Fi Tahdith Thaqafa Carabiyya
في تحديث الثقافة العربية
Genres
مقدمة
رحلة صيف
تحولات
تشابه الأجزاء ووحدة الهدف
ثقافة التغيير
هيكل البناء
لمسة الواقع
صورة جديدة لأفكار قديمة
أفكار تحيا وأفكار تموت
خصوصية الثقافة ما مداها؟
Unknown page
غابت الفكرة عنا
إذا جهالهم سادوا
ناقد الفكر وناقد الأدب
لك الله يا علوم الإنسان!
الأفكار كالأشجار تنمو
اللغة ملتقى الثقافتين
الفكر العربي وتحديات العصر
حرية لم يعرفها الأقدمون
أنجعل التراث كنزا نحن حراسه؟!
هذه ثقافتنا من رجالها
Unknown page
الكتيبة الخرساء
فجوة بين واقع ومثال
هي جملة ينقصها الفعل
وفيك انطوى العالم الأكبر!
اللغة ... هذا المخلوق العجيب! (1)
اللغة ... هذا المخلوق العجيب! (2)
وصولا إلى حرية وعدالة
بلاغة الصمت
الفكر الإسلامي وآفاقه الجديدة
تخليص وتلخيص (1)
Unknown page
تخليص وتلخيص (2)
تخليص وتلخيص (3)
مقدمة
رحلة صيف
تحولات
تشابه الأجزاء ووحدة الهدف
ثقافة التغيير
هيكل البناء
لمسة الواقع
صورة جديدة لأفكار قديمة
Unknown page
أفكار تحيا وأفكار تموت
خصوصية الثقافة ما مداها؟
غابت الفكرة عنا
إذا جهالهم سادوا
ناقد الفكر وناقد الأدب
لك الله يا علوم الإنسان!
الأفكار كالأشجار تنمو
اللغة ملتقى الثقافتين
الفكر العربي وتحديات العصر
حرية لم يعرفها الأقدمون
Unknown page
أنجعل التراث كنزا نحن حراسه؟!
هذه ثقافتنا من رجالها
الكتيبة الخرساء
فجوة بين واقع ومثال
هي جملة ينقصها الفعل
وفيك انطوى العالم الأكبر!
اللغة ... هذا المخلوق العجيب! (1)
اللغة ... هذا المخلوق العجيب! (2)
وصولا إلى حرية وعدالة
بلاغة الصمت
Unknown page
الفكر الإسلامي وآفاقه الجديدة
تخليص وتلخيص (1)
تخليص وتلخيص (2)
تخليص وتلخيص (3)
في تحديث الثقافة العربية
في تحديث الثقافة العربية
تأليف
زكي نجيب محمود
مقدمة
الحديث عن الحياة الثقافية لشعب من الشعوب، هو كالحديث عن قارة فسيحة الأرجاء. تنوعت فيها المشاهد وتباينت الأجواء، فهنا منطقة توعرت فيها الجبال، وهناك سهول انبسطت أرضها في استواء، وهذه منطقة كثر ماؤها واخضر زرعها، وتلك صحراء يباب لا ماء فيها ولا زرع ... فماذا عسى أن يكتب الرحالة عن تلك القارة إذا أراد أن ينقل عنها صورة أمينة، لا سيما إذا استهدف من تصويره ذاك، أن يهيئ عقول أهلها ليغيروا منها ما ينبغي أن يتغير، لكي يصبح التقدم الحضاري ممكنا؟ إنه مضطر إلى تنويع الوقفات وزوايا النظر، ما تنوعت أمامه أجزاء الأرض التي يهم بوصفها والتحدث عنها، ليكون لكل موضع وموقع حديثه المناسب، على أن يخرج قارئه آخر الأمر بصورة موحدة، لم يمزقها تنوع الوقفات والزوايا.
Unknown page
وهذا هو ما لجأ إليه مؤلف هذا الكتاب؛ فموضوع حديثه هو «الثقافة العربية» في حاضرها. وأين فيها ما لا بد له أن يتغير إذا أرادت الأمة العربية أن يكون لها نصيبها العادل في مشاركة هذا العصر فيما ينجزه وفيما يعانيه؟
إن عصرنا يتحدانا في كثير من قضاياه، فإما نحن مهيئون للتصدي لما يتحدانا به، وإما هلكنا تحت ضرباته، لأنه يضرب الضعفاء بقبضات من القنابل النووية التي لا تبقي ولا تذر؛ فأول ما نحصن أنفسنا به لنواجه عصرنا، هو أن تسري في عروقنا روح المحافظة على الهوية الوطنية القومية حتى لا تنجرف في تيار غريب يودي بها إلى الفناء، لكنها في الوقت نفسه روح أعدت نفسها لتتغير فيما يجوز لها أن تتغير به وهي صامدة، حتى تجد لنفسها موضعا في زمانها، ومن هنا تبرز لنا مشكلة عصية كثر فيها الكلام جادا ولاهيا، وأعني مشكلة المواءمة بين موروثنا الحضاري والثقافي من جهة، وما تقتضيه الحياة العصرية من تحولات من جهة أخرى؛ وفي هذا الكتاب محاولات للحل، أهمها أن نفرق بين إطار ثابت ومضمون متغير؛ فالإطار هو بمثابة المبدأ أو المبادئ الثابتة، التي منها يتكون جوهر الهوية الوطنية والهوية القومية، وأما المضمون المتغير فهو ظروف التطبيق التي تتشكل بأشكال العصور المتعاقبة، فليست صور الحياة العملية ثابتة على حالة واحدة برغم تغير الحضارات.
وبماذا تغير عصرنا عن سوالفه، إذا لم يكن قد تغير في رؤيته العلمية للكون؟ إنه لم يعد «العلم» علما على صورة ألفها الماضي من فجر تاريخه وإلى أمسه القريب: وأهم وجه للاختلاف هو دور «الأجهزة» في البحث العلمي من ناحية، وإنتاج الآلات بالكثرة الهائلة المتنوعة التي نراها. حتى لقد أصبحت أصابع العصر في آلاته وأجهزته جزءا لا يتجزأ من حياة كل فرد يعيش على الأرض. كائنا ما كان موقعه؟ إن عصرنا قد حاول وهو يحاول ما يزال أن يقرأ الطبيعة قراءة جديدة؛ فهل يجوز لإنسان يبتغي لنفسه مكانا ومكانة أن يقف خارج الصف، لا يمد يدا ولا يفتح عينا، في انتظار ما يتصدق عليه به الآخرون من «العلم» الجديد ونتائجه، ثم يتوقع في الوقت نفسه أن يكون له بين الناس وزن وقيمة؟ فالتحول من الأعصار في صفحات الكتب القديمة، أي الكون وظواهره، لنقرأها في مواجهة مباشرة، هو الخطوة التي لا بد منها، لنتحول - بالتالي - من جمود إلى حركة، من ركود إلى نهضة، من موت إلى حياة. وليست هذه دعوة إلى إحراق تراثنا أو إلقائه في اليم، كلا وألف مرة كلا؛ لكن ذلك التراث هو ماضينا، هو سلفنا، هو جزء من هويتنا، لكننا يجب أن نفرق فيه بين ما يدرس ويصان حفاظا على «التاريخ»، وبين ما يدرس ويصان لأنه لا يبلى بعوامل الزمن، كالأدب شعرا ونثرا، وكفقه الفقهاء وعلم علماء اللغة العربية، وغير ذلك مما تظل مشكلاته واردة مهما تغيرت عليه صور الحياة مع تغير العصور.
وإن مؤلف هذا الكتاب ليزعم بأن الأمة العربية قد غابت عنها مهمة هذا العصر، حين انصرفت باهتمامها عن المشاركة الإيجابية في حياة العلم المعاصر، مكتفية بما يأتيها منه نقلا عن علماء الغرب، وبهذا التقصير وضعت نفسها موضع الضعيف، الذي يتعرض لسيادة الغرب القوي عليه؛ ولقد تفرع عن هذا الموقف المتخاذل بالنسبة إلى المشاركة في دنيا العلم الجديد، نتيجة لا تقل عنه فداحة، وهي أن أفلت «الواقع» من أبصارنا، فقلما يدري دراية العارفين بما يدور حوله من أحداث ومغزاها. ولذلك فما أكثر ما جاءتنا الدواهي مباغتة وكأنها ولدت لساعتها. مع أنها محصلة تطورات طويلة الأمد، كانت تحدث ونحن غرقى في سباتنا وأحلامنا.
إنه إذا خرج القارئ من قراءة هذا الكتاب بشيء من التساؤل عما قد ورد فيه من مشكلات ومعالجتها، كان الكتاب قد حقق للمؤلف رجاءه فيه.
وما توفيقنا إلا بالله.
زكي نجيب محمود
يناير 1988م
رحلة صيف
أما الصيف فهو صيف هذا العام «1986م»، وأما الرحلة فهي تبدأ، وتسير وتنتهي، داخل الرأس، وصاحب الرأس جالس في غرفة الكتب بمنزله، الغرفة مغلقة الزجاج، وخزائن الكتب تدور مع الجدران، وقد أصبحت تبدو أمام صاحبها وكأنها ألسنة خرساء أصابها الخرس عندما حيل بين صاحبها وبينها، فالغرفة صامتة إلا من صوت المروحة الكهربائية في حفيفها الخافت، وكأن ذلك هو أول صيف يقضيه أخونا في القاهرة منذ فترة طويلة، فهو لعدة سنوات خلون - قد تبلغ العشرات - كان يقضي صيفه بعيدا، ويرجع قعوده هذا العام لأسباب بعضها عام وبعضها خاص، إلا أنه لم يشعر في ذلك بضيق، لأنه استبدل بحركة جسده من مكان إلى مكان سكونا هادئا وسكينة، كان في جلسته تلك طوال ساعات النهار، يبدو وكأنه جمد كما يتجمد الماء ثلجا في شتاء بارد، لكنه في دخيلة نفسه لم يكن بكل هذا الجمود البارد، إذ كانت تطوف به الحادثة العابرة، فتشد وراءها شريطا طويلا من صور الماضي. فلو أن صاحبنا أراد أن يفرغ على الورق شرائطه تلك ما كانت تحويه، لملأت له بغرائبها ونفائسها مجلدات، لقد كان أشبه شيء بالتلفاز، يضغط على مفتاح من مفاتيحه، فتنهمر أمامه حياة دافقة بأشخاصها وبأحداثها، فإذا أحس الملل، ضغط على مفتاح آخر لينفتح له عالم آخر، فكان في كل مرة كأنه ارتحل رحلة كتلك الرحلات التي كان يتحرك بها في أصياف أعوامه الماضية، وكثيرا جدا، ما كانت نقطة البدء في رحلاته تلك شيئا يتذكره عندما تقع عينه على ظهور الكتب المرصوصة في خزائنها، فالفكرة الفلانية تقفز إلى ذاكرته إذا ما رأى عنوان الكتاب الفلاني، وما إن تطوف الفكرة المعينة، حتى تتقاطر الذكريات، في تسلسل مرتب حينا، ومضطرب حينا. ولقد قص علي صاحبي إحدى رحلاته تلك، فرأيت في روايته ما ينفع الناس ... قال:
Unknown page
في جلستي تلك، الساكنة الهادئة، لمحت على ظهور الكتب ما ذكرني ب «النظام» (بالفتحة المشددة على النون، وكذلك على الظاء) ذلك المفكر الإسلامي السابق لعصره في فكره، ولقد كان معاصرا للجاحظ، وكان كلاهما عندئذ في البصرة، وقال عنه الجاحظ - والجاحظ هو من هو - قال عنه: «كان الأوائل يقولون، في كل ألف سنة رجل لا نظير له، فإن كان ذلك صحيحا، فهو النظام.» ... واستطرد صاحبي في روايته عن إحدى رحلاته الداخلية، فقال: لست أدري ما الذي أورد «النظام» إلى ذاكرتي، أما وقد ورد، فيا له من شريط طويل من أفكار يصاحبها انفعال حينا بعد حين، وذلك أني تخيلت أن ذلك «النظام» قد بعث ليحيا معنا حياتنا الفكرية اليوم، وأخذ يعرض أفكاره التي كان عرضها في حياته الأولى وهو في البصرة إبان القرن الثالث الهجري «التاسع الميلادي» فما وسعني عندما تخيلت ذلك، إلا أن أتخيل معه حربا علمية شعواء، ربما ذهبت معه إلى حد أن يرميه الغاضبون بالخروج على الدين كما يعرفونه، أو بما هو دون ذلك بقليل ... فقد أخذت أفكاره تتوارد إلى خاطري، وعند بعضها كنت أضرب كفا على كف، قائلا لنفسي: يا سبحان الله، فمثل هذا الذي قاله «النظام» قد يقوله اليوم قائل، فلا يقابل عند بعضهم إلا بالسخط وبالزراية، إذ يرونه أثرا من آثار «غزو ثقافي» غزانا به الغرب الملعون. والحق إنه لعجب من عجب يدعو إلى إعجاب ليس وراءه إعجاب، أن نرى عند ذلك المفكر الإسلامي القديم أفكارا هي من أهم الأفكار الأساسية التي تبنى عليها ثقافة الغرب في يومنا هذا، أو هي - على الأقل - إحدى وجهات النظر، ولعلك تعلم عني أن منها أفكارا قد جعلتها بين الركائز التي أقمت عليها وجهة النظر التي صنعتها أو اصطنعتها لنفسي، فما وجدت في كثير من الحالات إلا نفورا وتنفيرا.
نعم، يا صديقي، وسأروي لك شيئا مما توارد إلى ذهني، مما كان «النظام» العظيم قد أخذ به ودافع عنه، لترى معي كم هو قريب مما يأخذ به العبد الفقير لله، فلم يلق إلا إعراضا حتى من زملائه ذوي الاختصاص: ألم تسمعني أكرر مرارا، ولا أمل من التكرار، بأن معنى الكلام إنما يتحدد بالتطبيق، فإذا وجدنا عبارتين اختلفتا في اللفظ، ولكنهما اتحدتا في التطبيق، عددناهما مترادفتين، برغم اختلافهما في اللفظ، وكان مما يترتب على ذلك، أنه إذا كانت هناك عبارة لا نتصور لها تطبيقا، لا بالفعل ولا بالإمكان، حكمنا عليها بأنها كلام يخلو من المعنى؟ وإنك لتعلم كم من السخط الغاضب قد جرت به أقلام المعارضين، خوفا على كلام يعرفه هؤلاء المعارضون، بل هو رأسمالهم الفكري، أن يجري عليه مثل هذا الحكم، وفاتهم أن القول هنا مقصور على ما هو مندرج في دائرة العلم، وأن لغير العلم من أقوال أحكاما أخرى ... وبعد هذا فلتنظر معي - يا أخي - في أول فكرة عرضها «النظام» وكانت عن «الإرادة» من حيث هي صفة من صفات الله عز وجل، وصفة كذلك من صفات البشر، مع الفارق بأن تكون إرادة الله مطلقة وإرادة الإنسان في حريتها نسبية ومقيدة بظروفها، فقال «النظام» وهو في معرض الحديث عن الإرادة الإلهية إنه لا يجوز وصفها بأنها قادرة على فعل الشر، ولما كان هناك من ردوا على هذا بقولهم: بل هو قادر على فعله ولكنه لا يفعله، فيجيب «النظام» على ذلك بما مؤداه: لا فرق في المعنى بين القولين، لأن المعول في دنيا الأشياء، فيتحول عندئذ إلى «فعل» وإن المعنى هو الفعل الذي ينتج، وما دام الشر في كلتا الحالتين لا يقع، كان القولان متساويين برغم ما قد يبدو على لفظهما من تناقض ... فتخيل معي يا صديقي، كم يكون الانقلاب في حياتنا الفكرية اليوم - على جميع مستوياتها - لو أنها دارت حول هذا المبدأ المنهجي، وهو أن كلامنا لا يكون ذا معنى إلا إذا أمكن وقوعه فيما يتضمن في طي كلماته «فعلا» يمكن أداؤه وإلا فهو كلام بغير معنى، وهو مبدأ قد جف المداد على سن قلمي من كثرة ما رددته، فكان يقال في رفضه إنه قول منقول عن أصحاب الحضارة المادية القائمة، وها أنا ذا أبتعثه اليوم حيا من فكر «النظام» العظيم.
ثم مضيت يا صديقي في سلسلة خواطري، فلم تشأ تلك الخواطر التي انسابت حرة، لم أقيدها بقيد من إرادتي، أقول إن تلك الخواطر الحرة لم تشأ أن تترك ذكرياتي عن «النظام» فانتقلت بي إلى فكرة أخرى عنده، كفيلة وحدها أن تجعله اليوم بيننا معاصرا في مقدمة المعاصرين، ودع عنك أن نضيفها إلى سابقتها التي أسلفناها ... وأما هذه الفكرة الثانية فتجعل «الحركة» - وليس السكون - أساسا لكل الوجود، ولكل موجود في ذلك الوجود، جسما كان أم كان عقلا أو إرادة، وانتبه أيها الصديق جيدا إلى معنى هذا القول، فقد كان السائد الشائع في كل حياة فكرية عرفها الإنسان قبل ذلك - اللهم إلا استثناءات أقل من القليلة - أن يكون «سكون» الأشياء فيما يرى رجال الفكر، هو الأساس، بمعنى أننا إذا وجدنا الأشياء في حركة، وجب علينا أن نبحث عن علة تلك الحركة. ولقد لبثت تلك الفكرة مستقرة في العقول، حتى أوائل القرن الماضي في أوروبا، حين طويت من تاريخ الفكر الإنساني صفحة، ونشرت صفحة أخرى، تقول: لا، بل الأصل في الكون وكائناته، أن يكون من جنس «الحياة» لا من جنس الجماد والموت، ومن هنا قيل إن الأصل في كل شيء هو أنه في حركة دائمة، فإذا رأيناه ساكنا، وجب أن نسأل، ما الذي أحدث فيه ذلك السكون، وهذا الانقلاب الفكري الذي جاء فاتحة لعصر جديد، تفصل بين ما هو «حديث» وما هو «معاصر» هو الذي كان «النظام» العظيم قد سبق إليه، لكننا نترك هذه المبادئ الأساسية من ميراثنا الفكري، لنشغل أنفسنا بما من شأنه أن يميت الحي، وأن يجمد المتحرك، والفرق بعيد يا صديقي بين الموقفين: موقف يعترض السكون، وموقف يعترض الحركة، لأن الحركة تغير، وانظر - مرة أخرى - إلى مدى الانقلاب الذي يحدث في حياتنا الفكرية الحاضرة، إذا نحن استبدلنا بمبدأ يدعونا إلى جمود الموت، مبدأ يحثنا على حركة الحياة! فبدل أن نجعل مثلنا الأعلى صورة الحياة عند الأسلاف وكأن الزمن لم يكن، وكأن كل شيء ينبغي له أن يسكن حيث كان، يصبح مثلنا الأعلى أن نجد كل شيء في حياتنا الحاضرة قد تغير عن الصورة التي كان عليها بالأمس القريب، ودع عنك صورة الأمس البعيد، وأرجوك - يا أخي - أن تلحظ جانبا هاما ، وهو ثبات «الإطار» وتغير «المحتوى» وذلك لأنك قد تسأل: إذا كان كل شيء يتغير في يومه عنه في أمسه، فما الذي يربط الأبناء بالآباء والأجداد؟ وهنا تجيء فكرة الإطار الثابت والمضمون المتغير، ولكي أقرب الفكرة إلى ذهنك، خذ أية صيغة رياضية مثل «5 + 2 = 7» فهذه صورة ثابتة، لماذا؟ لأنها صورة مفرغة لا تحتوي على شيء يملؤها وهي على استعداد لأن تتلقى أي امتلاء يناسبها، فقد يكون ذلك الامتلاء تفاحات، أو كتبا، أو أحجارا، أو عصافير، وهكذا تكون الحال فيما هو ثابت على العصور بين أجداد وأحفاد، فالأجداد يتركون لأحفادهم «مبادئ» للعيش، ملئوها هم بضرب من الحوادث ... وللأحفاد أن يملئوها بضرب آخر من الأحداث، لكن ليكن مفهوما أن تلك «المبادئ» لا يصدق عليها اسمها هذا، إلا إذا كانت بالغة التجريد، كالتجريد الذي نراه في الحقائق الرياضية.
ولقد ظننت يا صاحبي أن رحلة خواطري تلك قد بلغت نهايتها، لكنها لم تكن قد فرغت من ذكرياتي عن «النظام» العظيم، القديم المعاصر معا، فما لبثت في رحلتي تلك طويلا حتى وجدت قطاري قد انتقل بي في فكر «النظام» إلى فكرة أخرى، لو قلت عنها إنها من صميم المناخ الفكري في القرن العشرين، لما أخطأت، وهي فكرة خاصة بتعريف «الإنسان» فما هي حقيقة «الإنسان»؟ يجيب النظام بأنه ليس إنسانا ببدنه، بل هو إنسان بنفسه وبعقله وبسائر تلك الجوانب التي تجعله كائنا مفكرا مريدا، إلى هنا ولا جديد يميزه عن سابقيه، لكن الذي يميزه حقا، ويجعله معاصرا لنا حقا، هو الطريقة التي يفهم بها أسماء «النفس» و«العقل» و«الإرادة» وغيرها، والتي هي أسماء من هذا القبيل، فالاتجاه السائد قبله، وهو نفسه الاتجاه السائد دائما بين سواد الناس، هو أن كلمة «نفس» أو «عقل» أو ما إليها تشير إلى «كائن» معين في جوف الإنسان كما هي الحال في «الذراع» و«الأنف» و«القدم» ... إلخ، لكن حقيقة الأمر هي أن كل اسم من تلك الأسماء يشير إلى «وظيفة» يؤديها الإنسان بغير عضو معين، وحتى لو تحدد لها عضو أو مجموعة أعضاء ، فالإشارة إنما هي «للوظيفة» أشبه شيء بالقيثارة ونغماتها، وهذا ما يقوله «النظام» ... وإن هذا القول لهو فرع من رؤية فلسفية عامة، هي بين الرؤى الأساسية التي تميز عصرنا هذا الذي نعيش فيه، وأرجوك يا أخي أن تتأمل هذا المعنى جيدا وعلى مهل، وألا تأخذه من سطحه متعجلا، فالرؤية العامة، وهي التي ذكرها «النظام» في وضوح صريح هي أن حقيقة أي شيء إنما هي مجموع «ظواهره» ولا شيء يكمن وراء تلك الظواهر، ومرة أخرى أرجوك يا صديقي أن تتدبر هذا القول على مهل، متذكرا أن قائله القديم هو مفكر عربي مسلم، في القرن الثالث الهجري وهو أن حقيقة أي شيء إنما هي مجموع ما «يظهر» لك منه، وهل يكون ذلك الظهور إلا لعين ترى، أو لأذن تسمع، أو لما شئت من حاسة تحس؟ وحتى لا يفوتك من الأمر جانب هام أذكرك بما أسلفته لك، من أن أي قول لا يكون له معنى إلا إذا كان مما يمكن أن يتحول إلى فعل، والقول الذي لا يتوافر فيه هذا الشرط، يكون قولا بغير معنى ... هذا ما أسلفته لك مما قاله «النظام» ومما يقوله فلاسفة العلم في عصرنا، وها أنا ذا أضيف إليه الإضافة الجديدة التي ذكرتها لتوي نقلا عن «النظام» وهي أن حقيقة أي شيء إنما هي مجموع «ظواهره» أعني ما تحسه منه حواسنا، إذن تكون النتيجة التي ننتهي إليها هي أن أي قول لا يكون له معناه، إلا إذا كان ذلك المعنى مجسدا في «ظواهر» تحسها الحواس ... وهو ما جف ريقي من تكراره مريدا به إلجام سيول الكلام التي تتدفق من الأفواه ومن الأقلام غير مشيرة إلى «ظواهر» فتصيح في وجهي صرخات غاضبة، تقول: بخ، بخ، يا أيها المارق!
ولم يشأ قطار ذكرياتي عن «النظام» العظيم، أن يقف بي هنا، بل أراد مني شيئا من الصبر مسافة أخرى يقف بعدها، لا لأن ثراء «النظام» يكون قد نفد، فهو غزير غزير، وكانت الفكرة الأخرى التي لم ترد تلك الرحلة أن تنتهي إلا بها ، هي أعجبها في سبق النظام للفكر «الحديث» وهذه المرة لا أقول «المعاصر»، أقول إن تلك الفكرة الأخرى هي قول «النظام» إننا لو حللنا «آدم» عليه السلام، لوجدنا فيه كل أفراد البشر الذين هم بنوه وبناته! وهو قول قاله بنصه بعد ذلك «ليبنتز» في القرن السابع عشر الميلادي، وربما أخذت هذا القول من ظاهر حروفه، يا صديقي، فسألتني: وماذا في هذا؟ وأي عجب في أن تتوارد الفكرة عند «النظام» و«ليبنتز» (وبينهما ثمانية قرون) بل أي عجب في أن تتوارد الفكرة عند ألف مفكر؟ أليس أفراد البشر هم نسل آدم عليه السلام؟ وأليس النسل مستمدا من الناسل؟ ... لكنك تدرك غزارة المعنى، حين تنتقل من الحديث عن آدم وبنيه، من حيث هم أبدان، إلى ما يوازي هذه الحقيقة في دنيا «الأفكار» وعندئذ تجدك أمام مذهب يدعو إلى التأمل، وهي نقلة انتقلها «ليبنتز» ولم ينتقلها «النظام» ولا ندري إن كانت في رأسه ولم يقلها، أم كانت غائبة عنه، وأعني بها أن تكون هنالك فكرة «أم» وأن تكون كل أفكار البشر بعد ذلك نسلا تولد عن تلك الفكرة الأم، فإذا ما انتقلنا من هذا التعميم إلى تخصيص، وأخذنا على سبيل المثال أية فكرة معينة نختارها، كأن نقول - مثلا - إن المثلث زواياه تساوي زاويتين قائمتين، وجدنا أن كل ما فعلناه هو أن حللنا الموضوع الذي نتحدث عنه وهو «المثلث»، وأن تعريفه يحتوي على هذه الحقيقة التي نذكرها عنه، وأننا لم نضف شيئا جديدا بعبارة أخرى، يكون الموضوع بمثابة «الأم» التي أنسلت ما قيل عنها، ولا جديد.
