فأطرقت، وقالت على مهل: «مراد.. البارونى.. (وهزت رأسها) كلا.. إن ذاكرتى لا يختلج فيها شىء.. آسفة».
فقال، وهو يضحك: «أما أنا فإن ذكراك يقشعر لها بدنى، فما أستطيع أن أنسى أنك صببت على ماء قربتين من الماء فى الشتاء. سلطت على خرطوم الحديقة وأطلقت على ماءه.. أهذه ذكرى تنسى؟. ألست معذورا إذا ظللت متذكرا»؟
فدنت منه، وقالت بصوت خافت كالهمس: «مراد؟ صحيح..».
فقال: «وكنت ظالمة لى..».
فقالت: «كلا.. لقد تذكرت الآن، فقد وضعت لى دودة ميتة فى قفاى.. الحق أنك كنت فظيعا».
فأشار بيده إشارة المستنكر: «لا.. لا.. هذا كان سوء تفاهم.. أعنى أنى كنت فرغت من اللعب بالدودة، وظننت أنك قد يسرك أن تأخذيها لتلعبى بها.. ولكنى أخطأت فوضعتها لك فى قفاك بدلا من يدك، بل كان الخطأ منك لا منى.. فقد جعلت تجرين خائفة وأنا أجرى وراءك، فلم يسعنى ألا أن أتركها حيث تيسر لى.. فالذنب ذنبك يا جليلة».
فقالت جليلة، وهى تضحك: «أتذكر كيف كنت تصيح بأعلى صوتك كلما رأيتنى.. وكيف كنت تجرى ورائى وتدبدب برجليك كلما أدركتنى فتزيدنى رعبا»؟
فقال: «نعم أذكر ذلك.. أذكر كل شىء.. إنه كل ما بقى لى منك.. لقد كنت أصيح وأدبدب لأخفى عنك حبي لك».
فقالت: «غريب.. أكنت تحبنى؟ لقد كان نجاحك تاما إذن فى إخفاء هذا الحب».
ونظرت إلى وجهه الذى لوحته الشمس وشعره الذى ظهر فيه الشيب هنا وههنا، وأخذت الصورة القديمة تسترد ألوانها وتبرز معالمها شيئا فشيئا، ثم قالت: «لقد كبرت جدا.. طولا وعرضا.. وتغيرت أيضا. من الذى يراك الآن فيذكر ذلك الطفل الشقى الذى كان يسود عيشى ويرعبنى كلما ظهر فجأة من وراء شجرة.. أو من تحت الأرض - فيما كان يخيل إلى ماذا صنعت بنفسك كل هذه السنين»؟
Unknown page