Fiqh of Denial by Hand
فقه الإنكار باليد
Publisher
الكتاب منشور على موقع وزارة الأوقاف السعودية بدون بيانات
Genres
فِقْهُ الإنْكَارِ باليَدِّ
دِرَاسَةٌ ونَقْدٌ
ذياد بن سعد آل حمدان الغامدي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على عَبدِه ورَسولِه الأمين. أمَّا بعدُ (١):
_________
(١) هذا الموضوع عبارةٌ عن فصلٍ مُستلٍ من كتابنا الكبير «أحكام المجاهرين بالكبائر»، علمًا أننا اختصرناه طلبًا للفائدة.
1 / 1
فاعلم - رحمني الله وإيِّاك - أنَّ شعيرةَ " الأمرِ بالمعروفِ والنَّهي عن المُنْكرِ" من شَعَائرِ الإسلامِ العِظَامِ، ومن أوجبِ واجباتِ الدِّين؛ كما أنَّه عُنْوانُ الإسلامِ والإيمانِ، ودليلُ السَّعادةِ والأمانِ، والفوْزُ بِعزِّ الدُّنيا ودُولِ الجِنان، وما ذلك إلاَّ أنَّه من أشقِّ ما يحملُه المُكلَّفِ؛ لأنَّه مقامُ الرُّسُلِ، فمتى - لا قدَّر الله - تَهاوَنَ به المسلمون، أو تَخَاذلَ عنه العَالِمُون؛ فعندها يَعُمُّ العذابُ، ويَحِلُّ الهوانُ، ويَتَسلَّطُ الأعداءُ، وتتَغيَّرُ رسومُ الدِّين ... إلى غير ذلك من الفتنِ والضَّلالاتِ والمُغالطات التي يكفي بعضُها لهدِمِ معالِمِ الإسلامِ العِظام.
1 / 2
وما هذه الشُّبُهاتُ والأدواءُ التي أحاطتْ بنا إحَاطَةَ السِّوارِ بالمَعْصمِ، وهذه الشَّهَواتُ والأهواءُ التي أظلمتْ علينا كقِطَعِ اللَّيلِ المُظْلِم؛ إلاَّ أنَّ "الأمرَ بالمعروفِ والنَّهي عن المُنكرِ" ضَعُفَ جانِبُه، وكَثُرَ في النَّاسِ مُجَانِبُه، حتى وَصَلَ الحالُ عند بعضِ من يُظنُّ بهم أنَّهم حُماةُ الإسلامِ، وأربابُ الدَّعوةِ أن تَرَاجَعُوا القَهْقَري عن مَيَادينِ الدَّعوةِ؛ ممَّا جعلَ العُصاةَ يَمْرحُون في ميادينِ شَهَواتِهم، ويَفْتَخِرُون بعصيانِهم دون حسيبٍ أو رقيبٍ ... حتى أصبحَ "الإنكارُ" نسيًا منسيًا؛ إلاَّ بقِيَّةُ أثارةٍ من عِلمٍ، يَلُوكُونَ بها الألْسُنَ، ويُعطِّرُون بها المَجالِسَ، ولرُبَّما يَتَنَاظَرُون ويُصَنِّفون من أجْلِ تَشْقيقَاتٍ فَرْعيَّةٍ حَوْلَها، في حِينَ أنَّ أرضَ الواقِعِ خُلْوٌ منهم؛ نعم بَدَأ الإسْلامُ غَرِيبًا وسَيَعُودُ غريبًا!.
1 / 3
حتى إنَّ أحدًا لو أرادَ في هذه الأزمنةِ أن يَعتمدَ على يديه لِينهضَ على قَدَميه: لِيُنْكِرَ ما وجب عليه، قال عنه النَّاسُ: ما أكثرَ فضوله، وما أسفه رأيه، وما أضعف عقله!. ومَنْ سَكَتَ عنهم، وأخْلَدَ إليهم، قالوا عنه: ما أكمل عقله، وما أقوى رأيه ... !.