ولم يرد سيل خواطري في رحلتي تلك، أن يترك هذه النتيجة دون أن يستخرج مغزاها، ومغزاها هام جدا، وخطير جدا، بالنسبة إلى حياتنا نحن الفكرية اليوم، وهو مغزى لو أوضحناه نكون قد وضعنا أصابعنا على سر خفي من أسرار تخلفنا الفكري، وذلك أن العالم كله، عربا وغير عرب، كان على ظن بأن الفكر الصحيح لا يكون كذلك ... إلا إذا جاء «توليدا» لنتائج من أصولها، أي أنه كان محتوما على المفكر أن يصب فاعليته العقلية على فكرة سابقة وجاهزة ليستولدها نتائجها، وكان الله يحب المحسنين ... وهذا هو المقابل الفكري لقولنا إننا إذا حللنا آدم «عليه السلام» وجدنا فيه كل بنيه وبناته إلى يوم الدين، ومثل هذا الظن قد أدى بتاريخ الفكر البشري منذ بدايته المعروفة إلى أوائل عصرنا (فيما عدا استثناءات بطبيعة الحال) إلى أن يتخذ الفكر العلمي كله صورة الفكر الرياضي، بمعنى أن يضع المفكر بين يديه بادئ ذي بدء، مجموعة من حقائق مسلم بصوابها، ثم يأخذ بعد ذلك في «توليد» نتائجها من أجوافها وأصلابها.
وجاء عصرنا الراهن، والتفت لأول مرة إلى حقيقة صارخة، وهي أن الأفكار ليست كلها من طراز واحد، بل هي نوعان: نوع منها «يتولد» عن أفكار سابقة، ونوع آخر يستخلص من «الواقع» لا من أفكار أخرى، وعرف الغرب الجديد هذه الحقيقة، فلم يعودوا يخلطون بين النوعين، فحقائق يستخرجونها من أقوال السابقين، وحقائق أخرى يستخرجونها من تجارب يجرونها على كائنات الطبيعة نفسها، لكننا نحن، في مصر، أو في الوطن العربي، قد وقفنا عند الظن الأول، وهو أن كل الصيد في جوف الفرا، أي أن كل أفكار الإنسان، وإلى يوم القيامة، مستولدة من أفكار السابقين.
سألت صاحبي: أكانت تلك الوقفة هي نهاية رحلتك الفكرية يومئذ؟
فأجابني قائلا: كلا فقد استدار بي القطار في اتجاه آخر، لم يكن مقطوع الصلة بما كان سائرا فيه، فقد وجدتني أرتد بالذاكرة إلى وراء، متمنيا أن أصل في طريق حياتي إلى وراء الوراء، تمنيت أن أعرف ذلك الرضيع الذي كنته أول ما كنت: ماذا كان يرى وماذا كان يسمع؟ إنني الآن حصيلة ما قد كان ... فما هو ذلك الذي كان؟ لكنه مطلب فوق المستطاع وما لبثت أن وجدت سيل خواطري يتركز عند الفتى في سن الخامسة عشرة من عمره، قد بلغ من حياته الدينية حد التطرف، وأعني أنه مزج الحق بالخرافة لفترة من الزمن، إنه في تلك السن كان حريصا كل الحرص على أن يصلي المغرب والعشاء في المسجد ليحضر دروس شيخ وقور رزين كان اسمه «أبو قرين» (القاف مضمومة والراء مفتوحة) وكانت دروسه فيما بين المغرب والعشاء كان نحيل البدن، أسمر اللون، داكن السمرة مغضن، التجاعيد في وجهه، وكان أنيق الثياب نظيفها، وبالطبع لم أكن أفرق يومئذ فيما يقوله بين حق وخرافة: فكنت أصدقه في كل ما يقوله، لا فرق عندي في درجة الصدق بين ما يذكره عن الفروض والسنن والنوافل في الصلاة وبين ما يرويه على أنه حديث شريف يقول: «الباذنجان لما أكل له.» أي أنك إذا اتجهت إلى الله بدعاء وأنت تأكل الباذنجان استجاب الله لدعائك. لا لم أكن أفرق في درجة الصدق بين قول وقول، مما كان يرويه لنا الشيخ أبو قرين في دروسه، وكانت محصلة هذا كله عندي أن خرج ذلك الفتى ذو الأفق الضيق في فهمه لحقيقه دينه، ولست أنساه وهو في غمرة تلك الموجة، حين ناقش أحد أصدقائه في حدة بلغت حد التشنج بأنه لا يجوز لمسلم قراءة شيء آخر وكتاب الله موجود ... ومن عجب المصادفات حينئذ، أن ذهب يؤدي صلاة الجمعة في المسجد، فإذا بشيخ يقف عند باب المسجد بعد الصلاة يخطب بصوت قوي يهز الأسماع قائلا: هل أدلكم على كتاب تقرءونه فيغنيكم عن قراءة أي شيء ما عداه؟ ماذا تقرءون يا سادة حين تقرءون صحيفة أو مجلة أو كتابا؟ إنكم تقرءون عن التوافه الزوائل، فهل أدلكم على كتاب هو وحده «الكتاب» تقرءونه فلا تقرءون سواه؟ ... وقف الفتى يسمع ويتحرق شوقا ليسمع عن الشيخ ما يهتدي به إلى كتاب واحد يغنيه عن سائر الكتب والمجلات والصحف، وأعجب العجب أنه، وهو الفتى الذي كان منذ حين يعترك مع صديق له، بأنه لا يجوز لمسلم أن يقرأ شيئا وكتاب الله موجود، لم يدرك أن الشيخ الخطيب كان يستهدف تلك الغاية نفسها، ووقف الفتى يرتقب في شوق أن يسمع عن الشيخ ما يهديه وإذا الشيخ يفصح آخر الأمر عما يعنيه، ففرح الفتى فرحة غامرة إذ رأى أنه كان - إذن - على حق في نقاشه الحاد مع صديقه.
وشاء الله سبحانه وتعالى للفتى الطموح أن يجتاز بأمان تلك المنطقة من عمره، بما كانت تضطرب به من موج الانفعال الغشيم، لينتقل بعدها إلى مرحلة اشتدت فيه الدفعة نحو التحصيل العلمي والثقافي، يأتي به من كل اتجاه، فأخذت آفاق النظر تتسع أمامه وكان من أهم النتائج المباشرة لنظرته الجديدة، أن أشرقت عليه حقيقة بسيطة، ولكنها مع بساطتها كفيلة وحدها أن تنقل الإنسان من حال إلى حال، وتلك هي أن الشيء لا يعرف بذاته وهي قائمة وحدها مستقلة برأسها، وإنما يعرف بذاته وبغيره معا. إن المفتاح لا يعد مفتاحا إلا إذا فتح الباب المقفل، فإذا هو لم يفتحه لم يكن مفتاحا، وليست الذراع الشلاء ذراعا برغم احتفاظها بشكل الذراع ولا يعرف عنها عجزها إلا بعد الاحتكام إلى شيء سواها، ولا تنكشف لنا طبيعة الحجر، أصلب هو أم رخو، إلا إذا صادمنا بينه وبين جسم آخر، وهكذا قل في كل شيء ... وهكذا قل في جملة من اللغة يقولها قائل، فإذا هي لم تحدث تغيرا ما عند سامعها لم تكن شيئا مذكورا، حتى وإن كانت سليمة البناء أمام قواعد النحو، فقد خلقت اللغة لتكون أداة يتغير بها الناس وليغير هؤلاء الناس العالم الذي حولهم، وأما الجملة التي تقال أو تكتب ولا يتغير بها شيء، كأن يعرف بها الإنسان ما لم يكن يعرفه، ثم لا تكون المعرفة معرفة إلا إذا كانت أداة تغيير، أقول إنها إذا لم تفعل شيئا من ذلك تحول النطق بها إلى موجات هوائية لا تحمل شيئا ...
Unknown page
والقرآن الكريم كتاب الله لمن أسلم وآمن، أنزل للناس «ليغيروا» برسالته ما ينبغي أن يتغير من حياة الإنسان، وكيف يجيء ذلك التغيير إذا لم تكن العلاقة وثيقة بين آياته الكريمة من جهة، وعالم النفس وعالم الأشياء من جهة أخرى، ثم كيف تتم العلاقة بين الطرفين إذا لم أكن على بعض العلم بكل من الطرفين، فأفهم آيات الله ما وسعني الفهم، ثم أعرف الأشياء من حولي ما وسعتني المعرفة كذلك، فإذا تطابق الطرفان كان خيرا وإذا لم يتطابقا عدت إلى عالم الأشياء أغير فيه ما أغيره حتى يتم التطابق، يقول الله - عز من قائل:
قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ...
فما هي «كلمات ربي» التي إذا أردنا ذكرها كتابة، وكان البحر مدادا، وكان شجر الأرض أقلاما، لنفد هذا قبل أن نفرغ من تلك الكلمات ... إنها هي حقائق هذا الكون العظيم وكائناته، ولكي تعرف كم هي كلمات ربي في آياته الكونية، خذ أبسط كائن تقع عليه يداك، خذ ورقة واحدة من أوراق الشجر، وحاول أن تكتب وصفا دقيقا لكل ما فيها، لعروقها المخطوطة عليها، لعناصرها الداخلة في تكوينها، لطريقتها في الاغتذاء والارتواء والتنفس، إلى آخر ما هو متعلق بها من حياة وموت، وانظر كم تكتب لتستكمل ذلك كله عن ورقة واحدة من أوراق الشجر، فماذا أنت صانع بملايين الملايين من سائر الكائنات وملايين الملايين من السدم ومن النجوم ومن الكواكب؟ وما معنى ذلك؟ معناه أنك لن تكون على فهم بآيات الكتاب الكريم، إلا بمقدار ما أنت على علم به من حقائق الأشياء، فكلما ازددت علما بخلق الله ازددت بالله إيمانا، إذن، فلم يكن الفتى المراهق على حق فيما جادل به صديقه، حين زعم له أن قراءة القرآن الكريم تغني عن كل قراءة أخرى، كلا ولا كان الشيخ الخطيب عند باب المسجد على حق، حين نادى في الناس بأن كتاب الله وحده يغني عن كل مكتوب آخر، فالعلم بحقائق الأشياء التي تحيط بنا؛ العلم بالحجر، والشجر، والماء، والهواء، والضوء، والكهرباء، وكل ما خطر لك وما لم يخطر، أقول إن العلم بهذا كله هو بدوره وسيلة علم أوفى بمعاني آيات الكتاب الكريم ...
وسألت صاحبي لما أخذته لحظة صمت: أكانت هذه نهاية رحلتك؟
فأجاب بقوله: لا ... إنها لم تكن، فلقد استطرد بي قطار الخواطر، لأتبين بعد ذلك لماذا حدث لي أن اخترت لنفسي تحليل الأفكار طريقا في منهج التفكير، فربما جاء ذلك حين أدركت في وضوح أن «الفلسفة» في حقيقة أمرها، إنما هي منهج لتحليل الأفكار بغية توضيحها، إنها لا تحتكر لنفسها موضوعا معينا خاصا بها كما يفعل كل علم من مجموعة العلوم، إذ هي بمثابة عدسة مكبرة توضح لك من الدقائق الخافية ما أردت له وضوحا، ولا شرط لها بعد ذلك أن يكون الموضوع الموضح منتميا إلى هذا الميدان أو ذاك، ولعلك قد رأيت طائفة من أدوات التحليل العقلي التي أنتهجها، وذلك حين عرضت عليك سلسلة الخواطر التي وردت إلى ذهني منبثقة من تذكري للمفكر العربي الإسلامي إبان القرن الثالث الهجري، وفي مدينة البصرة، وهو «النظام» العظيم ... تلك - يا صديقي - كانت رحلتي التي ارتحلتها في دخيلة نفسي، ذات يوم من أيام الصيف، وكانت رحلاتي في الأحيان الماضية حركة في أرجاء المكان، وأما رحلتي هذه فكانت جولة في آناء الزمان بينما كنت جالسا على مقعدي هذا، في غرفة أقفلت نوافذها وسادها سكون، إلا من حفيف مروحة كهربائية تساعدني على حر الصيف، وهي رحلة كما رأيت؛ بدأت بمراهق يؤمن إيمان السذج، وانتقلت إلى شاب عرف قدر العلم ومنهاجه، ثم انتهت بشيخ ينعم بشيء من علم يضيئه إيمان ...
تحولات
لو أني سئلت: ما الذي تراه أبرز صفة تميز اتجاه الفكر في عصرنا؟ لأجبت في غير تردد قائلا: إنها إحلال «التغير» محل «الثبات» في فهمنا للأشياء، فبعد أن كان الظن بالشيء المعين - كل شيء وأي شيء - هو أنه ذو حقيقة ثابتة، يجب البحث عنها إذا أردنا معرفته للانتفاع به في حياتنا، وأن تلك الحقيقة الثابتة تطرأ عليها تحولات عارضة، لكنها لا تغير من حقيقته شيئا، أصبح الرأي هو أن تلك التحولات هي هي نفسها حقيقة ذلك الشيء، إلا أن الإنسان يربطها من عنده برباط يوحدها في كيان واحد، وذلك لقيامها معا - على تعددها وتفرقها - بوظيفة واحدة. خذ مثلا لذلك مدينة القاهرة وسنعود إلى أمثلة أخرى كثيرة؛ فمدينة القاهرة كيان له تاريخ ويحرص الخيال البشري على أن يبقى لذلك الكيان حقيقته دون أن يأخذ في حسبانه أن ينقص سكان القاهرة أو يزيدون، أن تقام بها المشيدات الجديدة أو لا تقام، فقد كانت هي القاهرة منذ نشأت، وستظل هي القاهرة ما شاء لها الله أن تبقى، لكن اقترب بعينيك نحو هذا الكائن الواحد، وانظر كم هو في الحق كالبحر يموج بالناس وبالأحداث وبالأشياء وبالحركة الحية، فأينما وجهت البصر وجدت مفردات وأفرادا، يطرأ عليها التغيير كل يوم، بل كل ساعة، وما هو أدنى من الساعة! فليس هنالك إلا عناصر تقترب وتبتعد وتتلاقى وتفترق، ولولا خيال الإنسان الذي يمسك بتلك الكثرة في وحدة واحدة، لما كانت إلا سيرورة دائمة، وكان الفكر قديما ينزع إلى أن يجعل وراء تلك الكثرة المتحولة محورا ثابتا يكون هو المعنى الحقيقي «للقاهرة»، ويريد الفكر في اتجاهه الراهن، أن يرى الشيء على كثرته البادية وتحولاته يوما بعد يوم، على أن هذه التفرقة لا تعني أن الفكر في الحالة الأولى ينكر على التفصيلات وجودها، أو أن الفكر في الحالة الثانية ينكر الإطار الوظيفي الواحد الذي يضم تلك التفصيلات فيما يشبه الوحدة الواحدة.
ويقيني هو أن القارئ قد يأخذه الضيق عند هذه التفرقة هامسا لنفسه: وماذا يعود إلينا من أمثال هذه اللجاجة العقلية التي لا تغير من الأمر شيئا: فالقاهرة هي القاهرة في كلتا الحالتين على حد سواء؟ وردا على مثل ذلك الهامس لنفسه بقول كهذا، أقول: كلا فقد أخطأ معك الحساب يا سيدي، والفرق بين الحالتين واسع، وأثره في النتائج العملية بعيد عميق، ولكي أوضح ذلك أسوق لك مثلا آخر؛ طفلا يربيه أولو أمره على أساس التصور الأول، أو يربونه على أساس التصور الثاني، وفي وسعنا أن نوسع المجال في هذا المثل، ليشمل عملية التربية والتعليم كلها في بلد معين مثل مصر؛ إذ يتولى جيل الكبار جيل الصغار - من الطفولة إلى الشباب - بالتربية والتعليم، فماذا يكون الفرق بين تربيتهم وتعليمهم على التصور الأول، ثم على التصور الثاني؟ ولعلك تذكر ما قد أسلفناه من أن التصور الأول يجعل للطفل أو للناشئ أو الشاب «حقيقة» محددة ومعينة، على أساسها تكون التربية ويكون التعليم، وأما ما تتعرض له تلك الحقيقة الثابتة من تغيرات وتحولات، فأمر يجب أن يغض عنه النظر، في حين أن حقيقة الطفل أو الناشئ أو الشاب بناء على التصور الثاني؛ إنما هي تلك التغيرات والتحولات نفسها، فإذا نحن غضضنا عنها النظر فقد غضضنا النظر عن الإنسان الحي الذي بين أيدينا بكل ما فيه؛ وإذا تمت عملية التعليم على أساس التصور الأول، أخرجت إنسانا «مصنوعا» كما يخرط الخراطون قطع الحديد أو الخشب، وأما إذا تمت عملية التعليم على التصور الثاني، كان علينا أن نقابل تحولات الفطرة البشرية في كل فرد حي لتقابل كل حالة بما هي في حاجة إليه؛ نعم إن ملايين التلاميذ والطلاب ينخرطون في قوالب المخرطة، فيقتلون في أنفسهم ما يقتلونه من أجل المخرطة التعليمية ومقتضياتها، لولا أننا نشاهد آنا بعد آن، صاحب موهبة في اتجاه معين، تكون موهبته أقوى من مخرطة التعليم، فتشق عليها عصا الطاعة وتخرج إلى حيث تتنفس وتنمو وتزدهر.
أرأيت يا سيدي كم هو بعيد ذلك الفرق بين أن تنظر إلى الإنسان بمنظار الرؤية الأولى - رؤية الثبات - وأن تنظر إليه بمنظار الرؤية الثانية - رؤية التحول -؟ فليس الناشئ الذي يرسله أبوه إليك لتتولاه تربية وتعليما، قطعة من الخشب تقاس أبعادها بالمسطرة طولا وعرضا وارتفاعا؛ وإنما هو قطعة من حياة فوارة متغيرة متحولة، لا تسكن على حالة واحدة لحظتين متتاليتين، إنه ينمو ويحس ويدرك ويعقل ويثور ويهدأ، وهو في هذه التحولات المتصلة لا يحيا حياته كلها على وتيرة واحدة. ولما كان يتعذر علينا أن نسايره في تحولاته تلك لحظة لحظة، اختصرنا على أنفسنا الطريق، فقسمنا حياته الدراسية ثلاث مراحل أساسية؛ مرحلة للتعليم الابتدائي، ومرحلة للتعليم الثانوي، ومرحلة للتعليم العالي في الجامعات والمعاهد وما إليها، فماذا نحن صانعون إزاء هذا التتابع؟ أيكون التعليم كله على نهج واحد، لا يختلف باختلاف مراحله، اللهم إلا في طول المادة المدروسة وقصرها، أو في غزارتها وضحالتها؟ أما أصحاب الرؤية الأولى فالجواب عندهم بالإيجاب حتى لو أنكروا ذلك، لأن أفعالهم القائمة تفضحهم، وإلا فما هو الفرق الأساسي بين طالب يدرس الجيولوجيا أو علم النبات أو الكيمياء أو التاريخ أو الجغرافيا في المدرسة الثانوية وبينه وهو طالب يدرس تلك المواد في الجامعة؟ أم نقول إنها هناك «دروس» وهنا «محاضرات»؟ أما أصحاب النظرة الثانية فهم يرون الطالب وقد تحول إنسانا آخر مرحلة بعد مرحلة، ولذلك فهم يرون أن يتبدل النهج في كل مرحلة بما يناسبها، فإذا كان الطفل في المرحلة الابتدائية يناسبه أن تقدم له المعلومات المختلفة بغير قوانينها، فالتلميذ في المدرسة الثانوية يكون مهيأ لأن يتلقى المادة العلمية مصوغة في قوانينها، أو مبادئها، أو أحكامها العامة، دون أن يطالب بشيء أكثر من ذلك، ثم يأتي طالب الجامعة إنسانا آخر ذا طبيعة أخرى، وهنا تجيء صورة ثالثة، لا هي مجرد عرض لطائفة من المعلومات، ولا هي مجرد ذكر لقوانين العلوم في ميادينها المختلفة بل هي أن يكون طالب الجامعة «باحثا» صغيرا يرشد إلى الطريق التي يضيف فيها إلى العلم شيئا جديدا. وربما دهش القارئ أن يراني بهذا الطموح كله لطالب الجامعة، لكن المدقق في تحولات الطبيعة البشرية يلحظ فيها هذا التتابع في المراحل، فانظر - مثلا - كيف يتدرج الإنسان في استخدامه للغة - بصورة طبيعية خالصة - ففي المرحلة الأولى يلتقط مجموعة من أجزاء لغوية يستخدمها مفردة ومركبة مع من يتبادل معهم الكلام والتعامل، ثم ينتقل بعد ذلك حين يدرس اللغة، إلى معرفة «قواعد» التركيب اللغوي، ويظل يعلو في تلك القواعد ما ارتفعت به درجات التعلم، وأما مرحلته الثالثة فهي أن «يبدع» مركبا لغويا معينا: شعرا إذا كان شاعرا، أو أدبا نثريا في أية صورة من صوره إذا كان موهوبا لها؛ وهكذا ترى مراحل التحول الأساسية: جمع للمعلومات بغير قواعدها وقوانينها، ثم إلمام بتلك القواعد أو القوانين، وأخيرا تجيء مرحلة المبدع المبتكر في الميدان نفسه الذي كان قد جمع عنه المعلومات أولا، وقواعدها وقوانينها ثانيا.
كل شيء في هذا الوجود - إنسانا وغير إنسان - وهو في حقيقته سيرورة متحولة أبدا من حال إلى حال، فما يكاد الكائن المعين يتخذ حالة ما، حتى يتغير متنقلا إلى حالة تليها، وهكذا تكون حقيقة الكائن في صيرورته للحاضر إلى جديد ينتقل إليه، إنها سيرورة وصيرورة في آن واحد، فهو سيرة متحركة، يصير بها إلى وضع جديد، انظر إلى شجرة في تاريخها، منذ تضع لها بذرتها في الأرض، تجدها تحولات مستمرة، إنها في يومها غيرها في أمسها، وسوف تكون في غدها غيرها في يومها، إنها تنمو دون أن تلحظ عيناك نموها يوما بعد يوم، إنها تسقط أوراقا وتضع أوراقا، إنها تتنفس الهواء شهيقا وزفيرا كما نفعل، وإن يكن زفيرنا نحن هو شهيقها، إن حياتها قصة طويلة عريضة، لا أعرف كم مجلدا يمتلئ بتفصيلاتها لو أننا رصدنا تغيراتها جميعا، بكل خلاياها وأليافها وأوراقها وأزهارها وثمارها، تعريا في الشتاء واكتساء في الربيع، تناميا في عهد القوة، ثم تفانيا في مرحلة الشيخوخة المؤدية بها إلى موت.
Unknown page
إن الذي يخدعنا بثبات الأشياء برغم تحولاتها المتدفقة عوامل كثيرة؛ منها بطء التحول بحيث لا تدركه عين إلا بعد أن يتراكم، ومنها اللغة التي اصطنعناها نحن أنفسنا لأنفسنا، لكننا سرعان ما تغيب عنا حقيقتها؛ فنحن نألف في التعبير باللغة عن الأشياء، أن نذكر اسما معينا يشير إلى شيء ما، كالاسم: «جمال» - مثلا - ثم نسند هذا الاسم إلى ما أردنا أن نسنده إليه، فنقول: إن في هذه الزهرة: «جمالا»، وفي شروق الشمس «جمالا»، وكذلك في غروبها، وفي البحر جمال، وفي الصحراء جمال، في الجبال جمال، وفي حقول الزرع جمال، وهكذا ثم ما هو إلا أن نتصور بأن «الجمال» يمكن أن يكون شيئا قائما بذاته، ثابتا في معناه حتى وإن طرأت عليه تغيرات مع تغير الأحداث، ومن هنا ينشأ في تصورنا جانبان: «الجمال» في ثبات طبيعته من ناحية، والتغيرات التي تطرأ مع تغير الأشياء المنسوبة إليه من ناحية أخرى. ولما كانت طبيعة اللغة تفرض علينا هذا الانقسام، وذلك لأن اللغة في ذاتها تقسم الموضوع الواحد الموحد أقساما بحكم انقسامها إلى كلمات، فالوردة الجميلة كائن موحد، لكن اللغة بحكم الضرورة تجعل للوردة كلمة، ولجمالها كلمة أخرى، فسرعان ما نظن نحن أن هنالك شيئين: وردة، وجمالا، وكما نقول عن شجرة إنها نامية، ونحسب أن الشجرة شيء وأن نموها شيء آخر.
