أصدرت المحكمة الجنائية بالقاهرة حكمها بحبس السويسي خمسة وثلاثين عاما وغرامة ثلاثة أرباع مليون دولار بتهم السرقة، والتهريب، وإخفاء الآثار، والرشوة، واستخدام مستندات مزورة، وغسيل الأموال. وحكم على مدير علاقات عامة في الأقصر بالسجن خمسة عشر عاما وغرامة 9000 دولار، وعلى محمد سيد حسن كبير مفتشي آثار الأقصر بالسجن عشرين عاما وغرامة 9000 دولار. جدير بالذكر أن هذه الأحكام خففت في جلسات الاستئناف. •••
لا يخلو مثل هذا الفساد من الطرافة في بعض الجوانب. فالقدرة المطلقة لبعض المتهمين على التفنن، والصفاقة، والادعاء أن ما يفعلونه لا يودي بحياة أحد، وإن كان ادعاء قد يجانبه الصواب؛ كل ذلك يجعل الأمر يبدو وكأنه تجربة مثيرة يمكن لأي شخص أن يستمتع بها خلسة إذا ما أسعده الحظ وأتيحت له الفرصة لذلك. والواقع أن أي شخص قد ينتهز الفرصة في ظل الظروف المناسبة، إذا وضعنا في الاعتبار المشقة التي يتعرض لها عندما يأبى الجميع إلا اتباع القوانين الروتينية طوال الوقت. فالفساد يوفر طريقا ملائما لتفادي الإجراءات الروتينية عندما يتعلق الأمر بتجاوزات بسيطة، وكثيرا ما يكون طريقا مختصرا للهروب من اللوائح التي تخلو من المنطق والتي عفا عليها الزمن بكل تأكيد؛ ومن ثم قد يصبح من الصعب - حتى على من يحاولون التمسك بالأخلاق - الوقوف عند النقطة التي يتخذ فيها الفساد منحنى خطيرا. إنه لمن المؤكد أنه يكاد يستحيل إنجاز عمل ما في العالم العربي دون تدخل الواسطة؛ فمفتاح السر هو معارف المرء وليس معرفته. وبدلا من قضاء أسابيع في إنهاء مصلحة والتنقل من مكتب لآخر في ظل نظام بيروقراطي، لم لا تتصل بصهر أحد أقاربك في الوزارة لتسريع الإجراءات؟
بدأت أستسيغ طعم الواسطة وما تحققه من راحة تسبب الإدمان عليها عام 2006 عندما تعرفت مدة ستة أشهر قضيتها في القاهرة على شقيق لواء يتولى منصبا مرموقا في الجيش المصري أحاطني برعايته. وبدلا من قضاء يوم أو أكثر داخل مجمع المصالح الحكومية بميدان التحرير لتجديد تأشيرتي، وإرسالي من نافذة إلى أخرى ومن طابق لآخر على يد مجموعة من الموظفين يفخرون بتعنتهم وفظاظتهم ، كان شقيق صديقي اللواء يجري اتصالا مسبقا يقابلني على إثره عند باب الدخول عامل يصطحبني مباشرة إلى مكتب الموظف المسئول في ذلك اليوم. وهناك أجلس لأحتسي الشاي وأتناول البسكويت في الوقت الذي يعامل فيه جواز سفري كما لو كان تابعا لإحدى الشخصيات المهمة، ثم يعاد إلي بعد خمس عشرة دقيقة؛ ليس بتمديد ستة أشهر كما طلبت، وإنما بتأشيرة إقامة لمدة عام كامل وعلى الصفحة الأولى ختم دخول متعدد المرات. وفي طريقي إلى أحد الموالد في صعيد مصر، أصر مجند في الجيش أمام إحدى نقاط التفتيش على أن أنتظر بضع ساعات حتى تستعد قوة عسكرية لاستقلال السيارة معي أنا والسائق مسافة الخمسة كيلومترات الباقية استنادا إلى إجراء عجز عن تفسيره لي؛ غير أن اتصالا هاتفيا سريعا بشقيق اللواء جعله يهرع إلى رئيسه الذي جاء بشخصه على الفور، وألقى علي التحية، وطلب مني إبلاغ صديقي اللواء بأطيب