فقال: «أوه.. ماذا يصنع الناس بنفوسهم؟ يكبرون ويقعون على عمل يشتغلون به. أنا أيضا وجدت لى عملا.. فى تجارة رابحة والحمد لله.. وأنت»؟
قالت: «أوه.. كبرت مثلك».
فقاطعها وقال: «كلا.. إنك لم تتغيرى.. لو كان هنا دود لما خطر لى وأنا أنظر إليك إلا أننا ما زلنا طفلين، ولهممت بأن أضع لك واحدة فى قفاك».
فضحكت وقالت: «لقد صرت مهذبا جدا.. لم يبق شىء من ذلك الطفل اللعين.. غريب أن نلتقى هنا هكذا بعد كل هذه السنين.. ماذا كنت تصنع؟ أعنى هنا».
قال: «أتمشى.. للرياضة».
فتنبهت، وقالت: «إذن لا أقل من أن أحملك معى فى السيارة».
وقال وهو يركب معها مسرورا: «ما قولك.. نحتفل بهذا اللقاء الذى لم يكن لى ولا لك فيه حساب، بالعشاء نتناوله فى محل الحاتى.. هه»؟
فابتسمت لنفسها فى مرآة السيارة وأصلحت شعرها الذى عبث به النسيم، ثم التفتت إليه وهزت رأسها أن نعم.. ثم انطلقت تخطف بسيارتها الأرض.
ولم يكن في جليلة خفة أو طيش، ولكنها كانت فتاة وحيدة مدللة.. ورثت عن أبيها قسوة القلب واستقلال الطبع، وعن أمها سرعة الاستجابة لدواعي الخير. وقد مات أبوها قبل سنوات، فلم يبق لأمها سواها ولم تهمل تربيتها.. ولكنها كان ينقصها حزم زوجها وحكمته، فألقت لها الحبل على الغارب وهى تحسب أنها لا تعدو ما كان يصنع أبوها. على أن الفتاة لم يكن فيها سوء ولم تثمر الحرية شرا، وإنما أكدت استقلالها وأورثتها تمردا صريحا على كل قيد من القيود التي يفرضها العرف حتى على الفتاة الحديثة. وكانت أمها وبعض أهلها يشق عليهم ذلك أحيانا، فتقول لهم إنى لا أفعل سوءا، ولا أسىء أدبى، ولا أتوقح على أحد، ولا قيمة لخروجى وحدى، أو مرافقة أصحابى وصواحبى إلى السينما أو غيرها.. فكانت أمها تسكت ولا تقول شيئا لعلمها أن الكلام لا خير فيه.
ولم تكن جليلة بارعة الحسن، ولكن صوتها كانت له حلاوة التغريد.. وكانت نظرتها الحالمة تفعل فعلين يبدوان متناقضين: تنعش القلب وتفتر الجسم، فإذا أدامت إليك كرة الطرف - على عادتها إذا سرها منك عمل أو قول - شاع الرضى فى نفسك وفاضت بالسرور، ودار رأسك، وأحسست بالخدر فى أعصابك. وكانت أقرب إلى القصر منها إلى الطول، وإلى الامتلاء منها إلى النحافة والهزال، وقد حمتها كثرة الحركة والولع بالمشى فى الهواء الطلق، وفطام النفس عن الأطعمة الدسمة الثقيلة، أن تصبح كأمها أكداسا من اللحم تلح على روحها. وكانت سمراء، ولكن سمرتها مشربة حمرة لا كدرة فيها ولا نمش. وكان شعرها جعدا وأثيثا.. وكانت تفرقه وترسله إلى الوراء وتعقصه وتأبى أن تقصه. كانت أنيقة بلا تكلف، ولم تكن رقيقة الحال أو مضطرة إلى حسن التدبير والاقتصاد. فقد ترك لها أبوها الحازم ثروة كافية، ولكنها كانت تؤثر أن تصنع ثيابها بيديها، فتجىء محبوكة التفصيل على قدها الجميل يبرز من تحتها ثدياها الناهدان الراسخان كالرمانتين الصغيرتين. وكانت مجدولة الساقين لا عظيمة العضلة ولا مضطربتها ولا عرقوب لها. وجمال الساق فى المرأة يشير بحسن القوام.. وكانت تكره الأحذية العالية الكعوب نفورا من بروز الفخدين. على أن هذا كله ما أكثر من يشاركنها فيه، ولو اقتصر الأمر على التكوين المادى لما كانت لها مزيه تنفرد بها، ولكن أنوثتها كانت قوية الجذب شديدة الإغراء.. فلولا استقلالها وشخصيتها لما استطاعت أن تنجو من المعاطب. •••
Unknown page