الأمر في كل شيء شبيه بالأسرة وأفرادها على امتداد فترة معينة من الزمن؛ فنحن إذ نشير إلى أسرة بذاتها قد نتوهم أنه ما دام، «الاسم» واحدا، فلا بد أن يكون مسماه واحدا كذلك، لا تعدد فيه ولا تنوع، في حين أن ما نسميه «أسرة» هو مجموعة قد يبلغ أفرادها مئات فيهم كبار وصغار، وفيهم رجال ونساء وفيهم أجداد وآباء وأحفاد، وفيهم من سافر ومن فقد، وفيهم من مات ومن هو وليد رضيع، وهكذا، وما نقوله عن كلمة «أسرة» وما تشير إليه، ينبغي أن نقول مثله على كثير جدا من أسماء الأشياء وما تعنيه؛ إذ الرغبة في التبسيط وحدها هي التي تجعلنا نختصر الواقع المعقد بكثرة عناصره وتشابكها وتحولاتها، حتى لنظن أن ما هنالك في دنيا ذلك الواقع إنما هو وحدات من كائنات كل وحدة منها كيان موحد، قائم برأسه مستقل بذاته، حتى وإن ربطته الروابط بغيره من سائر الوحدات، فنقول هذه شجرة، وذلك نهر، وهنا سوق، وهناك مدرسة إلخ.
ولعلك تستطيع الآن أن تكون لنفسك فكرة تقريبية عما يتعرض له الإنسان المتعجل في أحكامه، حين يطلق حكما ما عن شيء يظنه «مفردا» و«ثابتا»، وإذا هو في حقيقته حشد مزدحم بأفراده وعناصره وأجزائه فما أيسر على ذلك المتعجل أن يحكم على «شعب» معين بأنه على خلق أو على غير خلق، على علم أو على غير علم، كأن ذلك «الشعب» فرد واحد من الناس، وليس عدة ملايين من أفراد، قد يكون فيهم من هو على خلق ومن هو على غير خلق، من هو على علم ومن هو على غير علم ... لا بل إن الحكم المنصف المتأني على الفرد الواحد ليس بالأمر اليسير، وهل يكون يسيرا أن تحكم على كاتب - مثلا - بأنه يجانب الحق في «كل» ما يكتبه، حين يكون ذلك الكاتب قد أخرج للناس خمسين كتابا؟ أليس من الجائز أن يكون قد جاوز الحق في إحدى فقرات صفحة من صفحات كتاب واحد، ولم يجاوزه في مئات الألوف من فقرات وردت في سائر الكتب؟ لكننا كثيرا ما نتعجل الأحكام، متأثرين بالوهم الذي يحول الكثرة في أذهاننا إلى واحد، ويحول الكائن المتغير في أذهاننا إلى كائن ثابت، ولسنا نريد - بالطبع - أن نقول إن كل من أراد أن يتحدث عن شيء في حياته اليومية الجارية، لا بد له من مثل هذه الوقفة التي تحلل الأشياء إلى عناصرها المتغيرة؛ لا فالحياة العملية الجارية لا يراد لها كل هذه الأناة وهذه الدقة، وإنما الذي نريده هو أن من يتصدى لفهم الوقائع فهما دقيقا، والحكم عليها حكما صحيحا، مطالب بمثل هذه الدقة والأناة.
وإن الأمر ليزداد صعوبة، حين ننتقل في أحاديثنا من موضوعات صغيرة محدودة في مكانها وزمانها، لنتناول موضوعات اتسعت آفاقها وتباعدت أطرافها وتطاولت أزمانها، كأن نتحدث عن «الحضارة» وعن «الثقافة» وعن «التراث» وعن «الفن» و«الأدب» و«العلم» وما هو من هذا القبيل الواسع. إنك قد تصادف من الناس من يجمع حضارة الغرب في هذا العصر في حكم واحد، كأن يصفها - مثلا - بأنها «حضارة مادية» وكأن الذي بين يديه قطعة صغيرة من ورق يقول عنها إنها معوجة الأطراف وملوثة ببقع من مداد، وكأن الذي بين يديه ليس «حضارة» شملت «عصرا» ففيها علوم، وفنون، ونظم، وألوف الألوف من ضروب النشاط في كل ميدان، ومن أبنائها من هو على طريق الخير ومن هو على طريق الشر، فيهم الأطباء الذين يخففون آلام المرضى وفيهم المعلمون، وفيهم من يعين العاجز والمحروم، ولكن منهم كذلك السفاحون، واللصوص، وقساة القلوب.
على أن الذي يعنيني هنا - في المقام الأول - ليس هو كثرة العناصر التي نخطئ فنجملها في حكم واحد سريع وكأنها عنصر واحد بسيط، بل الذي يعنيني هو صفة «التحول» من حيث هو جزء لا يتجزأ من طبائع الأشياء فليس في هذا الكون الفسيح شيء واحد يثبت على حالة واحدة ولو للحظة سريعة من لحظات الزمن، فكل شيء في تحول دائم لا يسكن ولا يجمد كل نجم من نجوم السماء كل شمس من شموسها، كل كوكب، كل ذرة صغيرة مما لا تدركه الجماهير، إنما هو يتحول أبدا، يتغير أبدا، فإذا قصرنا الحديث على أرضنا وعالمها، قلنا كذلك إنه ما من شيء، من الذرة إلى الجبل، من الخلية الأولية إلى الفرد من أفراد الإنسان إلا وهو أقرب إلى تيار دافق بموج التحول والتغير، لحظة سريعة في إثر لحظة سريعة فإذا سألنا: وما الذي يجعلنا - والحال هي كما وصفنا - نميز الأشياء والكائنات بعضها من بعض؟ فنقول هذا هو زيد، وذلك هو عمرو، وهنا ترى نهر النيل، وهناك ترى جبل المقطم، وتلك هي الشمس؛ وبعد غيابها مع الغروب يظهر القمر، فإذا لم يكن في شخص أو في شيء ثبات يقيمه على حالة الدوام النسبي فكيف يتاح لنا تمييز هذا من ذاك في عالم الكائنات؟ والجواب هو في الإطار الذي في حدوده تحدث التحولات، فخلية النحل واحدة بإطارها لا بأفراد النحل فيها، ومصر وطن واحد بإطارها التاريخي وليس بأفراد أبنائها، لأن هؤلاء الأبناء يموتون ويولدون، وتبقى مصر في إطار تاريخها وهكذا قل في كل شيء.
وأعجب ما في صفة «التحول»، التي هي صفة تحدد حقيقة العالم وما فيه، أن ذلك التحول لا يستند إلى متحول، وأنه يصعب على الخيال البشري أن يتصور تغيرا بلا متغير، وتحولا بلا متحول؛ لكن ذلك هو كذلك، وكثيرا ما يشبهون الأمر بالنهر وجريانه، إنها اللغة - أقولها مرة أخرى - هي التي توهمنا بأن تركيب الأشياء يماثل تركيبها، فإذا قلنا - مثلا - الماء يجري في نهر النيل حسبنا أن الماء الذي يجري شيء غير نهر النيل الذي فيه يجري ذلك الماء، لكن الواقع لا يعرف إلا ماء يجري، ولنا نحن أن نسميه بالنيل أو بأي اسم شئنا، وذلك الماء الجاري على أرض الواقع، والذي ليس في واقع الأمر سواه، إنما هو في معبر دروب، حتى ليستحيل على موضع واحد منه أن يبقى على ما هو عليه لحظتين متعاقبتين، فإذا وضعت يدك في النهر ، ثم سحبتها ، ثم وضعتها مرة أخرى، فأنت هذه المرة تضعها في ماء آخر غير الماء الذي وضعتها فيه أول مرة؛ ولعل أول من تنبه إلى هذه الحقيقة في طبائع الأشياء، هو الفيلسوف اليوناني القديم «هرقليطس» - وكان هو الذي عبر عن هذه الحقيقة بعبارته التي اشتهرت من بعده، وهي قوله: إنك لا تضع قدمك في النهر مرتين. لكن «هيرقليطس» حين لمعت في رأسه تلك الصورة، كانت كلمعة البرق التي تبرق بها سحابة غير ممطرة، سرعان ما تدفعها الريح فتنقشع، أما فكرة «التحول» حين يقولها قائلوها في عصرنا هذا، فإنما يقولونها تعبيرا عن رؤية كاملة شاملة للعصر كله بجميع ما فيه، فهي قراءة جديدة للكون وكائناته، نبعت من فكر جديد ومن علم جديد، وليس ذلك - بالطبع - لأن الكون وكائناته قد تغيرت حقيقته التي كان عليها، بل لأن الإنسان هو الذي تغيرت نظرته بما أصابه من تقدم في علومه، أقول: إنه ليصعب جدا على الخيال البشري أن يتصور كيف يكون تغيره بلا متغير، أو «تحول» بلا متحول؟ وإن كاتب هذه السطور ليكاشف القارئ، بأنه كان برغم علمه بهرقليطس وفكرته القديمة عن طبيعة «التغير» إلا أنه لم يكن قد تنبه أول الأمر إلى كل ما يترتب على تلك الفكرة من نتائج، ولذلك لم تكن قد نشأت له المشكلة التي تريدنا أن نتصور «تغيرا» دون أن نفترض وجود ما يتغير، حتى كان ذات يوم في أواسط الأربعينيات فوقع على كتاب عن «التغير» لمؤلفه «ولدون كار»، وكان أهم ما ألح عليه المؤلف في كتابه ذاك شرحه لفكرة التغير الذي لا يستتبع أن يكون هنالك شيء معين يطرأ عليه ذلك التغير، فالأمر هو أمر تغير مطلق، وذلك هو الكون وحقيقته؛ وكأن الذي أوقف كاتب هذه السطور، عندما فوجئ بتلك الإضافة الفكرية التي لا مفر منها إذا قبلنا العلم في صورته الجديدة، أقول: إن الذي أوقف كاتب هذه السطور عندئذ، هو أن يجد لنفسه مخرجا يصون للروح بقاءها، وثباتها، وخلودها، ولم يلبث أن وجد لنفسه ذلك المخرج، وهو أن كل ما يقال عن التحولات المتغيرة على النحو الذي قدمناه، إنما هو خاص بذلك الجانب من الوجود الذي يخضع للنظر العلمي ومناهجه، ولكن في الوجود ما ليس من هذا القبيل، وفي هذا الصدد تذكر الروح جوهرا قائما بذاته.
تحولات، تحولات، تحولات، هي كل ما ينتهي إليه تحليلنا، لما نعرفه من أشياء قريبة منا أو بعيدة عنا، وفي هذا الخضم العظيم المتلاطم بأمواج التعبير، تتميز الأشياء بثباتها الشكلي على أساس الأطر التي في حدودها تنشأ علاقات بين الأطراف، وكل لحظة في ذلك التيار الدافق إنما يميزها ويحددها موقعها في سلسلة المتتابعات ... ولكن بأي معنى نفهم معنى «التقدم» في بحر التحولات هذا، التقدم هو الانتقال من البساطة إلى التركيب، ومثل هذا الانتقال يكون في التركيب العضوي البيولوجي بالنسبة إلى عالم الحيوان ثم يضاف إليه التركيب الثقافي بالنسبة إلى الإنسان، فما هو أشد تركيبا في ثقافته أكثر تقدما مما هو أبسط.
والعجيبة التي تلفت النظر في هذا الصدد هي أن الإنسان إذا ما ترك نفسه على سجيتها وجد نفسه أكثر انجذابا إلى بساطة الماضي منه إلى تركيب الحاضر وتعقيده، كأنما الذي يعنيه ليس هو «التقدم» بل هو راحة البال، إلا إذا أخذته يقظة في عقله وضميره، وتذكر أنه «إنسان» وقد خلق إنسانا ليتحمل تبعة الإنسان كما أرادها له خالقه سبحانه وتعالى: وتبعة الإنسان ليست في أن يحيا حياة سائر الحيوان، بل هي أن «يعمر» الأرض وهو لا يعمرها إلا بما يخلص إليه من علم، يأتيه إذا ما تفكر في خلق السماوات والأرض كما أمر أن يفعل، إلا أنها سجية الإنسان أن يسترخي خالي البال إذا استطاع، وهنا ترى بساطة الماضي تشد إليها خياله شدا، بل إنه ليوهم نفسه أن تلك البساطة الأولى هي التي عرفت الفضيلة، والخير، والجمال، وكل شيء مما عساه يصنع من زمانه عصرا ذهبيا.
وفي هذا السياق، نذكر بين من نذكرهم من دعاة إلى العودة بالإنسان إلى العصر الذهبي الذي هو عصر البساطة والنقاء في خيالهم، أقول إني أذكر في هذا السياق نموذجا له مكانته العالية، هو الشاعر الروماني القديم «أولد» الذي خلدته قصيدته التي جعل عنوانها «تحولات»؛ بمعنى درجات الهبوط في تاريخ الإنسان من عصره الذهبي الأول، إلى العصر الفضي الذي تلاه، فإلى العصر النحاسي فعصر الحديد؛ وأخذ الشاعر يتخيل كيف هبطت حياة الإنسان مع هذا التدرج درجة درجة ... أحلام شاعر يحلم بالماضي.
ولكن ماذا أردت أن أقوله بهذا كله؟ أردت أن أقول إن الذين يحلمون بأن تعاد صور الماضي في حياة الإنسان الحاضر إنما هم يكلفون الأشياء ضد طبائعها، كمن يتطلب في الماء جذوة نار (كما قال الشاعر) لأن «التحول» هو طبيعة الأشياء وصميمها، على أن حياة الماضي - كأي شيء آخر - لم تمت ولن تموت، إلا أنها خيوط تدخل مع غيرها على كر الأعوام، في نسيج واحد، فلا الماضي يستطيع البقاء بذاته محصنا من التغير، ولا الحاضر يستطيع البقاء بذاته مديرا ظهره إلى الماضي، فهذه كلها صور يخلقها خيال الشاعر، ليشيد بجانب ويسخط على جانب. وأما واقع العلم والتاريخ، فهو أن حياتنا لن تبلغ نضجها في ظروف حاضرنا، إلا إذا جاءت حلقة في سلسلة التحولات، بحيث يكون قوامها نسجا تتداخل فيه خيوط ما مضى وخيوط ما حضر.
Unknown page
تشابه الأجزاء ووحدة الهدف
هذا حديث عن حياة الثقافة العربية في مرحلتها الراهنة، لكنه حديث سألجأ فيه إلى الطريقة التي نسمع عنها في الحروب، وأعني طريقة الالتفاف حول العدو لمحاصرته، حتى لا يبقى أمامه منفذ إلا التسليم. إني أرانا في حياتنا الثقافية نسير سير المتخبط في ظلام دامس، فرأسه يخبط في الجدار مرة، وقدمه تتعثر في قطع الأثاث مرة أخرى، وتكون الصدفة النادرة عندئذ، هي أن يجد نفسه أمام الباب المفتوح، فيعرف طريقه إلى النور. لكن هذا الرأي قد لا يقع من آخرين موقع الرضا، أو ربما اتفق معي بعض هؤلاء في مجمل الرأي، لكنهم يرفضون أن يكون طريق النجاة هو ما أراه، وربما كانت أفضل وسيلة للإقناع هي وسيلة الالتفاف الذي ينتهي إلى حصار يبرز عناصر المشكلة وحلها.
الأصل في الحياة الثقافية السوية، في شعب معين يعيش في عصر معين، هو أن تتعدد القنوات، وتتنوع، لكنها برغم تعددها وتنوعها «تتشابه» لكي تتلاقى آخر الأمور عند هدف واحد، يكون هو الهدف الذي تتجه إليه قلوب الناس، سواء استطاع بعضهم، أو لم يستطع بعضهم الآخر، أن يفصحوا عما أرادوه. والقنوات المتعددة المتنوعة التي أشرنا إليها، هي العلم، والفن، والأدب، وكل ما يمكن أن يكون هناك من وسائل التعبير، فبأي معنى نريد لتلك القنوات «المختلفة» أن تجيء «متشابهة» إذا أردنا أن نظفر بحياة ثقافية سوية ومعافاة؟ وهنا نبدأ بحركة الالتفاف الأولى، بالوقوف عند «التشابه» ومعناه.
ولو كان التشابه المقصود تشابها في الملامح الظاهرة، لما كان في الأمر إشكال، لكن الأمر في تشابه القنوات الثقافية ليس كذلك، وإلا فكيف تتشابه الملامح الظاهرة بين قانون في علم النبات - مثلا - وبين معزوفة موسيقية، أو لوحة تشكيلية، أو قصيدة من الشعر، أو رواية؟ لا بد - إذن - إذا كنا نزعم تشابها بين متنوعات كهذه، أن نبحث له عن معنى وراء الملامح الظاهرة، فماذا عساه أن يكون؟ ... تأمل هذه الظواهر الطبيعية الثلاث: حجر يسقط على الأرض، دوران الأرض حول الشمس، حركة المد والجزر في مياه البحر، إنها ظواهر - كما ترى - مختلفة أشد ما يكون الاختلاف، لو كان الأمر أمر ملامح تظهر للعين، لكنها مع ذلك متشابهة كلها فيما قد يخفى على العين، إذ هي تتشابه في كونها حركات تحدث بفعل جاذبية الأجسام بعضها لبعض؛ فالحجر يسقط بجذب الأرض، والأرض تدور حول الشمس بجذب الشمس، وماء البحر يتحرك مدا وجزرا بجذب القمر، فالحركة في الحالات الثلاث هي من نوع واحد، ومن ثم يكون ما بينها من تشابه.
ليس المعول في التشابه الخفي قائما على التماثل بين الملامح الظاهرة، بل هو قائم على التماثل في «الوظيفة» أو في «الأداء» أو في «الغاية» بين الشبيهين، ومن هنا تكون الوردة على شجرة الورد أقرب شبها بالبرتقالة على شجرة البرتقال، منها بوردة صنعت من ورق، لأنه بينما الوردة الحية والبرتقالة الحية كلتاهما تتغذى وترتوي وتنمو ، وبذلك تكونان معا في تيار الحياة، محققين للحياة غايتها، تقع وردة الورق في عالم آخر، هو عالم الجماد والموات، وإدراك التشابه الخفي قد يستعصي على غير ذوي البصائر لكنه هو التشابه الذي نراه في كائنات الكون جميعا، حين ندرك واحدية الكون برغم تعدد كائناته وتنوعها فيما يظهر للعين، ومن هنا قال من قال: دلني على من يدرك التشابه بين الأشياء، وأنا أتبعه تبعية التلميذ لرائده.
إن من هذه المسائل التي قد لا تخلو من صعوبة، حتى على القادرين من أهل العلم، ذلك التشابه الذي لا بد أن يكون قائما بين أية فكرة وتطبيقها، كيف يكون وكيف نفهمه؟ فافرض - مثلا - أن على ورقة أمامك رأيت العدد 4 مكتوبا، ثم رأيت إلى جانب الورقة أربعة أقلام، أو أربعة كتب، فأنت عندئذ تكون بين شبيهين، فالرقم 4 والكتب الأربعة بينهما ما بين فكرة وتطبيقها، ولا بد - كما قلنا - أن تكون هنالك موازاة بينهما بصورة ما، وإلا لما كانت إحداهما تجسيدا للأخرى، ومثل هذا التشابه هو الذي يربط «العلوم» من حيث هي مجموعات من القوانين، وبين دنيا الوقائع والأحداث. وألتقي بهذا في مسألة العلاقة بين «النظرية» و«التطبيق» لأنها تنطوي على صعاب ليس هذا مكانا لذكرها فضلا عن شرحها، وحسبنا بما ذكرناه أن نكون قد صورنا نوع التشابه الخفي بين الأشياء، لأنه هو النوع الذي نطالب بأن يكون قائما بين قنوات الحياة الثقافية، برغم تعددها وتنوعها، وذلك إذا أردنا لتلك الحياة الثقافية أن تكون سوية وسليمة، فنجد تشابها يصل إلى حد الهوية الواحدة، بين ما تقوله الموسيقى، والتصوير، والعمارة، والنحت، والشعر، والرواية، والمسرحية، والمقالة، ويضاف إلى ذلك أن نجد ذلك كله متجها مع روح العلم في عصره في اتجاه واحد.
تلك - إذن - كانت حركة الالتفاف الأولى حول موضوعنا، وأما الحركة الثانية فهي أن ننظر إلى «الشعب» الذي في حياته تنشأ الحياة الثقافية التي نحن الآن معنيون بعرضها وتحليلها، فنسأل: ماذا عساها أن تكون، تلك الروابط التي تربط كذا مليون من أفراد الناس في شعب واحد؟ وهو سؤال تختلف عنه الإجابات، فقد يقال إنه العرق المشترك، أو يقال إنه التاريخ المشترك، أو يقال إنه الأرض المشتركة، أو يقال إنها الثقافة المشتركة، وهكذا ... وبالطبع قد يكون المشترك بين أبناء الشعب الواحد، هو كل تلك العوامل، أو بعضها، وأن الروابط لتزداد غزارة كلما كثرت الأصول المشتركة بين أبناء الشعب الواحد، على أن هناك عوامل أخرى طارئة في حياة الشعب، من شأنها - إذا ما وقعت - أن تزيد من قوة تلك الروابط كحرب تنشب مع عدو فيتكاتف أبناء الشعب بدرجة أكبر مما يحدث في الحياة المعتادة، أو أن تحل بالبلد كارثة من كوارث الطبيعة، كالزلازل وثورات البراكين أو الأوبئة أو ما إلى ذلك، لأنه في أمثال تلك النكبات الجماعية، يغلب على الناس أن يشتركوا في «فعل» معين يتقاسمونه ويتعاونون على أدائه، وفي هذا ما يبث في الجماعة شعورا بالوحدة، وكأن الجماعة قد أصبحت فردا واحدا.
إن للحياة الثقافية معنى يجعلها صفة لا يوصف بها الفرد الواحد، بقدر ما توصف بها جماعة معينة من الناس، كالشعب الواحد، أو حتى كمجموعة شعوب متقاربة تتكون منها قومية واحدة. وذلك لأن الحياة الثقافية متعددة الفروع، وكأنها الفروع في جذع شجرة واحدة، وليس من الممكن لفرد واحد أن يجمع في شخصه كل تلك الفروع بدرجات متساوية أو متقاربة، بحيث يكون عالما، وفنانا، وأديبا، بما تشتمل عليه كل واحدة من تلك الصفات من فروع، وفروع الفروع. إذن، فالذي يحمل الحياة الثقافية المكتملة هو شعب بأسره أو مجموعة شعوب موحدة الاتجاه والمزاج، ولقد كان الشاعر الإنجليزي المعروف «ت. س. إليوت» من أصحاب هذا الرأي. وقد فصله تفصيلا في كتاب له عن الثقافة ومعناها.
إلا أن الشعب الواحد، كالشعب المصري مثلا، أو مجموعة الشعوب المتقاربة، كالأمة العربية بمختلف شعوبها، إذا ما قلنا عنها إنها موحدة الثقافة، فلسنا نعني بذلك أن جميع الأفراد متساوون في الأدوار التي يؤدونها في تلك الحياة، إذ إن منهم من تضطرب صدورهم بالمشاعر المعينة، أو بالاتجاهات المعينة، ولكنهم لا يملكون القدرة على الإفصاح عما شعروا به، أو عما رغبوا فيه، وهؤلاء يكونون - عادة - سواد الشعوب، وإلى جانب هؤلاء قلة تشعر الشعور نفسه، وترغب الرغبة نفسها، ثم هي فوق ذلك تملك مواهب التعبير بالنغمة، أو باللون، أو بالكلمة، أو بمنهج البحث العلمي الذي يستخرج حقائق الأمور، ومحصلة ما ينتجه هؤلاء هي الحصاد الثقافي العيني الذي يرجع إليه إذا ما أردنا الكشف عن شعب معين منعكس في ثقافته.
