Fikr Carabi Hafith
الفكر العربي الحديث: أثر الثورة الفرنسية في توجيهه السياسي والاجتماعي
Genres
والدليل على أن الرجعة النابليونية لم تكن هي الرجعة الكبيرة، أن مؤتمر فيينا الذي أشرف على تنظيم أوروبا كان من أعظم همه محو المبادئ الجديدة؛ أي المبادئ الثورية التي ساعد نابليون على نشرها؛ فالرجعة الحقيقية هي رجعة مؤتمر فيينا سنة 1814 بعد سقوط نابليون النهائي. وكان مترنيخ الوزير النمسوي الموغل في كره الثورة ومبادئها يصفها ب «الوحش الفاغر فكيه لابتلاع النظام الاجتماعي»، وإذا ذكرت إيطاليا التي سار بها نابليون شوطا بعيدا نحو إنشاء «وطن» وتأليف «أمة» يقول: «إيطاليا اصطلاح جغرافي!» وهو يقصد بذلك إلغاء حقها في إنشاء وطن وتأليف أمة.
ولكن من قوانين التاريخ أن الرجعة العامة يستحيل أن يثبت أمرها، ولقد أصبحت أمور مستحيلة في العالم بعد الثورة الفرنسية. ومن هنا لم يلبث مترنيخ أن وجد نفسه مضطرا إلى الهرب من إحدى نوافذ قصره في فيينا خوفا من الجماهير الصاخبة في الشارع. إن مبادئ الثورة لاحقته في عاصمة بلاده وطردته منها؛ ومن هنا لم يستطع مؤتمر فيينا أن يحل المشكلة التي أثارتها الثورة الفرنسية؛ فكان تاريخ أوروبا في القرن التاسع عشر (ويمكن أن نقول: تاريخ العالم كله تقريبا) نزاعا بين الروح السارية المنبثقة من ثورة فرنسا وروح مؤتمر فيينا. ولا يزال التاريخ اليوم، إلى حد كبير، مظهرا من مظاهر هذا النزاع.
بالطبع إن مؤرخ الثورة الفرنسية الكبرى لا يستطيع أن يقف عند انتهاء العهد النابليوني، ولو اقتصر على التاريخ الفرنسي وحده؛ فإن هذه الثورة التي أوجدت الوطن الفرنسي والوطنية الفرنسية بالمعنى العصري، وأعطت فرنسا تقاليدها في العمل السياسي ونظام الحكم، ظلت موضوع تآمر من قبل الرجعية. وقد أعقبتها في التاريخ الفرنسي ثورات كانت لها أشبه بملاحق قصيرة، كثورة الثلاثة أيام المجيدة
Les Trois Glorieuses
سنة 1830 على شارل العاشر ووزيره بولينياك، وثورة 1848 على الملك لويس فيليب وهي الثورة التي افتتحت عهد «الجمهورية الثانية». ولما استقرت الجمهورية الأخيرة، وهي الثالثة، كانت مرتكزة إلى قواعد من ثورة 1789 وتواليها.
30
وهنا يخرج بنا الحديث إلى ذكر المجاري التي تسربت خلالها مبادئ الثورة وأفكار أعلامها ووصف وقائعها إلى الشرق والبلاد العربية والأدب العربي.
الفكر وعامله في الثورة
الثورات الهائلة التي أجرت الدماء كالسواقي، وجعلت الحرية تعبد كالآلهة، كانت فكرا خياليا مرتعشا بين تلافيف دماغ رجل فرد عائش بين ألوف الرجال.
1
Unknown page