أخي: إنَّ الله تعالى قد أخَذَ عليكم مِيثاق هذا الدِّين بأن تُبَيِّنُوه للنَّاس بما أوجب عليكم من الأمرِ والنَّهي، والدَّعوةِ والإرْشادِ، والعِلْمِ والتَّعليمِ، والتَّحذيرِ والإنْذَارِ، وإبعادِ النَّاسِ عن المَرَاتِعِ الوخيمةِ، والأعمالِ السَّيئةِ الذَّميمةِ؛ فإنَّكم مَسْؤولون أمامَ الله تعالى عن ذلك، فأعِدُّوا للسُّؤَالِ جَوَابًا، وللجَوَابِ صَوَابًا؛ قبل ﴿أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ﴾ [الزمر٥٦] .
1 / 4
وإذا كانَتْ قِيمةُ العَمَلِ تُقَدَّرُ بأهدافِه في السُّمُوِّ أو خِلافِه؛ فإنَّ أهدافَ "الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر" هي مِنْ أنْبَلِ، وأسْمَى الأهدافِ!، ويكفي شَرَفًا لها وللقيامِ بِها بأنَّها المُهِمَّةُ التي أُرْسِلَ بها الرُّسُلُ من عند ربِّهم لِنَشْرِ الفضيلةِ، ومُحَاربةِ الرَّذيلةِ، وإلزامِ الناس طَرِيقَ الرَّحمن، وإبعادِهم عن طَريقِ الشَّيطانِ، فهل هناك أهدافٌ أعلى وأسْمى من هذه الأهدافِ؟ لا والله!.
وعن هذا الشُّمُولِ لأهدافِ الحسْبةِ؛ يقول أبو حامدٍ الغَزَّالي ﵀: " الحسبةُ وظيفةٌ دينيةٌ اجتماعيةٌ؛ قبل أنْ تكون وظيفةً حَكُوميةً؛ فقد شَمِلت جَوانِبَ الحياةِ كُلِّها؛ فقد دَخَلت في دواوينِ السَّلاطين، ومجالسِ القُضَاةِ، ومَدارسِ الفُقَهاءِ، وخَانَاتِ الأسواقِ، والشَّوارعِ، والحَمَّاماتِ والمَسَاجدِ، والبُيُوتِ، والمَارَسْتانات (المستشفى)، والكَتَاتيب". (١)
_________
(١) انظر «إحياء علوم الدين» للغزالي (١ / ٣٤٢) .
1 / 5
وبعد هذا؛ فلا تَحْسِبنَّ أخي المسلم أنَّ "الأمرَ بالمعروف والنَّهيَ عن المُنكر" له أعوانٌ وأنصارٌ؟ كلاَّ؛ بل ما زال هذه الأمرُ في تراجعٍ وتخاذلٍ من بعض المسلمين، فمرَّةً تراهم يعتذرون بالحكمةِ، ومرَّةً بالسَّلامةِ، ومرَّةً بالمصلحة ... وهلمَّ جرّا.
1 / 6
ودونك أخي المسلم هذا الكلامَ الرَّبَّاني الذي كان لِزامًا على كلِّ طالبِ علمٍ أن يَقِفَ معه بتدبُّرٍ وتأمُّلٍ، وهو من كنوزِ الحِكَمِ للإمامِ الهُمامِ ابنِ القيم ﵀ إذ يصفُ لنا حالَ أكثرِ المسلمين بقولِه: " وقد غرَّ إبليسُ أكْثَرَ الخلْقِ بأنْ حَسَّنَ لهم القِيامَ بِنَوْعٍ من الذِّكرِ، والقراءةِ، والصَّلاةِ، والصِّيامِ، والزُّهدِ في الدُّنيا والانقطاعِ، وعَطَّلُوا هذه العُبُودِيَّاتِ، فلم يُحَدِّثُوا قلوبَهم بالقيامِ بها، وهؤلاء عند ورثةِ الأنبياءِ من أقَلِّ الناسِ دِينًا؛ فإنَّ الدِّينَ هو القيامُ لله بما أمرَ به؛ فتاركُ حُقُوقِ الله التي تَجِبُ عليه أسْوأ حَالًا عند اللهِ ورسولِه مِنْ مُرْتكبِ المَعاصي؛ فإنَّ تَرْكَ الأمرِ أعظمُ من ارتِكَابِ النَّهي من أكثرِ مِنْ ثلاثين وجْهًا ذكرها شيخُنا ﵀ (أي: ابن تيمية) في بعض تصانيفه. ومَنْ له خِبْرةٌ بما بَعَثَ الله به رسولَه ﷺ، وبما كان عليه هو وأصحابُه؛ رأى أنَّ أكْثَرَ مَنْ يُشَارُ إليهم بالدِّينِ هم أقَلُّ الناس دينًا، والله المستعان.