فنحن إذا ما أردنا في موضوع حديثنا هذا الذي بين أيدينا، أقول إننا إذا أردنا أن نحكم على حياتنا الثقافية الراهنة حكما منصفا، وجب علينا أمران: أولهما: هو أن نكون على علم كاف بما قد أنتجته تلك القلة المنتجة للحصاد الثقافي في الفترة التي نريد الحكم لها أو عليها، وأما الأمر الثاني فهو أن يكون لدينا تصور معقول لما كان ينبغي أن يحققه ذلك الحصاد ... لكي نقيس الأمر الواقع إلى المثال. ولكن من أين يأتينا ذلك المثال الذي نقيس عليه الأمر الواقع؟ أهو مرهون بنزوة الكاتب؟ إن السماء لا تمطر «مثالا» يلزمنا بكماله، ولكنه التاريخ، تاريخ الثقافات عندما تبلغ ذراها في عصور معينة، وبلوغها تلك الذرى هو في ذاته حكم ثقافي يستند صوابه إلى إجماع الرأي عبر العصور، أو ما يقرب من الإجماع، فمن الذي يجادل في رفعة الحياة الثقافية في أثينا «بركليز» أو في بغداد «المأمون» أو في باريس «لويس الرابع عشر»؟
Unknown page
وهذه - إذن - حركة الالتفاف الثانية حول موضوعنا، فكما أردنا بالحركة الأولى أن نلتمس رباط «التشابه» بالمعنى الوظيفي الذي حددناه، وأعني رباط التشابه بين قنوات الإنتاج الثقافي على تعددها وتنوعها، قد أردنا بالحركة الثانية أن نلتمس روابط الوحدة بين أبناء الشعب الواحد، وهي وحدة تهتز بها أوتار القلوب جميعا، لكنها أوتار تهتز في صمت عند الكثرة الغالبة من جمهور الناس، ويكون لها صوت مسموع عند القلة المنتجة للحصاد الثقافي في ذلك الشعب، وننتقل الآن إلى الحركة الالتفافية الثالثة، حول موضوعنا ...
وقد نجعلها الأخيرة، لنتناول بعد ذلك حصادنا في إجمال يمكننا من الحكم ... وأما الحركة الثالثة التي أعنيها فهي أن أذكر للقارئ بعض الأمثلة لعصور ثقافية مضت، وربما استطعت أن أوضح له بالأمثلة، ما الذي يجب أن نتوقعه من حياة ثقافية سوية ناضجة وتستحق البقاء؟
أول ما يرد إلى خاطري هو الثقافة التي جاءت حضارة مصر القديمة تجسيدا لها ... وإنه لمن العسير أن نتحدث عن عدة آلاف من السنين، وكأننا نتحدث عن جيل واحد من الناس، أو جيلين، ولكن هكذا صنعت بنا دراسة التاريخ على مناهج الغرب الحديث، الذي أراد لنفسه أن يكون هو «التاريخ»، وأما ما عداه فهو بالنسبة إليه كالهوامش والملحقات بالنسبة إلى فنون الكتب، فترى مؤرخي الغرب الحديث، بناء على تلك الرؤية الظالمة، قد قسموا التاريخ إلى ثلاثة أقسام: قديم، ووسيط، وحديث ... ثم أوهمهم ذلك التقسيم أن الأقسام الثلاثة متعادلة في الوزن، فنسوا - وكدنا ننسى معهم - أنه بينما «الحديث» الذي هو موضع اهتمامهم، عمره أربعة قرون، فإن «القديم» يزيد عمره عن خمسين قرنا، ولم تكن تلك القرون الخمسون كالأرض اليابسة لا حياة فيها ولا ثقافة ولا حضارة، بل كانت عامرة بكل هذا، في غزارة وثراء يبعثان على دهشة وذهول. ويكفي أن قد كان فيها مصر الفراعنة! ... أقول: إنه على الرغم من هذا العمر الطويل لتلك الثقافة المصرية التي تجسدت في حضارة مصر القديمة، مما لا بد أن يكون قد جاء منقسما إلى مراحل طويلة لكل مرحلة منها خصائصها المميزة لها، فإننا بحكم الانطباع المبهم الذي تركته في أنفسنا دراسة التاريخ على رؤية الغرب الحديث، نتحدث عن ذلك التاريخ الطويل وكأنه جيل واحد من الزمن أو جيلان، وبناء على هذه النظرة الخاطفة؛ انظر إلى الآثار التي خلفتها حضارة أجدادنا، فلا يساورني شك في أن ما أراه إنما هو صورة لثقافة موحدة الهدف، وبين جوانبها المختلفة رباط «التشابه» الخفي الذي حدثتك عنه، وإذا قلنا إن مثل ذلك التشابه قائم بين التمثال المنحوت والمسلة والصورة على جدار المدفن، والمعبد وكل ما تقع عليه العين من أثر ... إذا قلنا ذلك، فقد قلنا بالتالي إن هنالك «روحا» مشتركة عاشها القوم في حياتهم، ومن تلك الروح الواحدة انبثقت حياة ثقافية بشتى جوانبها، فكن - أيها القارئ - على أية درجة شئت من الإلمام بالتاريخ المصري القديم ... فإنك على أي الحالات، إذا ما عرضت أمامك قطعة كبيرة أو صغيرة من الفن المصري القديم فلن تخطئ عيناك أنها كذلك، لأن روح ذلك العصر - على امتداده - روح واحدة تميز بها كل عمل أنتجه فنان.
وإنه ليبدو لي في وضوح، أن تلك الروح المشتركة الواحدة المسيطرة على شتى صنوف الإبداع إنما هي روح من أخذ حياته مأخذ الجد وروح من يشعر من عمق نفسه وقلبه وعقله بأنه ما دام قد خلقه الله إنسانا؛ فعلى عاتقه تقع مسئولية الحياة المنتجة المبدعة، فانظر - إن شئت - إلى أي تمثال نحته أزميل فنان مصري قديم، تجد الحجر ناطقا بالرزانة والرصانة وحكمة الحياة، إنك ترى عادة في كل تمثال، ابتسامة خفيفة على الشفتين، لا أقول إنها ابتسامة الساخر ممن ينشغل بدنيا الزوال عن عالم الخلد، بل أقول إنها ابتسامة إشفاق ممن لم يدرك لحياته واجباتها، وهي واجبات أوجبتها عقيدة دينية قبل أن توجبها إرادة حاكم ... قلب ناظريك فيما شئت أن ترى من آثار الثقافة المصرية القديمة مجسدة في آثارها تجد بساطة القوة، أو قوة البساطة، فلا زخارف أكثر مما يجب، ولا زوائد ولا ثرثرة أو ما يشبه الثرثرة، وإنما هو حجر مستقيم الخطوط واضحها: في الهرم، وفي المسلة، وفي عمد المعبد وجدرانه، وانظر إلى الرسوم فوق الجدران، ملونة أو غير ملونة تجد قوة الخط وبساطته، إنها قوة الواثق بنفسه وبساطة من لا يشعر في باطنه شعور النقص، فيغطيه بزخارف فارغة ... لقد أردت أن أقول إنها آثار تنطق بثقافة تشابهت فيها الأجزاء، واتحد فيها الهدف.
وننتقل من ثقافة مصرية أصيلة أنطقت الحجر بأزميلها، إلى ثقافة عربية أصيلة، أخرجت بالقلم عبقرية الكلمة، ولنأخذ مثلا لها تلك الذروة التي بلغتها في عصر المأمون وامتداد صداه في القرن الرابع الهجري متداخلا في القرن الخامس «العاشر الميلادي والحادي عشر»، وإذ نلقي بأبصارنا على ذلك الامتداد الزمني نبحث عن الهدف الواحد الكبير المتضمن في النتاج الثقافي إبان تلك الفترة، متسائلين في الوقت نفسه عما إذا كانت صنوف ذلك النتاج، على تعددها وتنوعها، تتغيا ذلك الهدف، وكأن بينها اتفاقا مضمرا على السير معا في موازاة بعضها مع بعض، تجاه الغاية المقصودة عن عمد أو غير عمد، وأحسب أن النظرة الفاحصة لن تجد عندئذ عسرا في رؤية تلك العلامات المميزة للثقافة عندما تكون سوية ومسددة الخطى.
وفي ظني، أن مفتاح تلك الفترة التي حددناها، هو أن الوجدان العربي قد اتسعت آفاقه ليشمل «الإنسان» على إطلاقه بغير تمييز في مكان أو زمان، فنحن نعلم كيف فتحت الأبواب والنوافذ على مصاريعها لتستقبل كل الثقافات الأخرى، من شرق ومن غرب، ثم سرعان ما نسجت الخيوط جميعا في رقعة واحدة غير عابئة من أين جاءت لحمتها أو جاءت سداها، والمهم هو أن يجيء النسج الجديد جديدا، مطبوعا بطابع عربي أصيل، على أن الباحث الفاحص في خصائص تلك النظرة الموسوعية الشاملة، التي استهدفت إنسانية الإنسان بغض النظر عن الفواصل التي قد تميز شعبا من شعب، كان محورها الداخلي هو احترام «العقل» والإيمان بقدراته ومداه، فإن شئت أن ترى هذه الخصائص العامة المجردة التي ذكرتها، لأميز بها عصر الازدهار في تاريخ الثقافة العربية، فانظر إلى طائفة من أمهات المبدعات العلمية والأدبية والفلسفية والثقافية بوجه عام، التي صدرت عن أصحابها إبان تلك الفترة، خذ الجاحظ من الثالث الهجري، والتوحيدي من الرابع الهجري، ممثلين للحركة الفكرية بصفة عامة: وخذ الفارابي وابن سينا ممثلين للفكر الفلسفي وخذ أبا الحسن الأشعري ممثلا للمتكلمين، وخذ المتنبي وأبا العلاء ممثلين للشعر، وخذ إخوان الصفا ممثلين لحركة التنوير بصفة عامة، وعبد القاهر الجرجاني ممثلا للنقد الأدبي ... وحاول أن تستخرج الجانب المشترك في هؤلاء جميعا، واسأل: هل لديهم هدف يشتركون فيه؟ وهل أضمر في أصلاب أعمالهم وجه للشبه بينهم؟ وأما أنا فالجواب عندي هو: نعم ... كانت ثقافة هادفة، وهدفها إنسانية الإنسان كائنا من كان، بغير تعصب ولا تمييز، وكان وجه الشبه الخفي الكامن في أعمالهم هو إكبار العقل البشري، بكل معنى تتضمنه هذه العبارة ... فإذا أخذت «العقل» بمعنى الاستدلال في عالم الفكر المجرد، وجدته عند الفلاسفة وأشباههم وإذا أخذته بمعنى مراعاة الدقة الهندسية في بناء الأثر الفني أو النقدي، وجدته عند كبار الشعراء والنقاد، وإذا أخذته بمعنى التسامح في العقيدة وعدم التعصب عند أصحاب العقائد الأخرى، وجدته عند إخوان الصفا ومن سار سيرتهم ... والخلاصة هي أنك واجد في ذلك العصر نموذجا رائعا للحياة الثقافية حين تتوافر فيها الشروط التي ذكرناها وهي أن تتشابه الأجزاء، وأن يتحد الهدف.
وإذا أردت مثلا ثالثا لعصر ثقافي متكامل، فانظر إلى فرنسا في القرن السابع عشر، وهو الذي يسمونه «عصر العقل» وقلب نظرك في كل ما يعن لك من أوجه الحياة، تجد أثر النظرة العقلية واضحا، فالفلسفة في ذروة العقلانية على يدي ديكارت، والفن هو طراز «الباروك» الذي تراعى فيه نسقية الإجراء، والأدب تقام بناءاته وكأنها بناءات هندسية، كما ترى في مسرحيات «راسين» و«كورني»، وكذلك يقال عن الموسيقى و«كاتب هذه السطور من العوام فيما يختص بالجانب النظري من الموسيقى.»
وقد يأتيني صوت محتج من هنا أو من هناك قائلا: إنك يا أخي قد وعدت في مستهل حديثك أن مدار حديثك هذا هو حياتنا الثقافية في الفترة الحاضرة، فما الذي يطوح بنا إلى بعيد فتضرب لنا الأمثلة من مصر الفرعونية ومن عرب القرن الرابع الهجري، ومن فرنسا القرن السابع عشر؟ ألا اقتربت من زماننا ليسهل التصور والفهم؟ واستجابة لهذه الرغبة أسوق مثلين من حياتنا الحديثة والمعاصرة: الأول هو موجة الثلث الأخير من القرن الماضي، وكان من أهم أعلامها: الشيخ محمد عبده، وقاسم أمين، وقد نذكر شبلي شميل، والثاني هو فترة ما بين الحربين العالميتين في هذا القرن العشرين، وكان من أهم أعلامها لطفي السيد، وطه حسين، والعقاد، والدكتور هيكل، فإذا أمعنت النظر في الموجة الأولى ألفيت الهدف واضحا، وهو مواكبة العصر وما يقتضيه من جهاز فكري واجتماعي: محمد عبده يدعو إلى تخليص العقيدة الإسلامية مما نسبه إليها الأميون من خرافة، وشبلي شميل يقدم صورة متطرفة للفكر في الغرب، وما يستتبعه من تغيير في وجهة النظر، وقاسم أمين يدعو إلى تحرر المرأة من قيود فرضت عليها؛ فحدت من نشاطها، فهؤلاء الأعلام - كما نرى - قد اختلفوا مزاجا وميدانا لكنهم تشابهوا هدفا ومعدنا.
وأما موجة ما بين الحربين العالميتين، فالمعالم فيها أوضح لقرب عهدها، فهم بدورهم قد اختلفوا في كثير، إلا أنهم قد اتحدوا جميعا عند هدف واحد هو «التنوير» الذي يؤدي إلى تغيير وجهة النظر الراكدة، لتتجه نحو ما هو أقوى وأوسع وأكثر ملاءمة للعصر الذي نعيش فيه، ووجه الموازاة بينهم - مع اختلافهم في المادة والمنهج - واضحة، فكلهم ينطوي على قلق من أوضاع ثقافية واهية وداعية إلى القعود والخمول والتخلف، وكلهم يوجب لتلك الأوضاع أن تتغير.
وبعد أن فرغنا من حركات الالتفاف حول الموضوع، مستهدفين أن نضرب حوله حصارا من تعريفات نحدد بها ما نعنيه بالمفاهيم الرئيسية التي استخدمناها، وضاربين أمثلة كبرى وصغرى من تاريخ الثقافة قديما وحديثا، عندنا وعند غيرنا، أقول إننا بعد أن قدمنا هذا كله، ندعو إلى توجيه الأنظار إلى حياتنا الثقافية الراهنة، في مصر خاصة، وفي الوطن العربي عامة، لنرى من قرب مدى نصيبها من عوامل القوة أو الضعف، ومن أجل التحديد، نفترض أن المقصود بالمرحلة الراهنة هو الفترة التي امتدت من هزيمة 1967 حتى اليوم، وسيكون مفتاحنا في الحكم هو نفسه المفتاح الذي استخدمناه فيما أسلفناه؛ وأعني به أن نسأل سؤالين: أحدهما عن الهدف البعيد الواحد، أهو قائم أو أم هو غائب، والثاني هو عن مقدار التشابه الموجود بين الميادين المختلفة من علم إلى فن وأدب وما يتفرع عنها.
Unknown page
ونبدأ بالسؤال الأول: أنستهدف جميعا هدفا بعيدا واحدا؟ وإن كنا نفعل، فما هو ذلك الهدف المتبقي؟ إننا لا نحتاج إلى أكثر من لفتة قصيرة وسريعة، لنرى أننا - منذ الأساس - على تمزق بين رؤيتين؛ سلفية ومستقبلية، تمزقا لم نشهد له مثيلا منذ أول نهضتنا في أوائل القرن الماضي، فالمشهود اليوم هو أكثرية غالبة تدعو إلى ارتداد إلى السلف ، وأقلية باتت خافتة الصوت، تحاول أن تذكر الناس بأن الله سبحانه وتعالى حين خلق للإنسان عينيه في جبهته، أراد له أن يكون النظر متجها في الأساس إلى أمام، وأنه إذا ما اقتضت الحال أن يتلفت خلفه، فما ذلك إلا ليؤمن خطواته السائرة إلى الأمام، خشية أن تكون وراء ظهره أخطار تهدده وتفاجئه، وإمعانا في هذا التمزق الذي أصابنا من حيث وجهة السير، أراد أنصار السلفية ألا يجعلوها تفرقة زمنية بين ماض وحاضر، بل أضافوا إليها أبعادا أخرى، كأن جعلوا الاختلاف بين الفريقين اختلافا بين مؤمن وزنديق، لا لأنهم حقا يعتقدون في صدق هذه الدعوى، بل لأنهم يعلمون أن هذه هي اللغة التي تجد طريقها إلى إفهام الجمهور، ثم لم يكفهم ذلك، فأضافوا بعدا آخر فيه لمسة من السياسة، إذ جعلوا الفرق بين الجماعتين فرقا بين من يرفض الغزو الثقافي الذي يهدد هويتنا الوطنية والقومية بالدمار، وبين من يرحب بذلك الغزو كأنه يناصر الأعداء على قومه.
نعم، قد يقال - وهو قول حق - بأن الدعوة السلفية بكل ما أضيف إليها من أبعاد، إنما هي أشبه بالحرب الكلامية التي لا تؤثر في شيء من أسس الحياة العملية، فحتى أصحاب الدعوة أنفسهم يعيشون كما يعيش سائر الناس، من حيث الإفادة بكل ما أنتجه «الغزاة» من ثمار العلم في إقامة البيوت والجسور ورصف الطرق وأجهزة العلاج للمرضى. ووسائل النقل، وغيرها وغيرها، والعجيب في أمرهم هو أنك إذا واجهتهم بهذه البداءة الواضحة، أجابوا بأنه ليس هذه الجوانب الحضارية ما يريدون، وإنما هم يريدون جانب «الأفكار» كأن تلك الأفكار قد خلقت للزينة، ولم تخلق لتجد سبيلها إلى التجسيد فإذا بها إذا ما تجسدت، كانت هي آخر الأمر ما ينعمون به من نتاج حضاري يغمر حياتهم الشخصية من ألفها إلى يائها ... ولا علينا، فالمهم في موضوعنا، هو أننا اليوم لا نلتقي على هدف، وأن اختلافنا هذا يبدأ معنا من أساس الأساس فصاعدا، وهو اختلاف إلا يكن ذا أثر إيجابي في حياتنا العملية، فلا أقل من أنه ذو أثر سلبي مميت، وذلك حين يصيب شبابنا بضعف الهمة وخيبة الأمل.
وأما عن السؤال الثاني ... الذي نسأل به عن مدى الموازاة بين مختلف فروع الفاعلية الثقافية بين من ينتجون لنا ثقافة، فأغلب ظني أننا إذا ما دققنا النظر في ميادين الإنتاج الثقافي، فقد نجد قليلا من تلك الموازاة المنشودة، وأما الأكثر والأغلب فهو أن كل جنس من الأجناس الثقافية شاطح وحده في واد خاص به، يغلب أن يكون متأثرا تأثرا فرديا مع اختلاف الأفراد في مصادرهم الفكرية. ولكي أيسر عليك طريق النظر، أقترح عليك أن تنظر إلى البنيان الثقافي وكأنه عمارة ذات ثلاثة طوابق تعلو كلما ارتفعت درجة التجريد النظري في كل منها، فأول الطوابق وهو الطابق اللاصق بأرض الواقع هو طابق الأدب والفن، يتلوه طابق العلوم، ويتلو هذا طابق الفكر ذي الطابع الفلسفي من حيث تجريد الأفكار وتعميمها، ولكي أيسر عليك طريق النظر مرة أخرى، أقترح عليك أن تصور تلك الطوابق الثلاثة في ثلاثة أشخاص؛ هم مثلا؛ أديب معين يقرض الشعر أو يكتب الرواية، ثم ناقد معين يعرض بالنقد إنتاج ذلك الأديب، ثم رجل معين من رجال الفكر المائل نحو التجريد، يوضح أسس الفلسفة الجمالية التي تحدد المبادئ العامة لما يجوز أن يعد أدبا أو فنا، فإذا صورت لنفسك الموقف بهذه الصورة المجسدة بقي عليك أن تسأل هذا السؤال: هل هناك في مناخنا الثقافي العام، ما يجعلنا نتصور مقدما في أي اتجاه يبدع الأديب العربي؟ ثم في أي اتجاه يمارس الناقد الأدبي أو الفني عمله النقدي؟ ثم هل هناك في مناخنا الثقافي العام خطوط رئيسية انتزعناها من مقومات هويتنا التاريخية ترسم لنا الخطوط العامة للذوق الفني؟ إنك لن تجد إزاء هذه الأسئلة كلها، إلا اتجاهات فردية صرف، كل يتجه متأثرا بما قرأ، مما يؤيدنا في الزعم بأن حياتنا الثقافية الراهنة تفقد المقومين للحياة السوية في هذا الصدد، فلا هي تعرف لنفسها هدفا، ولا المشتغلون بها يتجاوبون بعضهم مع بعض في إطار مشترك، بحيث تختلف وسائط الإبداع صوتا ولونا وكلمة، ولكن تبقى بين أيديهم معان مشتركة يعرضونها، فإذا الشعب المتلقي قد أصبح ذا رؤية وطنية أو قومية موحدة، ومعلومة الملامح والقسمات.
ثقافة التغيير
كتبت ذات يوم مقالة جعلت عنواها، «ثقافة السكون وثقافة الحركة» بينت فيها بعض الفوارق الهامة والخطيرة بين ثقافة وثقافة، فهنالك ثقافة تحرك صاحبها إلى عمل، وأخرى تميل بصاحبها نحو ركود بليد، حتى وإن بدا في ظاهر الأمر كما لو كانتا متشابهتين. وأذكر أني بدأت حديثي ذاك بمثل ضربته: رجلين تقابلا بعد أن فرقت بينهما الأيام، فقال أحدهما للآخر: الحمد لله أن رأيتك، ثم أردف قائلا: إن شيئا من الغبار قد علق على ثوبك عند الكتف. فهذان قولان: أما أولهما فلم يكن فيه ما يحرك سامعه إلى فعل يؤديه، حتى وإن كان قد أشاع في نفسه السرور، وأما القول الثاني فقد استجاب له سامعه استجابة سريعة، بأن أخذ ينفض عن ثوبه الغبار الذي قيل له إنه قد علق به، فلو أننا وسعنا نطاق المثل الأول لنجعله نموذجا لثقافة شاملة لجوانب الحياة كلها عند شعب معين في عصر معين، لوجدنا الحاصل بين أيدينا شعبا لا يجد في نفسه دافعا يحفزه إلى عمل يؤديه حتى وإن أحس في دخيلة نفسه بسعادة المطمئن القانع الراضي، وأما إذا وسعنا نطاق المثل الثاني ليشمل المناخ الثقافي كله عند شعب معين في عصر معين، رأينا صورة أخرى، هي صورة شعب يدأب كل فرد من أفراده على فعل ينجزه!
وأظنني قد زعمت في تلك المقالة أن الذي يسودنا نحن، في هذه المرحلة من حياتنا، هو ضرب من ثقافة السكون، إذ نرى كثرة غالبة من صناع الحياة الثقافية في شعبنا، قد اتجهوا - بطريق مباشر أو بطريق غير مباشر - إلى عرض ما كان عند السلف، وشرحه، والتعليق عليه بالتمجيد، وبالحث على الاقتداء به، وها هنا تكمن مغالطة قد تفلت من رؤية القائل والسامع معا، فنحن إذا تركنا الأمر عند هذا الحد، فقد يسأل سائل متعجبا: وما العيب في ذلك؟ ما العيب في أن يعرض علينا العارضون ما قاله الأسلاف في مواقف حياتهم لعلنا نحن أن نهتدي به؟ ووجه المغالطة هنا، هو أن مواقف الحياة الجارية كما يحياها الناس بالفعل لا تتكرر، فكل موقف حياتي لفرد معين من الناس، أو مجموعة معينة منهم، هو فريد نوعه إذا نحن أخذناه بتفصيلاته كما وقع، إن التاريخ لا يعيد نفسه إذا ما كان المقصود به تفصيلات السلوك البشري في مواجهة الأحداث، وإنما هو يعيد نفسه لو كان المقصود هو «مبادئ» السلوك أو «قوانينه»، والفرق بعيد - بعد الثرى عن الثريا - بين أن نطالب الناس بمحاكاة أسلافهم في تفصيلات مواقفهم السلوكية، وبين أن نترك لهم حرية التغيير في تلك التفصيلات، ما دام «المبدأ» مصونا؛ فانظر - مثلا - إلى الفرق بين أن نطالب المرأة اليوم بأن يجيء ثوبها على غرار ما كان الثوب عند سالفتها، وبين أن نترك لها حرية التصرف شريطة أن تراعي «مبدأ» الاحتشام في ظروف الحياة الجديدة، أو انظر - وهذا مثل آخر - إلى الفرق بين أن تطالب الناس بأن يفهموا عن «الربا» ما كان يفهمه السلف، برغم التغير الشديد في تفصيلات الموقف الاقتصادي، فبعد أن كان الدائن والمدين شخصين يواجه أحدهما الآخر، ويعلم الدائن عجز المدين وشدة حاجته، أصبحنا أمام موقف جديد لا صلة فيه بين دائن ومدين، فالدائن شخص يضع ماله في مصرف، والمدين شخص مجهول يبني عمارة - مثلا - أو ينشئ مصنعا، فيقترض من المصرف ما يعينه على إتمام مشروعه، وواضح من ذلك أن العلاقة الشخصية قد غابت عن الموقف غيابا تاما، وهي علاقة لو كانت قائمة لوجب علينا أن نضيف إلى الموقف ما تقتضيه تلك العلاقة من تعاطف بين من يملك ومن لا يملك. وإذا شئت مثلا ثالثا فانظر إلى السفر الطويل وما كان يحدثه للمسافر من مشقة وعناء مما اقتضى أن يكون للمسافر أحكام خاصة في فروض العقيدة الدينية، وقارن ذلك بمسافر اليوم، وهو مطمئن في الطائرة على مقعد وثير، يقدم له طعامه وشرابه كما يشتهي ويرسل نفسه في نعاس، متكئ الرأس على وسادة لينة كما يريد، لكن هذا التغير البعيد في تفصيلات المواقف الحياتية، إذا جاز أن تتغير الأحكام فهو يظل مستوجبا أن تبقي «المبادئ» الأساسية ثابتة، ففي العلاقة بين الدائن والمدين، وهما في الموقف الجديد طرفان مجهولان، إلا أن «مبدأ» العدالة ضروري في تحديد نسبة الربح الذي يتقاضاه الدائن عن وديعته في المصرف، والربح الذي يتقاضاه المصرف من المدين، والذي يحدد حد العدالة هنا هو الموقف الاقتصادي العام، في كل فترة زمنية معينة، بحسب ما يراه خبراء ذلك الميدان، وفي حالة المسافر وما يجب عليه في أدائه لفروض دينه، يكون الاحتكام إلى مبدأ الراحة وجودا وعدما، فالاستمرارية التاريخية بين سلف وخلف في الأمة الواحدة، أو قل في أصحاب ثقافة معينة، أمر لا بد منه، وإلا لما جاز أن نصف الأمة الواحدة بالوحدانية، ما دامت هي في يومها، شيئا آخر غيرها في أمسها، إلا أن تلك الاستمرارية التاريخية لا تكون في تفصيلات المواقف، وإنما تكون في مبادئها.
