. وأخرى لا ينبغي أن ننساها ولا ينبغي أن يضيق بها المتحرجون الذين يغلون في حسن الظن بالإنسان، وهي أن هذا الضمير الديني الحي اليقظ قد يتعرض للفتنة والمحنة، وقد يلقى أخطارا كثيرة من الأحداث والخطوب، فما أكثر ما يخلص الإنسان نفسه وقلبه وضميره للحق والخير والعدل والإحسان، ثم تلم به أسباب الفتنة وتلح عليه وتسرف في الإلحاح حتى تضطره إلى أن يتأول في بعض الأمر، ثم ما يزال ينتقل من تأول إلى تأول ومن تعلل إلى تعلل ومن تحلل إلى تحلل، حتى ينظر ذات يوم فإذا بينه وبين الإخلاص الأول أمد بعيد، ومن أجل هذا ألح القرآن وألح النبي وألح الخلفاء والصالحون في تحذير الناس من الدنيا وغرورها ومما تمد لهم من أسباب الفتن وما تعرضهم له من ضروب المحن، ومن هذه السيئات التي تذهب بالحسنات، ومن بعض النيات والأعمال التي تأكل الصالحات كما تأكل النار الحطب؛ فليس من الغريب في شيء أن يتعرض كثير من الصالحين ومن أصحاب النبي أنفسهم لأسباب الفتن ودواعي الغرور، وأن يطرأ عليهم من الأحداث والخطوب ما يباعد بينهم وبين عهدهم الأول حين كان الإسلام غضا، وحين كانوا يتصلون بالنبي مصبحين وممسين، وحين كانوا إذا ذكروا الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون.
وسنرى أن أسباب الفتن ودواعي الغرور كانت كثيرة قوية خلابة، لا يثبت لها إلا أولو العزم، وأولو العزم قلة في كل زمان ومكان.
Unknown page