1 / 7
وأيُّ دِينٍ، وأيُّ خَيْرٍ فِيمن يرى: مَحَارمَ الله تُنْتَهك، وحُدُودَه تُضَاعُ، ودِينَه يُتْرك، وسُنَّةَ رسولِه ﷺ يُرْغبُ عنها؛ وهو بارِدُ القَلْبِ، سَاكِتُ اللِّسانِ، شَيْطانٌ أخْرسٌ؛ كما أنَّ المُتَكلِّمَ بالباطلِ شيطانٌ ناطقٌ؟ ا.
وهل بَلِيَّةُ الدِّينِ إلاَّ مِنْ هؤلاءِ الذين إذا سَلِمتْ لهم مآكلُهم ورياساتُهم؛ فلا مُبَالاةٍ بما جرى على الدِّينِ؟ ا.
وخِيارُهم المُتَحَزِّنُ المُتَلَمِّظُ، ولو نُوزِعَ في بعضِ ما فيه غَضَاضةٌ عليه في جاهِهِ أو مالِه؛ بَذَلَ وتَبَذَّل، وجَدَّ واجْتَهد، واستعملَ مَرَاتبَ الإنكارِ الثلاثةِ حسب وُسْعِه.
وهؤلاء - مع سُقُوطِهم من عينِ الله ومقتِ الله لهم - قد بُلُوا في الدُّنيا بأعْظَمِ بَلِيَّةٍ تكون وهم لا يَشْعرون، وهو مَوْتُ القُلُوبِ؛ فإنَّ القلبَ كلَّما كانت حياتُه أتَمَّ؛ كان غَضَبُه لله ورسولِه أقوى، وانْتِصَارُه للدِّينِ أكمل" (١) .
_________
(١) - انظر «إعلام الموقعين» لابن القيم (٢ / ١٧٦-١٧٧) .
1 / 8
والذين يُؤْثِرُون السَّلامَةَ في أديانِهم - فيما زعموا - وفي أبدانِهم، ويَتْرُكُون الأمرَ والنَّهيَ الواجبَ عليهم - مع القُدْرةِ عليه - لهذا السبب: هم كالمُسْتجيرِ مِنَ الرَّمْضاءِ بالنَّارِ؛ (١) إذْ صُورَةُ حَالِهم أنَّهم يَهْرُبُون من ضَرَرٍ مُتَوقَّعٍ إلى ضَررٍ واقعٍ؛ كما قال الله تعالى عن المنافقين: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ [التوبة٤٩] .
وفي هذا يقول شيخ الإسلامِ ابنُ تيمية: " ولَمَّا كان في الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المُنكرِ، والجهادِ في سبيلِ الله مِنَ الابتلاءِ والمِحَنِ ما يَتَعرَّضُ به المَرْءُ للفِتْنةِ؛ صَارَ في النَّاسِ مَنْ يَتَعلَّلُ لتركِ ما وجب عليه من ذلك بأنْ يَطْلُبَ السَّلامةَ من الفتنةِ؛ كما قال تعالى عن المنافقين: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا﴾ [التوبة٤٩] .
_________
(١) - انظر «مجمع الأمثال» للميداني (٢ / ١٤٩) .
1 / 9
ثمَّ قال: إنَّ نَفْسَ إعْرَاضِه عن الجهادِ الواجبِ، ونُكُولَه عنه، وضَعْفَ إيمانِه، ومَرَضَ قلبِه الذي زَيَّنَ له تَرْكَ الجهاد: فِتْنةٌ عظيمةٌ قد سَقَطَ فيها، فكيف يَطْلُبُ التَّخَلُّصَ مِنْ فِتْنةٍ صَغيرةٍ لم تُصِبْه بِوُقُوعِه في فتنةٍ عظيمةٍ قد أصَابَتْهُ؟!.
