بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وعَلى آله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيمًا
قَالَ الشَّيْخ الْفَقِيه الْعَالم المتفنن الصَّالح أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد ابْن يُوسُف بن عَليّ الفِهري اللبلي ﵁ وَغفر لَهُ بفضله نحمد الله حمد الشَّاكِرِينَ وصلواته وَسَلَامه على سيدنَا مُحَمَّد رَسُوله خَاتم النَّبِيين وَإِمَام الْمُرْسلين وعَلى آله الطاهرين الطيبين عدد معلوماتك يَا رب الْعَالمين
أما بعد فَإِن جمَاعَة من حَملَة الْعلم الشريف وَذَوي الْفضل المنيف مِمَّن يجل قدرهم ويعظم خطرهم رَغِبُوا فِي أَن أصنف لَهُم مجموعا يتَضَمَّن ذكر شيوخي الجلة الْأَعْلَام أَئِمَّة الْهدى ومصابيح الْإِسْلَام الَّذين أخذت عَنْهُم بالبلاد المشرقية والمغربية علم الْأُصُول وَغَيره من الْعُلُوم الدِّينِيَّة على اخْتِلَاف ضروبها وتباين فنونها وتبيين أخذي للتصانيف عَنْهُم رضوَان الله عَلَيْهِم ومغفرته الدائمة لَهُم من قِرَاءَة وَسَمَاع ومناولة وإجازة مَوْصُولا أسانيدها بأصحاب
1 / 21
التصانيف وأرباب الْمذَاهب والتواليف فأجبتهم إِلَى مقصودهم وسارعت إِلَى امْتِثَال مرغوبهم لما رَأَيْت من تشوفهم لطريق الرِّوَايَة وتشوقهم لأسباب الدِّرَايَة وَهَا أَنا إِن شَاءَ الله تَعَالَى أشرع فِي ذكرهم وتحليتهم بِالصِّفَاتِ اللائقة بهم وأذكر مَا حضرني من معرفَة وفاتهم وولادتهم مستعينا بِاللَّه سُبْحَانَهُ وَهُوَ خير معِين
قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس ﵁ وأبقاه أما علم الْكَلَام وأصول الْفِقْه فَإِنِّي أَخَذتهَا تفقها عَن جمَاعَة كَبِيرَة من الْعلمَاء الْمَشْهُورين وَالْأَئِمَّة المعتبرين وَأَنا إِن شَاءَ الله تَعَالَى أذكر من أخذت عَنهُ هذَيْن العلمين أَو أَحدهمَا مُتَّصِلا إِسْنَاده بِالْإِمَامِ الرضي أبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ واصفا لَهُم بِمَا ثَبت لَدَى من أَحْوَالهم وَبَلغنِي صَحِيحا من أخبارهم
فَمِمَّنْ أخذت عَلَيْهِ هذَيْن العلمين بالبلاد المصرية تفقها شَيخنَا شرف الدّين ابْن التلمساني وَأخذ شَيخنَا شرف الدّين عَن شَيْخه المقترح وَأخذ المقترح عَن شَيْخه الطوسي وَأخذ الطوسي عَن شَيْخه الْغَزالِيّ وَأخذ الْغَزالِيّ عَن شَيْخه أبي الْمَعَالِي وَأخذ أَبُو الْمَعَالِي عَن شَيْخه الإسفرايني وَأخذ الإسفرايني عَن شَيْخه الباقلاني وَأخذ الباقلاني عَن شَيْخه الْبَاهِلِيّ وَأخذ الْبَاهِلِيّ عَن شَيْخه الإِمَام أبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ
قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس فعلى طَرِيق هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة رضوَان الله عَلَيْهِم ومغفرته لديهم المنظومين فِي هَذَا السلك المهتدى بأنوارهم فِي الدياجي الْغَلَس المقتدى بهم
