مقدمة
...
أهمية الأسرة وعناية الإسلام بها:
ينبثق نظام الأسرة من معين الفطرة وأصل الخلقة وقاعدة التكوين الأولى للأحياء جميعًا وللمخلوقات كافّة، قال جل شأنه: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ ١، وقال سبحانه: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ﴾ ٢.
إن النظام الإسلامي يجعل الأسرة هي العمود الفقري الذي يقوم عليه المجتمع الإسلامي، وقد أحاطها الإسلام برعايةٍ عظيمةٍ في كل مراحل تكوينها، وقد استغرق تنظيمها وحمايتها وتطهيرها من فوضى الجاهلية جهدًا كبيرًا، وأحاطها كذلك بكلِّ المقومات اللازمة لإقامة هذه القاعدة الأساسية الكبرى للمجتمع المسلم.
ونظرًا لأهمية هذه القاعدة في تكوين النظام الاجتماعي ربطها الإسلام بجاذبية الفطرة بين الجنسين؛ حيث أودع في كل طرف رغبة ملحة للطرف الآخر لتحقيق المودة والسكينة التي يبحث عنها كل منهما لدى الآخر، وما ذاك إلّا لتتجه إلى إقامة الأسرة القوية، وتكوين البيت الصالح الذي يتكون من مجموعهما المجتمع الصالح، قال جل شأنه: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ ٣، وقال عز من قائل: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا﴾ ٤.
إن الأسرة هي الوضع الفطري الذي ارتضاه الله تعالى لحياة الناس منذ فجر الخليقة وفضله لهم، واتخذ من الأنبياء والرسل مثلًا، فقال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً﴾ ٥.
_________
١ سورة الذاريات الآية ٤٩.
٢ سورة يس الآية ٣٦.
٣ سورة الروم الآية ٢١.
٤ سورة النحل الآية ٨٠.
٥ سورة الرعد الآية ٣٨.
1 / 3
ويبحث عنها لدى الطرف الآخر، وتلك السكينة التي تظلل هذه الخلية الناشئة، وهذه المرحمة التي تغمر قلبي طرفيها، هذه المعاني كلها تجعل الرجل يندفع للارتباط بأنثاه، مضحيًّا من أجلها بماله، ومغيرًا طريقه حياته، مستبدلًا بروابطه السابقة روابط أخرى.. وهي التي تجعل المرأة تقبل الانفصال عن أهلها ذوي الغيرة عليها، وتترك أبويها وإخوتها وسائر أهلها لترتبط بالزواج برجل غريب عنها، تقاسمه السرّاء والضرّاء، وتسكن إليه ويسكن إليها، ويكون بينهما من المودة والمرحمة أقوى من كل ما يكون بين ذوي القربى، وما ذلك إلّا لثقتها بأن صلتها به ستكون أقوى من أيِّ صلة، وعيشتها معه أهنأ من كل عيشة، وهذا ميثاق فطري من أغلظ المواثيق وأشدها إحكامًا.
من أهم المقاصد التي أرادها الإسلام من تكوين الأسرة:
١- تنظيم الطاقة الجنيسة:
هذه الطاقة خلقت في الإنسان سواء كان ذكرًا أم أنثى لتحقيق غاية جليلة، وهي التناسل والتوالد والتكاثر بغرض استمرار الجنس البشري لتتحقق العمارة التي أرادها الله تعالى للأرض.
وإنما شرع الزواج والأسرة ليكون الزواجُ أداةً، وتكون الأسرة وعاءً شرعيًّا نظيفًا لاستقبال هذه الطاقة وتوظيفها في المحل الصحيح.
ولولا الزواج الذي هو تنظيم لتلك الفطرة المشتركة بين الإنسان والحيوان لتساوى الإنسان مع غيره من أنواع الحيوان في سبيل تلبية هذه الفطرة عن طريق الفوضى والشيوع، وعندئذ لن يكون هو الإنسان الذي كرَّمه ربه ونفخ فيه من روحه، ثم منحه العقل والتفكير، وفضَّله على كثير من خلقه مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ
1 / 4
مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ ١.
إن الإسلام لا ينظر إلى هذه الطاقة كمجرد أمر واقع، ولكنه يعاملها بالتقدير باعتبارها وسيلة لغاية جليلة، وقد قال ﷺ:"إن في بضع أحدكم صدقة" -أي: إن الرجل يثاب على العمل الجنسي الذي يأتيه مع زوجته- قيل يا رسول الله: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر ... " ٢.
وإن ذكر الله تعالى قبل بدء الاتصال بين الرجل وزوجته، وهو ما أدّب النبي ﷺ المسلمين على فعله؛ ليدل دلالة قاطعة على مدى نظافة الجنس في نظر الإسلام، وعلى مدى رغبته في تأصيل هذه النظافة في حس المسلم٣.