ثمَّ قال: فَمَنْ تَرَكَ القِتَالَ الذي أمَرَ الله به؛ لئلا تكون فتنةٌ؛ فهو في الفتنةِ سَاقطٌ؛ لِمَا وقع فيه مِنْ رَيْبِ قَلْبِه، ومَرَضِ فؤادِه، وتَرْكِ ما أمَرَهُ الله به من الجهاد". (١) ويقولُ أيضًا: " وإذا كان كذلك فمعلومٌ أنَّ الأمرَ بالمعروفِ والنَّهيَ عن المُنكرِ، وإتْمَامَه، والجهادَ هو من أعظمِ المعروفِ الذي أُمِرْنا به ... وإذا كان هو أعظمُ الواجباتِ والمُستحبَّاتِ، فالواجباتُ والمستحبَّاتُ لا بُدَّ أنْ تكون المصلحةُ فيها راجحةً على المفسدةِ؛ إذ بهذا بُعِثَتِ الرُّسُلُ، وأُنْزِلتِ الكُتُبُ والله لا يُحِبُّ الفسادَ". (٢)
_________
(١) - انظر «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» لابن تيمية ص (٧٦ - ٧٧) .
(٢) - انظر «الحسبة» لابن تيمية ص (٣) .
1 / 10
كما أنَّني هنا لم أقْصِدْ الكلامَ عن "الأمرِ بالمعروف والنهي عن المُنكر" بكُلِّ ما له من مسائلَ ودلائلَ ... إلى غيرِ ذلك من مباحثِه العِظام؛ كلاَّ لم أقْصِدْ شيئًا من ذلك؛ وما هذا إلاَّ أنَّ (المسألةَ) قد بُحثتْ عند كثيرٍ من أهلِ العلمِ - السَّلفِ منهم والخلفِ - في مُصنَّفاتٍ مُستقِلَّةٍ، وكلٌّ منهم بحسبِه، إلاَّ أنَّها في مَجْمُوعِها قد أخذتْ بمجامعِ مسألتِنا جملةً وتفصيلًا، والحمدُ لله ربِّ العالمين. لأجلِ هذا؛ كان من الحكمةِ أن اختصرَ الطريقَ، وأقفَ على مواقعَ الدَّاء التي أحسبُها من جادَّةِ بحثنا، مع بيانِ ما شابها من الْتِبَاسٍ وشُبهٍ عند بعضِ طلبةِ العلمِ من أهلِ زماننا، ناهيك عمَّن سواهم.
أقولُ: لقد جَاءتِ النُّصوصُ الشَّرعيةُ من الكتابِ، والسنةِ، والإجماعِ، وأقوالِ السَّلفِ بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر، وهي كثيرةٌ جدًا لا يحيطُ بها مثلُ هذا المقامِ؛ لذا سنقتصر هنا على ما فيه مَقْنَعٌ وغُنْيةٌ.
1 / 11
يقول الله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران ١٠٤] . وقال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران ١١٠]، ولذا نجدُ عُمَرَ بنَ الخطاب ﵁ يقول بعد أن قرأ الآية السَّابقةَ: " يا أيها الناس مَنْ أراد أن يكون من هذه الأمَّةِ فليُؤَدِّ شَرْطَ الله فيها ". (١)
وفي حديث أبي سعيد الخُدْري ﵁ قال: سمعتُ رسولَ الله ﷺ يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانِه، فإن لم يستطع فبقلبِه وذلك أضعفُ الإيمان» (٢) مسلم.
_________
(١) انظر «الدر المنثور» للسيوطي (٢ / ٦٣) .
(٢) - أخرجه مسلم (١ / ٦٩) .