ولعل مشكلة الثبات والتغير، في هذه الدنيا التي نعيش فيها، أن تكون بحاجة منا إلى مزيد من إيضاح؛ إنها في يومنا هذا، وبالنسبة إلينا نحن بصفة خاصة، تقع في صميم الصميم من مشكلاتنا الحيوية واليومية، فالسؤال مطروح علينا في كل لحظة من حياتنا، حتى ليسد علينا منافذ الهواء، وهو: هل نترسم خطى الأقدمين أو نجدد؟ هل نلتمس حلول مشكلاتنا فيما قال السلف وأثبتوه في دفاترهم التي جمعناها وأسميناها، «تراثا» أو نلتمس تلك الحلول في وقائع الحياة العملية، نستقرئها لتنطق لنا بالجواب الصحيح؟ فمثلا هناك الآن في حياتنا العملية نساء يعملن خارج بيوتهن جنبا إلى جنب مع الرجال، وقد تنشأ مشكلات خاصة بالعمل من جهة، وبشئون الأسرة الداخلية من جهة أخرى، فأين نبحث عن حلول تلك المشكلات؟ أنبحث عنها في الكتب؟ أم نبحث عنها في عناصرها الفعلية الواقعة أمام أبصارنا؟ فإذا نحن اخترنا البديل الأول حرصا منا على توثيق الروابط بيننا وبين أصولنا، جاءنا السؤال يصرخ في وجوهنا: كيف تغمضون أعينكم عما هو واقع وكأنه لم يقع؟ وإذا نحن اخترنا البديل الثاني، كان السؤال هذه المرة: وماذا يبقى من الهوية القومية إذا تفككت العرى بين اليوم وأمسه؟ ومعنى ذلك كله، هو أننا مطالبون بأمرين في وقت واحد: مطالبون بأن يكون في حياتنا حبل ثابت متصل، ومطالبون في الوقت نفسه بأن نعطي لجديد عصرنا حقه الكامل من الاهتمام حتى ولو كان ذلك على حساب العروة الرابطة بيننا وبين أسلافنا؛ فقد عاش هؤلاء الأسلاف حياتهم، ومن حقنا كذلك أن نعيش حياتنا.
فلا غرابة - إذن - أن تحتل مشكلة «الثبات» و«التغير» المكانة الأولى بين ما عرض لأئمة الفكر في العالم أجمع، وعلى امتداد العصور: فما الذي هو ثابت لا يتغير، بل ولا يجوز لأحد أن يغيره؟ وما الذي يتغير من أمور الدنيا - بل وينبغي له أن يتغير؟ وقد اتسع السؤال مع الفلاسفة - كعادتهم - ليعمموه على الكون بأسره، لكن تلك التوسعة تزيد الأمر وضوحا ولا تضيف غموضا إلى غموضه، وقد انقسم الرأي بينهم ثلاثة اتجاهات: فمنهم من رأى عنصر الثبات جوهرا يتعذر على العقل أن يتصور إمكان زواله، فلولا ذلك الثبات لما كنت أنت هو أنت ولا أنا هو أنا، ولا القاهرة هي القاهرة ولا الكون هو الكون، إلا أنهم ذهبوا بالفكرة إلى حدها الأقصى - أحيانا - حتى لقد أنكروا «التغير» باعتباره مناقضا للعقل، زاعمين أنه وهم تتوهمه الحواس في إدراكها للأشياء، ومنهم من ذهب إلى نقيض ذلك، بأن جعل التغيرات في أي كائن حقيقته التي لا حقيقة له سواها، فما الشيء من الأشياء إلا سلسلة طويلة من حالات يعقب بعضها بعضا، وأما أصحاب الرأي الثالث فربما كانوا أصحاب الجواب الصحيح - على الأقل بالنسبة لمشكلتنا الخاصة التي عرضناها، وأعني مشكلة الجمع في بنائنا الثقافي بين حاضر يحترم الواقع الذي بين يديه، ولكنه كذلك يتمسك بالماضي الذي هو ضمان لا بد منه إذا أردنا لهويتنا الذاتية ألا تنحل وتنهار - وذلك الرأي الثالث هو أن «الثبات» و«التغير» يسيران معا، فأما الثبات فهو من شأن «المبادئ» أو «الأطر»، وأما التغير فهو من شأن الحالات التفصيلية التي تندرج تحت تلك المبادئ ، أو التي تملأ تلك الأطر، وقد نجد في علوم الرياضة في صورتيها: «البحتة» و«التطبيقية» مثلا جيدا يوضح المعنى المقصود، خذ شكل «الدائرة» فإذا اتجهت ببصرك إلى دنيا الأشياء المتغيرة، وجدت الشكل الدائري متمثلا في كثير جدا مما تراه: فرغيف الخبز المستدير، وقطعة النقود المستديرة، ومنضدة مستديرة، وحديقة مستديرة، ودوائر مرسومة على الورق، وهكذا لكن تلك الأشكال الدائرية كلها ليست متساوية في دقة الدائرة، ويغلب أن يكون بعضها أدق دائرية من بعضها الآخر، وقد يعن لأحدنا أن يسأل نفسه إزاء هذا التغير في درجات الدقة، قائلا: إذا نحن رتبنا الأشياء ترتيبا تصاعديا بحسب دقتها، فأين نصل إلى ذروة الدقة التي ليس فوقها ما هو أدق منها؟ وعندئذ يجيء الجواب الصحيح، وهو أن تلك الذروة لا تتمثل قط في شيء بعينه، وإنما تتمثل في «التعريف» العقلي للدائرة، وعلى أساس ذلك التعريف يمكننا ترتيب الأشياء الدائرية بحسب تدرجها في الدقة صعودا أو هبوطا؛ ومثل ذلك المعيار العقلي، في حياة الناس العملية - هو ما أسميته فيما أسلفت ب «المبادئ» أو ب «الأطر»! فالمبدأ أو الإطار، تصور عقلي ذو ثبات، لكنه في الوقت نفسه حقيقة مفرغة من تفصيلات الحياة، ثم نأتي حياة الناس العملية بما يملأها من أحداث، فنقيسها - ارتفاعا أو انخفاضا - بذلك المعيار الرياضي المفرغ، وهو «المبادئ» أو «الأطر» أو «الأنماط».
والذي بيننا وبين أسلافنا، من حيث الحياة العملية، وأين يجب، وأين لا يجب، أن تكون أشكال سلوكنا متطابقة مع ما كان منها عند أسلافنا، هو شيء كهذا؛ فنستطيع القول بأن ثقافات الشعوب قد تميز بعضها من بعضها، بأن كلا منها قد رتب المبادئ بأولويات تختلف عما رتبها به سائر الثقافات، فحتى لو اتفق الناس جميعا على ما يصح أن يكون «مبدأ» أو «صورة» لحياة الإنسان فإن الشعوب بعد ذلك تعود فتختلف في ترتيب درجاتها، وللشعب المصري، أو قل للأمة العربية في مجموعها، صورة خاصة بها في ترتيب المبادئ، وبالتالي فإن لها موقفا ثقافيا متميزا، فالثابت بيننا وبين أسلافنا هو تلك المبادئ، والمتغير هو تفصيلات المواقف والأحداث التي تملأها. ومن هنا تنشأ نتيجة هامة جدا، أرجو من القارئ رجاء مخلصا ألا يدعها تفلت منه، وهي أنه ما دام المعيار الحياتي أو الثقافي مشتركا بيننا وبين أسلافنا، فالمفاضلة بيننا وبينهم ليست أمرا مقطوعا به مقدما؛ إذ من هو منا أكثر تحقيقا لتلك المبادئ الأولية يكون أفضل من الآخر، وقد نجد بعد المراجعة، أن أسلافنا كانوا أفضل منا في مواضع، وأننا اليوم أفضل منهم في مواضع، فمثلا ربما وجدنا الأسلاف أقدر منا على المبادرة والإبداع، ووجدنا أنفسنا أكثر شعورا بحقوق الفرد في التعلم، والعمل وحرية الاختيار.
على أنه لا جدوى من إحياء الحاضر لمبادئ السلف، إذا اقتصر الأمر - كما يحدث كثيرا في حياتنا الآن - على «تسميع» تلك المبادئ كتابة وخطابة وإذاعة، فلمن شاء أن يقدم إلى الناس ألف ألف قول مأثور من أقوال السالفين كل يوم، لكنه لن يغير بذلك شيئا من سلوك فرد واحد، لأن السلوك مجموعة عادات، ولا يتغير إلا أن تتكون عند الناس عادات جديدة لتحل محل عادات قديمة، وتغيير عادة لا يتم في لحظة، كما نضغط على مفتاح فتضاء مصابيح الكهرباء، وإنما هو بمثابة تربية جديدة، تقوم على سلوك تتجسد فيه تلك المبادئ المراد لها أن تكون موصولة بين الماضي والحاضر، ولا يتم ذلك على الوجه الأكمل إلا إذا زرعت تلك المبادئ على أرض الظروف الجديدة، وذلك هو ما يحتاج منا إلى تفكير هادئ يتدبر على مهل كيفية التنفيذ.
Unknown page
كان قد أنبأني صديق يكثر من زيارة اليابان بحكم عمله، بأن الياباني عرف كيف يعمل في المصنع نهارا وكأنه مواطن في أي بلد صناعي من بلدان الغرب، حتى إذا ما عاد إلى منزله مساء اغتسل وكأنه يزيح عن جسده حياة النهار المستعارة، وارتدى ثيابه اليابانية، ومارس حياته المنزلية ممارسة الياباني الأصيل، الذي لم يكن يعرف شيئا عن المصانع الحديثة وآلاتها، ولكنني دون أن أبدى معارضة أو تساؤلا عما سمعته من ذلك الصديق، حدثتني نفسي بأنه يبعد أن تكون صورة الحياة عند الياباني الجديد على هذا النحو، الذي يشطر الحياة شطرين. كأن أحدهما لا صلة له بالآخر، ولو كان الأمر كذلك لما أفلحت اليابان الجديدة بالدرجة التي أفلحت بها حتى لقد نافست أعتى شعوب الغرب علما وصناعة، ومحال أن يستقيم لها الأمر، ما لم تدمج الشطرين في وقفة موحدة. فحياة المنزل تمتد بروحها اليابانية إلى حياة المصنع وحياة المصنع تمتد بدقتها العلمية إلى حياة المنزل.
ثم ما لبث أن وجدت ما يؤيد فكرتي، وذلك أن أتيح لي فترة طويلة، الاطلاع على مجلة فصلية تصدر عن اليابان، وربما كان الذي يصدرها هناك هيئة رسمية، وهدف تلك المجلة هو أن تعرض موجزا لما ترى أنه أهم ما أنتجه الفكر الياباني خلال ثلاثة أشهر. كنت أتابع تلك المجلة واسمها مترجما إلى العربية هو «الصدى» وهي تنشر ما تنشره باللغة الإنجليزية، فكان من أنفع ما قرأته فيها تلك الموضوعات الخاصة بحياة الياباني الجديد، معروضة في صورة بحوث علمية إحصائية، ومن تلك الموضوعات عرفت بدقة بالغة، كيف انتقلت الروح الأسرية كما عرفتها التقاليد اليابانية العريقة، التي تدور حول مبدأ التعاون إلى أقصى مداه، وهو مدى تختفي فيه فردية الفرد ولا يبقى إلا الجماعة مأخوذة في رابطة واحدة، فنقلت هذه الروح إلى جماعة العاملين في المصنع، وأصبح العامل يحس شعور «الانتماء» إلى مصنعه، بكل القوة التي يحس بها شعور الانتماء إلى أسرته، فنجاح المصنع الذي يعمل به هو نجاح شخصي بالنسبة إليه، دون تكلف في ذلك أو نفاق أو كذب ... ولعل أغرب ما قرأته في تلك المجلة مما يتصل بهذا المجال ذلك البحث العلمي الذي أجراه من أجراه ليصل به إلى تصور محدد عن فكرة «الإبداع» عند الياباني، وإذا بالإبداع لا يكاد يكون له معنى عند الياباني إذا كان ذلك الإبداع منسوبا إلى فرد معين؛ فالإبداع الفردي أمر غير معروف هناك، لا بل إنه مستنكر من الناحية الأخلاقية عندهم. ولقد كان ذلك البحث مؤسسا على مجال العلم والصناعة ولا أدري ما قولهم عن الإبداع في الأدب والفن .
الخلاصة التي أردت عرضها هنا، هي أن مبادئ السلف لا تحيا في حياة الخلف، إلا إذا ملئ وعاؤها المجرد بمادة حياتية مأخوذة من صميم الواقع الجديد ومشكلاته، وخذ - مثلا - فكرة «العرض» (بكسر العين) في الأخلاقيات العربية ومنها مصر بطبيعة الحال، فنحن نعلم كم لتلك الفكرة في حياتنا من قوة لا تعبأ بالقوانين الوضعية إذا عارضتها، وما معنى «العرض» الذي له في حياتنا ما يشبه التقديس؟ قد يظن بعضنا أن المعنى مقصور على شرف المرأة، ولكن معناه الحقيقي التاريخي، هو مجموعة الأشياء التي يعد الفرد نفسه مسئولا عنها لأنها تقع في حماه، وربما كانت قطعة الأرض التي يملكها أو ربما كان الجار، أو ربما كانت الأسرة في مجموعها أو الوطن والمواطنون جميعا، أو بيوت الله، بين الأشياء التي تدخل في مجال «العرض» الذي يدافع عنه الإنسان بروحه إذا اقتضى الأمر. فافرض معي الآن أننا أردنا إحياء هذا المبدأ ليسترجع في حاضر حياتنا كل قوته التي كانت له في الماضي، فماذا نصنع إلا أن نعمل على تربية الأفراد تربية تدخل في نفس الفرد استعدادا للتضحية في سبيل ما قد نشأناه على أنه «عرضه» الذي يجب أن يصان؟! «الثقافة» بمعناها الذي يجعلها طابعا يميز شعبا من سائر الشعوب هي ضرب من ضروب «الأدوات» التي يستعين بها الصانع فيما يصنعه، فهل تقول عن فأس الفلاح - مثلا - إنه حلية يتزين بها الفلاح؟ هل تقول عن منشار النجار إنه أداة يتزين بها؟ وهكذا الأمر في «الأفكار» التي تستحق اسمها هذا، إنها أدوات عيش، أدوات عمل، وإن لم يكن ذلك الجانب واضحا فيها أمام العين. ولكي تفهم هذا، خذ فكرة علمية عن حياة النبات، أو عن كيمياء التفاعل بين عناصر الطبيعة، أو حتى كفكرة الجاذبية بين الأجسام والأجرام، وانظر في أي منها: ما الذي أكسبها أهميتها إلا أنها أداة نستخدمها في الزراعة، أو في الصناعة، أو في تشييد المباني؟ إن «الفكرة» - كل فكرة وأي فكرة - هي أشبه «بروشتة» الطبيب، تأخذها لا لتحفظها وتتغنى بألفاظها أو تضعها في إطار لتعلقها على جدران غرفتك، بل تأخذها لتصرفها دواء من الصيدلي ليكون ذلك الدواء وسيلة مرجوة للشفاء، وأما إذا زعم لك زاعم عن جملة معينة بأنها تحمل «فكرة» ثم لم تجد قط طريقة تتحول بها تلك الفكرة المزعومة إلى «عمل» فاعلم موقنا بأن الجملة المقدمة إليك كانت من قبيل اللغو الفارغ، وها أنا ذا أوسع لك في المجال فأقول - لا عن فكرة واحدة بعينها، بل عن مجموعة الأفكار التي تتكون منها ثقافة شعب - إنها في مجموعها إنما تقاس قيمتها بما تستطيع به أن تعيننا على السباحة في بحر الظروف المحيطة بنا بل وأن تعيننا على ما هو أكثر من ذلك، وهو أن نكون شركاء في صناعة ذلك البحر من ظروف الحياة الجديدة.
وإذا كان ذلك كذلك في حقيقة «الثقافة» التي يعيش في إطارها شعب، أعني إذا كان مقياس قبولها أو تعديلها حذفا وإضافة هو صلاحيتها لأن تجعل ذلك الشعب أقوى وأعلم وأغنى وأرهف شعورا، أقول إذا كان ذلك كذلك، كان الأمر نفسه منطبقا على ما نأخذه نقلا عن أسلافنا من «مبادئ» إذ يصبح واجبنا نحو أنفسنا هو أن نملأ الصور المجردة المفرغة لتلك المبادئ بمضمونات جديدة تصلح أن تكون في أيدينا أدوات عمل، وإنتاج وقدرة على مواجهة عصرنا وظروفه.
وليس التطور الثقافي في حياة الإنسان ترفا من الترف الذي يخضع لاختيار الناس، فإما قبلوه وإما رفضوه، بل هو قانون حتمي من قوانين الحياة، وذلك لمن أرادوا لأنفسهم حياة. لقد كان للمفكر الفرنسي «تيار دي شاردان» كل الفضل في أن سلط الأضواء الكاشفة الهادية على هذا الجانب من حقيقة التطور، فبعد أن كان الفكر العلمي في هذا الصدد، متجها نحو النظر إلى التطور على أنه مسألة بيولوجية توضح التسلسل في الكائنات الحية بادئة من الخلية الأولى فصاعدة إلى الإنسان، نشأ سؤال مضمر في عقول الباحثين هو: ثم ماذا؟ هل نتوقع من الحياة أن تخرج من الإنسان إنسانا أعلى يتميز ويتفوق على الإنسان كما هو الآن، فبين «دي شاردان» في تفصيل وعمق ، كيف أن التطور البيولوجي بالنسبة للإنسان قد وقف عند هذا الحد، إلا أنه شق لنفسه طريقا آخر، هو التطور الثقافي، فإذا كان الأمر على امتداد الدهر - فيما مضى - قد جعل الكائن الحي يتطور ليقابل ما استحدث له في بيئته من عوامل، فقد استبدل الإنسان بالتطور البيولوجي في تركيب الجسم، تطورا ثقافيا يقابل ما هو جديد في دنياه، فلا يعقل - بالطبع - أن يستجيب الإنسان وهو في عصر «الرعي» - للطبيعة من حوله - بمثل ما كان يستجيب به في عصر حياته الأولى في الغابات والأدغال والكهوف، كما لا يعقل أن يستخدم ردود الفعل ذاتها التي كان يستخدمها في حياة الرعاة، بعد أن تغير مسرح العمل وأصبح زراعة تقتضي الإقامة الثابتة على أرضه المزروعة، ثم لا يعقل بالدرجة نفسها أن يحافظ الإنسان على أنماط سلوكه التي نجح بها في عصر الزراعة ليجعلها مناط سلوكه في عصر الصناعة الذي هو عصرنا، فلكل مرحلة من تلك المراحل ثقافتها الصالحة لها. ولقد أسلفنا أن ثقافة الجماعة الإنسانية ليست لهوا يلهو بها أفرادها، بل هي في آخر مطافها «أداة» يعاش بها ليضمن الناس حياة فيها القوة والغنى والارتقاء. ولقد سبق لكاتب هذه السطور، أن كتب حين شاعت فينا الدعوة إلى «أخلاق القرية» ليلفت الأنظار إلى أن أخلاق القرية إن هي إلا الأخلاق التي أفرزتها حضارة الزراعة - على الوجه الذي كانت الزراعة تؤدى به، أما وقد دخلت الدنيا حضارة أخرى، هي حضارة الصناعة بالصورة التي باتت مألوفة لنا، فقد أصبح حتما على الإنسان أن يغير من قواعد سلوكه، بحيث يمكننا القول إن «المدينة» وأخلاقها لا بد لها اليوم أن تحل محل «القرية» وأخلاقها، وليس الفرق هنا بين «مدينة» و«قرية» فرقا في اتساع الرقعة وعدد السكان، بل الفرق هو في نمط الحياة من نواح كثيرة، فبعد أن كانت «المدينة» فيما مضى «قرية» كبيرة صار هدفنا اليوم هو أن نجعل من «القرية» مدينة صغيرة.
ولست أري أن التحولات في أخلاقيات السلوك تبعا للتحولات الحضارية، يتناقض مع رغبتنا في أن تجيء حياة الخلف على «مبادئ» السلف، لنضمن استمرارية التاريخ واستمرارية الهوية الوطنية أو القومية، لأن المبادئ الأولى التي تقام عليها الحياة أوسع شمولا وأكثر تجريدا من «القواعد» السلوكية المتغيرة بتغير الزمان والمكان؛ فمثلا كانت حياة القروي في عهد الزراعة اليدوية لا تتطلب دقة التوقيت بالدقيقة والثانية، وأما حياة المصانع في العصر الجديد فتتطلب ذلك، ولكن كلا الموقفين لا يمس مبادئ الأخلاق بالمعنى المعروف لهذه العبارة.
وواقع الأمر هو أن حياتنا تتغير بالفعل نحو ثقافة جديدة تتناسب مع مقتضيات عصرنا الجديد - عصر الصناعة التكنولوجية - فالقرية لم تعد هي القرية التي عرفتها أجيالنا الماضية، حتى لقد اقتربت من أن تصبح مدينة صغيرة، والمصانع الكبرى التي أنشئت هنا وهناك في أنحاء البلاد، تضم عشرات الألوف من العمال تحت سقف واحد، يتقاسمون فيما بينهم عملا واحدا يؤدي بهم إلى منتج واحد، فكان أن نشأت بهذه التجمعات الصناعية الجديدة، التي لم يكن للدنيا عهد بها في كل ما مضى من تاريخها علاقات بشرية جديدة غيرت من صورة الحياة الاجتماعية تغييرا لا تخطئه عين، وتغيرت كذلك في عصرنا وجوه كثيرة أخرى، فليس البناء التعليمي هو البناء التعليمي منذ قرن، وتغير نظام الحكم؛ فليست جمهورية اليوم كملكية الأمس. وتغيرت صور التعبير في مجالات الأدب والفن، فلا الشعر هو الشعر، ولا الرواية أو القصة أو المسرحية عرفتها عصورنا الأدبية فيما مضى، ولا الفن التشكيلي تصويرا ونحتا وعمارة هو نفسه الذي عهده أسلافنا ... لكن ذلك التغير كله لم يحقق لنا رؤية عصرية، لماذا؟ لأنه يجيء من حياتنا كما تجيء القشرة الخارجية التي لا تمس الكيان الداخلي إلا بقدر محدود، وأما الذي يتحكم في الكيان الداخلي بشكل ملحوظ فهي الدعوة إلى أن نصب حياتنا في قوالب القدماء، فوقعنا بهذا في ازدواجية رهيبة، لا نعرف حيالها أين الصواب وأين الخطأ، وقد كان الأمر ليختلف اختلافا شديدا، لو اتسقت الأصوات واتجهت كلها نحو هدف ثقافي واحد، يمس حياتنا الجديدة في الصميم.
إن للناقد الإنجليزي المعاصر «هربرت ريد» كتابا عنوانه «إلى الجحيم بالثقافة» والكتاب مجموعة مقالات في النقد، أولها وأطولها هي المقالة التي جعل عنوانها عنوانا للكتاب. وفي تلك المقالة يبين «ريد» وجوب أن تكون «الثقافة» في شعب معين، سارية في أصلاب الحياة الاجتماعية، وألا تستقل بذاتها وكأنها كيان قائم برأسه، لا شأن له بتيار الحياة، ولقد كان هذا الدمج التام بين الثقافة وحياة الناس - فيما يقول «ريد» - هو الشأن في كل عصور التاريخ الماضية، فلم يكن الفنان التشكيلي يرسم لوحاته، أو ينحت تماثيله ليرضي مزاجه الخاص، ثم ليبيع مبدعاته في الأسواق لمن يشتري، بل كان يصنع فنه ليخدم به معبدا أو غير المعبد من معالم الحياة العامة، وكذلك كان الشاعر والكاتب والعارف، وأما في عصرنا فقد انحرفت «الثقافة» عن مجراها التاريخي، حتى لنراها في حالات كثيرة تسير في طريق بينما يسير زخم الحياة في طريق آخر، وهذه الثقافة التي تسلخ نفسها عن التيار التاريخي، هي التي أشار إليها «هربرت ريد» في عنوانه: «إلى الجحيم بالثقافة».