٢- بقاء النوع الإنساني:
الإنسان مجبول على حب البقاء، وإذا كان الإنسان لا سبيل إلى بقائه بذاته، فإن سبيله إلى البقاء إنما هو النسل المعروف نسبته إليه، حيث يراه امتداد في بقائه واستمرارًا لذكراه وخلودًا لحياته.
وقد حثَّ النبي ﷺ على طلب النسل وحبَّبَ إليه، فعن معقل بن يسار ﵁ قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وأنها لا تلد فأتزوجها؟ قال: لا، ثم أتاه الثانية، فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: "تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم" رواه أبو داود والنسائي٤.
٣- حسن التربية للأجيال القادمة:
إن الأسرة هي المحضن الطبيعي الذي يتولى حماية الفراخ الناشئة ورعايتها
_________
١ سورة الإسراء الآية ٧٠.
٢ مسلم، كتاب الزكاة، باب: بيان اسم الصدقة على كل نوع من المعروف.
٣ الزواج في الإسلام أمام التحديات ص١١٦.
٤ أبو داود "٢٠٥٠"، والنسائي "٦/ ٦٥"، والحاكم، وصححه وهو صحيح.
1 / 5
وتنمية أجسادها وعقولها وأرواحها، وفي ظله تتلقى مشاعر الحب والرحمة والتكافل، وتنطبع بالطابع الذي يلازمها مدى الحياة، وعلى هديه ونوره تتفتح للحياة، وتفسر الحياة، وتتعامل مع الحياة.
ونظرًا لأن الطفل الإنساني هو أطول الأحياء طفولةً؛ إذ هي فترة إعداد وتهيؤ وتدريب للدور المطلوب منه في الحياة في باقي حياته، لذا كانت حاجته لملازمة أبويه أشد من حاجة أيّ طفل لحيوان آخر، وكانت الأسرة المستقرة الهادئة ألزم للنظام الإنساني وألصق بفطرة الإنسان وتكوينه ودوره في هذه الحياة.
وقد أثبتت التجارب العملية أن أيَّ جهاز آخر غير جهاز الأسرة لا يعوّض عنها ولا يقوم مقامها، بل لا يخلو من أضرار مفسدة لتكوين الطفل وتربيته، ولاسيما نظام دور الحضانة الجماعية التي أرادت بعض النظم المتعسفة أن تستعيض بها عن نظام الأسرة.
ومن أعجب العجب أن نجد كثيرًا من الفلسفات المعاصرة بدأت تشجع عمل المرأة وتركها للمنزل أكبر فترة ممكنة تاركةً أبناءها إما للحاضنات أو للخادمات، وهي تضحية كبيرة بأعلى رصيد للمستقبل وهم الأطفال، في مقابل ما يسمى بزيادة دخل الأسرة أو تكوين شخصية المرأة وغير ذلك من الدعاوى١.
٤- عمارة الأرض:
إن الأسرة هي العماد الذي يقوم عليه كل ما ينشأ في هذه الحياة من مظاهر التحضر والعمران، لذلك شاءت إرادته تعالى حينما أزف رحيل آدم ﵇ من الجنة ليهبط إلى الأرض ليبدأ الحياة والعمران -كما سبقت بذلك الإرادة- أن خلق له من نفسه من تشاركه في هذه الحياة وفي إقامة هذا العمران؛ حيث يتولى هو بما أوتي من قدراتٍ عقلية وبدنية تهيئة الأسباب المادية لهذا العمران، وتتولى هي تهيئة ما
_________
١ المرأة في ظلال القرآن ص١٢، ١٣ بتصرف.
1 / 6
يحتاجه هذا الإنسان الكادح من راحةٍ نفسيِّة واحتياجات بدنية في منزله، ثم تنجب له الأولاد الصالحين والبنات الصالحات لتستمر الحياة وتتواصل الأجيال، كل يحاول بحسب قدراته أن يضيف إلى ما وجد من أسباب العمارة والازدهار، وهكذا كانت الأسرة ولا تزال هي محور عمارة هذه الأرض ومصدر حضارتها وتقدمها المستمر.
٥- حفظ الأنساب:
قال جل شأنه: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾ ١ فلا بُدَّ للإنسان السويِّ أن يكون منتسبًا إلى أسرة مكونة من أب معروف وجَدٍّ معروف وأم وجدة كذلك، ومن عوامل الاستقرار النفسي لدى الإنسان كذلك أن يشعر بأن له أبناء وأحفادًا ينتمون إليه ويحملون اسمه ولقبه.
وبناءً على ذلك تتقرر الحقوق والواجبات داخل الأسرة من تربية وحضانة ونفقة وإرث، وغير ذلك من الأحكام الشرعية التي لولا البناء السليم للأسرة لما أمكن ترتيب هذه الحقوق أو توفيتها٢.