1 / 12
وهذه بعضُ أقوالِ أهلِ العلمِ في شرحِ هذا الحديثِ، يقولُ أبو الفضل عياض ﵀: " هذا الحديث أصلٌ في صفةِ التَّغيير فحقُّ المُغيِّر أن يُغيِّرَه بكلِّ وجهٍ أمكن زوالُه به، قولًا كان أو فعلًا، فيكسر آلات الباطل، أو يُريق المُسكر بنفسه، أو يأمرُ من يفعله، وينزعَ المغصُوب ويردها إلى أصحابها بنفسه أو بأمرِه إذا أمكنه". (١)
أمَّا ما أُثِرَ عن بعضِ السَّلفِ ﵃ -فقد رُوِيَ عن أبي بكر ﵁ قوله: " يا أيها الناس ائْتَمِرُوا بالمعروفِ وانْهَوْا عن المنكرِ، تَعيشُوا بخيرٍ". (٢) وقال علي ﵁: " من أمر بالمعروفِ شَدَّ ظَهْرَ المؤمنين، ومن نَهَى عن المنكرِ رَغَّمَ أنْفَ المنافقين" (٣) . وقال حذيفة بن اليمان ﵁ حين سُئلَ عن ميتِ الأحياءِ؟ فقال: " الذي لا يُنْكرُ المُنْكرَ بيدِه ولا بلسانِه ولا بقلبِه". (٤)
كما دلَّ على وُجُوبِ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكرِ إجماعُ الأمَّةِ، كما نقل ذلك الإمامُ النَّوويُّ، وابنُ عبد البرِّ، والقرطبي وغيرهم (٥) كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
_________
(١) - انظر «شرح مسلم» للنووي (٢ / ٢٥) .
(٢) - انظر «تفسير الرازي» (٨ / ١٧٩) .
(٣) - انظر «نصاب الاحتساب» لعمر السنامي (٩٧) .
(٤) - انظر «إحياء علوم الدين» للغزالي (٢ / ٣١١) .
(٥) - انظر «شرح مسلم» للنووي (١ / ٢٢)، و«الكنز الأكبر» لعبد الرحمن الحنبلي ص (١١٣)، و«الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (٤ / ٤٨) .
1 / 13
وبعد أن ذكرْنا الأدلَّةَ القاطعةَ على وجوبِ "الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر"؛ كان من المُناسبِ أن نَذْكُرَ شُرُوطَ الآمرِ بالمعروفِ والنَّاهي عن المُنكر على وجه الاختصار، وهي كما يلي: (شروطٌ مُتَّفقٌ عليها، وشروطٌ مُختلفٌ فيها) .
فأمَّا الشُّروطُ المُتَّفقُ عليها؛ فهي: الإسلامُ، والتَّكليفُ، والاستطاعة.
أمَّا الشُّروطُ المُختلفُ فيها؛ فهي: العدالةُ، وإذنُ الوالي.
وهذا ما قاله ابنُ النَّحَّاسِ ﵀: " يُشترطُ لإيجابِ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهي عن المُنكرِ؛ ثلاثةُ شُرُوطٍ: الإسلامُ، والتَّكليفُ، والاستطاعةُ. واخْتُلِفَ في العدالةِ، والإذْنِ من الإمام". (١)
وبعد هذا؛ أحببنا أنْ نَقِفَ مع بعضِ الأحكامِ المُختلفِ فيها التي فُهِمتْ على غيرِ وجهِهَا الشَّرعي، لا سيما عند بعضِ طلبةِ العلمِ!. وذلك من خلالِ مسائلَ مُهمَّةٍ:
_________
(١) انظر «تنبيه الغافلين» للنحاس ص (٣٣) .
1 / 14
القولُ الأولُ: من قال إنَّه خاصٌ بالسُّلطان (بنفسِه، أو أهلِ الحسْبةِ) واستدلُّوا بما يلي:
أولًا: أنَّ الإنكارَ باليدِ إذا فعله آحادُ الرَّعيَّةِ، سوف يترتَّبُ عليه فتنٌ وفوضى.
ثانيًا: أنَّ فيه افْتِئاتًا على وَليِّ الأمْرِ!.
ثالثًا: أنَّ تغيرَ المنكر باليدِّ يحتاجُ إلى قُوَّةٍ، والقوَّةُ من شأنِ السُّلطان. إلى غير ذلك من التعليلاتِ.
