ولست أعرف أحدا من الأقدمين، أو من المحدثين، حاول مثل هذه المحاولة، ولكنني أعلم عن نفسي - وقد يعلم عني القارئ كذلك - أنني محدود المعرفة جدا في هذا المجال؛ فقد يكون هنالك من حاول ترتيب الأسماء على النحو الذي أسلفته، ولم يحدث لي أن صادفته في مطالعاتي القليلة والمتقطعة؛ ومع ذلك فلا بد لي أن أشير إلى استثناء واحد وجدته عرضا؛ وهو أن «الزبيدي» في شرحه لكتاب «إحياء علوم الدين» الذي هو الصرح الشامخ للغزالي، ذكر في سياق شرحه أن بين صفات الله - عزل وجل - سبع صفات يمكن النظر إليها على أنها أصل تفرعت منه سائر الصفات، وتلك الصفات السبع هي: القدرة، والإرادة، والعلم، والحياة، والسمع، والبصر ، والكلام، على أنه يعود فيرى بين هذه الصفات السبع نفسها، ما هو شرط لغيره، فيقول إن صفة «الحياة» لا بد أن يكون لها في الذهن أسبقية على القدرة والإرادة؛ إذ لا قدرة ولا إرادة إلا لحي، ومع ذلك فهو يستدرك استدراكا واجبا، وهو أن قولنا إن صفة ما من صفات الله - عزل وجل - إذا ما قلنا عنها إن وجودها «متوقف» على وجود غيرها، فلا بد أن يكون مفهوما أن «التوقف» هنا هو «توقف معية» (هذه هي عبارة الزبيدي) وليس توقفا بمعنى أن صفة منها تقدمت على صفة؛ وذلك لأن صفات البارئ سبحانه وتعالى، كلها أزلية يستحيل أن يقال عن إحداها إنها تقدمت بالوجود على أخرى.
وعلى ضوء هذا كله، أحسب أننا لا نجاوز الحدود المشروعة إذا نحن سئلنا: نحو أي هدف نتجه بناشئتنا وشبابنا، إذ نتولاهم بالتربية والتعليم والتثقيف؟ فأجبنا بأن ذلك الهدف - في بعض جوانبه - هو أن نصوغ مواطنا «حيا» «عليما» «قادرا» «مريدا» فلننظر - إذن - إلى هذه الصفات عن كثب، مهتدين بشرح الغزالي لمعانيها؛ ولقد أسلفنا القول بأن تلك المعاني تكون مطلقة حين تصف الله - عزل وجل - وتكون نسبية محدودة حين تصف الإنسان المتحلى بها.
ونبدأ بصفة «الحياة»، التي - كما أشار إليها الزبيدي - لها أسبقية منطقية (لا أسبقية وجودية) على سواها؛ فماذا تعني صفة «الحياة»؟ إنها - بداهة - لا تعني الجوانب التي تلحق بالكائن الحي من طعام وشراب وتكاثر وما يدور مدارها؛ بل إن المعنى المقصود بها - كما يحدده الغزالي - هو: الفعل، والإدراك؛ أما بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى، فالفعل والإدراك يكونان مطلقين شاملين، لا تحدهما حدود، ولا يخرج عن نطاقهما شيء؛ وبعبارة الغزالي: الحي المطلق هو الذي تندرج جميع الإدراكات تحت إدراكه، وجميع الموجودات تحت فعله؛ حتى لا يشذ عن إدراكه مدرك، ولا عن فعله مفعول، وكل حي سواه تكون حياته قدر إدراكه وفعله.
