الفصل الثامن
ارتباط عموم أجزاء الكون بعضها ببعض ووحدة أصلها. ***
مكث أصحابنا بعد ذهاب الشيخ قليلا مفكرين بما سمعوه، يساعدهم على ذلك جمال الطقس وجلال الموقع وهدوء الليل، ولبثوا كذلك برهة ليست بقصيرة حتى قطعت فريدة ذلك السكون بقولها لهما: ما قولكما في شروح أستاذنا؟ إني أراه أصاب كبد الحقيقة، فإني كلما فكرت فيما سمعنا وقارنته بالواقع؛ أراه ينطبق عليه تمام الانطباق، ولكن هذا فيما يختص بنا وبعالمنا وما يدرينا، ما هي الحقيقة في العوالم الأخرى؟ لذلك فإني منتظرة بفروغ صبر يوم غد لنرى ماذا يقول في هذا الصدد، خصوصا، وقد فتح لنا هذا الباب الصديق فريد بسؤاليه المذكورين: أليس كذلك؟ فأجابها نجيب وقال: إني أوافقك تمام الموافقة على ذلك، ولكن فلنفرض أن شيخنا لم يعد بسبب طارئ لم يكن في الحسبان، أفلا يمكننا نحن الآن بقوة الاستنتاج، استنادا على ما سمعنا، أن نجيب أنفسنا على هذا؟ فما قولك يا فريد؟
فنظر فريد إليه مستفهما، وقد بهت لهذا الكلام، وقال: وكيف يا أخي يمكننا ذلك؟! أجابه نجيب وقال: فلنجرب، وما عليك إلا أن تراجع ما قاله لنا الآن فقط في حديثنا اليوم، ولا أقول أحاديثنا الماضية، مع أنك كنت معي في جميع الأحاديث، وما فاتك من الأحاديث الأولى شرحته لك، ترى فيه ما يساعدك على الإجابة، ولكن مع ذلك سأكفيك مؤنة المراجعة والبحث، فهيا بنا الآن نسير الهوينا؛ لأني تعبت من الجلوس، فقاموا وساروا معا. وبعد هنيهة لزم فيها نجيب الصمت عاود الكلام وقال: لقد قال شيخنا الآن في سياق الحديث ما كان سبق أيضا، وقال: من أن السلبي والإيجابي هما في الأصل مظهرا الينبوع العظيم الأصيل يبدوان بفروعهما بأشكال ومظاهر لا عد ولا حصر لها، وأن الكل من ذلك الينبوع خرج وإلى ذلك الينبوع يعود؛ فإن الطبيعة أصل الحوادث واحدة تعيد نفسها وتسير على سنة واحدة، فما جرى ويجري في عالمنا جرى ويجري فيما يماثله من العوالم الأخرى، وسوف يجري أيضا هنا كما جرى فيما سبق كرتنا الأرضية في التكوين، إذن فلا بد أن تكون هناك حياة أو كانت هناك حياة حسب صلاحية تلك العوالم الماضية أو الحالية؛ إذ لا وجه لتخصيص الأرض لوحدها بالحياة دون غيرها طالما أن الأصل واحد، فأجابه فريد وقال: وما هو الدليل على وحدة الأصل يا ترى؟ أهل هو قولك أو زعم شيخنا فقط؟ وهل قوله أو زعمه هذا يكفي للدلالة على ذلك؟
أجابه نجيب باسما وقال: كلا، ليس زعم شيخنا وقوله بكاف لنا لنأخذ الأمر قضية مسلمة، ولكن لنا أيضا مما قاله في سياق الحديث وما أورده من الحوادث بعض الأدلة المثبتة، أفلم يقل عن تأثير الشمس والقمر على الأرض، وعن المد والجزر، وعن التأثيرات التي تتأثر بها أرضنا في دورتها من العوالم الأخرى مما هو مثبوت علميا ومما نشعر نحن به ونتأثر؟ أفلو لم يكن هناك يا صاح وحدة بالأصل، أهل كان أمكن التأثير؟ ثم قل لنا - عافاك الله يا فريد - ألم تر أبدا أحد النيازك ولم تشاهد سقوطها؟ وما هي تلك النيازك؟ أليست هي قطعا من معادن صلبة تنقطع من النجوم فتسوح في الفضاء، وتأتينا مجذوبة بقوة التجانس؛ إذ إن الجاذبية كما قال شيخنا ما هي إلا التجانس؟ وإذا حللت تلك القطع نرى أنها هي مثل بقية معادن أرضنا، وإذا اختلفت فإنما تختلف عنها اختلافا بسيطا؟ أفليس هذا أيضا دليلا قاطعا على أن أصل المادة هناك هو مثل أصل المادة التي عندنا؟ فاكتف بهذا واكفني مؤنة إيراد كثير من أدلة العلم على هذا، فقالت فريدة: إذن لا شك في أن هناك حياة وأحياء سوف نستطيع يوما ما مواصلتهم والوصول إليهم.
