عود على بدء
قال محدثي: وقد حكى لي مختار عن حاله بعد موت أمه، قال: ولما ماتت أمي وبقيت أختي وحيدة تدبر شئون المنزل، رأيتها عاجزة تمام العجز عن ذلك؛ لأنها كانت صغيرة، وكانت أمي حكيمة مدبرة، أما أختي فكانت دائما تسألني عن النقود ...
وكنت أذهب إليها فلا أجد في الدار طعاما آكله، ولا أجد ملابس نظيفة ألبسها، وبالجملة فقد ساءت حال داري، وأهمل أمري، وأهمل تدبير شئوني المنزلية.
قال محدثي: هذا كل ما كان يحكيه لي مختار عن نفسه، وقد حدث أن الزمان أصابه بكل المصائب في آن واحد، فإنه بعد أن ماتت أمه مات حظه، فكان إذا لعب القمار ليكسب مالا ليعيش، يخونه القضاء ويخسر كل شيء، وكان ما يتقاضاه من الحكومة قليلا لا يزيد عن أربعة جنيهات، فكيف يدبر نفسه بهذه النقود القليلة؟ يأكل ويلبس، وتأكل أخته وتلبس، وليت المصائب وقفت عند هذا الحد، فإن الدهر أصاب مختارا بسهم أشد من تلك السهام، وتفصيل الخبر أنه أصيب بمرض النساء.
الفصل الرابع عشر
قال محدثي: ولم تكن منيرة قانعة بمختار، إنما كان لها غيره من الشبان والشيوخ عدد كثير، وحدث أنها أوقعتها الظروف في شاب مريض بداء النساء، ومرض النساء هو المرض الذي نسبه الناس إلى الزهرة «إلهة الجمال عند الأقدمين»؛ لأنه يتسبب من الانقياد للجمال واتباع هوى النفس.
ومن الغريب أن منيرة كانت تخبر مختارا بأنها مريضة وتهدده بالعدوى إشفاقا عليه وخوفا على صحته، ولكنها لم تكن تنصحه بكلام بين واضح، وتقول له: «لا تقربني، فإنني مريضة، وإذا دنوت مني ربما أصابك مرض.» إنما كانت تتيه عليه وتمتنع عنه، فيظنها المسكين تداعبه، ويحسب امتناعها دلالا، فيزداد إليها شوقا، ويكاد قلبه يقطر دما إذا أصرت على إبائها ومنعته لذة وصالها.
وكان مختار يرى على منضدة قاعة النوم زجاجات وآلات طبية، وكان يرى جسم منيرة نحيلا ووجهها أصفر، على أنه لم يفكر ولم يحسب للمرض حسابا؛ لأنه أعماه الغرام عن كل شيء، ومثله كمثل الفراش يعلم أن النار تحرقه ولا ينفك عنها، ومن يدرينا أنه كان يعلم بمرضها، وهو يغش نفسه ويقنع ضميره بأنها صحيحة؛ ليقضي لذة لا تدوم طرفة عين، ومن يدرينا بأن تلك اللذة القصيرة كانت هي نعيم مختار، ومن أجلها كان يعيش، ولا يستطيع الحياة بدونها، فكان يضحي في سبيلها كل شيء، وقد رأيناه يضحي ماله وشرفه وأمه، فكيف لا يضحي صحته؟!
ولما كان مختار يخبرني بذلك، وكنت ألومه على اندفاعه في تيار الملاذ، كان يقول: إن الحياة هي الغرام، ولا أدري ماذا كان يعني بالغرام، وأظنه كان يعني بالغرام القرب من منيرة ووصالها، على أن جسم مختار لم يكن يتحمل مضار الخمر والسهر، ويفر من جراثيم المرض، فأصيب المسكين بداء إلهة الجمال.
ولما اكتشف ذلك، أتاني كالمجنون، وأخبرني بذلك آسفا باكيا، فهدأت روعه ورأيت أن اللوم والتعنيف لا يجديان نفعا بعد أن سبق السيف العذل، فقلت له: وبماذا تحس الآن يا مختار؟ قال: أحس بآلام شديدة إذا أكلت شيئا في لساني وحلقي، وفكري مضطرب، وشهية الأكل مفقودة مني بالمرة ، وقد رأيت صباح اليوم جرحا صغيرا في ... وعظامي توشك أن تتفتت، ومعدتي مرتبكة، وأحس بألم شديد في رأسي، ونومي قليل. قلت: هذا ما تحس به من المرض، فماذا تحس نحو منيرة، وأنت تعلم أنها سبب هذا المرض؟ قال: ما لنا ولهذا السؤال الآن؟ أنا في مرضي وقلبي في غرامه. قلت: إن شفاءك يترتب على جوابك لي. قال: إذا كان الأمر كذلك فاعلم أنني لا أزال أحبها، ولن أزال أحبها إلى الأبد مهما سببت لي من الأمراض والعاهات والعلل والفقر والحاجة! قلت: ألا تبغضها بعد ذلك؟ قال: ليته كان في وسعي أن أبغضها لحظة! قلت: وهل علمت منيرة بما أصابك، قال: نعم، قلت: وماذا قالت لك؟
Unknown page