من مظاهر عناية الإسلام بالأسرة:
لم يحظَ تشريع إسلامي -فضلًا عن غيره- باهتمام واسع من الشريعة الإسلامية بمثل ما حظي به تشريع الأسرة؛ فقد تناول كل مراحل تكوين الأسرة وقيامها، ثم المحافظة على بنيانها قويًّا متماسكًا حتى تستطيع الوفاء بالرسالة الإنسانية والحضارية التي أرادها المولى سبحانه منها، وقد أوصى بحسن اختيار عن رغبة حقيقية ورضى قلبي غير مشوب بأيِّ عاملٍ من العوامل التي تؤثر في إرادة الإنسان، ورسم الأساس الذي ينبغي أن يقوم عليه هذا البنيان، فجعل الدين هو الأصل في الاختيار.
_________
١ سورة النحل الآية ٧٢.
٢ أضواء على نظام الأسرة للدكتورة سعاد صالح ص٢١، ٢٢.
1 / 7
ولهذا جعل بناء الأسرة يتم على مراحل متعددة تبدأ من حسن الاختيار إلى الخطبة إلى العقد إلى الدخول ... كل ذلك حتى يتأكَّدَ طرفاها من متانة البنيان وقوته ليستطيعا مواجهة أعاصير الحياة.
ثم رتَّبَ لكل طرف حقوقه وواجباته لدى الطرف الآخر، وأخذ عليهما الميثاق الغليظ للوفاء بهذه الحقوق، والقيام بتلك الواجبات.
ووزَّعَ كذلك بينهما الأعباء التي يجب على كلٍّ منهما أن يتحمَّلها في الأسرة؛ حيث يتولى أحدهما عمل كل الأسباب التي توفر الحياة الكريمة لأفراد الأسرة، وعلى الطرف الآخر أن يوفر عوامل الاستقرار والسكينة لأفراد الأسرة داخل المنزل.
كذلك رسم الطريق الصالح الذي تعالج به المشكلات التي قد تنشأ بين طرفي الأسرة، وجعلها على مراتب متعددة حسب نوع المشكلة وظروف كل أسرة.
فإذا تعقَّدت الأمور وصعُبَ حلّها، جعل لها مخرجًا كريمًا لكلٍّ منهما، ثم رتَّبَ لكلٍّ منهما الحقوق التي يجب عليه الوفاء بها، والتي يقتضيها التسريح بالمعروف حفاظًا على ما كان من ودٍّ وحسن عشرة، لعل الله أن يحدث بعد ذلك في القلوب ما يجمعها بعد تنافر، ويؤلف بينهما بعد شتات.
رسم الإسلام هذا وغيره من التشريعات الحكيمة، والتوجيهات السديدة التي سيأتي الكلام عليها بالتفصيل في ثنايا هذا المنهج -إن شاء الله تعالى.
1 / 8
الباب الأول: الخطبة وما يتعلق بها
الفصل الأول: الترغيب في الزواج وما يراعى في اختيار الزوج الصالح
مدخل
...
الباب الأول: الخطبة وما يتعلق بها
نظرًا لأهمية الزواج سواء للفرد وللمجتمع، وما يترتب عليه من آثارٍ خطيرة في العاجل والآجل، جعلته الشريعة الإسلامية على عدة مراحل، كل مرحلة تعتبر تمهيدًا لما بعدها، حتى تكون هناك فرص متعددة لكلا الطرفين تجعلهما قادرين على فهم بعضهما بعضًا، فإذا ما كان الدخول بعد، كان كلٌّ منهما على إحاطة تامَّةٍ بكل ما يتعلق بشريك حياته ماديًّا وأدبيًّا، فلا يفاجأ أيٌّ منهما بشيء غير متوقع من صاحبه، وحينئذ تسير حياتهما بعد الزواج من يسر إلى يسر إن شاء الله تعالى.
وقد وردت بعض النصوص الشرعية بتسمية المرحلة الأولى بالخطبة -بكسر الخاء، لذلك اصطلح الفقهاء جميعًا على تسميتها بذلك.
وبناء على ذلك سنأخذ في بيان الخِطْبَةِ وما يتعلق بها في عدد من الفصول، نبدؤها بأولها فنقول:
1 / 10
الفصل الأول: الترغيب في الزواج، وما يراعى في اختيار الزوج الصالح
الأهداف الخاصة:
يتوقع منك عزيزي الدارس بعد دراسة هذا الفصل أن تصبح قادرًا على معرفة ما يلي:
١- ترغيب الإسلام في الزواج وحثه عليه.
٢- فوائد الزواج.
٣- مدى كون النكاح من العبادة، وأفضلية النكاح عن التخلي للعبادة.
٤- أن تعرف -أخي الدارس- أهم الصفات التي ينبغي الحرص على توافرها في الزوجة، وأن تعرفي -أختي الدارسة- ما ينبغي على الزوجة أو وليها مراعاته في اختيار الزوج.
