Fi Tahdith Thaqafa Carabiyya
في تحديث الثقافة العربية
Genres
اللغة ... هذا المخلوق العجيب! (1)
لقد جاوز الشيخ ثمانين عاما من عمره، ومع ذلك فهو ما يزال يذكر في وضوح، كوضوح النهار المشمس، ما يزال يذكر ذلك الطفل الذي بدأ به حياته هذه، التي طالت حتى شاخت، يذكره في سن الرابعة، أو ربما جاوزت الرابعة بقليل، وهو يختلف كل صباح إلى كتاب الشيخ ربيع في قريته، إذ كان الطفل مع أسرته، التي لم تكن قد غادرت بعد ريفها إلى المدينة، ولم يكن بين الدار والكتاب إلا بضع خطوات، فالحارة واحدة، تنفتح على النيل، ثم تنسد بعد عدد من الأمتار يقع بين العشرين والثلاثين، وعند نهايتها التي تنسد عندها كانت الدار، وعند فتحتها على النيل كان الكتاب.
وفي الكتاب كان يتعلم أحرف الهجاء، وأعداد الحساب، وقبل ذلك، وفوق ذلك، وبعد ذلك؛ كان يحفظ بعض قصار السور من القرآن الكريم، وكان ما يحفظه من القرآن هو أوضح معالم الساعات التي كان الطفل يقضيها في الكتاب كل يوم، ولا عجب أن أرى شيخ الثمانين، إذا ما استعادت له الذاكرة حياته طفلا؛ لا يكاد يذكر من خبرة الكتاب شيئا مما كان يقرؤه أو يكتبه - على لوح الأردواز - من أحرف الهجاء وأعداد الحساب، وأما ما كان يحفظه ويعيده أمام الشيخ ربيع من آيات القرآن الكريم؛ فهو باق في ذاكرته في وضوح ناصع، وكيف ينسى وقع النغم القرآني في مسمعيه وهو في تلك السن الصغيرة وقعا يظل مأخوذا به، فيردد الآيات ما بقي له من صحو النهار؟ ومن يدريني الآن هل كانت تلك الفتنة بإيقاع النغم القرآني تختفي عنده في نعاسه أو كانت تواصل ظهورها في أحلامه؟ لم يكن - بالطبع - يفهم من معاني اللفظ الذي يردده شيئا؛ فلا الشيخ ربيع قال له كثيرا أو قليلا من تلك المعاني، ولا كان في قدرته أن يدرك هو شيئا منها، لا، بل لا أظنه كان يدرك أن للآيات الكريمة التي كان لها في أذنيه ذلك الإيقاع الأخاذ معاني يعرفها أو لا يعرفها.
وكان من أوقع محفوظه يومئذ من القرآن الكريم تأثيرا، ومن أكثره ترديدا منغما، الآيات:
والعاديات ضبحا * فالموريات قدحا * فالمغيرات صبحا * فأثرن به نقعا * فوسطن به جمعا ...
كان يصعد درج الدار، ثم يهبط الدرج، ثم يصعد، وعند كل درجة منها - صاعدا أو هابطا - يضغط على مقطع من تلك الآيات الكريمة، ويدب بقدمه دبة قوية، وكأن تلك الضربات عنده كانت تفعل فعل الطبلة في المعزوفة الموسيقية، فكان التنغيم يجري معه في أثناء صعوده الدرج واحدة واحدة، هكذا: «والعاديات ضب...حا فالموريات قد...حا فالمغيرات صب...حا» ... إلخ.
وكبر الطفل وأصبح على عتبة الشباب، فشاء له الله أن يلتقي بعض أقرانه في المدرسة، ممن يتبارون في حفظ الشعر، ولست أعني المحفوظات المقررة، بل سمع أقرانه هؤلاء يتبارون فيما سمعهم يقولون إنه «المعلقات» ... ما تلك «المعلقات» يا ترى؟ تساءل الفتى وسأل، حتى انتهى به الأمر إلى أن يحصل على «المعلقات» مشروحة، وشيخنا صاحب الثمانين لم يعد يذكر جيدا، أكانت المعلقات السبع كلها أم كان بعضها فقط هو الذي وقع عليه ليقرأ وليحفظ لعله يتبارى مع الأقران ندا مع أنداد؟ ومرة أخرى فتن الفتى بإيقاع اللفظ، دون أن يفهم من معناه إلا أقل من القليل، رغم أنه قرأ الشروح في هوامش الكتاب.