علمًا أن أكثرَ هذه التَّعليلاتِ للأسفِ لم تكن نابعةً من بَسْطةٍ في العِلْمِ، أو تأصيلٍ شرعي، أو اسْتِنَادٍ على آيةٍ مُحْكَمةٍ، أو سُنَّةٍ ناطقةٍ، أو قولِ صَحَابي، أو قياسٍ صحيحٍ؛ كلاَّ!.
1 / 15
إنَّ أكثرَ هذه التعليلاتِ - للأسفِ - كانت نتيجةَ الضُّغوطِ المشحونةِ بالاستبدادِ الجائرِ، والظُّلمِ الغاشِمِ، والجهلِ السَّائدِ، والأذى المقيت، وغير ذلك من الاعتداءات الذي انتحلتْها سِلْسِلَةُ تسَلُّطِ الحُكَّامِ الجائرين على رِقابِ أكثرِ بلادِ المسلمين !، فكان من سَوَالِب هذه التَّهديدات أنَّ طائفةً من أهلِ العلمِ تَخَلَّوْا عن القيامِ بوظيفةِ "الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر"، لا سيما إذا عَلِمْتَ أنَّ أسْمَى وأفضلَ مَرَاتِبِ الإنكارِ ما كان باليَدِ، فعند ذلك كان الإنكارُ باليدِ عندهم محلَّ نظرٍ ومُحاسبةٍ، أو قُلْ: مَظِنَّةَ حَبْسٍ وإيذاءٍ، وربَّما قتلٍ!.
وعند هذا؛ كان على العاقلِ أن يَعْلمَ أنَّ أصحابَ هذا القولِ؛ كانوا حصادَ هذه الاعتداءات الغاشِمةِ التي اخْتَطَّتها سياسةُ أكثرِ حُكَّامِ المسلمين، إلاَّ أنَّنا مع هذا (الاعتذار) لا نُقِرُّهُم على هذه التَّعليلاتِ (المَعْلُولةِ)؛ فضلًا أن يجعلوها دليلًا مُستقِلًا تُبنى عليه أحكامٌ شرعيَّةٌ، أو تكون تخصيصًا لعمومِ الأدلَّةِ، أو قيدًا لمُطلقِها!.
1 / 16
كما أنَّني لا أشكُّ أنَّ أكثرَ أصحابِ هذا القولِ قد دخلَ عليهم الرَّوعُ والخوْفُ، أو حُبُّ السَّلامةِ بطريقٍ أو آخر!؛ فعند هذا أضحت مسألةُ (الإنكارِ باليَدِ) عندهم مُعلَّقةً بخاصَّةِ السُّلطان، أو من ولاَّهُ من أهلِ الحسبةِ، مع علمهم (القطعي) أنَّ أهلَ الحسبةِ في زماننا ليس لهم في قانونِ حُكَّامِ أكثرِ بلادِ المُسلمين من الأمرِ شيءٌ!؛ اللهم صلاحيات نِظامية، وترتيبات إدارية، ومعاملات رقابية، حيث سُحِبتْ منهم أكثرُ الصَّلاحيات الشَّرعية، وحاصلُ الأمرِ؛ بل حقيقة الأمرِ: لا (إنكارَ باليدِ) !، فلا السُّلطان يُغَيِّر بيدِه، ولا أهلُ الحسبةِ يجرؤن على التَّغيير باليدِّ، ولا أهلُ المعاصي المُجاهرون ينتهون!؛ بل لم يَزَلِ الفسادُ يَتَفاقَم أمرُه، ويتطاير شَررُه، اللهم رُحماك، اللهم رُحماك!.