وإني لأشعر آسفا، بأن هذه الصيحة الغاضبة من ذلك الناقد القدير، تكاد تفرض نفسها على قلمي، كلما نظرت إلى حياتنا الثقافية، فوجدتها مفرقة الأهداف وبأن هدفا من تلك الأهداف وربما كان أقواها وصولا إلى جمهور الناس، هو أن نلغي وجودنا الخاص، لننخرط في قوالب السلف وكأنه لا زمن ولا تغير في حياتنا مع ذلك الزمن ...
هيكل البناء
Unknown page
والبناء الذي نريد أن نتحدث عنه، هو البناء الثقافي من حياتنا، وحقا أن صورة الشيء - أي شيء - لا تكتمل في الأذهان، ولا يكون لها رسوخ، ولا يسهل على الذاكرة استعادتها، إلا إذا تصورنا هيكل بنيانها على أي الخطوط وأي الركائز يقام، تماما كما نتبين قوام الكائن الحي من هيكل عظامه: لقد كنت في أسفاري الكثيرة شديد الولع بمعرفة المدن التي أقيم فيها؛ فكان أول ما أبحث عنه في مدينة حللت بها، هو خريطتها؛ أنشرها أمامي لأمعن النظر إمعانا طويلا في شوارعها وميادينها كيف تتقاطع أو تتوازى؟ وأظل هكذا حتى ترتسم الصورة في مخيلتي؛ وبعد ذلك أقسم المدينة أقساما، لأخصص قسما لكل يوم من أيام إقامتي، لأتجول في أرجائه سيرا على الأقدام، ووقوفا بما يستحق الوقوف عنده من معالم المدينة، وبهذا كنت أغادرها وقد رسخت لها في ذاكرتي صورة هيهات لها أن تمحى.
وهذا الذي كنت أفعله في زيارة المدن، أو غير المدن مما يزار، أفعله هو نفسه - أو ما يماثله - إذا قرأت كتابا، أو مقالا، أو أردت الخروج بفكرة محددة عن كاتب معين في كل ما كتبه وقرأته له، وهو أن أبحث عن «الهيكل الفكري» الذي كساه الكاتب لحما بما ذكره من تفصيلات؛ فإذا لم أقع على هيكل يبين أصلاب الفكرة المعروضة وشرايينها، عرفت أنها «دردشة» دردش بها الكاتب ليزجي فراغا وليهيئ لقارئه فرصة لإزجاء فراغه، ولكن لا هو يملك فكرة يريد عرضها، ولا قارئه خارج منه بفكرة تبقى معه حينا يقصر أو يطول.
وفيما أنا بصدده من محاولات أمس بها حياتنا الثقافية الراهنة، طالبت نفسي بالبحث عن «هيكل» للبناء الثقافي كما أتمناه للوطن العربي بعامة ولمصر بخاصة كي يسهل علي الفهم وبالتالي يسهل الإفهام. ولم أكد أطالب نفسي بهذا حتى شاء لي الله رب العالمين، ولسبب لا أدريه ولا أتبينه، شاء لي أن يجري لساني بقول الله في كتابه الكريم: ... والسماء وما بناها * والأرض وما طحاها * ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها ...
فما أنا إلا أن نقرت ظهر المكتب بإصبعي، هامسا في فرحة الظافر: «هذا هو البناء الثقافي الكامل وهيكله» ثم انتقلت بعد ذلك إلى تحليل وتفصيل.
إنك إذا استعرضت الأنماط الثقافية التي عاشها الإنسان هنا وهنا وهناك، من أرجاء الأرض وفي مختلف الحضارات، رأيت طرفين يروح بينهما الإنسان في ثقافته ويجيء، وهما السماء بكل ما ترمز إليه، والأرض وما تتعلق به ويتعلق بها من ظواهر الكون. وأما السماء فترمز بها إلى الديانات بعقائدها وتشريعاتها وأخلاقياتها، وأما الأرض والكون كله معها فنرمز بها إلى ميادين العلم والعمل على اختلافها، وبين هذين القطبين يعيش الإنسان، فيه بدن من طينة الأرض وجنسها، وفيه روح هي بمثابة همزة وصل بينه وبين السماء وما تعنيه، وعلى أعمدة هذا الهيكل وقوائمه، رأينا ثلاث صور للإنسان في حياته الثقافية: كان خيرها صورة يتوازن فيها الإنسان بين طرفي السماء والأرض، فهو عابد لله وهو في مجال دينه، وهو أيضا عابد لله وهو في دنيا العلم والعمل فوق هذه الأرض، وأما الصورتان الأخريان، فهما ضربان من التطرف، فإما أن يستغرق الإنسان طاقة حياته متعلقا بالسماء وما ترمز إليه مهملا شئون الأرض بل مزدريا لها محقرا من شأنها، وإما أن يتعلق بالأرض التي هي دنياه علما وعملا، فإذا كان التطرف بالصورة الأولى وصفوا حياة الإنسان الثقافية في جملتها بأنها «روحانية» وإذا كان التطرف بالصورة الثانية وصفوا حياة الإنسان الثقافية عندئذ بأنها «مادية»، وإننا لنجد الصور الثلاث جميعا في كل نمط ثقافي عرفه الإنسان: فهناك من الناس من يتوازن بالجمع بين الطرفين وهناك منهم من يتطرف إلى أعلى، ومنهم من يتطرف إلى أسفل، إلا أن العصور التاريخية وكذلك الشعوب المختلفة قد يغلب على العصر المعين منها، أو الشعب المعين، صفة غالبة تميزه: اتزانا أو تطرفا هنا أو تطرفا هناك. ولو أننا وجهنا أنظارنا نحو ما هو كائن بين «السماء وما بناها» و«الأرض وما طحاها» من كائنات أخرى غير الإنسان، من نجوم وكواكب وذر ونبات وحيوان لما وجدنا فيها ذلك التذبذب بين هذا وذاك الذي نراه في الإنسان؛ لأن الخالق جل وعلا قد ألهم تلك الكائنات جميعا خطا واحدا تسير فيه، وكان الإنسان وحده دون سائر الكائنات هو الذي ألهمت نفسه اختيارا بين قدرتين فإما فجور إذا أراد، وإما التقوى إذا أراد، وعليه آخر الأمر يقع الحساب فيما يختار، ومن هنا رأيناه قد اضطرب بين تطرف واتزان.
ونحن إذ نستخدم صفتي «الاتزان» و«التطرف» بشقيه، لا نطلق الأسماء جزافا، فإذا تذكرنا في وعي وفهم، أن من بنى السماء هو من طحا الأرض، وهو الذي سوى النفس الإنسانية على نحو ما سواها، كان لنا كل الحق في أن نصف بالاتزان إنسانا عرف كيف يجمع في نفسه على التقوى سماء وأرضا في وقت واحد ، بمعنى أن يجمع في ثقافته دينا وعلما وعملا، بأقدار تجعل الأركان الثلاثة عمدا تحمل معا سقفا واحدا، وإذا كان اتزان النفس يكمل للإنسان بهذا الجمع المتعاون، نتج عن ذلك أن يكون الاكتفاء بجانب واحد دون الجانبين الآخرين، أو بجانبين دون الثالث، موقفا منقوص البناء معرضا للانهيار.
وفي هذا الإطار نستطيع الحكم على ثقافتنا وثقافات غيرنا، بما يتجه نحو الكمال منها وما يتجه نحو النقص والتشويه. ونظرة عجلى إلى شريط الحضارات وثقافاتها قد توضح لنا - على ضوء الهيكل الذي قدمناه - بأن الحضارة الفرعونية توازنت فيها الثقافة مع بعض الرجحان نحو السماء، فقد امتلأت أرضهم بالصناعة والفن والتشييد والحرب ونظام الحكم، إلا أن الدين كان هو دافع هذا النشاط كله، وكذلك توازنت الحضارة العربية في ثقافتها في عصر المأمون في القرن التاسع الميلادي وامتداده إلى القرن الحادي عشر الميلادي، لأننا إذا أخذنا رسائل إخوان الصفا في موسوعيتها علامة على نزعة الحياة الثقافية عندئذ وجدنا اهتمام القوم قد انصب على كل فروع العلم على حد سواء، لا فرق في ذلك بين علوم طبيعية وعلوم دينية، لكن الحياة الثقافية في أوروبا إبان عصورها الوسطى (من القرن الخامس إلى القرن الخامس عشر) قد تطرفت نحو السماء لدرجة ملحوظة، والحياة الثقافية في الدولتين العظميين في عصرنا هذا قد تطرفت نحو الأرض بدرجة ملحوظة كذلك.
تلك أمثلة مختارة بمقياس كبير، فإذا ضيقنا مقياس الرسم لننظر إلى مساحات محدودة في دنيانا نحن الثقافية وفي زماننا الحديث منه والمعاصر؛ قلنا إن عناصر حياتنا الثقافية قد توازنت خلال الفترة الممتدة من أواخر القرن الماضي وإلى نهاية النصف الأول من هذا القرن، ففي كل فرد من الأعلام الذين حملوا عبء الثقافة على عواتقهم تجد الجمع بين التأثر بموروثنا الثقافي والتأثر بتيارات الفكر في الغرب في توازن يلفت النظر، في حين أن الفترة الراهنة التي نجتازها وبصفة خاصة خلال السبعينيات والثمانينيات تشهد انحرافا واضحا نحو السماء في تكرارية وببغائية تكاد تخلو من لمعة الذكاء.
وهذه الفترة الأخيرة هي التي تهمنا بالدرجة الأولى ، لأنها هي الفترة التي نتنفس هواءها، وهي الفترة التي نعنيها حين نشكو من حالة التعليم والإعلام والثقافة، فإذا سألنا بل ولا بد لنا أن نسأل: ماذا نحن صانعون؟ كان الجواب - فيما أظن - واضحا في ضوء الهيكل البنائي الذي رسمناه، فالذي ينقصنا هو أن ننظر إلى السماء وإلى الأرض معا، نظرتنا إلى العقيدة من جهة والجهاد في سبيلها من جهة أخرى، ويكون هذا الدمج بين الطرفين هو المضمون الإنساني الذي يتمثل في كل فرد من أبناء الشعب، شريطة أن يتسع بنا أفق النظر حين ننظر إلى الجهاد المطلوب بحيث يكون «العلم» بكل فروعه بحثا وتحصيلا وتطبيقا فريضة من العقيدة تتطلب الجهاد في سبيلها، وكذلك قل عن دنيا العمل بكل جوانبها من صناعة وزراعة ومهنة وحرفة، فهذه كلها فروض تفرضها العقيدة الموحى بها من السماء، وينبغي الجهاد في سبيلها. ويتوازى مع العقيدة والجهاد في سبيلها بالعلم وبالعمل نشاط إبداعي في عالم الفن والأدب ليحمل في طيه انعكاسات ما تموج به نفس المواطن العربي من هذا كله.
على أن الآيات الكريمة حين أشارت إلى النفس الإنسانية في ترددها بين السماء والأرض أشارت إلى ازدواجية تلك النفس بين فجور وتقوى؛ بمعنى أن في فطرتها ما يمكن أن يميل بها نحو هذا وما يمكن أن يميل بها نحو ذاك، وبهذا يقام المعيار الذي نميز به بين من حسنت تربيته وثقافته وتعليمه، وبين من ساءت فيه هذه الجوانب، إذ ماذا يصنع المربي فيمن يربيه، والمعلم فيمن يعلمه، وصانع الثقافة فيمن يتلقى صناعته، ماذا يصنع هؤلاء إذا لم تكن حصيلة صناعتهم إنسانا يقوى فيه الجانب المتجه به نحو التقوى بمقدار ما يضعف فيه الجانب المتجه به نحو الفجور؟ وربما كان هذا الموضع من حديثنا هو المناسبة الصالحة للفت الأنظار إلى حقيقة هامة شديدة الصلة بعصرنا، وهي أن «العلم» محايد حيادا تاما بالنسبة إلى التقوى والفجور، أي إلى ما فيه خير الإنسان وما فيه الشر للإنسان، وإنما يأتي الخير والشر نتيجة لحسن استخدام ذلك العلم أو لسوئه؛ فالعلم في ذاته قوة وعلى الإنسان أن يتزود منها ما استطاع أن يتزود، ثم تأتي التربية، وتأتي الثقافة لتزرعها في الأفئدة إحساسا بالحدود التي تقيد استخدامنا لقوة العلم التي اكتسبناها، فإذا كان العلم قد كشف السر عن ذلك المارد الجبار، الذي هو تلك الذرة الشيطانية التي صغرت حجما حتى لتدق فلا ترى بأعظم المجاهير، ولكنها انطوت على قوة تثير فينا الدهشة والذهول، فها هنا يكون على العلم أن يستخلص قوانين ذلك المارد الصغير الكبير، ثم يكون على التربية والثقافة من ناحية أخرى أن تبث القيم الإنسانية في صدور الناس ليتعلموا متى وإلى أي حد يجوز ذلك الاستخدام، ومتى وإلى أي حد لا يجوز ولقد نجح عصرنا في تحصيل العلم ونشره ولكنه فشل في زرع الضوابط القيمية في الصدور.
Unknown page
الانحراف الذي يميل بأصحابه إلى تطرف إما إلى أعلى وإما إلى أسفل مصدره دائما هو خطأ الظن بأن ثمة تنافرا بين السماء والأرض بحيث تجمعهما مصلحة واحدة، فإذا رجحت كفة السماء خفت حتما كفة الأرض، وإذا علا شأن الأرض وشواغلها انخفضت حتما شئون السماء، فلكم شهدنا في أمور الحياة الجارية كيف أن المتطرفين في الدين وكذلك من كان الاشتغال بالدين مورد أرزاقهم ومكانتهم بين الناس، كيف أن هؤلاء جميعا يغارون أشد الغيرة على الدين، من أي نجاح يصيبه المشتغلون بأمور هذه الدنيا علما وثروة وجاها، وغير ذلك مما لا يتصل بالحياة الدينية اتصالا مباشرا كأنما الطرفان في رأيهم نقيضان لا يجتمعان معا في نجاح واحد، فلقد سمع كاتب هذه السطور أستاذا جليلا وهو يتحدث إلى جماهير الناس مستخفا بالعلم ونتائجه استخفافا عجيبا، فلما كان حديثه دائرا حول أولئك الذين أتعبوا أنفسهم عبثا ليصعدوا إلى القمر أمسك بمنديل من الورق أخرجه من علبة أمامه ورفعه بيده ليقول، إن هذه الورقة أنفع من كل ما صنعوه في ذلك السبيل، وفات الشيخ الجليل عندئذ أنه وهو يعلن هذا الرأي العجيب ربما كان حديثه ذاك يذاع بواسطة قمر صناعي ليستمع إليه ثلث سكان الأرض في لحظة واحدة ، والأقمار الصناعية هي إحدى النتائج الفرعية التي تفرعت عن العمليات العلمية التي أدت بالإنسان إلى بلوغ القمر ليمشي على سطحه بقدميه لأول مرة منذ خلق الله تعالى الكون وما فيه، وكذلك سمع كاتب هذه السطور بأذنيه أستاذا جليلا يقول للناس في معرض حديثه عن عجز الإنسان وقصوره، وكان العلماء في بلد من بلاد الأرض قد أذاعوا في قومهم نذيرا بأن بركانا على أرضهم وشيك الانفجار، يقول للناس إن هؤلاء العلماء قد ضلوا سواء سبيلهم حين ظنوا بأنفسهم القدرة على التنبؤ بالغيب ... والأمثلة لا آخر لها، لما يقوله المتطرفون في الدين أو المشتغلون به إذا ما نجح العلم في كشوفه ومغامراته، وهم يقولون ما يقولونه غيرة على الدين من أن تحيط به شكوك؛ بسبب ما وفق إليه العلم من رفع للأستار عن بعض السر المكنون في جنبات هذا الكون العظيم، وعكس ذلك قائم عند بعض المشتغلين بالعلم، وذلك بالنسبة إلى موقفهم إزاء الدين، فلأنهم يرون اختلافا شديدا في منهج الإنسان بين الحالتين: حالة إيمانه الديني وحالة بحوثه العلمية، فبينما هو في الحالة الأولى يؤمن أولا بما يؤمن به ثم يبحث ويحلل ذلك الذي آمن به وذلك إذا كان من القادرين على البحث والتحليل والراغبين فيهما، أقول إنه بينما الإنسان في حالة إيمانه الديني يؤمن أولا ثم قد يحلل ويعلل ما قد آمن به، فإنه في حالة النظر العلمي يبدأ بالتحليل والتعليل لعله ينتهي آخر الأمر بما يؤمن أنه صواب، وحين يشعر بعض المشتغلين بالعلم بهذا الفارق المنهجي بين الحالتين تأخذهم خشية الخلط بينهما؛ إذ ربما كان الخسار في هذا الخلط واقعا على العلم وأصحابه.
والفريقان كلاهما: رجل الدين في غيرته على الدين من نجاح العلم، ورجل العلم في حرصه على أن يسلم البحث العلمي من سرعة التصديق في نتائج معينة قبل استيفاء البحث المدقق الغامض أقول: إن الفريقين كليهما خاطئ في ظنونه، لأن لكل منهما جانبا يدير حوله اهتمامه، لكن الجانبين معا يصنعان إنسانا واحدا ويصنعان كونا واحدا ويؤمنان بإله واحد ، وكيف يكون ذلك؟ إنه يكون ويتضح أمام العقل وضوحا ناصعا إذا نحن فرقنا - في كل ظاهرة مما نتناوله بالبحث والنظر - بين «الفعل» و«المفعول». وخذ مثلا يوضح لك ذلك؛ يصاب الإنسان بجرح فيشير عليه الطبيب بدواء؛ فيندمل الجرح، وهنا قد يقول رجل العلم (علم الطب في هذه الحالة) إنه العلم ونجاحه فيخاف رجل الدين أن يكون في ذلك القول انتقاص من قدرة الله فيحتج قائلا: بل هو الله سبحانه هو الشافي: وسر الخلاف بينهما هو أنهما لم يفرقا بين «الفعل» و«المفعول»؛ فالتئام الجرح مفعول أدى إليه الدواء، ولكن لماذا كان لذلك الدواء «فعله»؟ لماذا تتصرف أنسجة الجلد بمثل ما تتصرف به حين وضع عليها الدواء؟ قد يستسهل مجيب أن يجيب على ذلك بقوله إنها «طبائع الأشياء» لكن المؤمن بالله يفضل أن ينسب ذلك «الفعل» إلى فاعل هو الخالق جل وعلا الذي جعل للأشياء تلك الطبائع، إذن لا تناقض بين رجل العلم هنا ورجل الدين، فالأول عني ب «المفعول» أي بالظاهرة التي نتجت وأصبحت شيئا مرئيا للعين وأعني «الجرح» في هذه الحالة، ورجل الدين اتجه بنظره إلى «الفعل» وفاعله.
فالعلم في كل ميدان من ميادينه يدير بحثه حول «الظاهرة» المعينة التي هي موضع بحثه، ولا يفوتك هنا كلمة «ظاهرة» ومعناها، فالعلم مجاله ما يظهر من حقائق الأشياء.
وأما ما وراء الأسطح الظاهرة من قوى تؤدي إلى ظهورها، فليس ذلك من شأنه وهو في لحظة البحث العلمي، وانحصار العلم فيما «يظهر» أو في الذي يمكن استدلال وجوده من ذلك الظاهر، أمر لا يشين العلم ولا يعيبه ولا يؤخذ دليلا على عجزه، فعجزه أو قدرته إنما يكون داخل مجال اختصاصه وهو «الظواهر» وقوانين العلم جميعا، إن هي إلا صيغ دقيقة تصاغ برموز الرياضة أحيانا وبألفاظ من اللغة، وذلك بحسب مادة الموضوع صياغة يراد بها أن يتنبأ الإنسان في دقة ما عساه يحدث في عالم «الظواهر» إذا ما توفرت عوامل معينة، وواضح أن أية «ظاهرة» كالمطر، أو الزرع، أو الريح، أو المرض، أو ما شئت، إنما هي «مفعول» تدركه حواسنا لكنه نتج عن «فعل» خاف لا تدركه الأبصار فتؤمن به البصائر والقلوب.
وأستجمع ما قلته ليصبح واضحا أمام القارئ: فلقد حاولنا أن نفهم الحياة الثقافية أينما وقعت في ضوء «هيكل» نظن أن على أضلاعه وركائزه يقام لتلك الحياة الثقافية بناؤها، وكان الهيكل الذي قدمناه هو السماء في أعلى والأرض في أسفل والإنسان بينهما صاعدا هابطا بما وضعه فيه خالقه من إرادة حرة الاختيار بين طيب وخبيث، فالسماء هنا رمز للوقفة الدينية الإيمانية بكل ما يتفرع عنها من فروع، والأرض رمز لها والكون كله معها، وذلك هو ميدان العلم والعمل، ثم زعمنا أن الفرد من الأفراد أو الشعب من الشعوب أو العصر من العصور يأخذ طابعه الثقافي من إحدى وقفات ثلاث إزاء هذا البناء الهيكلي: وقفة تميل نحو السماء ولا تجعل للأرض قيمة إلا بالحد الأدنى، وأخرى تميل نحو هذه الحياة الأرضية وما يلتف بها ولا تفرغ لما هو غيب إلا بالحد الأدنى كذلك، ووقفة ثالثة تتوازن فيها الجوانب، وسبيل ذلك عندها هو ألا تفهم السماء والأرض أو قل الغيب والشهادة أو إن شئت فقل الآخرة، والأولى أقول إن الوقفة الثالثة لا تفهم أيا من هذه الثنائيات إلا على أن كل واحدة منها هي حقيقة ذات طرفين، ويستحيل على الإنسان أن يحيا أحد الطرفين إلا وهو موصول بالطرف الآخر فلا آخرة إلا وهي مسبوقة بالأولى، ولا ظواهر يضعها العلم موضوع بحث إلا ووراءها غيب شاء لها أن تظهر كما ظهرت ... وبهذا المقياس المكتمل الناضج المتمثل في الوقفة الثالثة يكون حكمنا على حياتنا الثقافية في هذه المرحلة من تاريخنا، وفي أية مرحلة سبقت خلال ذلك التاريخ.
لكننا ونحن بصدد الحكم على حياة ثقافية في إحدى مراحلها عند شعب معين، وأذكر أن موضوع حديثنا هذا منصب في المقام الأول على حياتنا نحن في مرحلتنا التاريخية هذه، أقول إننا إذا أردنا حكما كهذا وأردنا لهذا الحكم أن يكون منصفا ما استطعنا وجب علينا النظر في تفصيلات الجوانب المختلفة التي تتألف منها حياة الناس الثقافية، سواء أكانت نزاعة نحو السماء أم نحو الأرض أم نحو التوحيد بين الطرفين. ولكي تقدم صورة تبين تفصيلات حياتنا الثقافية الراهنة سعيا وراء حكم منصف لها أو عليها أراني مضطرا إلى الاستعانة بهيكل بنائي آخر داخل الهيكل الذي أسلفت الحديث عنه، وأما هذا الهيكل الفرعي الذي أحاول به أن أضم التفصيلات الكثيرة في رسم قليل الخطوط فهو أن أدعوك لنتصور سلما من ثلاث درجات وأقيمت على جانب السلم سنادة يستند إليها الصاعد أو الهابط.
وأولى هذه الدرجات من أسفل تمثل المتفرقات الأولية التي يعرف كل فرد قليلا أو كثيرا منها، فكل فرد يعرف شيئا عن السلع المعروضة في الأسواق وأسعارها، وشيئا عن الأحزاب السياسية القائمة وصحفها، وشيئا عن مدارس التعليم ومعاهده وجامعاته، وشيئا عن القرية والفلاح والأرض الزراعية وما أصابها، وشيئا من الكرة ومبارياتها، وشيئا عن حياة المرأة ومشكلتها بين القرار في البيت أو الخروج إلى العمل وهكذا وهكذا؟ تلك المعارف المتفرقة عن هذا وهذا وذاك يكتب عنها ويذاع ويتحدث عنها الناس بعضهم مع بعض، ومن هنا كان لكل فرد من أبناء الشعب نصيب منها قل ذلك النصيب أو كثر.
تلك كانت أولى درجات السلم المعرفي من أسفل، فإذا كتب لك أن تكون من الصاعدين إلى الدرجة التي تعلوها وجدت هناك بدل المعلومات المتفرقة التي صادفتك في الدرجة الدنيا، علوما يحاول كل علم منها أن يضم أشتات المتفرقات في قوانين عامة تضمها، فللاقتصاد قوانينه العلمية، وللسياسة نظرياتها وللتعليم مناهجه، وللزراعة قواعدها العلمية وهكذا.