1 / 11
المبحث الأول: الترغيب في الزواج وبيان الفوائد المترتبة عليه
لقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة، وكذلك عمل الصحابة الكرام وقولهم على الترغيب فيه، من ذلك:
أولًا: من الكتاب العزيز:
قال تعالى: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ ١.
وقال جل شأنه أيضًا: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ ٢.
وقال ﷿: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ ٣، وغير ذلك من آيات الكتاب الحكيم.
_________
١ سورة النور الآية ٣٢.
٢ سورة النساء الآية ٣.
٣ سورة الروم الآية ٢١.
1 / 13
ثانيًا: من السنة المطهرة
١- قوله ﷺ: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" ١.
٢- حديث أنس بن مالك ﵁: جاء ثلاثة إلى بيوت أزواج النبي ﷺ يسألون عن عبادة النبي ﷺ، فلما أخبروا كأنهم تَقَالُّوهَا، فقالوا: وأين نحن من النبي ﷺ؟ قد غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا، فأنا أصلي الليل أبدًا، وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء إليهم رسول الله ﷺ فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله، إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" ٢.
٣- حديث أنس بن مالك ﵁: "تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم يوم القيامة" ٣.
٤- عن طاووس قال عمر ﵁ لرجل: أتزوجت؟ قال لا، قال: إما أن تكون أحمق، وإما أن تكون فاجرًا -أخرجه عبد الرزاق٤.
٥- وعن مجاهد أن ابن عباس دعا سميعًا وكريمًا وعكرمة، وكانوا من مواليه، فقال لهم: إنكم قد بلغتم ما يبلغ الرجال من شأن النساء، فمن أحب منكم أن أزوجه زوجته، لم يزن رجل قط إلّا نزع منه نور الإسلام! يرده الله إن شاء أن يرده أو يمنعه إياه إن شاء أن يمنعه، أخرجه سعيد بن منصور٥.
_________
١ متفق عليه: من حديث ابن مسعود ﵁، البخاري في الصوم والنكاح، ومسلم في النكاح.
٢ متفق عليه: صحيح مسلم جـ٩/ ١٧٥، ١٧٦ مع شرح النووي، وصحيح البخاري مع فتح الباري جـ١١/ ٤، ٥.
٣ أحمد "٣/ ١٥٨، ٢٤٥"، وصححه ابن حبان فأخرجه في "صحيحه".
٤ المصنف لعبد الرزاق جـ٦/ ١٧٠.
٥ سنن سعيد بن منصور جـ١/ ١٤٠.
1 / 14
فوائد الزواج:
قال الإمام الخرشي -وهو أول شيخ للأزهر- ذاكرًا فوائد الزواج:
وفيه فوائد أربع:
١- دفع غوائل الشهوة.
٢- التنبيه باللذة الفانية على اللذة الدائمة؛ لأنه إذا ذاق هذه اللذة وعلم أنه إذا عمل الخير وجد ما هو أعظم، سارع إلى الخيرات لما هو من جنس تلك اللذة ولما هو أعظم وأتم وأبقى، وهو اللذة بالنظر إلى وجهه الكريم.
٣- المسارعة إلى تنفيذ إرادة الله تعالى ببقاء الخلق إلى يوم القيامة، ولا يحصل ذلك إلّا بالنكاح.
٤- تنفيذ إرادة رسوله ﷺ لقوله: "تناكحوا تناسلوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة" ١، ٢.
_________
١ شرح الخرشي على مختصر خليل جـ٣/ ١٦٤.
٢ الحديث سبق تخريجه ص٥، ١٣.
1 / 15
المبحث الثاني: مدى كون النكاح من العبادة
اتفق الفقهاء على أن النكاح من العبادة إذا كان القصد منه الإعفاف أو النسل أو غيرهما من الأمور التي يدعو الإسلام إلى تحقيقها.
واختلفوا فيما إذا خلا من ذلك:
- فذهب أكثر الفقهاء إلى أنه مباح إذا لم يشغله عن عبادة نافلة١؛ لأن المقصود منه حينئذ مجرد قضاء الشهوة.
- ذهب بعض أهل العلم إلى أنه من العبادة، فقد قال صاحب الدر المختار الحنفي: "ليس لنا عبادة شرعت من عهد آدم إلى الآن، ثم تستمر في الجنة إلّا النكاح والإيمان"٢.
ونصوص الشريعة تقوي الرأي القائل بأنه من العبادة، فقد جاء في الحديث الشريف "إن في بضع أحدكم صدقة"، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال ﷺ: "رأيتم إذا وضعها في حرام، أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر" ٣.
الزواج أفضل من التخلي للعبادة:
يفهم من كلام أكثر الفقهاء أن النكاح إذا اقترن بقصد تحقيق شي صالح للدنيا أو الآخرة فإنه أفضل من التخلي للعبادة، ولم يشذّ عن ذلك إلّا قليل من الفقهاء الذين آثروا التخلي للعبادة تعلقًا ببعض الآثار الواهية التي تدعو إلى ترك النكاح
_________
١ حاشية قليبوبي وعميرة على المحلي على المنهاج جـ٣/ ٢٠٦، وكشاف القناع جـ٥/ ٧، شرح الخرشي مع حاشية العدوي عليه جـ٣/ ١٦٥، والدر المختار مع حاشية رد المحتار جـ٣/ ٣.