1 / 22
فِي الدّين أَخذ علم أصُول الدّين وَهَا أَنا أذكرهم بحول الله تَعَالَى وقوته إِمَامًا إِمَامًا وعالما عَالما وَاحِد إِثْر وَاحِد على النسق الَّذِي ذَكرْنَاهُ وَالتَّرْتِيب الَّذِي نظمنه فَنَقُول
١ - شرف الدّين ابْن التلمساني
أما شَيخنَا شرف الدّين ابْن التلمساني الْعَالم الْفَاضِل فَهُوَ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن يحيى بن عَليّ الفِهري الْمَشْهُور بِابْن التلمساني فَكَانَ ﵀ نظارا محققا وَفِي علم الْأُصُولِيِّينَ مدققا تخرج بشيخه الإِمَام المقترح وسلك طَرِيقَته وبذ فِيهَا صحابته فَاضلا دينا متواضعا حسن الْخلق كثير الْبشر وَكَانَ قَاضِي الْقُضَاة بالديار المصرية شرف الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عين الدولة الإسْكَنْدراني شَدِيد الاعتناء بِهِ
1 / 23
والتحفي بجانبه لما لحقه من ديانته وسداد طَرِيقَته أَهله للعدالة بالديار المصرية وَجعله من أوجه عدولها وَكَانَ أخيرا عَاقد الْأَنْكِحَة بهَا وقاضي الْقُضَاة هَذَا الَّذِي أَهله لهَذَا المنصب هُوَ الَّذِي كَانَ يَقُول فِيهِ الْملك الْكَامِل رَحْمَة الله عَلَيْهِ وَعِنْدِي قاضيان أَفْخَر بهما على مُلُوك الأَرْض شرف الدّين والإسكندراني وجمال الربعِي قَاضِي إسكندرية
وَلَقَد حَدثنِي من أَثِق بِهِ فِيمَا يحكيه وأصدقه فِيمَا يخبر بِهِ وَيَرْوِيه أَن قَاضِي الْقُضَاة الإسْكَنْدراني هَذَا بَقِي أَرْبَعِينَ سنة قَاضِيا على الديار المصرية وَأَنه مُدَّة قَضَائِهِ بهَا وتوليه عَلَيْهَا لم يبصر النّيل وَلَا شَاهد المقياس هَذَا مَعَ اتصالهما بِالْمَدَنِيَّةِ وتشوف النُّفُوس إِلَى رُؤْيَتهمَا وَأَنه لما توفّي لم يُوجد لَهُ سوى سَرِير من جريد النّخل ونوخ من الحلفاء ولبد أَبيض كَانَ ينَام عَلَيْهِ على هَذَا كَانَت حَاله إِلَى أَن وافاه حمامه والديار المصرية كلهَا بِيَدِهِ وراجعة إِلَى حكمه وَنَظره
قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس ﵁ ونفعه بِالْعلمِ ونفع بِهِ وَكَانَ شَيخنَا شرف الدّين ابْن التلمساني شَافِعِيّ الْمَذْهَب ذَا معارف كَثِيرَة فِي فنون من الْعُلُوم مُتعَدِّدَة
1 / 24
التصانيف النفيسه والتواليف المفيدة فِي الْأُصُول وَالْفُرُوع وَغَيرهمَا فَمن تصانيفه شرح كتاب التَّنْبِيه فِي مَذْهَب الشَّافِعِي تصنيف الإِمَام أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَهَذَا الْكتاب عِنْد الشَّافِعِيَّة بِمَنْزِلَة كتاب التَّفْرِيع عِنْد الْمَالِكِيَّة وَبَينهمَا من البون مَا بَين الْأَبْيَض والجون فأجاد تصنيفه وَأحسن مَا شَاءَ تأليفه وَمِنْهَا شَرحه للمعالمين الْأُصُولِيَّة والدينية اللَّتَيْنِ للْإِمَام فَخر الدّين الرَّازِيّ وتمم شرح الْإِرْشَاد لشيخه المقترح فَإِن المقترح ﵀ لم يكمله وانْتهى فِيهِ إِلَى المعجزات نَبينَا مُحَمَّد ﷺ فتممه شَيخنَا شرف الدّين إِلَى غير ذَلِك من مصنفاته
