Fikr Carabi Hafith
الفكر العربي الحديث: أثر الثورة الفرنسية في توجيهه السياسي والاجتماعي
Genres
6
يعني ورديان الرعية وهم عساكر كانت سابقا تخفر الأهالي، كما كان للملك عساكر ورديان تخفره وقد كان عزلهم الملك شارل العاشر، فلما وقعت الفتنة ظهروا ليمانعوا عن الرعية فأشهروا أسلحتهم للقتال وطردوا سائر العساكر من محلهم وحرقوا كثيرا منها. وفي هذه الأوقات ارتفعت المحاكم وصار الحاكم هو الرعية ولم يكن للدولة عمل شيء؛ فقد بذلت ما عندها من القوة لإخماد ذلك وتسكينه فلم تقدر عليه فكانت جميع القواصة متحركة والطبجية معينة لاثني عشر ألفا من الورديان السلطاني وستة آلاف من عساكر الصف؛ فكانت جملة العساكر السلطانية ثمانية عشر ألف نفس غير الطبجية والقواصة. وكان من يحمل السلاح من الرعية أقل من هذا العدد، ولكن من لا يحمل السلاح يحارب بالأحجار ويعين المتسلح. وبعد أخذ دار المدينة وسلب مدفع من العساكر الحربية ظهر انهزام سائر العساكر السلطانية بالبلدة، ثم ذهبوا إلى محل يقال له لوفر، وإلى قصر التولري وهو سراية الملك، ووقع الحرب فيما بين العساكر وأهل البلد. وبينما هم في الحرابة بهذا المحل إذ انتشر البيرق المثلث الألوان الذي هو علامة الحرية على الكنائس والهياكل العامة، ودقت النواقيس الكبيرة لإعلام سائر الناس داخل وخارج باريس من أهل المدينة أو غيرها بطلب حمل السلاح منهم للاستعانة على العساكر، فلما رأت العساكر أن النصرة للرعية وأن ضرب السلاح على أهل بلادهم وأقاربهم عليهم امتنع أغلبهم وعزل كثير من رؤسائهم نفسه من منصبه. وفي اليوم التاسع والعشرين في الصباح ملكت أهل البلدة ثلاثة أرباع المدينة، ووقع أيضا في أيديهم قصر التولري واللوفر فملكوهما ونشروا عليهما بيرق الحرية، فلما سمع بذلك صاري عسكر المأمور بإدخال أهل باريس في طاعة السلطان رجع ، فكان هذا تمام نصرة أهل البلد، حتى إن العساكر دخلت تحت بيرق الرعية. ومن هذا الوقت نصب حكم وقتي وديوان موقت لنظم البلاد حتى ينحط الرأي على تولية حاكم دائم. وكان رئيس هذا الحكم الموقت صاري العسكر المسمى لفييته وهو الذي قاتل في الفتنة الأولى للحرية أيضا. وهذا الرجل شهير بأنه يحب الحرية ويحابي عنها، ويعظم مثل الملوك بسبب اتصافه بهذا الوصف وكونه على حالة واحدة ومذهب واحد في البوليتيكية، وليس صاحب قريحة مستخرجا للعلوم من حيز العدم كغالب رجال الفرنساوية ومشاهيرهم خصوصا في العلوم العسكرية، ولكن أعظم الناس مقاما لا قريحة وفهما، وليس المراد القدح في معرفته، بل في انتهاء الرياسة إليه. ومما يشاهد في سائر بلاد الدنيا أن التصدر ليس دائما على قدر المعرفة وإن كانت المعرفة موجبة له بالشرع والطبع، ومن الغريب أن مثل هذا الأمر يقع أيضا في البلاد الحسنة التمدن. وأظن أن هذا كله مصداق الحديث الشريف الذي هو: ذكاء المرء محسوب عليه من رزقه. وكما قال الشاعر:
إذا أبصرت ذا فضل فقيرا
فلا تعجب لفقر في يديه
فقد قال النبي مقال صدق
ذكاء المرء محسوب عليه
وأما أحسن قول الشاعر:
ولو أن السحاب همى بعقل
لما أروى مع النخل القتادا
ولو أعطى على قدر المعالي
Unknown page