أجابها نجيب، وقال: رويدا رويدا يا أخية، أما من جهة وجود الحياة فأنا أشاطرك الرأي في هذا، وأما من جهة المواصلة والوصول فلا؛ لأن هذا مستحيل في نظري؛ لأني أرى أن الحياة في العوالم الأخرى - إذا كانت ثمة حياة - فهي حياة خاصة بها كما أن الحياة هنا هي خاصة أيضا بنا، تختلف تمام الاختلاف هذه عن تلك وتلك عن هذه؛ لأنه باختلاف التأثيرات تختلف الأجسام، والحياة كما بين وأوضح لنا شيخنا ذلك وكما يثبته لنا الواقع أيضا. أفلا نرى أن السمك الذي يعيش في النيل وماء النيل حلو إذا دخل البحر يموت؛ لأن ماء البحر مالح؟ أو لا نرى أن الحيوانات في مختلف القارات الأرضية تختلف بعضها عن بعض مزاجا ولونا وعيشة وقدا باختلاف جو الإقليم؛ إن لم نقل فهما وتصورا أيضا؟ أفلا نرى أن مناعة الغربي لاحتمال حر مصر والسودان هي أقل كثيرا من قدرة ومناعة المصري والسوداني على احتمال ذلك الحر؟ وهكذا يقال عن المصري والسوداني إذا وجد في بلاد باردة، فإنه لا يطيق برد تلك البلاد مثل أهلها. وهذا هو النبات أيضا في جميع أجناسه، يختلف في مختلف البلدان بعضه عن بعض، كذا الجماد لم يسلم من هذا. بل إن سنة التأثير كما توضح وثبت؛ هي عامة للجميع، فكيف إذن يمكننا والحياة تختلف هكذا مثل هذا الاختلاف الكلي أن نواصل أحياء العوالم الأخرى أو نصل إليهم؟ هذا فضلا عن اختلاف تناسب المقادير في تركيب المادة؛ ولهذا فقد قال الكتاب الكريم: «لقد كلمتكم بالأرضيات فلم تفهموا، فكيف لو كلمتكم بالسموايات تفهمون؟» لهذا أراني أجزم باستحالة تحقيق غاية هؤلاء العلماء، وعلى كل فإن شيخنا لكفيل بأن يزيدنا غدا إيضاحا، أما الآن فقد كفانا بحثا. فهيا بنا نركب إحدى العربات لتقلنا إلى بيت الصديقة فريدة لتوصيلها، فصدعت فريدة وفريد بإشارة نجيب فركب الجميع، وسارت العربة مسرعة جهة المدينة، وكان قد عاودهم الصمت والتفكير فلم يشعروا إلا والعربة بقرب المنزل، فنزلوا وودع نجيب وفريد فريدة بعد أن حددوا موعد الغد، فدخلت فريدة منزلها وسار صاحبانا كل في طريقه.
شغلت هذه المباحث بال فريدة ردحا طويلا من الليل وحرمتها النوم أولا، فخرجت إلى الحديقة تتمشى فيها ذهابا وإيابا، ثم جلست على كرسي وقد أعياها المشي ونظرت إلى السماء، وجعلت تحدق بالنجوم، وفيما هي كذلك إذا بشهب نار قد لمع في السماء وانحدر كالسهم كأنه خرج من إحدى تلك النجوم، وسار سابحا في الفضاء حتى وقع كجمرة نار بالقرب منها فتقدمت منه، وإذا به قد حفر حفرة في الأرض من عزم السقوط، فنادت البستاني حتى أفاق من نومه، وأمرته بالنبش عليه ففعل وأخرجه، فإذا به حجر أسود ثقيل الوزن، فتأملته جيدا، فإذا به يشبه في خارجه بعض الأحجار الكروية الصوانية ولكنه أشد سوادا منها، فقالت: لقد صدق نجيب في استنتاجه، فليس هذا الحجر سوى إحدى النيازك، ولكن مما لا أستطيع فهمه هو تلك السرعة التي انحدر بها من النجم إلى هنا، فإنها لم تتعد بضع ثوان، مع أن بعد هذه النجمة عنا حسب العلم يزيد عن مئات الملايين من الكيلومترات، فلو قسناها بسرعة سير النور لما وجدنا أقل مناسبة بين سرعة الانحدار وبعد المسافة، فلعل هناك أيضا سر سأستوضحه الشيخ غدا. قالت هذا ودخلت غرفتها مسرورة من هذه المصادفة، فنامت حتى الصباح.