قَرَأت عَلَيْهِ كتاب الْإِرْشَاد بِمصْر المحروسة للْإِمَام أبي
1 / 25
الْمَعَالِي تفقها وَبَعض كتاب الْبُرْهَان فِي أصُول الْفِقْه لإِمَام الْحَرَمَيْنِ أَيْضا وَبَعض غَايَة الأمل فِي علم الجدل للسيف الْآمِدِيّ وَأذن لي ﵀ أَن أَقْْرِئ ذَلِك وَكتب لي بِخَطِّهِ على نُسْخَتي الَّتِي كنت أقرأها عَلَيْهِ وَهِي عِنْدِي الْآن مَا هَذَا نَصه قَرَأَ عَليّ جَمِيع كتاب الْإِرْشَاد لإِمَام الْحَرَمَيْنِ وَمن برهانه فِي أصُول الْفِقْه إِلَى النواهي وَبَعض غَايَة الأمل فِي علم الجدل للآمدي الشَّيْخ الْفَقِيه الإِمَام الْعَالم الأديب النَّحْوِيّ مجد الْعلمَاء وفخر الأدباء الْفَاضِل أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن يُوسُف الفِهري اللبلي نَفعه الله بِالْعلمِ ونفع بِهِ وَأحسن إِلَيْهِ وأجزل نعماه لَدَيْهِ قِرَاءَة بحث واستيضاح وكشف لغوامض ذَلِك قولة تؤذن لفهم مَعَانِيه وَالْوُقُوف على مَا أودع فِيهِ وَقد أَذِنت لَهُ وَفقه الله أَن يقرئ ذَلِك لمن رغب فِيهِ ثِقَة بحذقه وَعلمه وجودة ذهنه وفهمه وَالله تَعَالَى يعصمنا وإياه
1 / 26
من الزلل ويوفقنا لصالح القَوْل وَالْعَمَل كتبه عبد الله بن يحيى بن عَليّ الفِهري
هَذَا نَص مَا كتبه بِلَفْظِهِ وَسمعت عَلَيْهِ أَيْضا بعض المعالم الأصوليه والدينية وَبَعض شَرحه لَهَا وَبَعض الْأَسْرَار الْعَقْلِيَّة فِي الْكَلِمَات النَّبَوِيَّة لشيخه المقترح إِلَى غير ذَلِك
وَلم يتَحَقَّق لدي تَارِيخ مولده ووفاته حَتَّى أثْبته
٢ - المقترح
أما المقترح شيخ شَيخنَا شرف الدّين التلمساني فَهُوَ الإِمَام تَقِيّ الدّين أَبُو الْعِزّ مظفر أنظر أهل عصره وأحدهم خاطرا فِي علم الْكَلَام وَغَيره وأقطعهم للخصوم فِي المناظرة وأعرفهم بطرق الْجِدَال فِي المباحثة لَهُ الْعبارَات المهذبة والألفاظ الرشيقة المستعذبة كَلَامه قَلِيل الحشو ومشحون
1 / 27
بالفوائد وَأَلْفَاظه منتظمة مثل الفرائد
تفقه بِابْن أبي مَنْصُور وَتخرج بالطوسي وبرع عِنْده وَإِنَّمَا لقب بِهَذَا اللقب أَعنِي المقترح لشدَّة كلفه بِالْكتاب الْمُسَمّى بِهَذَا الِاسْم واعتنائه بِهِ فَإِنَّهُ كَانَ لَا يُفَارِقهُ وقتا من الْأَوْقَات وعَلى حَالَة من الْأَحْوَال لَا يزَال ظَاهرا فِي يَده أَو دَاخِلا فِي كمه إِلَى أَن شهر باسمه وَاسْتحق بمعرفته بِهِ وملازمته لَهُ وسمه بِهِ
لَهُ التصانيف الْحَسَنَة والتواليف المستحسنة شرح الْإِرْشَاد لإِمَام الْحَرَمَيْنِ أبي الْمَعَالِي وَشرح الْبَحْر الْكَبِير وَهُوَ الْمُسَمّى بالمقترح والأسرار الْعَقْلِيَّة فِي الْكَلِمَات النَّبَوِيَّة وَله تَعْلِيق يسير على كتاب الْبُرْهَان لإِمَام الْحَرَمَيْنِ