فماذا - إذن - عن الإنسان إذا أردنا له «الحياة» بهذا المعنى؟ إنه لا بد أن يكون المحور هو أن نجعل منه إنسانا «مدركا» فعالا، ثم يكون التفاوت بين إنسان وإنسان بمقدار ما بينهما من تفاضل فيما أدركه كل منهما، وفيما فعله كل منهما، وأقل درجات الإدراك (والقول للغزالي) أن يشعر المدرك بنفسه، وبالطبع (والقول لكاتب هذه السطور) يكون أقل درجات الفعل هو أن يوجه الإنسان فعله في الاتجاه الذي عرفه في نفسه حين أدركها، فانظر أي نوع من الإنسان يتحقق لنا إذا نحن ربينا النشء والشباب على «حياة» بهذا المعنى؟ حياة لا يخون فيها إنسان نفسه، حياة لا يخذل فيها إنسان طبيعة شعوره، حياة يظل الإنسان يزيد فيها من مدركاته، ويزيد، ثم يزيد ما وسعته الزيادة، لا ليقف من مدركاته موقف الأشل، بل ليحولها إلى فعل.
إن حياة الحي في دنيا البشر، لا تستحق اسمها إذا هي لم تكن في يومها أوسع إدراكا، وأقوى فعلا، منها في أمسها، ثم لا تكون في غدها كذلك بالنسبة إلى يومها، فالحي المطلق - سبحانه وتعالى - تحقق فيه منذ الأزل الإدراك كله والفعل كله، ولا كذلك تكون الحياة في الإنسان، لأنها نسبية ومحدودة، ومن ثم كان حتما محتوما عليها أن تظل تنمو إدراكا وفعلا، عصرا بعد عصر، إلى أن يشاء الله لها أمرا.
وإنه لمما يزيدنا فهما، في هذا الموضع من سياق الحديث، أن نذكر اسمين من الأسماء الحسنى، يتصلان بما نحن الآن بصدده، وهما «النور» و«البديع»؛ ففي معنى «النور» كتب الغزالي مؤلفا كاملا، هو كتابه «مشكاة الأنوار»، خصصه لشرح آية النور؛ فأقام ذلك الشرح على أساس أن يكون النور هو المعرفة أو الإدراك، ثم جعل الإدراك يتدرج من الإدراك بالبصر والسمع (وذلك هو المقصود بالمشكاة فيها مصباح)، فالإدراك بالعقل (وذلك هو المصباح في زجاجة)، فالإدراك بالقلب (وذلك هو الكوكب الدري)، (يوقد من شجرة مباركة؛ زيتونة، لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور)، وعلى هذه البينة من الهدى يكون السير في كسب الإدراك بالنسبة إلى الإنسان: إدراكا للعالم المحيط به، بالحواس، فاستخراجا للمعرفة العقلية في المبادئ العامة وقوانين العلم، ثم بلوغ الحق في أسمى درجاته بالرؤية القلبية المباشرة، وتلك هي رؤية المتصوفة.
وفي هذا التدرج الإدراكي بالنسبة للإنسان يتاح لهذا الإنسان في كل درجة تالية أن يدرك ما لم يدركه في الدرجة السابقة؛ وهنا يجيء المعنى المتمثل في اسم «البديع» - أي المبدع - الذي يقول الغزالي في شرحه، بالنسبة للإنسان، إنه هو أن يختص ذلك الإنسان بخاصية لم تعهد فيمن سبقه، ولا فيمن عاصره من الناس.
وإذا نحن ضممنا ما يتضمنه الاسمان «النور» و«البديع» فيما يختص بحياة الإنسان، من حيث هو فرد، وكذلك من حيث هو نوع تمتد به مراحل التاريخ، رأينا كم هو مطالب بتوسيع مجاله الإدراكي، ثم بأن يتحول إدراكه ذاك إلى فعل، ولن يكون ذلك التوسع في الإدراك كاملا في معناه، إلا إذا «أبدع» الإنسان جديدا في كل مرحلة من حياته لتضاف إلى حصيلته في ماضيه، وإلا إذا كان في كل مرحلة لاحقة أكثر نورا منه في المرحلة السابقة، وذلك كله لأنه «حي».
