لفارقت شيبي موجع القلب باكيا •••
وبلغت قصر السيدة الفخم، وقادني الخادم إلى غرفة صنعت على «الطراز العربي»، وقد افتنت اليد الصناع في سقفها وجدرانها ومحاريبها وأثاثها وثرياتها وصورها وتهاويلها، حتى خيل إلي أنني إنما أعيش في القرن الرابع عشر لا العشرين. وجاء شاب من قرابة السيدة، فدعاني وسار بي، فخضنا بهوا عظيما هائلا يتحير الطرف في بدائع أثاثه ورائعة تحفه، حتى أفضى بي إلى غرفة مبسوطة الجنبات، أثثت بفراش من طراز لويس السادس عشر، وزينت جوانبها بغوالي الطرف، كما زينت جدرها بأبدع ما جالت به أيدي المصورين. والواقع أن عينك لا تقع، أنى دارت، إلا على مظهر من مظاهر الغنى، إلا أن ذهنك سرعان ما يستغرقه شعورك بما في ذلك النظام من دقة ذوق وروعة جمال. وهناك استقبلتني السيدة النبيلة مرحبة، وأومأت إلى كرسي كبير - فوتيل - فجلست وجلست.
ولست أعالج من وصف سيدة ما أعالج من وصف الرجال في هذه «المرآة»، إلا أنني لا أكتم القارئ أن هذه السيدة تحيط بها هالة من جلال تحسر النظر عن تصفح ما في معارف وجهها من قسامة وجمال، وذلك البريق في عينيها قل أن يقع على محدثها، بل إنها لتشرد به في ناحية أخرى في فتور طرف، على أنك لو استطعت أن «تنشل» منه في غفلة منها نظرة واحدة، أقنعتك تمام الإقناع بأن نظرها إنما يتجاوز المحيط الذي أنتما فيه ببعيد. والواقع أنها سيدة مفكرة، والظاهر أنها لا تنقطع عن تفكير عميق، محتشمة الثوب، محتشمة المجلس، محتشمة القول، محتشمة الابتسام.
وانتهى دور التحية، ولم يبق لي بد من الكلام، فقلت لها: يا ستي، إنما جئت لأسألك في بعض ما تعانين من الأعمال، فأجابتني في دهشة قد تنطوي على شيء من الإنكار: لقد أخبروني يا سيدي أنك آت لتسألني في مسألة خيرية! - وهل ثم خير أبلغ وأجمع مما تعالجين يا سيدتي من وجوه الأعمال؟ - تفضل فسل عما شئت. - قبل كل شيء لا أكتمك أنني رجل لا أقول بالسفور، ولا أذهب مذهب السفوريين، بل إني أعترف بأكثر من هذا! أعترف بأنني في مسألة «النهضة النسوية» ما زلت رجعيا. - رجعي! ولماذا؟ وما حجتك على هذا الخلاف لجماعة السفوريين؟ - لست أتكلف لهذا حجة، بل لعله رأي طبعتني عليه البيئة بحكم نشأتي في بيت محافظ.
وهنا ابتسمت السيدة النبيلة ودارت ببصرها دورة سريعة، وقالت في بطء يتداخله شيء من العجب: وأين نشأت أنا؟! وكأنها بهذه الكلمة الصغيرة تقول لي بأبلغ البيان: وهل نسيت أنني نشأت في أكبر بيت في الصعيد له كل تقاليده المأثورة، وعاداته القاسية الموروثة؟ فأجبتها من فوري: وهذا يا سيدتي مما يزيد في العجب! - ليس الأمر بدعا كما تظن، فإن أمة تريد أن تحيا وأن تأخذ مكانها تحت الشمس، إنما تعبث بعقلها وكرامة تفكيرها إذا ظنت أنها بالغة من ذلك ونصفها أشل! وكيف يرقى الرجال إذا لم يرق النساء؟ وكيف ينتظم حال بيت تديره امرأة جاهلة، لا رأي لها في الحياة ولا كرامة ولا خطر؟ وكيف تريد للأمة رجالا صالحين أكفاء للحياة المجيدة القوية، إذا كان يتولاهم في بدء نشأتهم ويطبع تفكيرهم أمهات جاهلات وضيعات التفكير؟ - يلاحظ يا سيدتي أنه في هذا الوقت الذي قويت فيه الدعوة إلى السفور، خرجت كثيرات من السيدات عن آفاقهن سواء في ملبسهن وفي غير الملبس من مطالب الحياة! وترى هل هناك صلة بين الأمرين؟ - إن دعوة السفور ما كانت يوما لتنطوي على هذا التبرج، وهذا السلوك الذي تنكره وننكره كلنا معك. فإذا ظن ظان أن من السفور ما تفعل بعض سيداتنا، مع كثير من الأسف، من الابتذال في مجالس الرجال والرقص ونحوه فهو في أشد الضلال. وإذا كان بعض السيدات قد تطرفن في سلوكهن، فما كان ذلك إلا نتيجة «التطور» الاجتماعي، ونحن إذا دعونا إلى السفور، وعملنا بجهدنا على تحقيقه، فإنما نفعل ذلك لنكبح جماح هذا «التطور»، ونسير بالمرأة الشرقية في الطريق النافع المأمون. - وإنك يا سيدتي لتجاهدين كثيرا في أعمال البر، فهل لك أن تصوري لي شعورك كلما أدركت من عملك نجاحا؟ - إنني إذا كان قدر لي في مساعي نجاح كما تقول، فإن شعوري مشغول عنه بمعالجة ما لم يتهيأ بعد له النجاح، ثم قالت في تواضع عظيم: إن خطانا ما زالت بطاء، وخطى الأيام سراع! - لعلك يا سيدتي لا تزنين تمام الوزن أثر المجهود العظيم الذي بذلته على الأيام، لأن أقل الناس إدراكا لنمو الطفل هما أبواه. - على كل حال، فإنه ما زال بيننا وبين الغاية التي نطلبها بون بعيد، فإذا لم ندركها نحن رجونا أن يدركها من بعدنا من الأجيال. •••
وهنا، استأذنتها داعيا لها بالصحة وطول العمر، وانصرفت لا أدري، أبقيت على رأيي «الرجعي» في النساء أم لا؟ إلا أنني رأيت لساني يردد قول المتنبي:
ولو كان النساء كمن رأينا
لفضلت النساء على الرجال
إسماعيل صدقي باشا
ما رأيت رجلا افترقت فيه أهواء الناس كما افترقت في إسماعيل باشا صدقي، فلقد أحبه قوم أشد الحب، وأبغضه قوم أشد البغض، وبقي فيه آخرون متحيري المذاهب، مترجرجي الآراء، وليس يشغل الناس بكل هذا إلا عظيم.
Unknown page