1 / 17
لذا؛ كان ينبغي أنْ نعلمَ أنَّ أصحابَ هذا القولِ ليس لهم مِنَ الدَّليلِ الشَّرعي نصيبٌ يُؤثر، اللَّهم إلاَّ مُتَشَابهاتٌ، وتعليلاتٌ ما أنْزَلَ الله بها مِنْ سُلطان!. في حين أنَّ كثيرًا من العلماءِ من أهل التَّحقيقِ قد غَلَّطوا من قال: إنَّ إذْنَ السُّلطانِ مُعتبرٌ في آحَادِ الرَّعيَّةِ!. وعلى رأسهم الإمامُ الغَزَّاليُّ ﵀ حيثُ وَصفَ هذا الشَّرطَ بالفسادِ، بقوله: " هذا الشَّرطُ فاسدٌ؛ فإنَّ الآياتِ والأخبارَ التي أوْرَدْنَاها تَدُلُّ على أنَّ كُلَّ مَنْ رأى مُنْكرًا؛ فَسَكتَ عليه عَصَى، إذْ يَجِبُ نَهْيُهُ أيْنَما رآه، وكيفما رآه على العمومِ، فالتَّخْصِيصُ بشرطِ التَّفْويضِ من الإمامِ تَحَكُّمٌ لا أصْلَ له". وقال أيضًا: " بل «أفضلُ الدَّرجاتِ كلمةُ حقٍّ عند سُلْطانٍ جائرٍ،» كما وَرَد في الحديثِ، (١) فإذا جازَ الحُكْمُ على الإمامِ على مُرَاغَمَتِه؛ فكيف يَحْتَاجُ إلى إذْنِه؟ ". وقال أيضًا: " واستمرارُ عاداتِ السَّلفِ على الحسبةِ على الوُلاةِ قاطعٌ بإجماعِهم على الاستغْناءِ عن التَّفويضِ؛ بل كُلُّ مَنْ أمَرَ بمعروفٍ، فإن كان الوالي راضيًا فذاك، وإن كان ساخطًا له فَسُخْطُه
_________
(١) أخرجه أحمد (٣ / ١٩)، وأبو داود (٤٣٤٤)، والحاكم (٤ / ٥٠٥، ٥٠٦) وصححه الحاكم، وسنده صحيح.
1 / 18
له مُنكرٌ يجبُ الإنكارُ عليه، فكيف يحتاج إلى إذنِه في الإنكارِ عليه". وقال أيضًا بعد كلامٍ له في عَدَمِ وُجُوبِ استئذانِ الإمامِ في التَّغيير: " وكذلك كَسْرُ الملاهي، وإراقَةُ الخُمُورِ فإنَّه تَعَاطى ما يُعْرفُ كونُه حقًا من غيرِ اجتهادٍ، فلم يَفْتقِرْ إلى الإمامِ، وأمَّا جَمْعُ الأعْوانِ، وشَهْرُ الأسْلِحةِ فذلك قد يَجُرُّ إلى فِتْنَةٍ عامَّةٍ؛ ففيه نَظَرٌ سيأتي ... ". (١) وهذا أيضًا ابنُ دقيق العيد ﵀ يقول: " قالوا: ولا يَخْتَصُّ الأمْرُ بالمعروفِ والنَّهي عن المُنكرِ بأصْحَابِ الوِلايةِ؛ بل ذلك ثَابِتٌ لآحادِ المسلمين". (٢)
أمَّا قولُهم: إنَّ في إنكارِ آحادِ الرَّعيَّةِ إثارةً للفتنِ والفوضى، فردُّه كما يلي:
_________
(١) - انظر «إحياء علوم الدين» للغزالي (٢ / ٣١٥) .
(٢) - انظر «شرح الأربعين النووية» لابن دقيق العيد، ص (١٣٧) .
1 / 19
قلتُ: في هذا تحكُّمٌ عقليٌ منكم في مُوَاجهةِ نُصُوصٍ صريحةٍ مِنَ السُّنَّةِ، وأفعالِ الصحابةِ، وأقوالِ العلماء المُحقِّقين على اختلافِ مذاهبِهم، وبعد هذا فلا يَحِقُّ لأحَدٍ كائنًا من كان أن يقولَ برأيِه قولًا مُخَالفًا لما دلَّتْ عليه النُّصُوص الشَّرعيةُ؛ لأنَّ في هذا - عياذًا بالله - اتِّهامًا ضِمنيًا للنبيِّ ﷺ بأنَّه يأمُرُ بما يُثِيرُ الفوضى والفِتَن (١) !.
_________
(١) - انظر «حكم تغيير المنكر» لعبد الآخر الغنيمي، ص (٥٤) .
1 / 20