في أصيل اليوم الثاني تقابل أصحابنا الثلاثة في الميعاد المقرر عند الجسر، وساروا جميعا نحو ناديهم على المقعد المذكور، وكانت فريدة تقص عليهما قصة نيزكها بالأمس وما لاحظته من السرعة العظيمة التي وصل بها إلى الأرض، فأثارت هذه المسألة مناقشة فيما بينهم دامت إلى أن وصلوا أمام المقعد، فوجدوا الشيخ جالسا ينظر إليهم بابتسام، فقام إليهم وصافحهم وسألهم عما كانوا يتحدثون به بتلك الحدة التي لاحظها، فأجابه نجيب وقال: إذا سمح الشيخ بإبقاء هذه المسألة ريثما أخبره بما كان بيننا بعد ذهابنا بالأمس من هنا، فإن مناقشتنا اليوم هي نتيجة لمقدمة حديث البارحة حتى نأخذ الأشياء من أولها فنسير بها متسلسلة دفعا للغموض، ولعل الصديقين فريد وفريدة لا يمانعان أيضا بها، فأجاب الجميع بالقبول. فأخذ إذ ذاك يسرد ما جرى من المباحثة وما أبداه من التعليل والتفسير حتى وصل إلى مسألة النيزك، وما أثارته من الأخذ والرد.
ولما انتهى من ذلك نظر الشيخ إلى تلاميذه مليا محدقا بهم النظر كأنه يستقرئ ضمائرهم، ثم قال: اسمعوا يا أولادي لقد صدق نجيب في استنتاجه عن إمكان وجود الحياة في العوالم الأخرى، ولكنها لا بد وأنها تختلف كلية عنها عما في عالمنا، تختلف عنها في الشكل والتركيب والشعور والتصور والفهم حسب ما تتأثر به في عالمها وما يتأثر به ذلك العالم من العوالم الأخرى، أفلا ترون اختلاف الأحياء في عالمنا بعضها عن بعض في مختلف القارات، اختلافا سبقت وبينت لكم بعض أسبابه في ما سبق من الكلام، وكيف أن الأحياء اليوم هي غيرها في القرون الغابرة المتقدمة كما يثبت لنا ما عثر عليه من بقاياها، وأن أحياءنا اليوم تبعا لهذه القاعدة ستختلف أيضا في الأجيال المقبلة عما هي عليه الآن؟
فإذا كان هذا الاختلاف الجزئي والكلي قد حصل وحاصل وسوف يحصل فينا ونحن جميعا في عالم واحد، فماذا يكون إذن بون ذلك الاختلاف بيننا وبين تلك الأحياء في العوالم الأخرى، حيث العناصر المتفرعة عن العنصر الأصيل الفرد تختلف قوة وقلة وكثرة عن عناصرنا هنا، فكم من عنصر كان عندنا هنا من قبل وزال اليوم، وكم من عنصر هو الآن كائن وسوف يزول غدا، وكم من عنصر لم يكن من قبل ولكنه تكون أو سوف يكون وكم من عنصر هناك وليس له وجود هنا، وكل هذه العناصر لها تأثيرها النسبي على الحياة، فإذا كان هذا كله وهو كائن ومثبوت بلا شك، فكيف يمكن لأحيائنا أو بالحري لإنساننا أن يواصل تلك الأحياء أو يصل إليها، فلربما كانت أحياؤهم أشف مادة وأغلظ أو أثقل أو أخف مادة منا فتشبه الأرواح أو تشبه الديدان، أو ليس لها شبه يمكننا أن نتصوره هنا؛ لذا أرى أن المواصلة بيننا وبينهم هي أكثر من مستحيلة، وأستغرب جدا كيف أن بعض العلماء يشغل وقته وفكره بمثل هذا وأني أيضا على قدر استحالة المواصلة أقول باستحالة الوصول؛ لأن العناصر المكونة للحياة عندنا لا يتعدى وجودها مكونة وحافظة بضع العشرات من الأميال بعيدا عن الأرض في محيطها من الأجواء، مع أن أقرب عالم منا يقاس بعده بما لا يقل عن الملايين العديدة من الأميال، فإذا افترضنا وحصنا تلك الأحياء أو تلك الآلات الذاهبة منا إليهم بما يقيها مغبة التأثيرات في محيطنا، فبماذا نتقي تأثيرات العناصر الأخرى وهي مجهولة لدينا في المحيط القادمة إليه: مجهولة اسما ومجهولة تأثيرا، بل لربما الحي الذاهب منا بآلته إلى ذلك العالم، أو لربما تلك العلامة المرسلة منا إليهم مدفوعة بما تبين لنا من القوى مثل الراديوم مثلا يتحولان عند أول مصادمة لما تحويه الأجواء من مختلف العناصر، فيتأثران بها ويتحللان وينضمان إليها، فلا يبقى منهما لا أثر ولا عين.
Unknown page