وكانت على مقربة منهما شقيقة الكونت دي موري، وقد تعودا أن يدعوها: «العمة باسيليك»، وهي فتاة عانس رغبت عن الزواج، وبقيت في بيت أخيها فصحبته إلى تلك البلاد النائية، وقبل أن يخرج الطبيب من غرفة الفتاة المريضة قالت الكونتة: يجدر بنا الحصول على إجازة بضعة شهور نسافر فيها إلى فرنسا، فهواؤها ينفع ابنتي نفعا جزيلا، فقال لها الطبيب: حاذروا أن تفعلوا؛ فالخطر كل الخطر على المصابين بالحميات الهندية في الارتحال عن هذه البلاد قبل أن يتم لهم الشفاء؛ لأن الداء يعود إلى بدء اشتداده ثم يتعذر شفاؤه. فلا بد من معالجته في موضع ظهوره، وإتمام المعالجة عندما يتفق للمصاب به الشفاء وهو أمر نادر جدا! والرأي السديد أن تمكثوا ها هنا ستة شهور أيضا بل سنة، ثم لا أعترض على سفركم.
ولقد شغل مرض الفتاة والدها الكونت عن الاعتناء بأعماله فأحل محله نائبه وهو المسيو جاستون دي فاليير، وكان فتى شهما كريما كثير التردد إلى بيت الكونت، فلما اطمأن فؤاد الكونت من نحو ابنته أراد انتهاز الفرصة ومشاهدة حفلة تقام في ضاحية المدينة، ونعني بها الحفلة الزراعية التي تقام مرة في كل عام، ولوجود الحاكم الفرنسي فيها وقع حسن العائدة على النفوذ الفرنسي، فأمر باستعداد حاشيته لمرافقته، ثم مضى يتبعه «ملطار» خادمه المخصوص بخدمته أو حاجبه، وكان هنديا جامعا لفضائل الهنود، خاليا من عيوبهم، مخلصا لسيده ولآل بيته إخلاصا نادرا. فوصل الكونت إلى مكان الاحتفال، وأراد تأدية الاحترام الواجب لديانة الهنود ومراسيمها؛ فظل متعرضا لحرارة الشمس المحرقة حتى قلق رجال حاشيته، لكنهم لم يجترئوا عليه بإبداء ملاحظة، وقال له ملطار: ليس من الحكمة يا سيدي أن تطيل وقوفك ها هنا، فأجابه الكونت إلى ما أراد وأشار إشارة الانصراف، ولما رجع رأى ابنته أحسن حالا، ولما انقضى قسم من الليل أحس الكونت ببرد شديد، ومن العجب أنه شعر أيضا بأن ألسنة من نار تمر في عروقه كل هنيهة، فنام مضطربا، وأصابه بحران، ولما كان الصباح دخل عليه ملطار، فتراجع عنه مذعورا؛ لأنه رأى وجهه متغيرا وسمعه يشكو من آلام مجهولة، وطالما رأى ذلك الخادم أوروبيين يصابون بذلك الداء الخبيث، وتبدو عليهم أعراضه ثم يهلكون به، وهو قد شاهد منذ ثلاثة شهور تلك الأمراض التي ظهرت على ابنة الكونت، فسارع إلى الطبيب فأقبل من فوره، ولما شاهد الكونت علم أنه أصيب بالحمى الهندية الخبيثة، لكنها لم تظهر بعد، فلا بد من مهاجمتها بالعلاج قبل ظهورها الذي يعقبه استفحالها فاستعصاؤها.
فخطر للطبيب أن يستدرك الخطر بالفرار منه، فطلب مقابلة الكونتة، فقالت له: لقد أبكرت في الزيارة أيها الطبيب، فأجابها: ما أتيت هذه المرة لأعود الآنسة بوليت، فاصفر وجهها وقالت: إذن لأجل من أتيت؟ أجاب: لأجل زوجك، فقد أصبح مريضا، ولا مرض حتى الآن باد، ولكن يبدو بعد حين قصير، ويظهر الخطر إذا نحن لم نستدركه في الحال، قالت: فما عسى أن يكون مرضه؟ أجاب: إنه الذي أصاب ابنتك، قالت: وا حرباه وامصيبتاه!
قال: مهلا ولا تيأسي، وما دامت أعراض الحمى غير ظاهرة فالرجاء باق، ولكن لا بد من ارتحال زوجك في الحال حتى يخلص من تأثيرات جو البلد، ولا بد من سفره بعد ساعة واحدة، وفي هذا اليوم؛ بل بعد ساعة تقلع باخرة مسافرة إلى أوروبا، فلا ينبغي أن يفوته السفر عليها، لئلا يضطر إلى الانتظار أسبوعين حتى يحل موعد سفر باخرة أخرى.
قالت: ولكن زوجي يمتنع عن السفر اليوم، قال لها: لا ينبغي الالتفات إلى إراداته، قالت: وكيف ذلك؟ أجاب: لا بد من تلافي الخطر سريعا. قالت: هيهات، فإنك لا تستطيع التغلب عليه. قال: بل أرى تنويمه، ولا تنكري علي اقتراحي، فهو غريب والعمل به يلقي علينا تبعة ثقيلة، أما أنا فإنني راض بتحملها لأنقذ الكونت، قالت: وأنا أرضى لأنقذ زوجي. قال: إذن أنا أسقيه مخدرا فتأهبي للسفر، واعلمي أن حياة زوجك تصبح غدا في خطر إذا لم يسافر في هذا النهار، وأن حياة ابنتك تصبح كذلك إذا هي سافرت أيضا فتدبري. قالت: ويلاه! لست أستطيع ترك زوجي يسافر بدوني وهو في هذه الحال، ولا مفارقة ابنتي وهي في دور النقاهة. قال: أما ابنتك فلا خوف عليها ما دامت مقيمة ها هنا، والرأي عندي أن تتركي عمتها عندها وتسافري مع زوجك، والوقت لا يتسع للجدال فأسرعي.
وإذ ذاك دخلت العمة باسيليك فأطلعها الطبيب على ما جرى فوافقته على رأيه، وقالت: سافري يا لورانس مطمئنة القلب مع من يهمك شفاؤه، وأما أنا فأبقى قرب ابنتك، وهي الآن نائمة فلا توقظيها ولا تدعيها تعرف بسفرك الآن، بل أنا أمهد السبيل لإخبارها؛ لئلا تزعجها معرفة الحقيقة.
قالت: بل أدخل مخدعها وأقبلها وهي نائمة ثم أمضي، قالت: لا بأس، إنما حاذري أن تستيقظ.
فدخلت الوالدة مخدع ابنتها ولثمت جبينها بطرف شفتيها، ثم اجتذبتها العمة باسيليك، وبعد أقل من ساعة كان الكونت دي فوري وزوجته مسافرين على باخرة قاصدين إلى فرنسا.
وفي ذلك الوقت كان بيبو وشقيقته جرجونة مسافرين على مركبة السكة الحديدية إلى فرنسا أيضا.
الفصل الثاني
Unknown page