٢ الدر المختار مع حاشية رد المحتار جـ٣/ ٣.
٣ صحيح مسلم، وسبق ص٣.
1 / 16
والتخلي للعبادة حتى لا ينشغل المسلم بتكاليفها عن طاعة الله تعالى، والتحقق بالعبودية له ﷿ مثل ما ورد من رواية: "خيركم في المائتين الخفيف الحاذ الذي لا أهل له ولا ولد"، ومثل ما ورد عن طريق حذيفة أنه قال: "إذا كان سنة خمس ومائة فلأن يربي أحدكم جرو كلب خير من أن يربي ولدًا".
وقد قال ابن حزم ﵀ عقب إيراده لهذين الخبرين: "هذان خبران موضوعان؛ لأنهما من رواية أبي عاصم روّاد بن الجراح العسقلاني وهو منكر الحديث لا يحتج به١، وبيان وضعهما: أنه لو استعمل الناس ما فيهما من ترك النسل لبطل الإسلام والجهاد وغلب أهل الكفر، مع ما فيه من إباحة تربية الكلاب، فظهر فساد كذب رواد بلا شك"٣.
والنصوص الشرعية تؤيد رأي الجمهور بأفضلية النكاح على التخلي للعبادة، وقد سبقت الإشارة إلى بعضها.
ويضاف إلى ما تقدَّم: أن النكاح فعله رسول الله ﷺ وواظب عليه مدة حياته، وفي هذا المعنى يقول ابن الهمام: "ولم يكن الله ﷿ يرضى لأشرف أنبيائه إلّا بأشرف الأحوال، وكان حاله إلى الوفاة النكاح، فيستحيل أن يقرَّه على ترك الأفضل مدة حياته"٣.
_________
١ المحلى لابن حزم جـ٩/ ٤٤٠، ٤٤١.
٢ بالغ أبو محمد بن حزم ﵀ في نقد رواد كعادته، والرجل ضعيف الحديث، له مناكير، ولم يكن يكذب إلّا إن قصد ابن حزم بيان الحال وليس تعمُّد الكذب، وانظر تهذيب الكمال "٩/ ٢٢٩" -ترجمة رواد- والخبران موضوعان بلا ريب.
٣ فتح القدير جـ٣/ ١٠٣.
1 / 17
المبحث الثالث: ما ينبغي لكلٍّ من طرفي الزواج أن يراعيه عند اختيار الطرف الآخر
نظرًا لأهمية عقد الزواج في حياة طرفيه ومستقبلهما وما يتولَّدُ عنه من أثار، ندب الشارع الحكيم كل طرف منهما إلى حسن اختيار الطرف الآخر؛ بحيث تتوفر فيه مجموعة من الخصال الكريمة والصفات الحميدة التي تحبب كل طرف في صاحبه، مما يجعله مألوفًا إليه قريبًا من قلبه؛ لتستمر العشرة، وتدوم المودة، وتتحقق الرحمة والسكينة التي أرادها الله تعالى للزوجين في كتابه، والتي أشار إليها المصطفى ﷺ في قوله: "فإنه أحرى أن يؤدم بينكما" ١.
ومن أهم الصفات التي يجب الحرص على توافرها في الزوجة:
أولًا: أن تكون دينة، وذلك لما في صحيح البخاري ومسلم من قوله ﷺ: "تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولجمالها، ولحسبها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك" ٢ أي: استغنيت إن فعلت، أو المعنى: افتقرت إن خالفت، والمراد بالدين: الطاعات، والأعمال الصالحات، والعفة عن المحرمات٣.
وليس المراد بالصلاح في الرجل أو المرأة هو أداء الصلاة فقط أو الصيام فقط، بل هو مجموعة من الخصال الحميدة المكنونة في النفس، وما الصلاة والصيام وغيرهما إلّا قرائن تشير إلى ما يتمتع به الإنسان من هذه الخصال، فليس هناك سعادة في الحياة تعدِلُ سعادة الزوج الذي رُزِقَ بزوجة صالحة، وذلك لأنها ستكون مصدرًا من مصادر
_________
١ سنن سعيد بن منصور جـ١/ ١٤٥، والترمذي "١٠٨٧"، والنسائي "٦/ ٦٩".
٢ متفق عليه: البخاري في "النكاح"، ومسلم في "باب استحباب ذات الدين" رقم ١٤٦٦.
٣ مغني المحتاج جـ٣/ ١٢٦، ١٢٧.