٣ - الطوسي
وَأما الطوسي شيخ المقترح فَهُوَ الإِمَام الْعَالم شهَاب الدّين
1 / 28
أَظُنهُ صَاحب التَّعْلِيق المحشو بالتحقيق المبرز فِي علم الْخلاف الْمَشْهُور فِي سَائِر الْبِلَاد والأطراف
تخرج بِالْإِمَامِ الْغَزالِيّ وَكَانَ مَوْصُوفا بِحسن النّظر مَعْرُوفا بِقُوَّة الجدل نسخ تَعْلِيقه سَائِر التَّعَالِيق وطار ذكرهَا فِي المغارب والمشارق
٤ - الْغَزالِيّ
وَأما الإِمَام أَبُو حَامِد الْغَزالِيّ شيخ الطوسي فَهُوَ على مَا أخبرنَا بِهِ الإِمَام عز الدّين عبد الْعَزِيز بن عبد السَّلَام عَن شَيْخه الْحَافِظ بهاء الدّين أبي مُحَمَّد عَن وَالِده الإِمَام الْحَافِظ مُحدث الشَّام أبي الْقَاسِم عَليّ بن الْحسن بن هبة الله بن عَسَاكِر الشَّافِعِي الدِّمَشْقِي قَالَ أخبرنَا الشَّيْخ أَبُو الْحسن عبد الغافر بن إِسْمَاعِيل بن عبد الغافر الْفَارِسِي وَأَخْبرنِي أَيْضا
1 / 29
بِالْقَاهِرَةِ الْحَافِظ الْمُحدث عبد الْعَظِيم بن عبد الْقوي الْمُنْذِرِيّ عَن شَيْخه الْحَافِظ أبي الْحسن عَليّ ابْن الْمفضل الْمَقْدِسِي عَن الْحَافِظ بن عَسَاكِر قَالَ مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد أَبُو حَامِد الْغَزالِيّ حجَّة الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين إِمَام أَئِمَّة الدّين من لم تَرَ الْعُيُون مثله لِسَانا وبيانا ونطقا وخاطرا وذكاء وطبعا شدا طرفا فِي صباه بطوس من الْفِقْه على الإِمَام أَحْمد الراذكاني ثمَّ قدم نيسابور مُخْتَلفا إِلَى درس أَمَام الْحَرَمَيْنِ فِي طَائِفَة من الشبَّان فِي طوس وجد واجتهد حَتَّى تخرج عَن مُدَّة قريبَة وبذ الأقران وَصَارَ أنظر أهل زَمَانه وَوَاحِد أقرانه فِي أَيَّام إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَكَانَ الطّلبَة مستفيدين مِنْهُ ويدرس لَهُم ويرشدهم ويجتهد فِي نَفسه وَبلغ الْأَمر بِهِ إِلَى أَن أَخذ فِي التصنيف
وَكَانَ الإِمَام أَبُو الْمَعَالِي مَعَ علو دَرَجَته وسمو عِبَارَته وَسُرْعَة جريه فِي النُّطْق وَالْكَلَام لَا يصغي نظره إِلَى الْغَزالِيّ سترا لإنافته عَلَيْهِ فِي سرعَة الْعبارَة وَقُوَّة الطَّبْع وَلَا يطيب
1 / 30
لَهُ تصديه للتصانيف وَإِن كَانَ متخرجا بِهِ منتسبا إِلَيْهِ كَمَا لَا يخفى من طبع الْبشر وَلكنه يظْهر التبجح بِهِ والاعتداد بمكانه ظَاهرا خلاف مَا يضمره ثمَّ بَقِي كَذَلِك إِلَى انْقِضَاء أَيَّام الإِمَام فَخرج من نيسابور وَصَارَ إِلَى الْعَسْكَر واحتل من مجْلِس نظام الْملك مَحل الْقبُول وَأَقْبل عَلَيْهِ الصاحب لعلو دَرَجَته وَظُهُور اسْمه وَحسن مناظرته وجري عِبَارَته وَكَانَت تِلْكَ الحضرة محط رحال الْعلمَاء ومقصد الْأَئِمَّة والفصحاء فَوَقَعت للغزالي اتفاقات حَسَنَة من الاحتكاك بالأئمة وملاقاة الْخُصُوم ومناظرة الفحول