Fiqh of Worship by al-Uthaymeen
فقه العبادات للعثيمين
Genres
السؤال (٢٦): فضيلة الشيخ، بقي الإيمان بالقدر نريد أن تحدثنا عنه أثابكم الله؟
الجواب: الإيمان بالقدر هو أحد أركان الإيمان الستة التي بينها رسول الله ﷺ لجبريل حين سأله عن الإيمان، والإيمان بالقدر أمر هام جدًا، وقد تنازع الناس في القدر من زمن بعيد، حتى في عهد النبي ﷺ، كان الناس يتنازعون فيه ويتمارون فيه، وإلى يومنا هذا والناس كذلك يتنازعون فيه، ولكن الحق فيه ولله الحمد واضح بين، لا يحتاج إلى نزاع ومراء، فالإيمان بالقدر: أن تؤمن بأن الله ﷾ قد قدر كل شيء، كما قال الله تعالى: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) (الفرقان: ٢)، وهذا التقدير الذي قدره الله ﷿ تابع لحكمته، وما تقتضيه هذه الحكمة من غايات حميدة، وعواقب نافعة للعباد في معاشهم ومعادهم.
ويدور الإيمان بالقدر على الإيمان بأمور أربعة:
أحدها: العلم، وذلك أن تؤمن إيمانًا كاملًا بأن الله ﷾ قد أحاط بكل شيء علمًا، أحاط بكل شيء مما مضى، ومما هو حاضر، ومما هو مستقبل، سواء كان لك مما يتعلق بأفعاله ﷿، أو بأفعال عباده، فهو محيط بها جملة وتفصيلا، بعلمه الذي هو موصوف به أزلًا وأبدًا، وأدلة هذه المرتبة كثيرة في القرآن والسنة، قال الله ﵎: (إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ) (آل عمران: ٥)، وقال الله تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (الأنعام: ٥٩)، وقال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) (ق: ١٦)، وقال تعالى: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (البقرة: ٢٨٣)، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على علم الله ﷾ في كل شيء جملة وتفصيلًا.
وهذه المرتبة من الإيمان بالقدر، من أنكرها فهو كافر، لأنه مكذب لله ورسوله وإجماع المسلمين، وطاعن في كمال الله ﷿، لأن ضد العلم إما الجهل وإما النسيان، وكلاهما عيب، وقد قال الله تعالى عن موسى ﵊ حين سأله فرعون: (قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى) (٥١) (قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى) (طه: ٥١-٥٢)، فهو لا يضل، أي لا يجهل شيئًا مستقبلًا، ولا ينسى شيئًا ماضيًا ﷾.
أما المرتبة الثانية: فهي الإيمان بأن الله تعالى كتب مقادير كل شيء إلى أن تقوم الساعة، فإن الله ﷿ لما خلق القلم قال له: اكتب، قال: ربي، وماذا أكتب؟ قال: أكتب ما هو كائن (١) . فجرى في تلك الساعة ما هو كائن إلى يوم القيامة، جملة وتفصيلا، فكتب الله ﷿ في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء.
وقد دل على هذه المرتبة والتي قبلها قوله تعالى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحج: ٧٠)، فقال: (إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ)، أي: معلومة عند الله ﷿ (فِي كِتَابٍ) وهو اللوح المحفوظ (إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) ثم هذه الكتابة تكون أيضًا مفصلة أحيانًا فإن الجنين في بكن أمه إذا مضى عليه أربعة أشهر، يبعث إليه ملك فيؤمر بأربع كلمات، بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد، كما ثبت ذلك في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود ﵁، عن النبي ﷺ (٢) .
ويكتب أيضًا في ليلة القدر ما يكون في تلك السنة، كما قال الله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) (٣) (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (٤) (أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (الدخان: ٣-٥) .
أما المرتبة الثالثة: فالإيمان بأن كل ما في الكون، فإنه بمشيئة الله، فكل ما في الكون فهو حادث بمشيئة الله ﷿، سواء كان ذلك مما يفعله هو ﷿، أو مما يفعله الناس، أو بعبارة أعم مما يفعله المخلوق، قال الله ﵎: (وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) (إبراهيم: ٢٧) وقال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) (النحل: ٩)، وقال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَة) (هود: ١١٨)، وقال تعالى: (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) (فاطر: ١٦)، إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة الدالة على أن فعله ﷿ واقع بمشيئته وكذلك أفعال الخلق واقعة بمشيئته، كما قال الله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (البقرة: ٢٥٣)، وهذا النص صريح بأن أفعال العبد قد شاءها الله ﷿، ولو شاء الله أن لا يفعل لم يفعل.
أما المرتبة الرابعة في الإيمان بالقدر، فهي الإيمان بأن الله تعالى خالق كل شيء، فالله ﷿ هو الخالق، وما سواه مخلوق، فكل شيء الله تعالى خالقه، فالمخلوقات مخلوقة لله ﷿، وما يصدر منها من أفعال وأقوال، مخلوق لله ﷿ أيضًا، لأن أفعال الإنسان وأقواله من صفاته، فإذا كان الإنسان مخلوقًا، كانت الصفات أيضًا مخلوقة لله ﷿، ويدل لذلك قوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) (الصافات: ٩٦)، فنص الله تعالى على خلق الإنسان، وعلى خلق عمله، قال (وَمَا تَعْمَلُونَ) وقد اختلف الناس في "ما" هنا: هل هي مصدرية أو موصولة؟ وعلى كل تقدير فإنها تدل على أن عمل الإنسان مخلوق لله ﷿.