1 / 18
الخير، فإن كان فقيرًا أغنته زهدها وقناعتها، وإن كان غليظًا جافيًا ألانته بعطفها وحلمها، وإن كان عاصيًا كانت قدوة صالحة له بمسلكها مع ربها ومعه، وغير ذلك من الجوانب، والتاريخ القديم والحديث شاهد على ذلك.
ثانيًا: أن تكون ذات خلق حسن، لعموم النصوص التي تحض على مكارم الأخلاق، ولأن النكاح يراد للعشرة، ولا تصلح العشرة مع الحمقاء ولا يطيب العيش معها، وربما تعدى ذلك إلى ولدها، وقد قيل: اجتنبوا الحمقاء، فإن ولدها ضياع، وصحبتها بلاء١.
ثالثًا: أن تكون بكرًا، أي: لم يسبق لها الزواج، وقد حثَّ الإسلام على التزوج من البكر خاصة لمجموعة من المزايا قلَّ أن تتوفر في المرأة الثيب وهي التي سبق لها الزواج وخبرت الرجال؛ فعن عائشة ﵂ قالت: قلت يا رسول الله: أرأيت لو أنك نزلت واديًا فيه شجرة قد أُكِلَ منها، ووجدت شجرًا لم يُؤكَلْ منها، في أيها كنت ترتع بعيرك؟ قال: "في الذي لم يرتع منها"، تعني: أن رسول الله ﷺ لم يتزوج بكرًا غيرها٢.
ودلالة هذا الحديث على أفضلية التزوج من البكر ظاهرة تؤخذ من النتيجة التي سلم بها رسول الله ﷺ بعد ذكر مقدماتها من تلك الفصيحة البليغة الصديقة بنت الصديق ﵄، وكذلك ما في الأبكار من قرب العهد بالصبا، وما يشتملن عليه من الميل إلى الفكاهة واللعب والنظر إلى الحياة بأملٍ ورغبةٍ في الاستمتاع، وذلك واضح مما جاء في حديث جابر بن عبد الله ﵄، الذي أخرجه مسلم بروايات متعددة كلها تدور حول المعنى السابق، ومنها رواية عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله ﵄، أن عبد الله -أي: والده- هلك وترك تسع بنات أو قال: سبعًا، فتزوجت امرأة ثيبًا، فقال لي رسول الله ﷺ: "يا جابر، تزوجت؟ " قال: قلت: نعم، قال: "فبكر أم ثيب؟ " قال: بل ثيب يا رسول الله، قال: "فهلا جارية
_________
١ مغني المحتاج جـ٣/ ١٢٧، وكشاف القناع جـ٥/ ٩.
٢ البخاري كتاب النكاح، باب: نكاح الأبكار.
1 / 19
تلاعبها وتلاعبك"، أو قال: "تضاحكها وتضاحكك"، قال: قلت له: إن عبد الله هلك وترك تسع بنات أو سبعا، وإني كرهت أن آتيهن أو أجيئهن بمثلهن، فأحببت أن أجيء بامرأة تقوم عليهن وتصلحهن، قال: "فبارك الله لك" أو قال لي: "خيرًا" وفي رواية أخرى لمسلم "امرأة تقوم عليهن وتمشطهن، قال: "أصبت" ١.
الحاجة قد تدعو للزواج بالثيب:
يجب علينا قبل أن نترك الكلام على هذه الصفة أن نشير إلى أن الحضَّ على تزوج البكر لا يقتضي كراهة تزوج الثيب، بل قد تكون للزوج أغراض لا تتحقق إلّا بزواجه من الثيب ذات الخبرة الكبيرة بأسباب الحياة، ولاسيما إذا كان الزوج ذا عيلة من إخوة صغار أو أطفال من زوجة سابقة، الأمر الذي لا تستطيع البكر القليلة الخبرة في الحياة أن تقوم به، ويشهد لذلك ما فعله جابر ﵁، الذي أوردنا حديثه آنفًا؛ إذ اختار الثيب زوجةً له ترعى أخواته بعد موت أبيه، وقد أقرَّه الرسول ﷺ على هذا الفعل ودعا له بخير، وهذا على استحسان هذا التصرف من جابر ومن يحذو حذوه من المسلمين.
رابعًا: أن تكون ولودًا، أي: تنجب الأولاد وليست عقيمًا، وذلك لتحقق الكثرة التي أرادها رسول الله ﷺ لمباهاة الأمم يوم القيامة بكثرة أمته، فعن معقل بن يسار قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، إني أصبت امرأة ذات حسب ومنصب ومال، إلا أنها لا تلد، أفأتزوج بها؟ فنهاه رسول الله ﷺ، فأتاه الثانية فقال له مثل ذلك فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال له مثل ذلك، فقال رسول الله ﷺ: "تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم" ٢.
