Fikr Carabi Hafith
الفكر العربي الحديث: أثر الثورة الفرنسية في توجيهه السياسي والاجتماعي
Genres
والمقاصد بهذا النوع من الحرية كثيرة؛ فمنها ما يتصل بالأخلاق ويرجع إلى التربية. وأديب إسحاق، بناء على روسو وكتاب «إميل»، قد أدرك شدة الحاجة إلى الحرية في التربية، وعرض بالذين «يربون الأولاد كما تضرب الدراهم»، درهم منسوخ عن درهم، ولكن من الحرية النفسية ما قد يعني اكتفاء الإنسان بمحض الاعتقاد أنه حر، وتلك حرية الوهم. ومن الحرية النفسية ما قد يعني استغناء الإنسان بنفسه وانسلاخه عن محيطه تحررا من الواقع وتوصلا إلى شهود الغيب، وتلك حرية لا تدخل في بحثنا.
42
وعالج أدباؤنا ومفكرونا قضية المساواة، وفهموها كما فهمتها الثورة الفرنسية وأقرتها؛ أي مساواة أمام قانون واحد، يسري على جميع المواطنين، يمثلون كلهم أمامه، لا فرق بين غني وفقير، وضعيف وقوي، وأبناء مذهب ومذهب.
43
ومن يراجع آثار الطلائع من أدبائنا يجدهم جميعا كثيري الالتفات إلى قضية المساواة؛ ذلك أن الإمبراطورية العثمانية كانت مبنية الأحكام على الدين والتفريق في القضاء بين أبناء المذهب والمذهب، فضلا عن نقائص صارخة كهضم حقوق الطبقات الهابطة في السلم الاجتماعي، ومحاباة الطبقات الرفيعة، ومراعاة «المحسوبيات»، وشيوع الرشوة وما أشبه. وقد اتخذ التدخل الأجنبي حجة من هذا كله، ففرض محاكم خاصة تنظر في قضايا الأجانب، ونجح في استغلال الاستياء المشروع الذي كانت تبديه عناصر مختلفة في البلاد، فكان من الطبيعي أن يشتد طلب أدبائنا ومفكرينا للمساواة، حرصا على مماشاة الرقي، وإنصافا لجميع المواطنين، وقطعا للحجج الاستعمارية.
وتفرعت من قضية المساواة لدى أدبائنا ومفكرينا مسألة الرجل والمرأة وهل يتساويان؟ وقد ألقى الدكتور شبلي الشميل محاضرة جنح فيها إلى ترجيح جانب الرجل، فكانت موجة قوية من الأخذ والرد . وسبق لأديب إسحاق أن نظر في الموضوع، فشخص إلى هيكل وحيه، إلى الثورة الفرنسية، فرأى - على تعبيره - أن روبسبيير، رسول المساواة الكبير ... نسي نصف النوع الإنساني. وبالفعل، إن الثورة الفرنسية لم تعترف للمرأة بحق مساواة الرجل، وكان أعلام مفكري الثورة ولا سيما روسو متحاملين على المرأة. إلا أن أديب إسحاق قرر أن «المرأة غير الرجل»، وبذلك ترك الباب مفتوحا؛ فلم ينف مساواتهما كما أنه لم يثبتها. وإذا خرجنا عن موضوع المساواة وجدنا أدباءنا ومفكرينا جميعا يعترفون بسمو مكانة المرأة وبوجوب احترامها وتعليمها وإنهاضها. ومن هنا شاع على ألسنتهم القول: الأمة نسيج الأمهات!
أما النظر إلى الطبيعة والتعلم منها، شأن أعلام فرنسا في القرن الثامن عشر، فهو سمة بارزة من سمات أدبائنا ومفكرينا. وقد مر معنا كيف أن فرنسيس المراش رأى أن بناء الحجة في وجوب الحرية على شاهد الطبيعة، مذهب لا يخلو من السطحية، وكان فرنسيس المراش في ذلك أعمق من غيره. إلا أن أدباءنا ومفكرينا - على وجه عام - اتجهوا إلى الطبيعة أسوة بالمفكرين الفرنسيين في القرن الثامن عشر، واستخلصوا كما استخلص أولئك أن الحرية والمساواة وسائر المطامح الإنسانية إنما هي حقوق أثبتتها الطبيعة للإنسان. وإذن، فقد كان مبدأ الرجوع إلى الطبيعة له مغزى سياسي اجتماعي. وتلك هي أهمية هذا المبدأ بقطع النظر عن خطئه أو صوابه؛ فأديب إسحاق، مثلا، حين يقرر الحرية الطبيعية لا يقف عند حد التقرير، ولكنه يرسل الصيحة إلى النضال، فيقول: «كل ما يذهب بالحرية الطبيعية تقييدا أو إضعافا أو محوا كليا فهو اختلاس أو جهل بماهية الوجود؛ لأن العبودية إما أن تكون إجبارية، فهي من جانب المستعبد سرقة وإتلاف لأقدس حقوق الوجود، وإما أن تكون اختيارية، فهي من جانب العبد جهل وعمى قلب يخرج بهما عن أن يكون إنسانا.»
يضاف إلى ذلك أن التوجه إلى الطبيعة كان له أثر مبارك في حقن أدبنا وأدبائنا بدم جديد؛ فإنهم لما خرجوا إلى جو الطبيعة الطلق بدءوا يخرجون عن الكتب والتقيد بالقواعد المرسومة في الأساليب والأفكار؛ هذا المنفلوطي يهتف بالشاعر داعيا إياه إلى التفلت والانطلاق:
أنت كالطائر السجين في قفصه، فمزق عن نفسك هذا السجن الذي يحيط بك، وطر بجناحيك في أجواء هذا العالم المنبسط الفسيح، وتنقل ما شئت في جنباته وأكنافه، واهتف بأغاريدك الجميلة فوق قمم جباله ورءوس أشجاره وضفاف أنهاره؛ فأنت لم تخلق للسجن والقيد، بل للهتاف والتغريد!
وهذا جبران خليل جبران يحاول دفع الناس إلى الإحساس بالبون الشاسع بين حالتهم والحالة الطبيعية ويدعوهم إلى الحرية ونور الشمس:
Unknown page