هذه أربع مراتب لا يتم الإيمان بالقدر إلا بالإيمان بها، ونعيدها فنقول: أن تؤمن بأن الله تعالى عليم بكل شيء جملة وتفصيلًا. ثانيًا: أن تؤمن بأن الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء. ثالثًا: أن تؤمن بأن كل حادث، فهو بمشيئة الله ﷿. رابعًا: أن تؤمن بأن الله تعالى خالق كل شيء.
ثم اعلم أن الإيمان بالقدر لا ينافي فعل الأسباب، بل إن فعل الأسباب مما أمر به الشرع، وهو حاصل بالقدر، لأن الأسباب تنتج عنها مسبباتها، ولهذا لما توجه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ﵁ إلى الشام، ذكر له في أثناء الطريق أنه قد وقع فيها الطاعون، فاستشار الصحابة ﵃، هل يستمر ويمضي في سيره، أو يرجع إلى المدينة؟ فاختلف الناس عليه، ثم استقر رأيهم على أن يرجعوا إلى المدينة، ولما عزم على ذلك، جاءه أبو عبيدة عامر بن الجراح، وكان عمر ﵁ يجله ويقدره، فقال: يا أمير المؤمنين، كيف ترجع إلى المدينة، أفرارًا من قدر الله؟ قال ﵁: نفر من قدر الله إلى قدر الله.
وبعد ذلك جاء عبد الرحمن بن عوف ﵁ وكان غائبًا في حاجة له، فحدثهم أن النبي ﷺ قال عن الطاعون: " إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه" (٣) .
الحاصل قول عمر ﵁: نفر من قدر الله إلى قدر الله، فهذا يدل على أن اتخاذ الأسباب من قدر الله ﷿، ونحن نعلم أن الرجل لو قال: أنا سأؤمن بقدر الله، وسيرزقني الله ولدًا بدون زوجة، ولو قال هذا لعد من المجانين، كما لو قال: أنا أؤمن بقدر الله ولن أسعى في طلب الرزق، ولم يتخذ أي سبب للرزق، لعد ذلك من السفه.
فالإيمان بالقدر إذن لا ينافي الأسباب الشرعية أو الحسية الصحيحة، أما الأسباب الوهمية التي يدعي أصحابها أنها أسباب وليست كذلك، فهذه لا عبرة بها، ولا يلتفت إليها.
ثم اعلم أنه يرد على الإيمان بالقدر إشكال وليس بإشكال في الواقع، وهو أن يقول قائل: إذا كان فعلي من قدر الله ﷿ فكيف أعاقب على المعصية وهي من تقدير الله ﷿؟
والجواب على ذلك أن يقال: لا حجة لك على المعصية بقدر الله، لأن الله ﷿ لم يجبرك على هذه المعصية، وأنت حين تقدم عليها لم يكن لديك العلم بأنها مقدرة عليك، لأن الإنسان لا يعلم بالمقدور إلا بعد وقوع الشيء، فلماذا لم تقدر قبل أن تفعل المعصية، أن الله قدر لك الطاعة، فتقوم بطاعته، وكما أنك في أمورك الدنيوية تسعى لما ترى أنه خير، وتهرب مما ترى أنه شر، فلماذا لا تعامل نفسك هذه المعاملة في عمل الآخرة، أنا لا أعتقد أن أحدًا يقال له: إن لمكة طريقين: أحدهما: طريق مأمون ميسر، والثاني: طريق مخوف صعب، لا أعتقد أن أحدًا يسلك الطريق المخوف الصعب، ويقول: إن هذا قد قدر لي، بل سوف يسلك الطريق المأمون الميسر، ولا فرق بين هذا وبين أن يقال لك: إن للجنة طريقًا وللنار طريقًا، فإنك إذا سلكت طريق النار، فأنت كالذي سلك طريق مكة المخوف الوعر، وأنت بنفسك تنتقد هذا الرجل الذي سلك الطريق المخوف الوعر، فلماذا ترضى لنفسك أن تسلك طريق الجحيم، وتدع طريق النعيم، ولو كان للإنسان حجة بالقدر على فعل المعصية، لم تنتف هذه الحجة بإرسال الرسل وقد قال الله تعالى: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل) (النساء: ١٦٥) .
زيادة الإيمان ونقصانه
_________
(١) أخرجه أحمد في المسند (٥/٣١٧)، والترمذي، كتاب القدر، رقم (٢١٥٥)، وقال: غريب. وأبو داود، كتاب السنة، باب في القدر، رقم (٤٧٠٠) .
(٢) أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة صلوات الله عليهم، رقم (٣٢٠٨)، ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه، رقم (٢٦٤٣) .
(٣) أخرجه البخاري، كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون، رقم (٥٧٢٩) . ومسلم، كتاب الطب، باب الطاعون والطيرة ...، رقم (٢٢١٩) .
1 / 43