ولكن لا ينبغي أن يفهم من الحثِّ على التزوج بالولود والنهي عن التزوج بالعقيم أن ذلك عقوبة لها على وضعٍ لا اختيار لها فيه، إنما الأمر بالتزوج بالولود
_________
١ صحيح مسلم جـ١٠/ ٥٣ شرح النووي.
٢ سبق ص٥، ١٤.
1 / 20
لأهداف شرعية، منها: تكثير الأمة، ومنها الحصول على ولد صالح، ومنها عمارة الدنيا تحقيقًا للخلافة في الأرض، وهكذا، غير أن بعض الرجال قد يكون في حاجة إلى زوجة لا تنجب لأسباب كثيرة، قد يكون منها أنه عقيم، أو كبير السن قد انقطع نسله، أو له مجموعة من الأولاد خلفتهم له زوجته المتوفاة فيكون في حاجة إلى من يصلحهم ويقوم على شأنهم ... وغير ذلك من الأسباب.
خامسًا: أن تكون خفيفة المهر لما روي عن عائشة ﵂، أن النبي ﷺ قال: "من يمن المرأة تسهيل أمرها، وقلة صداقها" ١، وقال عروة: أول شؤم المرأة أن يكثر صداقها٢.
هذه هي أهم الصفات التي تضافرت حولها النصوص الشرعية، لكن بعض الفقهاء أضاف صفات أخرى استفيدت من آثار ضعيفة، أو من بعض التجارب، أو من تأويل بعض النصوص.
سادسًا: أن تكون طيبة الأصل، وذلك تأويلًا لقوله ﵊: "ولحسبها"، وأما خبر "تخيروا لنطفكم، ولا تضعوها إلّا في الأكفاء"٣، فقد قال فيه أبو حاتم الرازي: ليس له أصل٤، وقال ابن الصلاح: له أسانيد فيها مقال، وقال الخطيب في تاريخه: كل طرقه واهية، ولما صححه الحاكم٥، رد عليه الذهبي بقوله: "الحارث متهم، وعكرمة ضعفوه".
وقد علَّلَ الحنابلة ذلك بقولهم: ليكون ولدها نجيبًا، فربما أشبه أهلها ونزع إليهم، وقالوا: لا ينبغي تزوج بنت زنا أو لقيطة ومن لا يعرف أبوها٦.
_________
١ ابن حبان في صحيحه "٤٠٩٥"، والحاكم في المستدرك جـ٢/ ١٨١، والبيهقي "٧/ ٢٣٥" مع اختلاف يسير في لفظه.
٢ مغني المحتاج جـ٣/ ١٢٧.
٣ سنن ابن ماجه جـ١/ ٦٠٧ مع اختلاف يسير في اللفظ، وينظر أيضًا مغني المحتاج جـ٣/ ١٢٧.
٤ علل الحديث: ١/ ٤٠٣.
٥ مستدرك الحاكم ٢/ ١٦٣.
٦ كشاف القناع جـ٥/ ٩.
1 / 21
سابعًا: ألَّا تكون ذات قرابة قريبة، وذلك بأن تكون أجنبية، أو ذات قرابة بعيدة، ويروى عن عمر بن الخطاب ﵁ قوله: "اغتربوا لا تُضْووا"، أي: تزوجوا في بعاد الأنساب لا يأتي النسل ضعيفًا.
ونقل عن الشافعي قوله: "يستحب له أن لا يتزوج من عشيرته"، قال صاحب المغني: الأولى حمل كلام الشافعي ﵁ على عشيرته الأقربين، ولا يشكل على ذلك بتزوج النبي ﷺ زينب ﵂ مع أنها بنت عمته، لأنه تزوجها بيانًا للجواز، ولا بتزوج علي فاطمة ﵂؛ لأنها بعيدة في الجملة؛ إذ هي بنت ابن عمه، وأيضًا بيانًا للجواز١.
ثامنًا: أن تكون على قدر مناسب من الجمال؛ لأنها أسكن للنفس وأغض للبصر وأكمل للمودة، وقد ورد في الحديث: قيل يا رسول الله: أيُّ النساء خير، قال: "التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا في ماله بما يكره" رواه أحمد والنسائي٢.
قال الماوردي: لكنهم كرهوا ذات الجمال البارع فإنها تزهو بجمالها، وأن الإمام أحمد قال لبعض أصحابه: ولا تغال في المليحة فإنها قلَّ أن تسلم لك٣.
تاسعًا: أن تكون عاقلة، قال الأسنوي: ويتجه أن يراد بالعقل هنا العقل العرفي، وهو ما كان زيادة على مناط التكليف٤.
عاشرًا: ألا يكون لها مطلق يرغب في نكاحها لاحتمال تعلقها به، أو تعلقه بها، فيفسد ذلك عليه حياته الزوجية بسبب الصلة التي كانت بينها وبين مطلقها،
_________
١ مغني المحتاج جـ٣/ ١٢٧.
٢ سنن النسائي جـ٦/ ٦٨.