ثم تصعد في السلم إلى الدرجة الثالثة والعليا وهي في حقيقتها درجة تفعل في «علوم» الدرجة السابقة عليها ما كانت تلك الدرجة السابقة نفسها قد فعلته في متفرقات المعلومات التي شهدتها الدرجة الأولى من أسفل السلم، فكل درجة إنما تستخلص من سابقتها تصميمات توجزها وتكشفها، فقد رأينا كيف عملت «علوم» الدرجة الوسطى على تقنين المعارف المتفرقة التي حصلناها في الدرجة السفلى، وها نحن أولا، نقول القول نفسه عن الدرجة العليا بالنسبة إلى ما دونها؛ إذ هي تستخلص من قوانين العلوم ونظرياتها «وجهة نظر» عامة وشاملة، تبين حدود الرؤية التي في إطارها نريد للإنسان أن يرى حياته في كل فرع من فروعها، وهذه «الرؤية» العامة والشاملة هي من حياتنا بمثابة الدستور الذي تتفرع عنه القوانين، ولهذا ترى الصاعدين إلى الدرجة الثالثة من درجات السلم يشغلون أنفسهم بأفكار عامة، لا هي من صميم العلوم ولا هي من صنف المعلومات المتفرقة، هي أفكار بمثابة الخرائط التي تبين طرق السير أمام السائرين أو بمثابة المناظير التي تظهر للعين ما كان قد خفي عليها من حقائق الأشياء، وتلك الدرجة الثالثة من درجات السلم هي التي تجد عندها الفكر الفلسفي في معنى من معانيه أو قل تجد عندها «الحكمة» التي من شأنها أن تحكم خطوات الإنسان على الطريق.
إلا أن تلك الدرجات الثلاث بكل ما اختصت به كل منها، إن تكن قد لخصت لنا صورة لحياة المعرفة - في الفرد الواحد، وفي مجموعة الشعب - تلخيصا أوضح معالمها، إلا أنها قد تركتنا ومعنا سؤال جائز، وهو هذا: إذا كانت تلك هي صورة البناء المعرفي للإنسان، فبماذا - إذن - يختلف شعب عن شعب؟ والجواب هو أن ثمة سنادة أو قل بطانة تقوم عليها «هوية» الشعب الواحد، قوامها - عادة - مجموعة مختارة من المبادئ والقيم، وهي التي مثلناها بسنادة (درابزين) في جانب السلم بدرجاته الثلاث، يستند إليها الصاعد أو الهابط فمهما تكن الدرجة التي يقف عندها الفرد في حياته، فهو يستند إلى محصول من المبادئ والقيم تبين منها الواجب والجائز والممتنع والمصادر الأساسية التي يستمد منها تلك المجموعة من المبادئ والقيم هي الدين والأدب والفن والتقاليد والأعراف.
Unknown page
ولقد تولت مؤسسات في الدولة أو في المجتمع العام أمر العناية بكل درجة من الدرجات الثلاث ومعها السنادة التي يتكئ عليها الصاعدون - سواء كنا على وعي بهذا التقسيم أو على غير وعي - فأما درجة المتفرقات من المعلومات والمعارف فهي مهمة وزارة الإعلام بأجهزتها المختلفة، إذن يكون أساس الحكم على عملها نجاحا أو إخفاقا هو: كم يعرف متوسط الفرد من أبناء الشعب عن جوانب حياته؟ وأما الدرجة الوسطى وفيها «علوم» تقنن المعارف المتفرقة، فشأنها موكول إلى وزارتي التعليم العام والتعليم العالي، بما يتبعهما من مدارس ومعاهد وجامعات، ويكون أساس الحكم عليها نجاحا أو إخفاقا، كم من «العلم» حصل الطالب، وكيف جاء ذلك التحصيل؟ وأما الدرجة الثالثة من درجات السلم وهي التي تتكون فيها للشعب وجهة نظره، ويضاف إليها جزء مما تؤديه السنادة التي هي متكأ السائرين، فأمر ذلك هو لوزارة الثقافة إذن يكون الحكم عليها بالنجاح أو بالفشل مؤسسا على ما أدته أو تؤديه في خلق «رؤية» قومية موحدة، في إطارها يعلم العالمون ويسلك السالكون.
وبعد الحكم على هذه الهيئات نجاحا وإخفاقا تضم معا في نسج واحد هو نسج الحياة الثقافية التي نعيش اليوم في ظلها ننظر إليها خلال البناء الهيكلي العام ذي الوقفات الثلاث بالنسبة للسماء والأرض والإنسان بينها؛ لنرى أي وقفة منها تسود حياتنا، فنكون بهذه الأحكام المؤسسة على منهج للنظر قد ألمحنا بالحقيقة كما هي واقعة؛ فإذا رأينا بها خللا أصلحناه.
فإذا سألتني: وما أحكامك في هذا كله؟ أوجزت لك الجواب كما يلي: وأبدأ بالهيكل الفرعي ذي الدرجات الثلاث وسنادتها، فأقول بأن الدرجة الأولى من أسفل التي قلت عنها أنها في رعاية وزارة الإعلام وهي الدرجة التي تعرض فيها على الناس معلومات متفرقة عن جوانب حياتنا؛ فظني هو أن حصيلة الفرد المتوسط منها منقوصة ومشوهة، وعلة النقص والتشويه فيها هي حرص المشرفين عليها أن يلتمسوا طريق السلامة والعافية فاجتنبوا كل ما عساه يسيء إلى هذا ويؤذي مشاعر ذاك، وأما الدرجة الوسطى وفيها «العلوم» النظامية بمدارسها ومعاهدها وجامعاتها فهي تخرج لنا - بصفة عامة - شبابا كأنهم جسدوا بأشخاصهم «المذكرات» التي حفظوها، فلا اكتمال ولا ابتكار ولا مغامرة ولا نقد ولا طموح، وأما الدرجة الثالثة من درجات السلم التي تقع في رعاية وزارة الثقافة والتي كنا نتوقع منها وحدة الرؤية ووحدة الهدف فلا أظن أننا في كل تاريخنا الماضي قد تمزقنا بين عدة رؤى وعدة أهداف كما تمزقنا اليوم. وإني لأشهد بأنه إذا كان في الهيكل جانب على شيء من السواء فهو في سنادة المبادئ والقيم (من الوجهة النظرية)، فهذه تجد نصيبا موفورا من التعبير عنها فيما يذاع وينشر من أدب وفن؛ فإذا نقلنا هذا كله مجتمعا إلى الهيكل البنائي العام وجدتنا أبعد ما يكون الناس عن الوقفة المتوازنة بين سماء وأرض بين دين ودنيا بين علم وعقيدة، وأقرب ما يكون الناس إلى تطرف أصم وأعمى.
لمسة الواقع
كان الوقت يوما من أيام الصيف، في سنة 1947، وكان المكان محطة فكتوريا بلندن، حيث كنت عند نقطة البدء من طريق عودتي إلى مصر، ولم تكن الطائرة يومئذ هي الوسيلة التي يلجأ إليها مسافر أول ما يلجأ، وإنما كان الطريق المعتاد لمن يسافر من لندن إلى القاهرة، هو أن يأخذ القطار إلى ميناء دوفر على الشاطئ الجنوبي من إنجلترا، ومن هناك يركب سفينة تعبر به بحر المانش (كما يسمى بالفرنسية) أو بالخليج الإنجليزي (كما يسمى بالإنجليزية) وكانت تلك السفينة تتجه إلى ميناء كاليه على الشاطئ الشمالي من فرنسا، ومن هناك يكون القطار - أو القطارات - إلى ميناء مرسيليا في الجنوب الفرنسي، وأخيرا يركب المسافر إلى مصر سفينة تعبر به البحر الأبيض المتوسط إلى ميناء الإسكندرية ... ففي ذلك اليوم حين كنت في محطة فكتوريا في ساعة مبكرة من الصباح، كانت تلك هي نقطة البدء من طريق السفر إلى أرض الوطن، وعندئذ جاءني يلهث موظف من مكتب البعثات المصرية. ومعه برقية وردت من مصر تقول: يطلب من فلان المرور بباريس في طريق عودته، لحضور المؤتمر الفلاني الذي تنظمه «اليونسكو». وفي مزيج من الدهشة والحيرة والفرحة، عاونني ذلك الموظف على إلغاء إجراءات سفري لأعود إلى مسكني في لندن، مستأذنا صاحبته في إقامتي يوما آخر، أعددت فيه نفسي إعدادا جديدا، لأرسل إحدى حقيبتي الاثنتين شحنا إلى القاهرة، ولأضع في الأخرى ما يلزمني من ثياب وغير ثياب في أيام إقامتي بباريس.
علمت عند أول وصولي إلى باريس أن الموضوع الأساسي في المؤتمر هو عن «الثقافة »: أهي ثقافة واحدة للإنسان أيا كان موطنه؟ أم هي ثقافات تتعدد بتعدد الشعوب والأوطان؟ والحق أن تلك كانت أول مرة أسمع فيها بمشكلة كهذه، وذلك أني كنت حتى ذلك اليوم، على يقين ثابت بأن الحضارة الأم هي في كل عصر حضارة واحدة، يفرزها من هو في ذروة السلطان الفكري بين الشعوب، ومن تلك الحضارة الأم في عصر معين، تنبثق أشعة تضيء أرجاء العالم بدرجات تتفاوت بتفاوت قدرات تلك الأرجاء، ومع الحضارة الأم تقوم ثقافتها، وأظن أن الفرق واضح بين المعنيين: فالحضارة هي المنشآت والنظم، وأما الثقافة التي تصاحب تلك الحضارة فهي الجانبان الفكري والوجداني اللذان يؤثران في تشكيل تلك المنشآت والنظم، ثم يعود فيتأثر بها، كانت الثقافة العربية الإسلامية هي الثقافة - من فكر ووجدان - التي تولدت عنها حضارة عربية إسلامية لها منشآتها ونظمها التي تحمل طابعها.
ثم عادت تلك النظم والمنشآت بدورها لتؤثر في ترسيخ الطابع المميز لتلك الثقافة وتعميقه، ومن ذلك المصدر العربي الإسلامي، انبثقت الأشعة في سائر الأرجاء، فلما مالت شمسها نحو غروب، كانت الظروف التاريخية في سبيلها إلى إقامة مصدر جديد، هكذا كان الرأي عندي يوم حضرت مؤتمر باريس سنة 1947، وهو أن المصدر الحضاري الثقافي واحد في كل عصر من عصور التاريخ، فثقافة واحدة تقترب منها أو تبتعد عنها سائر الثقافات، وكذلك حضارة واحدة للعصر الواحد، فلما وجدت السؤال مطروحا: أهي ثقافة واحدة للجميع، أم هي ثقافات تختلف باختلاف الشعوب؟ لم يكن لي بد من التفكير العميق في طبيعة هذه المشكلة لأرسم لنفسي طريق السير في مناقشات المؤتمر.
فما هو المقصود بواحدية الثقافة أو تعددها؟ إن اللغة - مثلا - هي في صميم البناء الثقافي، فهل يعقل أن تعني واحدية الثقافة واحدية اللغة التي يستخدمها العالم أجمع؟ وإذا كان الجواب بالنفي، تبع تعدد اللغات تعدد الآداب من شعر ونثر ... وعلى هذا الغرار يمكن السؤال عن واحدية الفن وواحدية العرف الاجتماعي والتقاليد وغير ذلك مما يكون مقومات ذلك الشيء الذي نسميه «الثقافة» عند شعب من الشعوب، إذن فالتعدد الثقافي بديهية تفرض نفسها، إلا أنك سرعان ما تلح عليك فكرة أخرى، لا تلغي ذلك التعدد الذي ذكرناه، بل تجاوره، وهي أن نوعا من الواحدية الصورية لا بد من قيامه بالنسبة للجميع في العصر الواحد، وذلك لأن العصر المعين - عادة - يدور حول محور رئيسي، كالدين أو الفن أو العلم، وذلك المحور الواحد البارز هو الذي يشع في شتى الجهات ليحدث في الناس أينما كانوا، نقطة التقاء مشتركة في الذوق العام، فإذا كان المحور الأساسي هو العلم التكنولوجي - مثلا - كما هي الحال في عصرنا، أخذ كل شعب على وجه الأرض من ذلك الاتجاه بنصيب. بل أخذ كل فرد رشيد من أفراد شعب بنصيب من إشعاعات ذلك المحور ونتائجه المادية والعقلية على حد سواء.
بهذه الخطوط العريضة حددت موقفي في مؤتمر باريس ... بالنسبة إلى السؤال المطروح: فكان الجواب المبدئي عندي على ذلك السؤال هو: إنها ثقافات تتعدد شكلا وروحا، لكنها كذلك تتحد في جذر من جذورها، وهو ذلك الذي يعكس روح العصر ممثلا في حضارته الأم، وما يسبقها ويلحقها من ثقافة تلائمها، وتلك الحضارة الأم في عصرنا هي حضارة الغرب، ومحورها الرئيسي هو العلم وما يتصل به من منهج النظر، وبهذه الثنائية المعيارية تحدثت وضربت الأمثلة، فإذا أردنا الحكم على الثقافة الهندوكية في عصرنا - مثلا - قبلنا جوانبها الأصيلة في الموسيقى والتصوير والنحت، ورفضنا تقديس البقر، وإذا أردنا الحكم على الثقافة العربية في صورتها الراهنة، قبلنا فنونها وأدبها وتصورها الديني، ورفضنا تواكلها ورفضها للروح العلمية في منهاج النظر. وهكذا تحدثت في ذلك المؤتمر على نحو شد انتباه الحاضرين.
ولقد حدث لي - بمحض المصادفة - أن جلست مع عضو بريطاني من أعضاء المؤتمر، وأخذنا نتحدث حديثا حرا، قد يمس شئون المؤتمر من قريب أو بعيد، وقد لا يكون ذا صلة بالمؤتمر وشئونه، وفي غضون هذا الحديث، قال محدثي إنه قد استخلص من كلامي وطريقة سلوكي، أنني رجل يصب اهتمامه على «الأفكار» ولا يوجه اهتمامه إلى «الأشخاص» وصمت قليلا، ثم قال: إنك تحيا داخل رأسك في فكر أكثر جدا مما تعيش مع سائر الناس في واقع، فكانت تلك اللمحة التصويرية عن شخصيتي، جديدة علي كل الجدة، إذ لم أكن قد فكرت قبل ذلك قط في عناصر شخصيتي، ولو كنت قد فعلت فربما لم أكن لأقع على هذه الصورة. على أني منذ تلك اللحظة شغلت بالأمر، رغبة أكيدة مني في معرفة نفسي على حقيقتها، وكان من أهم ما عرض لي أثناء انشغالي بذلك التحليل، هو أني ذات لحظة سألت نفسي قائلا: إذا صدق محدثي ذاك في تصويره لشخصي، أفتكون الصورة مقصورة علي وحدي؟ أم هي - يا ترى - صورة تمثل، بوجه عام، شخصية العربي و«المصري بالتالي» أينما رأيته؟ ومنذ تلك اللحظة تحولت القضية عندي إلى مشكلة، تعترضني كلما فكرت في تحليل الوقفة العربية، وأحسبني قد انتهيت آخر الأمر، إلى أن «العربي» يحيا في رأسه أكثر جدا مما يحيا في الواقع الذي يحيط به، وحتى لا يدهش القارئ لحكم كهذا، أسرع فأنتبه بأن «الكلام» بضاعة تتعلق بالرأس، قبل أن تكون موصولة بواقع، فربما دارت الألسنة في الأحلاق بسيل وراء سيل من الكلام دون أن تكون في ذلك الكلام قوة تقلقل حجرا واحدا من موضعه على أرض الواقع، وبعد هذا التوضيح، أعود فأقول إنني خلال تفكيري فيما قاله عني ذلك المتحدث؛ وسعت السؤال لأسأل: ألا تكون هذه سمة من سمات الشخصية العربية؟ إنها إذا كانت نكون قد وضعنا أصابعنا على مفتاح لما ينبغي أن نؤديه في سبيل تغيير الثقافة العربية وتحديثها.
Unknown page
لكن لا بد من التفرقة بين حالتين لابتعاد الإنسان عن تفصيلات الواقع، إحداهما مشروعة وضرورية لأي تفكير علمي مهما كان ميدانه، والأخرى مرفوضة لأنها أقرب إلى الهذيان. فأما الحالة الأولى المشروعة والضرورية، فهي تلك التي يستخلص فيها الإنسان أحكاما عامة من التفصيلات الجزئية التي تجري بها الحياة اليومية على أرض الواقع، وإذا قلنا ذلك فقد قلنا إن من فعل ذلك قد ابتعد عن وقائع الحياة، لكنه لم ينفصل عنها، فافرض - مثلا - أننا قلنا عن الإنسان العربي إنه ذو أنفة وكبرياء ، شديد الميل إلى إكرام الضيف ونجدة الملهوف، فهذا قول فيه تعميم لما يجري في حياة الناس، والناس أفراد: إبراهيم وعمر وزيد وخالد، والتعميم لا يذكر أحدا بذاته من هؤلاء، كلا ولا يذكر موقفا بذاته مما قد مورست فيه صفات الشمم والكبرياء وإكرام الضيف، بل إن أي تعميم لا بد أن يعلو على تلك الأفراد والمفردات، ليصوغ في عبارته العامة ما هو مشترك بينها، لكنه برغم ابتعاده عن جزئيات الواقع، فإنه يستطيع أن ينزل إليها ليذكرها إذا ما طلب منه أن يبين الشواهد على صدقه، وأحسب أنني فيما أكتبه من أفكار مجردة، إنما أتحرك في تعميمات من هذا القبيل، وهو أمر لا مناص منه في أي تفكير ينزع منزع العلم، وأحسب كذلك أن ذلك العضو البريطاني في مؤتمر باريس الذي لاحظ على شخصي بأنه موجه الانتباه إلى «الأفكار» التي في رأسه، وليس إلى «الأشخاص» من حوله، كان يقصد فيما يقصد إليه ذلك الضرب العلمي من الارتفاع عن تفصيلات الواقع، الذي يظل في الوقت نفسه على صلة ضمنية بذلك الواقع، يعود إليه إذا ما اضطر إلى العودة إليه للمراجعة أو لذكر الشواهد على صدق ما يذهب إليه.
وأما الحالة الثانية من الابتعاد عن الواقع، وهي الحالة التي زعمت بأنها قد أصبحت خاصة من خصائص الثقافة العربية في تاريخها الحديث والمعاصر، فهي حالة فيها «انفصال» عن وقائع الحياة الجارية، فسيل الكلمات الذي يتدفق من الأفواه، أو تجري به الأقلام، كثيرا جدا ما يجيء مبتور الصلة بحقائق الدنيا كما هي حادثة وواقعة؛ ولذلك فكثيرا ما تباغتنا الأحداث الجسام دون أن نكون منها على قليل أو كثير من تدبر وتوقع وحساب. والعجب أنك إذا وجهت أنظارهم إلى ما يسود شعوب الغرب وحكوماته من تدبير وتخطيط وتحديد للأهداف ورسم للوسائل، أجابوك في استعلاء بأن ذلك لأن تلك الشعوب مادية تنشغل بالدنيا وأمورها ولا يعمر قلوبهم إيمان كالإيمان الذي يعمر قلوبنا. فإذا كنت قد أسلفت القول بأن مثل هذه الغيبوبة العقلية تضع أصابعنا على موضع أساسي من مواضع القصور والضعف، مما ينبغي الإشارة إليه لمعالجته وتعديله ابتغاء تطوير الثقافة العربية وتحديثها، فإنما قصدت بذلك تلك الحالة الثانية التي «تنفصل» عن أمور الواقع، وليس الحالة الأولى التي «ترتفع» عن الواقع بتجريده وتعميمه، دون أن تنفصل عنه.
إننا إذ نريد للثقافة العربية أن تسودها لفتة إلى دنيا الواقع، تنزلها من السطح في عالم الوهم واللغو، بالكلمات، فإنما نريد لها ما تمليه الفطرة السلمية على كل كائن حي، إنسانا وغير إنسان، فليس توثيق الصلة بوقائع الأرض، هو الذي يحتاج إلى عزيمة الإرادة، بل إنه الانفصال عن مجرى الواقع المحيط بنا، هو الذي يحدث بعزيمة من صاحبه، يلجم بها نفسه كما نلجم الجواد لتجمد حركته، وفي هذه المناسبة أذكر مثلا ساقه مفكر في العصور الوسطى من التاريخ الأوروبي هو «بوريدان» في سياق حديثه عن إرادة الكائن الحي وكيف تختار بين البدائل المعروضة، وكان المثل الذي ضربه، حمارا جائعا علقت أمامه حزمتان من الدريس، إحداهما إلى يمينه والأخرى إلى يساره، وروعي أن تكون المسافة بين كل من الحزمتين وبين الحمار متساوية تماما، كما روعي كذلك في الحزمتين أن يتساويا حجما ليكون السؤال بعد ذلك هو: هل يستطيع الحمار أن يتحرك نحو إحدى الحزمتين ليأكل؟ وإذا استطاع ذلك فكيف استطاعه؟ وما الذي يدفعه إلى الحركة إلى حزمة اليمين دون حزمة اليسار أو إلى حزمة اليسار دون حزمة اليمين؟ إنه إذا كان الاختيار دائما مؤسسا على مبررات، فليس عند الحمار مبرر يسوغ له الحركة إلى إحدى الجهتين دون الأخرى، مما نتوقع له أن يصيب الحمار جمود عن الحركة فالموت جوعا، ويعرف هذا المثل في الكتب باسم «حمار بوريدان» ... لكن إن كان ذلك هو نوع التفكير الذي يلغو به إنسان في عصر من عصور ضعفه، فالحمار على الطبيعة أعقل من ذلك، لأن فطرته وحدها كفيلة له أن يتحرك بلا تردد نحو إحدى الحزمتين ليأكل مهما يكن من أمر التساوي في المسافة والحجم والشكل، فهذه لجاجات إنسان جفت الحياة في شرايينه، ولم يبق له إلا أن يهذي بكلام فارغ، ينفصل به عن حرارة الحياة الصاحية الواعية.
إن دنيا الواقع بكائناتها الحية وأشيائها الجامدة، متحركة أو ثابتة، هي حقائق لها طبائعها وخصائصها، وهي في الوقت نفسه دنيانا التي نعيش فيها، ومحتوم علينا، ونحن نتعامل مع تلك الحقائق أن نأخذ في اعتبارنا أنها موجودة، ومعها تلك الطبائع والخصائص، ولن يزول وجودها لمجرد أننا قد غضضنا عنها أبصارنا وازدريناها، فلا بد من التعامل معها وبها، تعاملا يلائمنا لننتفع بها بل ولنغير منها ما نريد تغييره استنادا إلى علمنا بما نتميز به من طبائع وخصائص، إن الذي يجيد سياسة الجياد هو الذي يعرف طبع الجياد، لكن ثقافتنا الأصيلة تحتوي على ترفع عن «الواقع» كأنما معايشة بواطن نفوسنا تكفي وحدها لاجتلاب القوة والمعرفة وكرامة الإنسان. ولا يفوتنا في هذا المقام أن نقارن الكلمة العربية «واقع» التي نشير بها إلى ما هو كائن في محيط الأشياء من حولنا، أن نقارنها بنظيرتها في لغات الغرب، وهي «ريالتي» (ومعناها الحرفي «الأشياء») لنرى أن في الاسم العربي ما يشير إلى الوقوع من أعلى إلى أسفل، أو الأغلب، وليست من ذوات الروح، في حين أن الاسم غير العربي يشير إشارة محايدة، فلا صعود ولا هبوط بل هي «أشياء» وكفى، نتعامل معها وبها على النحو الذي تمليه علينا ضروراتها.
واكتساب الناس قدرة الحس «بالواقع» ليس هنة هينة، بل هو أمر يحتاج إلى تربية للنشء منذ الصغر على لفتة خاصة لما حولهم، وحتى في بلاد الغرب المتقدمة، قد يشطح التفكير المجرد ببعضهم إلى اتخاذ موقف نظري يتغاضى عن الواقع، لكن قوة الرأي العام الثقافي سرعان ما ترده. وتحضرني الآن حادثة طريفة في تاريخ الفكر الإنجليزي ... وقد ذاع أمرها لشدة طرافتها وبساطتها مع قوتها إلى حد أنها كثيرا ما ترد في أكثر المؤلفات الفلسفية وقارا، وهي حادثة وقعت بين الدكتور جونسون الذي لا نبالغ إذا قلنا عنه إنه كان في دنيا الثقافة والأدب في بلاده، إبان القرن الثامن عشر، وبين مرافقه «بوزويل» الذي سايره مسايرة الظل لصاحبه ، وكانت الجلسة اليومية لجونسون في مقهى بلندن ومعه «بوزويل» ومن جاء من المريدين، وفي عهدهم ذاك، كان على رأس الفكر الفلسفي في إنجلترا الفيلسوف «باركلي» الذي جاءت فلسفته على شيء كثير من الشذوذ بالنسبة للمعروف المألوف عن مسار الفكر الإنجليزي، فبينما المسار العام هو أن تستند أية فكرة، مهما كان موضوعها، على رصيد حسي من كائنات الواقع، جاء «باركلي» ليبني فلسفته على أن ذلك الواقع نفسه لا سبيل إلى بلوغه أذهاننا إلا أن يتحول من واقعيته المادة ليكون «فكرة»، إذن، فليس لدى الإنسان من دنياه إلا «أفكار» في رأسه، فدار النقاش ذات يوم بين «جونسون» و«بوزويل» إذ هما جالسان في المقهى المذكور مع سائر الرفاق، حول ذلك، الذي كان يكتبه «باركلي» عن إنكار الواقع المادي، تحويلا له إلى أفكار في رءوسنا، فلم يكن من جونسون إلا الرفض، فسأله «بوزويل» قائلا: ولكن ما وسيلتك إلى دحض حجته؟ وكان هناك حجر ضخم على الأرض أمامهم؛ فرفس جونسون الحجر بقدمه، قائلا: «هذه هي وسيلتي لدحض حجته.» أي إن وجود الواقع المادي في شتى كائناته لا يحتاج إثباته إلى حجة نظرية، لأنه يصدم أجسادنا بصلابة وجوده.