ومبارزة الْكِبَار فَظهر اسْمه فِي الْآفَاق حَتَّى أدَّت الْحَال إِلَى أَن رسم الْمسير إِلَى بَغْدَاد للْقِيَام بتدريس الْمدرسَة الميمونة النظامية بهَا فَصَارَ إِلَيْهَا وأعجب الْكل بتدريسه ومناظرته وَمَا لَقِي مثل نَفسه وَصَارَ بعد إِمَامَة خُرَاسَان إِمَام الْعرَاق ثمَّ نظر فِي علم الْأُصُول وَكَانَ قد أحكمها فصنف فِيهَا تصانيف وجدد الْمَذْهَب فِي الْفِقْه فصنف فِيهِ تصانيف وسبك الْخلاف فحرر فِيهِ أَيْضا تصانيف وعلت
1 / 31
حشمته ودرجته فِي بَغْدَاد حَتَّى كَانَ يغلب حشمه الأكابر والأمراء وَدَار الْخلَافَة وانقلب الْأَمر من وَجه آخر وَظهر عَلَيْهِ بعد مطالعته للعلوم الدقيقة وممارسته الْكتب المصنفة فِيهَا وسلك طَرِيق التزهد والتأله وَترك الحشمة وَطرح مَا نَالَ من الدرجَة والاشتغال بِأَسْبَاب التَّقْوَى وَزَاد الْآخِرَة فَخرج عَمَّا كَانَ فِيهِ وَقصد بَيت الله تَعَالَى وَحج ثمَّ قصد الشَّام وَأقَام فِي تِلْكَ الديار قَرِيبا من عشر سِنِين يطوف ويزور الْمشَاهد المعظمة وَأخذ فِي التصانيف الْمَشْهُورَة الَّتِي لم يسْبق إِلَيْهَا مثل إحْيَاء عُلُوم الدّين والكتب المختصرة مِنْهَا مثل الْأَرْبَعين وَغَيرهَا من الرسائل الَّتِي من تأملها علم مَحل الرجل من فنون الْعلم وَأخذ فِي مجاهدة النَّفس وتعمير الْأَخْلَاق وتحسين الشَّمَائِل وتهذيب المعاش فَانْقَلَبَ شَيْطَان الرعونة وَطلب الرِّئَاسَة والجاه والتخلق بالأخلاق الذميمة إِلَى سُكُون النَّفس وكرم الْأَخْلَاق والفراغ عَن الرسوم والتزينات والتزيي بزِي المصلحين وَقصر الأمل ووقف الْأَوْقَات على هِدَايَة الْخلق ودعائهم إِلَى مَا يعينهم من أَمر الْآخِرَة وتبغيض الدُّنْيَا والاشتغال بهَا عَن السالكين والاستعداد للرحيل إِلَى الدَّار الْبَاقِيَة والانقياد لكل من يتوسم فِيهِ أَو يشم مِنْهُ رَائِحَة الْمعرفَة والتيقظ لشَيْء من أنوار
1 / 32
الْمُشَاهدَة حَتَّى تمرن على ذَلِك ولان
ثمَّ عَاد إِلَى وَطنه لَازِما بَيته مشتغلا بالتفكر ملازما للْوَقْت مَقْصُودا نفيسا وذخرا للقلوب وَلكُل من يَقْصِدهُ وَيدخل عَلَيْهِ إِلَى أَن أَتَى على ذَلِك مُدَّة وَظَهَرت التصانيف وكتبت الْكتب وَلم تبد فِي أَيَّامه مناقضة لما كَانَ فِيهِ وَلَا اعْتِرَاض لأحد على مَا أَثَره حَتَّى انْتَهَت نوبَة الوزارة إِلَى الْأَجَل فَخر الْملك جمال الشُّهَدَاء تغمده الله برحمته وتزينت خُرَاسَان بحشمه ودولته وَقد سمع وَتحقّق مَكَانا للغزالي ودرجته وَكَمَال فَضله وحالته وصفاء عقيدته ونقاء سَرِيرَته فتبرك بِهِ وحضره وَسمع كَلَامه فاستدعى مِنْهُ أَلا تبقى أنفاسه وفوائده عقيمه لَا استفادة مِنْهَا وَلَا اقتباس من أنوارها وألح عَلَيْهِ كل الإلحاح وتشدد فِي الاقتراح إِلَى أَن أَجَابَهُ إِلَى الْخُرُوج وَحمل إِلَى نيسابور وَكَانَ اللَّيْث غَائِبا عَن عرينه وَالْأَمر خافيا فِي مَسْتُور قَضَاء الله ومكنونه فأشير عَلَيْهِ بالتدريس فِي الْمدرسَة الميمونه النظامية عمرها الله