ومن صفة «الحياة» ننتقل بحديثنا إلى صفة «العلم»، فهي - كالحياة وكسائر الصفات المتضمنة في الأسماء الحسنى - تكون لله سبحانه وتعالى مطلقة لا تحدها حدود، وتكون للإنسان نسبية محدودة، فكمال الله - عزل وجل - أنه محيط علما بكل شيء، ظاهره وباطنه على السواء، وعلمه أزلي، ولا يغيب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وأما نصيب الإنسان من العلم فهو محدود بحدود قدرات الإنسان على الإدراك، سواء أكان ذلك الإدراك إدراكا بالحواس، أم كان إدراكا بالعقل؛ ولذلك فبينما علم الله كامل منذ الأزل، فإن علم الإنسان يزداد مع الزمن؛ إذ يترتب على نقص علمه قابليته للزيادة النسبية، متجها به نحو الكمال دون أن يبلغه، ونتج عن الفرق بين ما هو مطلق كامل، وما هو نسبي ناقص، أن كان علم الله - سبحانه - منزها عن أن يكون إما كذا وإما كيت؛ لأن قيام الاحتمالات لا يكون إلا فيما يشوبه نقص في الإحاطة الكاملة، على حين أن علم الإنسان كله خاضع لدرجات من الاحتمال تزيد أو تنقص، ونتج كذلك من كون العلم الإلهي أزليا وكاملا، وعلم الإنسان ناقصا وحادثا في مجرى الزمن، أن علم الله - سبحانه - لا يستفاد من الأشياء المعلومة، بل الأشياء المعلومة هي المستفادة منه، على خلاف العلم البشري، فهو مستمد من الأشياء. هذه كلها فروق واضحة بين علم الله وعلم الإنسان، لكنها فروق لا تمنع أن يكون الإنسان مطالبا بحكم إيمانه الديني نفسه أن يزيد من علمه بالكائنات، وعلما بنفسه، ما وسعت قدراته تلك الزيادة، ومهم جدا لنا في هذه المناسبة أن علم الإنسان هذا الذي نشير إليه لا يقتصر على أن يظل الإنسان قابعا يكرر لنفسه هذه الحقيقة، مقروءة أو محفوظة، ألف ألف مرة كل صباح من كل يوم، وإنما هو علم لا يتوافر له إلا وهو في المعامل أو في معاهد العلم، أو في مراكز البحث أيا كان نوعها؛ يتفحص الأشياء التي تقع في مجال تخصصه العلمي، ويدرسها ويستخرج قوانينها، فيسهم في زيادة الحصيلة العلمية في الحدود المتاحة لطاقة البشر.
ومن صفتي الحياة والعلم، ننتقل إلى صفتي «القدرة» و«الإرادة»، فأما عن «القدرة» فنحب أن نلفت النظر إلى أن المعنى يتضمن جانب التقدير الكمي؛ فالقادر ليس هو فقط الذي يستطيع الفعل، بل هو الذي يستطيعه في إحكام وضبط لتفصيلاته، من حيث توقيت وقوعه في الزمان، وتحديد مكان وقوعه، وبأي قوة يقع، وإلى أي النتائج يؤدي، وكل هذه تفصيلات تنضبط بأحكام التقدير، وفي هذه المناسبة أود أن ألاحظ للقارئ ذلك الفرق في المعنى بين «القضاء» و«القدر»، فلقد تعودنا أن نربطهما معا في عبارة واحدة، فنقول إن الحادث الفلاني قد وقع قضاء وقدرا، لكن الفرق بين اللفظتين يلقي لنا ضوءا على معنى الضبط الكمي المتضمن في صفة «القدرة»؛ وأقرب ما أوضح به الفرق بين «القضاء» و«القدر» هو أن أشير إلى الفرق بين حكم يصدره القاضي، وبين تفصيلات التنفيذ التي يضطلع بها المكلفون بالتنفيذ؛ فحكم القاضي «قضاء» بأمر، يأتي بعده تحديد لموعد التنفيذ ومكانه ووسائله، فالقول بأن الله سبحانه وتعالى «قادر» يشمل ضمنا أنه إذ يقضي بأمر ، فإنما يقضي وهو عالم بكل ما يحيط بذلك الأمر من تفصيلات ونتائج.
Unknown page