والذي يلفت النظر بالنسبة إلى مناخنا الثقافي العام، مصريا كان بصفة خاصة، أم كان عربيا بصفة عامة، هو أنه لا اتساق بين مواقفنا العينية في مجرى حياتنا اليومية، وبين موقفنا من حيث «الرؤية» العامة لما يجب أن يكون عليه الإنسان في وجوده الدنيوي؛ فبينما نحن في المواقف الحياتية الجزئية على صلة وثيقة بالأشياء وطبائعها، ترانا في تصورنا للمثل الأعلى نحث أنفسنا على الترفع عن تلك الأشياء وكأنها دنس ونجاسة! فالمصري «مزارع» متمرس يعرف أسرار أرضه وأسرار زرعه، لا معرفة مضببة بالغموض، بل هي معرفة بالحقائق الواقعية في تفصيلات تفصيلاتها، ولم تكن تلك حالته في قرن واحد من الزمان أو قرنين، بل هي حالته خلال دهر يقاس بعشرات القرون، فكيف يعقل وحالته هي هذه في ملامسة الأرض ومعايشتها؛ يمسي معها ويصبح معها، ومع ذلك إذا فرغ من عمله ، وخلا إلى نفسه تعلق بمجردات، لا هي من نبات هذه الدنيا، ولا هي بقادرة على رصف الطريق في هذه الحياة أمام السالكين؟ فإذا توجهنا بالنظر إلى «العربي» - مصريا وغير مصري - غلبت علينا الصحراء وبداوتها، وهنا أيضا يأخذنا العجب من تناقض نراه بين مواقفنا العينية في حياتنا اليومية الجارية، وبين الإطار النظري الذي نقيم فيه تصوراتنا عن المثل الأعلى، فالبدوي قد اضطرته حياة البداوة أن يكون مرهف الحواس لتفصيلات العالم المحيط به، إنه يجيد مراقبة النجوم، لأنها هي مصابيحه وهو مسافر عبر الفلاة، ويجيد النظر إلى تفصيلات الطريق، بحقائق نجاده ووهاده، وهو يعلم أين يتجه لينتجع بإبله وغنمه، إلى حيث الماء والعشب، إنه يعرف جيدا متى تهب الريح ومن أين، سواء أكانت حارة تتقى أم باردة ترتقب، وأعجب من هذا أن من أميز ما يميز الشعر العربي، تلك اللقطات الحسية الدقيقة، مما عسى أن تراه العين أو تسمعه الأذن، وكل هذه شواهد على أن العربي البدوي ليس بغافل عن دقائق ما حوله، لكنه إذا خلا إلى نفسه في ساعات تأملاته، تعلق خياله بمجردات يتنصل بها من رجس هذه الدنيا في واقع كائناتها وأشيائها.
وليست المؤاخذة هنا منصبة على أن العربي، مدفوعا بثقافته الأصيلة، يلوذ بصورة مجردة تمثل له الحياة كما كان ينبغي لها أن تكون، كلا، لأن ذلك من علامات الصحة لا من علامات المرض، إذ لا مجال لشك عند عاقل، بأن الحياة المكبلة بقيود الواقع كما يقع، لا بد أن يصيبها نقص كثير أو قليل، لما يعلق بها من عناء الطريق ومن غبار العواصف، فمن الخير أن يلوذ المتعب بواحة يستريح إليها، تتحقق فيها صورة الحياة في كمالها، حتى ولو كانت تلك الصورة من محض الخيال، لكن موضع المؤاخذة في البناء الثقافي في حياة العربي هو ميله إلى التعامل مع الواقع بأطراف أصابعه، محاولا أن يتنصل من العيش فيه، كما يتنصل الإنسان من وزر اقترفه وأسف على اقترافه، ومفاخرته بأنه إنما يحيا للروح ومعانيها ومراميها وخلودها، لا لهذه الدنيا بمائها وهوائها ونارها وترابها، والوقفة الصحيحة هي أن نسد الفجوة بين الطرفين، فليست الأرض وما عليها من صنع الشياطين بل هي مخلوقة لله سبحانه وتعالى، لا تختلف في ذلك عن السماء ومصابيحها. ولو أننا ترفعنا عن الأرض وما تحمله فوق ظهرها أو في أحشاء بطنها، لما بقيت أمامنا سبيل لنكون مستخلفين فيها بأمر من الله جل وعلا، بالعمل وبالتعمير وبمعرفة الله عن طريق معرفتنا لما خلق، أرضا كان هذا الخلق أو سماء أو ما بين أرض وسماء.
إننا لو حللنا وقفة العربي إزاء عالم الأشياء والأحداث الواقعة في محيطه، وجدنا لنا وقفة من يخرج من رأسه تصورا يختاره من مخزون تصوراته، ليلقي به على تلك الأشياء أو الأحداث، ثم يحاول بعد ذلك أن يقيم تصرفاته على هذا الأساس، فإما انصاعت له دنيا الواقع بالمصادفة، وإما تأبت عليه وعاندت. وقد كان الأصوب والأسلم والأدنى إلى النجاح، أن يبدأ بدراسة ما يقع حوله دراسة تفصيلية ثم يبني على تلك الدراسة خطة العمل، إلا أن مثل هذا المنهج في رسم خطة السير، يحتاج إلى تدريب منذ النشأة الأولى، لأنها هي نفسها الخطة التي تمليها النظرة العلمية المستندة إلى حقائق الواقع، فللتفكير طريقان، لكل طريق منهما مجاله الذي يصلح له، طريق يبدأ سير التفكير فيه من داخل الإنسان فخروجا إلى الأشياء، وطريق ثان يبدأ فيه السير من الخارج حيث الأشياء قائمة كما هي قائمة، فدخولا إلى الداخل، ويكون الطريق الأول أصلح للسير، عندما يكون الرأس قد ثبت فيه بالفعل أفكار ومعتقدات من حيث يدري صاحبه ومن حيث لا يدري، وكثيرا جدا ما يجيء الزلل من أن المخزون الفكري قد بث في الإنسان أيام أن كان أصغر سنا وأقل قدرة على تحليل ما يتلقاه من الآخرين ونقده، ولذلك كان من الطبيعي في البلاد ذات التاريخ الطويل الذي حمل إليها على أمواجه عبر الزمن ثقافة قديمة، دون أن تتعرض لنهضات فكرية تحدث فيها بعثا فكريا جديدا، أن تجد «المثقف» فيها هو من «حفظ» في ذاكرته مجموعة ضخمة من مأثورات أسلافه، وبهذا «المحفوظ» تراه يدخل في عالم الأشياء والأحداث، دخول من جاءنا ومعه الأحكام مسبقة وجاهزة يفصل بها بين المقبول والمرفوض، ويقيس بها الصواب والخطأ، ويرسم على أساسها خطة سيره وهو في سبيله إلى مواجهة الحياة ومشكلاتها، وذلك كله قبل أن يتناول تفصيلات الموقف المحيط به ليعلم منها ماذا يصلح لها وماذا لا يصلح.
ولا كذلك شعب حديث التكوين، أو شعب قديم في التاريخ لكنه نهض واستيقظ فوعى حقائق الدنيا في طورها الجديد، ففي كل من هاتين الحالتين، ينعكس طريق السير، فبدل أن يبدأ الإنسان من داخل نفسه، حيث المحفوظ من المأثور على أسلافه، مما بدأ في حفظه منذ طفولته، أقول إن الإنسان الناهض الواعي لما هو جديد، بدل أن يبدأ طريقه الفكري من محفوظاته، يجعل نقطة البدء على أرض الواقع ذاته، ولا أحسبني مسرفا في القول إذا زعمت أن صميم النهضة الأوروبية التي أخرجت الغرب من عصوره الوسطى اللاعلمية في نظرة الناس إلى حياتهم ومشكلاتها، وإلى ظواهر الكون وفهمها وتقنينها، كان في مثل هذه النقلة الفكرية التي أشرت إليها وأعني أن يبدأ طريق التفكير من دراسة الوقائع هناك على ظهر الأرض، المرئي بالعين المسموع بالأذن، فدخولا بحصيلة الدراسة إلى داخل الإنسان، حيث الإرادة في اختيارها الحر، وفي عزيمتها الماضية، فتقرر ماذا هي صانعة بذلك الواقع الخارجي المدروس: أنتركه على حالته إذا كان نافعا؟ أم نغيره أو نمحوه محوا إذا كان مرفوضا؟ أقول إن صميم النهضة الأوروبية التي أخرجتها من عصورها الوسطى، هو أن الفكر في الغرب أخذ يبدأ طريقه من دراسة الواقع، بعد أن كان في مثل الحالة التي يحياها الفكر العربي حتى اليوم، وهي أن تبدأ رحلته من مأثورات مما قاله السلف، محفوظة ومحفورة في الذاكرة بمسمار، فخروجا بذلك المأثور الموروث المحفوظ إلى عالم الأشياء ليطرح عليها ظله، حاسبا بذلك أن الظل سيقوى وحده على زحزحة الجبال! ... قال السامع: اضرب لي مثلا لهذه الصورة التي زعمتها عن الفكر العربي في يومنا هذا. فأجبته قائلا: ترى هل تكفيك - يا ترى - المشكلة العربية التي أنساها قيام إسرائيل: كيف عالجتها الأمة العربية؟ فلقد مضت أربعون عاما، ولك أن تنظر ماذا صنع كل من الجانبين: الجانب المقتحم المعتدي، والجانب المعتدى عليه، علما بأن إسرائيل هي «الغرب» في صورة مصغرة، ووراءها يؤيدها الغرب الكبير في أمريكا وأوروبا؛ فنحن في هذا أمام موقف فيه اعتداء من ناحية، ومقاومة للعدوان من ناحية أخرى، وهمنا الآن هو أن ننظر إلى ناحيتنا لنرى ماذا صنعنا في أربعين عاما من المقاومة؟ لقد انتهينا إلى وطن عربي تمزقت أجزاؤه كما لم تتمزق في أي وقت مضى من تاريخها. فهل كان يمكن لهذا التجزؤ أن يحدث لو أن الغرب يحبون ثقافة تدرس خارج جلدها، لتكون على استعداد من داخلها على مقابلة الضربة بضربتين؟ ولقد شاء الله سبحانه أن يبلونا لنتبين حقيقتنا أمام الأزمات، فأنعم على الأمة العربية وهي في قلب محنتها بسلاح سائل كان يستطيع أن يحدث غصة في حلوق الأعداء يشرقون بها حتى يطلبوا منا النجدة، فكان في أيدينا ساعتها أن نبيع ونشتري حتى تزول عنا الغمة، لكننا لم نصدر في أفعالنا عن دراسة موضوعية للواقع، واتجهنا بأبصارنا نحو أجوافنا نخرج منها مكنونها؛ فبدأت حرب كلمات حتى اختنقنا نحن بكلماتنا وتمزقنا في ساحة الحرب الكلامية هذه شيعا وأحزابا، في حين أخذ المعتدي ينظر إلى حقائق ذلك الواقع الأليم ويدرسها ويقيم على الدراسة الواقعية أسبابا للقوة فوق أسباب.
قال السامع: وماذا تريدنا أن نصنع؟
Unknown page
قلت: أريد أن نعكس اتجاه السير، فنبدأ طريقنا بلمسة الواقع.
صورة جديدة لأفكار قديمة
هن أفكار ثلاث كانت للإنسان - ولم تزل - هي كبرى قضاياه، فتذهب به الأيام وتجيء. وهو عندها، يغزلها خيوطا وينسجها ثيابا، فإذا تبدلت عصوره واحدا بعد واحد، تبدل معها، فبعد أن كان في عصر مضى يغزل خيوطه من هذه قبل تلك تراه، وقد جاءه عصر جديد، يغزلها من تلك قبل هذه، فالأفكار الثلاث جميعا هي محاوره التي يدور حولها، لا غناء له عنها مجتمعة وفرادى، وذلك لأنه لا يصطنعها اصطناعا، ولا يتكلفها أو يدعيها لأنها صادرة له عن فطرته، ولا حيلة له في فطرة صنعت له ولم يصنعها لنفسه، وأما تلك الأفكار الثلاث، التي تلازمه ما نبض له قلب وتنفست رئتان، فهي فكرته عن إله خلقه وسواه، وفكرته عن كون يعيش فيه، وفكرته عن نفسه. وحول هذه الأقطاب الثلاثة تدور به الرحى: دينا وعلما وأدبا وفنا. ومما يقوله ويؤمن به عن تلك الميادين الثلاثة. في عصر معين من عصور تاريخه، ينسج له نسيج، هو الذي يقول عنه في ذلك العصر المعين إنه «ثقافته».
لكن الإنسان في دورانه حول تلك الأقطاب الثلاثة، تتغير وجهة نظره في ترتيبها، فمن أيها يبدأ؟ وإلى أيها ينتهي؟
على أن مدار الحكم هنا لا يكون الأولوية «في القيمة». وإنما تكون الأولوية لمنطق السير في تتابع خطواته، وتشبيه ذلك أن تكون ذاهبا من منزلك إلى المسجد، فتختار هذا الطريق مرة لأنه أقصر ويناسب وقتك الضيق، ثم تختار ذلك الطريق مرة ثانية لأنه أهدأ، وقد تختار طريقا ثالثا في مرة ثالثة، لتمر في طريق عودتك على صديق مريض تعوده، ومن هذا القبيل ما يحدث حين تأخذ الإنسان حيرة، في هذا العصر أو ذاك بأي الأفكار الثلاث يبدأ وبأيها ينتهي؟ أيبدأ من فكرته عن خالقه وخالق الكون معا، بمعنى أن يوجه اهتمامه الأول والأكبر إلى ما قد ورد في كتاب عقيدته الدينية، ليكون ذلك هو مصدر الضياء الذي على هداه يفهم الكون ويفهم نفسه؟ أم يأخذ ذلك الكتاب - في أول الأمر - من ناحية التدين والتعبد، مرجئا ناحية المعرفة والفهم حتى يدرس نفسه ويدرس الكون معا، وعندئذ فقط يكون أقدر ما يكون معرفة وفهما لحقيقة الخالق الذي خلقه وخلق الكون جميعا؟ والحق أن ثمة فرقا بعيدا بين الحالتين: حالة تعرف بها نفسك والكون على ضوء ما ورد في تعاليم الدين ومبادئه، وحالة أخرى تعرف فيها تلك التعاليم والمبادئ؛ على ضوء ما تدرسه دراسة متعمقة عن نفسك وعن ظواهر الكون معا؟ ولعلك قد لاحظت في هذا الذي بسطناه، أننا قد أدرنا الحديث وكأنه ليس هناك إلا طرفان: الله (سبحانه وتعالى) ثم الكون والإنسان مجتمعين معا في طرف آخر. لكن حيرة الترتيب تعود هي نفسها بين هذين العنصرين: الكون والإنسان، فيكون السؤال في هذه الحالة هو: أندرس الإنسان مرورا بدراسة الكون؟ أم ندرس الكون مرورا بدراسة الإنسان؟
والإجابة عن هذه الأسئلة، في أي عصر من العصور هي التي - فيما يظن كاتب هذه السطور - تحدد العصب الأساسي فيما يطلق عليه بعد ذلك اسم ثقافة ذلك العصر. وغني عن البيان، أن أمثال هذه الأسئلة لا يلقيها الناس بعضهم على بعض مقدما، لكي يبدءوا خطوات السير في طريق حياتهم العملية، بعد أن تتقرر الإجابة بأغلبية الأصوات إنما هي - أعني الإجابة - وأسئلتها تكون مضمرة في طبيعة الحياة التي أصبح الناس يعيشونها بحكم ظروف قامت ولم يعد في الأمر خيار للناس أحبوا تلك الظروف الطارئة أم كرهوها، تاركين مهمة التحليلات النظرية للموقف الجديد، لمن كان لهم مزاج وقدرة تميل بهم نحو أن ينتبذوا من صخب الحياة العملية ركنا هادئا، يراجعون فيه ما هو كائن على أرض الواقع، ليردوه إلى أصوله ومنابعه؟ فإذا ما عرضوا على الناس نتائج تحليلاتهم تلك وجدوا أنفسهم أوضح فهما لحياتهم، فإن رأوها تستوجب التعديل والإصلاح بدلوها وأصلحوها.
إننا في هذه المرحلة الحاضرة من حياتنا، نكثر الحديث المشوب بالقلق عن ثقافتنا وإلى أي وجهة نريد لها أن تتجه؟ وحتى أصحاب النظرة العجلى، يستطيعون أن يروا ثلاث وجهات للنظر متفاوتة القوة متفاوتة الذيوع، فوجهة منها، وهي الأوسع انتشارا بين الناس، وإن لم تكن بالضرورة أقواها حجة وأنضجها فكرا، لا تتردد في دعوة الناس إلى أن يحيوا في حاضرهم ثقافة هي نفسها الثقافة التي استظل بظلها أسلافهم في التاريخ العربي الإسلامي على وجه التحديد، فإذا أحاطتهم حياتهم القائمة بمشكلة كانوا على يقين من أنفسهم، بأنهم واجدون الحل الأفعل، بين ما خلفه لنا أولئك الأسلاف، فهناك سوف نجد السؤال وجوابه، على نحو ما يفعل التلميذ الصغير وهو يراجع دروسه استعدادا للامتحان، فإذا لم يكن السؤال ذاته موجودا في مخلفات السلف ، بحثنا عن سؤال يشبهه لنقيس الشبيه إلى شبيهه، ووجهة نظر ثانية، هي أقل الوجهات الثلاث قبولا وانتشارا بين الناس كما أنها في الوقت نفسه في - رأي هذا الكاتب - أضعفها حجة وأبعدها عن الصواب وهي وجهة نظر يميل أصحابها إلى أخذ ثقافتنا الآن بضاعة جاهزة من منتجات الغرب الحديث والمعاصر، تماما كما نفعل عندما نستورد منه الطيارات والسيارات، وكأننا أمة خرجت صباح اليوم لأول مرة من العدم. وأما وجهة النظر الثالثة فتقع وسطا بين الطرفين؛ بمعنى أنها تريد لنا حياة ثقافية تظل معها السحنة العربية بعامة - والمصرية بخاصة - سليمة من الأذى، على أن نلتمس لتلك الثقافة بعض غذائها من الغرب، وذلك فيما يمس نبض الحياة المعاصرة. ولا أظن أن ذلك طلب منا للمحال؛ لأنه أمر وقع في حياتنا بالفعل، في بعض جوانب حياتنا، وعند نفر من أعلامنا، ولم يبق إلا أن نعمق ليشمل جوانب الحياة بأسرها وأبناء الشعب جميعا في رؤيتهم العامة للدنيا وأهلها وأحداثها.
وأغلب ظني هو أننا إذا ما أمعنا النظر في هذا الاختلاف بين وجهات النظر الثلاث، وجدنا أنها في أساسها أنما تختلف على أولويات الترتيب بين المحاور الثلاثة التي قدمناها، فأصحاب وجهة النظر الأولى يرون أن نبدأ بمعرفة الدين في مصادره وأصوله لكي نفهم الكون والإنسان على أساسه، وأصحاب وجهة النظر الثانية، جريا على نموذج الثقافة الغربية القائمة، يرون أن العلم بالكون والإنسان يهيئ لنا النضج الفكري والروحي معا، الذي يعيننا بعد ذلك على أن نكون أقدر على فهم ديننا فهما لا يتصادم مع أسس الحياة، كما تفرضها ظروف عصرنا. وأما أصحاب وجهة النظر الثالثة، وهي التي تلتمس لنفسها طريقا وسطا يجمع الطرفين ولا يرفضهما، فالظن عند أصحابها - أو هكذا يرى كاتب هذه السطور - أن الأولوية إنما تكون للإنسان؛ نربيه على أسس تستثمر فطرته كما هي واقعة، وكما خلقها خالقها ومصورها وباريها؟ على نحو ما يرعى الزارع طبيعة النبات الذي يتعهده، فالأولويات لا يقررها هو للنبات، بل النبات هو الذي يمليها عليه. وكذلك يكون الإنسان في نشأته ونموه؛ له في كل مرحلة من مراحل عمره حاجات تتطلب الإشباع فيتولاها ولي أمره بما هي في حاجة إليه دينا كان، أو علما أو بحثا عن نفقة نفسه، حتى إذا ما اكتمل له النمو الناضج، عرف كيف يكون عالما مع الدين أو كيف يكون متدينا مع علم بحسب ما تقتضيه وقفته من دنياه.
وقبل أن أضع بين يدي القارئ مقارنة بين دنيانا اليوم وما نستوجبه، وبين دنيا أسلافنا في التاريخ العربي الإسلامي (وأتعمد أن أضع هذا التحفظ لأن لكل بلد من الوطن العربي أسلافا آخرين يؤخذون أيضا في الاعتبار عند تكويننا لوجهة نظر معينة) أفضل أن أسوق مثلا مأخوذا من غيرنا، لنرى كيف يحدث الانتقال الثقافي عند الشعوب، استجابة لتغير ظروف الحياة، فكيف تحولت أوروبا من ثقافة عصورها الوسطى إلى ثقافة عصورها الحديثة، فالمعاصرة؟ فلقد تم لها ذلك التحول خلال ما يقرب من قرنين، هما الخامس عشر والسادس عشر، فما الذي كان قبل ذلك وما الذي أصبح بعده؟ ونعود إلى الأفكار الثلاث الكبرى التي ذكرناها: الله والكون والإنسان، فنرى أن ما قد حدث هو - أساسا - تغير في ترتيب تلك الأفكار في بناء الحياة الثقافية، فقد كان الترتيب خلال العصور الوسطى كلها (امتدت من القرن الخامس إلى القرن الخامس عشر) يعطي الأولوية المطلقة للدين ورجاله، حتى لقد كانت الأكثرية الغالبة من العلماء، من رجال الدين؟ كما كانت الأكثرية الغالبة من موضوعات البحث مما يتصل بالفكر الديني من قريب، بل وكانت الأكثرية الغالبة من مراكز البحث العلمي في الأديرة، وترتب على هذا المناخ العام أن تنحصر شئون الدنيا - من ناحية البحث العلمي - في أقل حيز ممكن؛ إذ لماذا يعنى الباحثون العلماء بدنيا الناس هذه، إذا كانت هذه الدنيا بكل ما فيها شيئا مزهودا فيه، لا يزيد على أن يكون معبرا ليس منه بد كل أمره هو أن يوصل الإنسان إلى لقاء ربه؟ ولا عجب ألا يجد المنقب لآثار العصور الوسطى في ربوع أوروبا، إلا عمارة الكنائس والأديرة وإلا فنونا من تصوير ونحت يتصل كلها - أو معظمها - بموضوعات دينية مأخوذة من الكتاب المقدس، وهكذا قل في شتى جوانب الحياة الثقافية من رجال أعلام ومؤلفات وتيارات لفكر الفلسفي وغيرها، وأظن أن ذاكرتنا نحن في الشرق الإسلامي، تحفظ جيدا معاناة أمتنا وبلادنا - في تلك العصور الوسطى - من الحروب الصليبية التي شنها علينا ملوك أوروبا بدفعة من الروح الدينية الضيقة الأفق إبان تلك الفترة من تاريخ أوروبا.
لكن القلق أخذ يسري في نفوس الناس وأخذت الرغبة في الانطلاق تشتد بهم شيئا فشيئا حتى رأينا الإنسان الأوروبي عندئذ يغامر هنا وهنا وهناك وطلبا لمعرفة هذا العالم الذي إنما خلق ليعيش فيه، فغامر في المحيطات المجهولة عندئذ ليكشف عما وراءها ويكفي أن نذكر من تلك الرحلات رحلة كرستوفر كولومبس، التي انتهت إلى كشف القارة الأمريكية، وكلنا يعلم كم نتج عن ظهور تلك القارة - أو القارتين - من أثر في تغيير وجه الحضارة الإنسانية كلها بعد ذلك، ولست أنسى تلك المحاضرة العلمية التي سمعتها في شبابي حين قال المحاضر في سياق حديثه: إن نتائج رحلة كولومبس عبر المحيط الأطلنطي لم تظهر كلها بعد، قاصدا بذلك إلى أنه ما دامت حضارة الولايات المتحدة الأمريكية هي نتيجة ذلك الكشف الجغرافي ثم ما دامت هذه الحضارة العلمية الجديدة لم تستكمل شوطها بعد إذن تكون رحلة كولومبس ما زالت منطوية على مجهولات فيما قد ينتج عنها.
Unknown page