وبلغ الشاب عامه العشرين وما بعده، وأخذ يتابع أعلام المفكرين والأدباء، في النصف الثاني من عشرينيات هذا القرن وما بعد ذلك، يتابعهم مقالة مقالة، وكتابا كتابا، وإن شيخنا صاحب الثمانين، ليذكر شبابه ذاك، وكيف ظل حريصا أشد الحرص على إيقاع النغم في كلمات الكاتب، يلتمسه أنى وجده، لكنه في تلك السن كان قد تنبه على أن إيقاع اللفظ المقوم لم يعد يكفي، بل لا بد له أن يحمل مضمونا يتناسب وزنا مع حلاوة الإيقاع، حتى لقد أخذ يراجع محفوظه من القرآن الكريم عندما كان طفلا مأخوذا بنغم آيات كريمة لا يفهم لها معنى ومحفوظه من «المعلقات» وهو على عتبة شبابه، أخذ يراجع ذلك كله باحثا عن «المعنى» ليكتمل الكمال، ولقد دهش دهشة ارتج لها فؤاده ارتجاجا، عندما علم أن الآيات الكريمة التي أخذ يتغنى بها مأخوذا بنغمها، ويقسمها تقسيما موسيقيا يصعد به درج الدار ويهبط: «والعاديات ضبحا، فالموريات قدحا ...» أقول إن دهشته كانت شديدة، حين اطلع في نضج شبابه على معناها، الذي هو تصوير معجز لهجمة الفرسان على العدو، آخذا له على غرة ساعة الفجر، فالجياد تضبح بأنفاسها الحرى بعد طول الطريق، وحوافرها من شدة وقعها على حصباء الطريق تقدح منه الشرر، حتى إذا ما أغارت عند فلق الصبح على مكمن الأعداء، وأثارت نقع الغبار الذي غامت به السماء ، كان فرسانها قد توسطوا جماعة الأعداء .
ومضى الشاب يطوي بساط حياته عاما بعد عام، إذ هو يزداد مع الأعوام تحصيلا وتدبرا لما حصله، فهو لم يرد لنفسه قط أن يكون مجرد وعاء يمتلئ بما قاله فلان وما كتبه علان، ولا يزيد بعد ذلك على أن يعيد على نفسه وعلى الناس ما قالوه وما كتبوه، وإنما أراد لنفسه أن يخرج بوجهة للنظر يبتدعها ابتداعا، أو يتبناها وأن شيخ الثمانين ليظن - مهتديا بذاكرته - أن تلك الوجهة الخاصة للنظر، كانت قد بدت له في أفق الفكر كالشبح الذي ينتظر أن يأتيه الغذاء ليمتلئ ولتجري في عروقه الدماء كي تنشط أجهزته بنبض الحياة، على أن تلك الوجهة من النظر، التي اصطنعها الشاب لنفسه وهو في ثلاثينيات عمره، لم يتفجر بها الهواء كأنها الصاعقة انشقت لها السماء لتظهر فجأة، وكأنها منيرفا - إلهة الحكمة عند اليونان الأقدمين - قد خرجت من صدفتها كاملة التكوين، بل جاءت تلك الوجهة من النظر لصاحبنا الشاب، وكأنها الزهرة تولدت فوق غصنها، بعد أن استعدت لولادتها الشجرة في نموها البطيء على امتداد السنين.
أوتذكر ما حدثتك به عن طفل الرابعة أو نحوها كيف أخذ إيقاع اللفظ القرآني بمسمعيه أخذا حتى ملأ عليه نفسه؟ ثم هل تذكر كيف كان الشاب الذي خرج من جوف ذلك الطفل منشغلا بالمعلقات السبع، يكرر أبياتها مباهيا أقرانه بما يحفظه منها؟ حتى إذا ما تدرجت الأعوام بذلك الشاب الصغير، ليرتفع بتحصيله إلى درجة النضج، فأخذ يبحث فيما يقرؤه عن «المضمون الفكري» في تضاعيف اللفظ، دون أن يفقد اهتمامه لحظة واحدة باللفظ وحسن انتقائه وجمال تركيبه، حتى لقد كان ذلك عنده مقياسا يقيس به الكاتبين في تفاوت درجاتهم ارتفاعا وانخفاضا، فإذا كنت تذكر كل ذلك عن صاحبنا في مراحل عمره طفلا وشابا، فلن يدهشك - إذن - أن نقول عنه، حين انتقل به الشباب إلى مرحلة الرجولة، وحين تكونت له رؤية خاصة في مرحلتها الشبحية الأولى، إنه جعل إدمان النظر في «اللغة» بمنزلة النخاع من الهيكل العظمي لتلك الرؤية، فإن أمر اللغة لمن يتدبرها لعجب من عجب ! إنها ليست «وسيلة» تنقل «الفكر» من إنسان إلى إنسان في عصره، أو يجيء عبر الأجيال، بل هي هي الفكر ذاته، وليست هي عند الشاعر أو الكاتب الأديب بمنزلة «الأدوات» التي تتم بها عملية التعبير، بل هي هي الشعر، وهي هي الأدب؛ لأنها هي مضمونها.
Unknown page