فأجابتني النفس قائلة: الآن قد تبدلت أدوارنا فبعد أن كنت أنا التي أسألك ماذا كنت تريدني أن أصنع؟ ردا على لومك وتأنيبك أصبحت أنت الذي توجه إلي السؤال: ماذا نحن صانعون في موقف قوامه جمهور عريض ورواده في ناحية وقلة قليلة جدا تريد التغيير في ناحية أخرى؟ وها أنا ذا أحاول الجواب عن سؤالك، مكتفية هذه المرة بنقطة واحدة ولكنها نقطة أساسية وجوهرية.
إنه لمن المفارقات التي تستوقف النظر أن نقول عن مصر اليوم إنها تبحث عن ذاتها. فبحث الإنسان عن ذاته لا يكون إلا في فترة المراهقة حين يتأهب المراهق للدخول في دنيا النضج بعد طفولة وصبا. وفي مرحلة المراهقة تتعدد المسالك والبدائل أمام المراهق، ولذلك فهو يظل فترة مأخوذا بالتردد والحيرة ماذا يأخذ وماذا يدع، وهو إذا ما وقع باختياره على طريق معين دون سائر الطرق يكون بمثابة من رسم لنفسه الطريق لحياته المقبلة كلها؛ وشأن الأمم كشأن الأفراد حين يكتنفها موقف متعدد المسالك والبدائل، وعلى الأمة أن تختار لنفسها مسلكا بذاته يحقق لها ذاتها. ويقول مرة أخرى إنها لمفارقة تستوقف النظر أن نقول عن مصر العريقة إنها في موقف من لا يزال يختار لنفسه في الحياة مسلكا يتميز به.
لكن شيئا من تلك المفارقة الغريبة يزول إذا تذكرنا أن ما يشبه المراهقة قد يعاود الفرد الواحد ويعاود الأمة الواحدة كلما صادفته أو صادفتها صدمة قوية ارتجت لها جدرانها، فها هنا يكون الفرد أو تكون الأمة بمثابة مراهق لا يزال في أول الطريق، وعليه أن يختار أي طريق يسلك. وليس من شك في أن مصر حين اصطدمت بحضارة الغرب الحديث وبشيء من ثقافته اهتز بنيانها لأنها وجدت نفسها أمام حياة تختلف عن حياتها اختلافا شديدا، وكان أن ردة الفعل بموقف شاذ هو الموقف الذي نحياه اليوم، وأعني به أنها أخذت من الشجرة الجديدة ثمارها ورفضت جذعها وجذورها، أي إنها أخذت «نتائج» العلم و«نتائج» الصناعة و«نتائج» النشاط الفلسفي والفكري ومبدعات الأدب والفن والأشكال الخارجية للنظم كلها: سياسية وتعليمية واقتصادية، أقول إنها أخذت «نتائج» هذا كله ولكنها رفضت أن تحيا الحياة التي تعتمل فيها العوامل لتنتج لصاحبها تلك النتائج.
إننا نحن وأمثالنا يا صاحبي حين نفكر فإنما ندعو الناس إلى اصطناع شيء رفضوه وهو أن «يحيوا» الحياة التي من شأنها أن تنتج لهم علوما وصناعات وتقنيات وآدابا وفنونا ونظما كالتي ينقلونها من الغرب معلبة جاهزة، ولقد رفض جمهورنا وعلى رأسه رواده أن يحيا مثل تلك الحياة ومع ذلك فهو يقبل الثمرة منقولة إليه، فإذا سألتني بعد ذلك وماذا عسانا صانعين؟ أجبتك بقولي: أكشف للمصري المعاصر عن حقيقة ذاته التي امتدت معه أكثر من ستين قرنا ولم تغب عنه إلا إبان الفتح التركي وما بعده، ترتفع عن ذلك المصري الحديث حيرته وتردده، فيعرف طريقه وهي نفسها الطريق التي سار على منهاجها أكثر من ستين قرنا، وأعني طريق المتدين العالم العامل.
قلت لنفسي: الآن قد ازددت وضوحا؛ لماذا ينسد الطريق بيننا نحن وأمثالنا ممن يفكرون ويكتبون من جهة وبين جمهور الشعب ورواده من جهة أخرى، نعم لقد ازددت وضوحا لكني كذلك قد ازددت قلقا؛ إذ بات واجبا علينا أن نبحث فيما يساعدنا على كشف عناصر الذات المصرية الأصيلة لنضعها أمام أبصار الناس لعلهم يهتدون، فماذا ترين يا نفسي؟
قالت النفس متثائبة: لقد حان موعد النوم لنستريح، طاب مساؤك يا رفيقي.
كان ذلك ما حملته الورقات التسع الصغيرة التي تركها صديقي، ولقد وضعتها كما جاءت، وإذا حق لي أن أضيف إليه جملة واحدة من عندي قلت: إن هذا الذي كتبه صديقي، هو ما تمنى كثيرون أن يكتبوه.
رسالة في زجاجة
كنت يومها أعبر الأطلنطي في باخرة لها من الضخامة والفخامة ما يجعلها قصرا عائما على سطح الماء، بدأت رحلتها على موج هادئ، فكانت تبدو وكأنها من الرواسي الرواسخ، التي تهزأ من الرياح العاتية، وسارت منسابة على بساط الماء ملكة فيها وقار السلطان ورصانة الأصل الثابت العريق، وانتشر راكبوها في ثياب ملونة زاهية تدل على قدر من الثراء، ولكنها كذلك - ببساطتها - تشير إلى ذوق مهذب رفيع، انتشر هؤلاء في أبهاء السفينة وممراتها وعلى سطحها وفي غرفها، انتشروا في مرح مطمئن وسمر هامس.
وما هو إلا يوم يمضي، حتى تتبدل الحال غير الحال، فقد غضب محيط البحر غضبته التي لا تقاس إليها تلك الغضبة المضرية التي أشار إليها الشاعر العربي القديم، وأصبحت السفينة التي كانت بالأمس أرسخ من الجبال، لعبة خفيفة يتقاذفها الموج، فموجة ترمي وموجة تلقف، لقد روعت ملكة الأمس الرزينة الرصينة الوقور، فباتت طفلة خائفة راجفة تبحث لها عن صدر يحميها؟ وأين ذهب المسافرون؟ لم يعد منهم أحد يقف مستندا إلى السور ليرسل البصر إلى الأفق البعيد الراقد بين السماء والماء، أو أحد يجلس على كرسيه الطويل ينظر إلى لا شيء يتيح لفكره أن يتأمل؛ كلا ولا بقي في الأبهاء أو الممرات رفاق يلتقون في بشر ضاحك ويسمرون؛ لقد اختفى جميعهم في قمراتهم كأنهم الفئران التي أحست برعشة الزلزال فأسرعت إلى جحورها. أو قل إن ركاب السفينة جميعا، قد أصبحوا هم وسفينتهم الضخمة الفخمة، وكأنهم بالنسبة إلى المحيط الغاضب - كما قال قائل - دود على عود.
Unknown page