أمنياته، وودعني لأعاود التحرك على الفور برفقة واحد من حراسه المسلحين. والأكثر غرابة من هذا أنه عندما فقدت حافظة نقودي داخل ميكروباص في الأقصر، واضطررت لتحرير محضر رسمي في قسم الشرطة من أجل أغراض التأمين، ولم أجد أي تعاون في شرطة السياحة، اتصلت بشقيق اللواء الذي لم يؤد توبيخه للضابط المسئول إلى معاملته لي معاملة أفضل في الحال فحسب، وإنما أدى - بعد يوم واحد، ولفرط دهشتي - إلى استعادة حافظة نقودي التي تسلمتها شخصيا من رئيس شرطة السياحة الذي كان واضحا أنه قطع الطريق إلى المكتب من أجل تلك المهمة فحسب. إن استجابة المسئولين على هذا النحو لا تكون نابعة من الخوف فحسب؛ فهم يعرفون أن تنفيذهم لهذه المطالب سيمكنهم من انتزاع خدمة في وقت لاحق من اللواء الذي قدموا له المساعدة من قبل. ففي مصر، معارف المرء أهم بكثير من معرفته، وما تقدمه اليوم، حتما ستجده غدا. •••
لكن الأمر لا يحتاج إلا إلى خطوة أولى ليلقى الأفراد حتفهم - أو على الأقل يشتد عليهم المرض - بسبب الفساد، وهذا ما حدث عام 2006. كان الطفل فايز حماد طالبا في مدرسة «مكارم الأخلاق» الابتدائية عندما دخل مستشفى مرسى مطروح العام بعد تلقيه جرعة تطعيم إجبارية على يد مجموعة من الأشخاص كانوا يجوبون الشوارع في سيارة مجهولة الهوية، ويزعمون البحث عن الأطفال ممن تنطبق عليهم شروط التطعيم الذي كان جزءا من حملة تحصينات (حسبما ورد في البلاغ الذي تقدم به والد الطفل.) وعلى الفور أعلن وكيل وزارة الصحة الدكتور عباس الشنواني أن الطفل وضع تحت الملاحظة مدة أربع وعشرين ساعة، وأجري له غسيل معدة فوري، وأخذت عينات من دمه وقيئه لإرسالها للتحليل في المعامل المركزية في الوزارة كإجراء احترازي. وأصرت الوزارة على عدم وجود برنامج للتطعيم الإجباري في أي مكان في تلك الفترة، وأن أي شائعات تروج لذلك عارية تماما عن الصحة، وتهدف إلى نشر الذعر بين المواطنين. واعترضت صحيفة «الوفد» مستشهدة بروايات كثيرين ممن أكدوا وجود حملة تطعيمات إجبارية في تلك الفترة، وليس في مرسى مطروح فحسب، وإنما في القاهرة أيضا. وأكد المواطنون أن أشخاصا يمرون على المنازل ويعطون الأطفال جرعات الطعم التي يصابون على إثرها بارتفاع في درجة الحرارة وقيء وإسهال، وبعض الحالات تستدعي الانتقال إلى المستشفى. أيضا أشارت صحيفة «العربي الناصري» إلى أن الأمصال الفاسدة هي السبب فيما حدث.
ووفقا لتقرير «كفاية» فإن الجهاز المركزي للمحاسبات قد كشف عن استيراد إحدى شركات اللقاح أمصالا منتهية الصلاحية بقيمة نحو 4 ملايين دولار، في حين عثر على 370000 زجاجة لقاح تقدر قيمتها بنحو 500000 دولار داخل مخازن الشركة بلا تاريخ إنتاج أو انتهاء صلاحية. كشف التقرير أيضا عن تخزين مشتقات الدم والبلازما مدة ثلاث سنوات على الرغم من أن فترة حفظها لا تتعدى عاما واحدا، وعن استيرادها من المملكة المتحدة على الرغم من أن مصر تحظر هذا النوع من الواردات منها. إذا كانت تلك الروايات صحيحة فإنها بالقطع اتهامات خطيرة ذات تداعيات أشد خطورة.