1 / 33
فَلم يجد بدا من الإذعان للولاة وَنوى بِإِظْهَار مَا اشْتغل بِهِ هِدَايَة الشداة وإفادة القاصدين دون لرجوع إِلَى مَا انخلع عَنهُ وتجدد عزوفه عَن طلب الجاه ومماراة الأقران ومكابرة المعاندين وَكم قرع عَصَاهُ بِالْخِلَافِ والوقوع فِيهِ والطعن فِيمَا يذره ويأتيه والسعاية بِهِ والتشنيع عَلَيْهِ فَمَا تأثر بِهِ وَلَا اشْتغل بِجَوَاب الطاعنين وَلَا أظهر استيحاشا بغميزة المخلطين
وَلَقَد زرته مرَارًا وَمَا كنت أجد من نَفسِي مَعَ مَا عهدته فِي سالف الزَّمَان عَلَيْهِ من الزعارة وإيحاش النَّاس وَالنَّظَر إِلَيْهِم إِلَّا بِعَين الازدراء وَالِاسْتِخْفَاف بهم كبرا وخيلاء واعتزازا بِمَا رزق من البسطة فِي النُّطْق والخاطر والعبارة وَطلب الجاه والعلو فِي الْمنزلَة ثمَّ إِنَّه صَار على الضِّدّ وتصفى عَن تِلْكَ الكدورات وَكنت أَظن أَنه متلفع بجلباب التَّكَلُّف متنمس بِمَا صَار إِلَيْهِ فتحققت بعد السبر والتنقير أَن الْأَمر على خلاف المظنون وَأَن الرجل أَفَاق بعد الْجُنُون
وَحكى لنا فِي لَيَال فِي كَيْفيَّة أَحْوَاله من ابْتِدَاء مَا ظهر لَهُ
1 / 34
وسلوك طَرِيق الْعَالم وَغَلَبَة الْحَال عَلَيْهِ بعد بتحره فِي الْعُلُوم واستطالته على الْكل بِكَلَامِهِ والاستعداد الَّذِي خصّه الله بِهِ فِي تَحْصِيل أَنْوَاع الْعُلُوم وتمكنه من الْبَحْث وَالنَّظَر حَتَّى تبرم من الِاشْتِغَال بالعلوم الْعرية عَن الْمُعَامَلَة وتفكر فِي الْعَاقِبَة وَمَا يجدي وينفع فِي الْآخِرَة فَانْتَفع بِصُحْبَتِهِ الفارمذي وَأخذ مِنْهُ استفتاح الطَّرِيقَة وامتثل كل مَا كَانَ يُشِير عَلَيْهِ من الْقيام بوظائف الْعِبَادَات والإمعان فِي النَّوَافِل واستدامة الْأَذْكَار وَالْجد وَالِاجْتِهَاد طلبا للنجاة إِلَى أَن جَازَ تِلْكَ العقبات وتكلف تِلْكَ المشاق وَمَا تحصل على مَا كَانَ يطْلب من مَقْصُوده ثمَّ حكى أَنه رَاجع الْعُلُوم وخاض الْفُنُون وعاود الْجد وَالِاجْتِهَاد فِي كتب الْعُلُوم الدقيقة والتقى بأربابها حَتَّى
1 / 35
انْفَتح لَهُ أَبْوَابهَا وَبَقِي مُدَّة فِي الوقائع وتكافؤ الْأَدِلَّة وأطراف الْمسَائِل ثمَّ حكى أَنه فتح عَلَيْهِ بَاب من الْخَوْف بِحَيْثُ شغله عَن كل شَيْء وَحمله على الْإِعْرَاض عَمَّا سواهُ حَتَّى سهل ذَلِك وَسكن إِلَى أَن ارتاض كل الرياضة وَظَهَرت لَهُ الْحَقَائِق وَصَارَ مَا كُنَّا نظن بِهِ ناموسا وتخلقا طبعا وتحققا وَأَن ذَلِك أثر السَّعَادَة الْمقدرَة لَهُ من الله تَعَالَى ثمَّ سألناه عَن كَيْفيَّة رغبته فِي الْخُرُوج من بَيته وَالرُّجُوع إِلَى مَا دعِي إِلَيْهِ من أَمر نيسابور فَقَالَ معتذرا عَنهُ مَا