٣ مغني المحتاج جـ٣/ ١٢٧، وكشاف القناع جـ٥/ ٩.
٤ مغني المحتاج جـ٣/ ١٢٧.
1 / 22
واطّلاع كلٍّ منهما على أسرار الآخر وأخص خصوصياته١.
الحادية عشرة: ما أشار إليه صاحب الدر المختار حيث قال: ويندب كونها دونه سنًّا وحسبًا وعزًّا ومالًا، وفوقه خلقًا وأدبًا وورعًا وجمالًا.
أما دونه سنًّا، فحتى لا يسرع إليها العقم لو كانت أكبر منه، كما أن مظاهر الكبر تسرع إلى المرأة في سن يكون الرجل فيها قد بلغ أشده، وذلك في سن الأربعين، أما كونها دونه حسبًا وعزًّا ومالًا فذلك حتى تنقاد له ولا تحتقره؛ لأنها إن كانت فوقه في هذه الأمور ترفعت عليه، وهذا مشاهد في الواقع لا يحتاج إلى نصوص للاستشهاد عليه٢.
وهناك صفات أخرى تعرَّضَ لها بعض الفقهاء، لكني اكتفيت بهذا القدر من الصفات لصعوبة اجتماعها أو اجتماع أكثرها في زوجة واحدة.
ورحم الله العلامة الخطيب الشربيني إذ قال بعد أن عدَّدَ مجموعةً من الصفات المتقدمة: وهذه الصفات كلها قلَّ أن يجدها الشخص في نساء الدنيا، وإنما توجد في نساء الجنان، فنسأل الله تعالى ألَّا يحرمنا منهن٣.
ما يجب على الزوجة أو وليها مراعاته في اختيار الزوج:
هذه الصفات المتقدمة لا يختص بمراعاتها الزوج وحده في اختيار الزوجة حين يقدم على الزواج، بل تشترك في ذلك الزوجة حين يؤخذ رأيها في مَنْ ترى أن يكون شريكَ حياتها، وكذلك ولي أمرها إن كانت قاصرًا لا تعرف حقائق الصفات المتقدمة، وقد نصَّ بعض الفقهاء على هذه المساواة، فعمَّمَ بعضهم وخصَّصَ آخرون:
فمن الأول: ما جاء في حاشية القليوبي على المحلى حيث قال بعد أن عدد
_________
١ مغني المحتاج جـ٣/ ١٢٧.
٢ الدر المختار مع حاشية ابن عابدين جـ٣/ ٨.
٣ مغني المحتاج جـ٣/ ١٢٧.
1 / 23
مجموعة من الصفات المتقدمة التي ينبغي على الزوج أن يراعيها في اختيار زوجته:
"تنبيه: كل ما طلب في حق المرأة للرجل يطلب في عكسه ذلك"١.
ومن الثاني: ما جاء في حاشية العلامة عميرة؛ حيث قال تعليقًا على قول متن المنهاج "بكر": "كذلك يستحب للشخص ألّا يزوج ابنته إلّا من بكر، أي: لم يتزوج قبلها"٢.
وكذلك ما جاء في حاشية ابن عابدين: "والمرأة تختار الزوج الدَّيِّن الحسن الخلق الجواد الموسر، ولا تتزوج فاسقًا، ولا يزوج ابنته الشابة شيخًا كبيرًا، ولا رجلًا دميمًا، ويزوجها كفؤًا"٣.
ويتأيد ذلك بما نقل عن عمر بن الخطاب ﵁ حيث أتى ﵁ بامرأة شابة زوجوها شيخًا كبيرًا فقتلته، فقال: "يأيها الناس، اتقوا الله ولينكح الرجل لمته من النساء، ولتنكح المرأة لمتها من الرجال، يعني: شبهها" واللمة: المثل في السن والترب٤.
وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب ﵁: "ولا تكرهوا فتياتكم على الرجل القبيح، فإنهن يحببن ما تحبون"٥.
بل أعطى الرسول ﷺ الأمَّ حق الاستشارة في زواج ابنتها ممن يتقدم، ولا يستأثر الولي بالأمر كله، وذلك لأن المرأة قد تعرف من أسرار ابنتها ما لا يعرف ولي أمرها؛ فعن ابن عمر ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ:"آمروا النساء في بناتهن"٦.
ثم بعد هذا كله أعطى الإسلام البنت حق الرضا بمن يتقدم إليها بكرًا أم ثيبًا،
_________
١ جـ٣/ ٢٠٧.
٢ حاشية عميرة على المحلى جـ٣/ ٢٠٧.
٣ حاشية ابن عابدين جـ٣/ ٩.
٤ سنن سعيد بن منصور جـ١/ ٢١١.
٥ سنن سعيد بن منصور جـ١/ ٢١١.
٦ سنن أبي داود جـ١/ ٤٨٣-٢٠٩٥، وأحمد "٢/ ٣٤"، وإسناده ضعيف.
1 / 24