لم تسفر هذه الفضيحة عن نتيجة ملموسة سوى أن حاتم الجبلي وزير الصحة والسكان وعد بمشروع للتخزين الجيد للأدوية تشارك في إعداده نقابة الصيادلة للقضاء على عشوائية التوزيع على الصيدليات وحماية المواطنين من الأدوية المغشوشة ومنتهية الصلاحية والمهربة. •••
كرس صحفيو الصحف المعارضة والمستقلة المصرية بعض جهودهم الجهيدة في السنوات الأخيرة لكشف النقاب عن قضايا الفساد، ومن بينها ذلك الفساد المتغلغل في الصحف القومية الرئيسية، حيث جرت العادة على أن سياسات التعيين لا تهتم بالكفاءة قدر اهتمامها بالواسطة؛ فيقال إن الواسطة رفيعة المستوى توفر لك وظيفة في «الأهرام» وهي الصحيفة اليومية الرئيسية، وأن الواسطة المقبولة توفر لك وظيفة في «الأخبار»، بينما الواسطة المتواضعة ستجبرك على القبول بصحيفة «الجمهورية» الأدنى مرتبة. تسهم ثقافة المحاباة هذه في تفسير حالة التردي التي آلت إليها الصحف القومية، فضلا عن أن تغاضيها عن كشف الفساد يفسر قدرا كبيرا من تنامي وسائل الإعلام المعارضة. لكن عام 2005 أرغمت وسائل الإعلام الحكومية على كشف فضائحها المستورة. بدأ مكتب النائب العام ونيابة الأموال العامة التحقيق في وقائع الفساد المتعلقة بمدينة الإنتاج الإعلامي، وبدأت لجنة مكافحة الفساد التابعة للبرلمان تحقيقها في دعاوى فساد داخل المؤسسات الصحفية الثلاثة الكبرى المملوكة للدولة. افتضح أمر تلك الدعاوى في صحف المعارضة في أعقاب حركة تنقلات أقرتها الحكومة وأحالت بها رؤساء التحرير الذين قضوا سنوات طويلة في عملهم إلى التقاعد. حامت بعض الشبهات حول توقيت تلك الدعاوى، وربما لم تكن كل هذه الدعاوى سوى ذريعة سياسية. هل كان النظام نفسه وراء تسريب وقائع الفساد في محاولة للقضاء على مصداقية رؤساء التحرير الذين كانوا خاضعين للرقابة وهم في مواقعهم، لكن باتوا الآن يشكلون تهديدا محتملا بعد تركهم تلك المواقع؟
مما يثير الدهشة أن سلامة أحمد سلامة - الصحفي المحنك في «الأهرام» - ربما يكون الصحفي المصري الوحيد الذي يحظى بتقدير زملائه من مختلف الأطياف السياسية حتى إنه كثيرا ما يدعى لإجراء حوارات حول تطور الأوضاع السياسية الداخلية في وسائل الإعلام المعارضة. عندما التقيت به في مكتبه بمبنى «الأهرام» أواخر عام 2006 للحديث معه بشأن الفساد والمحسوبية في وسائل الإعلام المملوكة للدولة، سألته أول الأمر كيف أنه تمكن من مواصلة عمله كل تلك السنوات على الرغم من حديثه عن قضايا الفساد وانتقاده للنظام في مناح أخرى شتى. قال سلامة: «أظن أنهم على درجة من الذكاء تجعلهم يتركون هامشا معينا أمام بعض الأفراد لتوجيه النقد لسياسات النظام الحاكم.»
إنها صورة من صور التلاعب بالموقف حتى يتركوا انطباعا دائما بتوفير حرية الرأي والتعبير. وهكذا فإنهم متى اتخذوا أي إجراء ضد رؤساء تحرير الصحف المعارضة تذرعوا بأنهم ما يفعلون ذلك إلا لأنهم تجاوزوا الحد المسموح به بموجب القانون. ولا شك أنه بمقدور الحكومة التلاعب بمنظومة العدالة بصورة ما، وتمديد المحاكمة سنوات وسنوات. لكن ما دمت لا أتخذ موقف عداء صريح ضد الحكومة، وما دمت لا أنتمي إلى الإخوان المسلمين أو الحزب الشيوعي أو أي فصيل آخر يتبنى أجندة راديكالية فإنهم يسمحون لي بتوجيه نقد معقول، كأن أطالب بمزيد من التقدم على الطريق نحو الديمقراطية مثلا. هذا أمر يزعمون أنهم يؤيدونه على أي حال؛ لذلك فإني أستخدم التعبير نفسه الذي يستخدمونه لأوضح أن أفعالهم تناقض ادعاءاتهم. وأظن أن هذه السياسة تتيح لي قدرا كبيرا من المناورة.
كيف يكون حال الكتابة في جريدة رئيس تحريرها معين من قبل الرئيس، وغالبا ما ينتهي به الحال إلى الاستماتة في الدفاع عن النظام بأكثر مما قد يفعل النظام نفسه؟
Unknown page