كنت أجوز فِي ديني أَن أَقف عَن الدعْوَة وَمَنْفَعَة الطالبين بالإفادة وَقد حق عَليّ أَن أبوح بِالْحَقِّ وأنطق بِهِ وأدعو إِلَيْهِ وَكَانَ صَادِقا فِي ذَلِك ثمَّ ترك ذَلِك قبل أَن يتْرك وَعَاد إِلَى بَيته وَاتخذ فِي جواره مدرسة لطلبة الْعلم وخانقاه للصوفية وَكَانَ قد وزع أوقاته على وظائف الْحَاضِرين من ختم لِلْقُرْآنِ ومجالسة أهل الْقُلُوب وَالْقعُود للتدريس بِحَيْثُ لَا تَخْلُو لَحْظَة من لحظاته ولحظات من مَعَه من فَائِدَة إِلَى أَن أَصَابَهُ عين الزَّمَان وضن الْأَيَّام بِهِ عَن أهل عصره فنقله الله تَعَالَى إِلَى كريم جواره بعد مقاساة أَنْوَاع من الْقَصْد والمناوأة من الْخُصُوم وَالسَّعْي بِهِ إِلَى الْمُلُوك وكفاية الله تَعَالَى وَحفظه وصيانته عَن أَن تنوشه أَيدي النكبات أَو ينهتك ستر دينه بِشَيْء من الزلات وَكَانَت خَاتِمَة أمره إقباله على حَدِيث الْمُصْطَفى ﷺ ومطالعة الصَّحِيحَيْنِ
1 / 36
للْبُخَارِيّ وَمُسلم اللَّذين هما حجَّة الْإِسْلَام وَلَو عَاشَ لبز الْكل فيذلك الْفَنّ بِيَسِير من الْأَيَّام يستفرغه فِي تَحْصِيله وَلَا شكّ أَنه سمع الْأَحَادِيث فِي الْأَيَّام الْمَاضِيَة واشتغل فِي آخر عمره بسماعها وَلم تتفق لَهُ الرِّوَايَة وَلَا ضَرَر فَمَا خَلفه من الْكتب المصنفة فِي الْأُصُول وَالْفُرُوع وَسَائِر الْأَنْوَاع يخلد ذكره ويقرر عَنهُ المطالعين المصنفين المستفيدين مِنْهَا أَنه لم يخلف مِثَاله بعده
وَمضى إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى يَوْم الِاثْنَيْنِ الرَّابِع عشر من جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمس وَخَمْسمِائة وَدفن بِظَاهِر قَصَبَة طَابَ ران وَالله تَعَالَى يَخُصُّهُ بأنواع الْكَرَامَة فِي أَخَّرته كَمَا خصّه بفنون الْعلم فِي دُنْيَاهُ بمنه وَلم يعقب إِلَّا الْبَنَات وَكَانَ لَهُ من الْأَسْبَاب إِرْثا وكسبا مَا يقوم بكفايته وَنَفَقَة أَهله وَأَوْلَاده فَمَا كَانَ يباسط أحدا فِي الْأُمُور الدُّنْيَوِيَّة وَقد عرضت عَلَيْهِ الْأَمْوَال فَمَا قبلهَا وَأعْرض عَنْهَا وَاكْتفى بِالْقدرِ الَّذِي يصون بِهِ دينه وَلَا يحْتَاج مَعَه إِلَى التَّعَرُّض لسؤال من غَيره
قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس أبقى الله حَيَاته وَأما نسبته إِلَى الغزال الْغَزالِيّ فعلى عَادَة أهل خوارزم وجرجان فَإِنَّهُم
1 / 37
ينسبون إِلَى الغزال الْغَزالِيّ وَإِلَى الْقصار القصاري كَذَا ذكر الشَّيْخ الْفَقِيه شمس الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن خلكان فِي تَارِيخه وَقَالَ عَن السَّمْعَانِيّ وَقيل إِنَّه غزالي بِالتَّخْفِيفِ وَهَذِه النِّسْبَة إِلَى غزالة وَهِي قَرْيَة من قرى طوس من أَعمال خُرَاسَان
قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس وَذكر ابْن خلكان أَن الإِمَام أَبَا حَامِد ولد سنة خمس وَأَرْبَعمِائَة وَأَنه توفّي كَمَا ذكرنَا سنة خمس وَخَمْسمِائة
٥ - أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ
قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس ﵁ وَأما الإِمَام أَبُو
1 / 38
الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ النَّيْسَابُورِي فَهُوَ على مَا ذكره الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر بسندي الْمُتَقَدّم عَنهُ قَالَ عبد الْملك بن يُوسُف الْجُوَيْنِيّ أَبُو الْمَعَالِي ابْن ركن الْإِسْلَام أبي مُحَمَّد إِمَام الْحَرَمَيْنِ فَخر الْإِسْلَام إِمَام الْأَئِمَّة على الْإِطْلَاق حبر الشَّرِيعَة الْمجمع على إِمَامَته شرقا وغربا الْمقر بفضله السراة والحداة عجما وعربا من لم تَرَ الْعُيُون مثله قبله وَلَا ترى بعده رباه حجر الْإِمَامَة وحرك ساعد السَّعَادَة مهده وأرضعه ثدي الْعلم والورع إِلَى أَن ترعرع فِيهِ ويفع أَخذ من الْعَرَبيَّة وَمَا يتَعَلَّق بهَا أوفر حَظّ وَنصِيب فَزَاد فِيهَا على كل أديب ورزق من التَّوَسُّع فِي الْعبارَة وعلوها مَا لم يعْهَد من غَيره حَتَّى أنسى بذلك سحبان وفَاق فِيهَا الأقران وَحَملَة الْقُرْآن وأعجز الفصحاء اللد وَجَاوَزَ الْوَصْف وَالْحَد وكل من سمع خَبره أَو رأى أَثَره فَإِذا شَاهد أقرّ بِأَن خَبره يزِيد كثيرا على الْخَبَر ويمر على مَا عهد من الْأَثر وَكَانَ يذكر دروسا يَقع كل وَاحِد مِنْهَا فِي أطباق وأوراق لَا يتلعثم فِي كلمة وَلَا يحْتَاج
1 / 39
إِلَى اسْتِدْرَاك عَثْرَة مرا فِيهَا كالبرق الخاطف بِصَوْت مُطَابق كالرعد القاصف ينزف فِيهِ المبرزون وَلَا يدْرك شأوه المتشدقون المتفيهقون وَمَا يُوجد مِنْهُ فِي كتبه من الْعبارَات الْبَالِغَة كنه الفصاحة غيض من فيض مَا كَانَ على لِسَانه وغرفة من أمواج مَا كَانَ يعْهَد من بَيناهُ فتفقه فِي صباه على وَالِده ركن الْإِسْلَام فَكَانَ يرضى بطبعه وتحصيله وجودة قريحته وكياسة غريزته لما يرى فِيهِ من المخايل فخلفه فِيهِ من بعد وَفَاته وأتى على جَمِيع مصنفاته يقلبها ظهرا لبطن وَتصرف فِيهَا وَخرج الْمسَائِل بَعْضهَا على بعض ودرس سِنِين وَلم يرض فِي شبابه بتقليد وَالِده وَأَصْحَابه حَتَّى أَخذ فِي التَّحْقِيق وجد واجتهد فِي الْمَذْهَب وَالْخلاف ومجالس النّظر حَتَّى ظَهرت نجابته ولاحت عَلَيْهِ مخايل أَبِيه وفراسته وسلك طَرِيق المباحثة وَجمع الطّرق بالمطالعة والمناظرة والمنافثة حَتَّى أربى على الْمُتَقَدِّمين وأنسى تَصَرُّفَات الْأَوَّلين وسعى فِي دين الله سعيا يبْقى أَثَره إِلَى يَوْم الدّين
وَمن ابْتِدَاء أمره أَنه لما توفّي أَبوهُ كَانَ سنة دون الْعشْرين أَو قَرِيبا مِنْهُ فَأقْعدَ مَكَانَهُ للتدريس فَكَانَ يُقيم الرَّسْم فِي
1 / 40