كثير، وأكثرهم - وبخاصة في الزمن الذي نجم فيه عدلي - لا يقع على هواه إلا على مهارشة الديكة، ونطاح الكباش والملاعبة بالحمام، ومعاشرة المتبطلين، والافتنان في وجوه اللذات، والغباء الكامل عن كل ما يعني البلاد، فهل صدقتني أن عدلي رجل عصامي حقا؟ إذ خرج عن هذه البيئة، فكون نفسه كل هذا التكوين، وعارك من الحوادث ما عارك حتى أصبح من أعظم الذخائر التي تعتد للجلى في البلاد؟ وحسبه ما وصفه به صحفي من أكبر الصحفيين في أوروبا: إنك حين تلقى عدلي باشا فكأنك في حضرة أعظم الوزراء في «دوننج استريت»
3
أو في «كيدروسيه».
4
وإن من يعرفون عدلي ليعدون له عيوبا، ويحصون عليه آثاما وذنوبا، وسبحان من تفرد بالكمال.
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها
كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
فهم يحسبون على طباعه أنه ما برح «ابن ذوات» فهو قليل الاتصال بالناس، شديد التحفظ بنفسه عنهم، لا يزورهم ولا يستزيرهم ولا يستريح إلى مجالستهم. ومهما توافى له إنسان وتعلق بحبه، فهو لا يطالعه بالهناء إذا دخلت عليه نعمة. ولا بالمواساة إذا مسه الضر. ولا يعوده إذا مرض، ولا يشيع جنازته إذا مات! وإذا طلبه صاحبه لحاجة عامة أو خاصة حيره وشتت سعيه، فإذا أراده في البيت قالوا له في «الكلوب»، وإذا وثب إلى «الكلوب» قالوا في البيت. ويحلفون على أن اقتحام قلعة للألمان وقت الحرب العظمى أيسر من زيارته في بيته!
ولو قد كتب لي أن أصبح هيئة سياسية، واحتجت في شأن البلاد إلى سعي عدلي باشا، لوكلت به «عصبة» من أولاد البلد، أولي القوة والفتوة، فتسلموه في صباح كل يوم، وأرادوه على المشي ساعتين في الأحياء الوطنية، وأكرهوه على أن يفشي السلام، ويومئ بالتحية لكل من لقيه؛ حتى إذا جهد به ردوه فأجلسوه في البهو، وفتحوا الأبواب بين يديه، وكلما دخل عليه زائر بعثوا وجهه بالهشاشة، ويديه بالتحية، ولسانه بنحو: «أهلا وسهلا ومرحبا. زارنا النبي. شرفتنا. آنستنا ...» إلخ، ثم صفق بيديه فدعا بالقهوة وعرض على الزائر «نرجيلة»، فإذا ردها، قدم له سيجارة فسيجارة فثالثة. فإن كان الضيف موظفا سأله عن عمله ودرجته ومرتبه، وأظهر له التوجع على تأخره وتقدم أقرانه، وإن كان زارعا أقبل عليه فسأله عن القطن وما عسى أن يكون قد اعتراه من الآفات، والمناوبات وشح المياه ومناطق الأرز وإطفاء الشراقي وسعر كيلة البرسيم اليوم! ... وإذا حضر وقت الغداء - وهنا الكلام - وهم الضيف بالانصراف، أمسك بطرف ثوبه وعزم عليه ليتغدين معه. وحلف جاهدا أنه لا يجد في ذلك كلفة، ولا يتجشم في سبيله مشقة. وأنا بعد ذلك ضامن لدولة الباشا أن الضيف منصرف غير لابث، معتلا بالمرض وضعف البنية، أو بالضيف ينتظره في داره، أو غير ذلك من وجوه التعاليل، ولا يحتمل الباشا من هذه «الكركبة» كلها إلا حسن الذكر وسيرورة الأخبار، بما له من رائع الآثار، فإذا ذكرت الشجاعة قالوا إنه عنتر عبس ، وإذا ذكر الحلم حلفوا أنه الأحنف بن قيس، وإذا عرض حديث المكارم، أقسموا أنه أجود من حاتم، فإذا كان الكلام في الفصحاء والمقاول زعموا أنه أخطب من سحبان وائل.
فأما إذا ظل سابحا في السماء، فما أقل حظ أهل الغبراء من عدلي باشا في الزعماء.
Unknown page