أعود فأقول: إن سؤالنا العويص المعقد الآن، هو ما الذي حدث للمصري ليتحول هذا التحول الغريب؟ قد تختلف في التعليل، وقد تتعدد العوامل التي أدت إلى التحول، لكنني أرى أن أهم ما حدث في هذا الصدد، هو انعدام الصلة السببية (تقريبا) بين المواطنين وجهودهم وقدراتهم وإنتاجهم من جهة، وما يصيبونه من جزاء من جهة أخرى، فإذا سألت عن مواطن: لماذا وضع في خريطة حياتنا هذا الموضع؟ فقلما يجيئك الجواب الذي يقنعك حقا بأن جهوده وقدراته وإنتاجه هي التي أدت به إلى ذلك، فهنالك ألف سبب وسبب قد تفعل في ذلك فعلها، قبل أن يكون ل «الأحقية» اعتبارها؟ وحسبنا أن نعيد إلى الذاكرة تلك المفاضلة العجيبة التي شغلت أذهاننا ذات يوم، بين أصحاب الكفاءة وأصحاب الثقة لأيهما يكون الأمر؟ وتنتهي المفاضلة يومئذ بتفضيل من يوثق في إخلاصه على الكفء القادر؟ وكأن الكفاءة القادرة تتعارض مع الإخلاص والولاء، والذي نود هنا أن نلفت إليه النظر، هو أن للكفاءة مقاييسها المحددة الواضحة، وأما الثقة فمسألة ذاتية صرف، فإذا حق للسائل أن يسأل ما برهانك على أن فلانا مهندس بارع، فلا يحق لك أن تسأل الواثق في إخلاص مساعديه: ما برهانك على أنهم جديرون بالثقة؛ لأن الأمر هنا - إلى حد بعيد - يختلط بعوامل نفسية خالصة تؤدي إلى حب أو إلى كراهية.
وضعت القيادات في أيدي المقربين بحكم إخلاصهم، سواء اقترن ذلك بالقدرة أو لم يقترن، ثم ما هو إلا أن بات هدف الطامحين إلى الصعود، هو أن يكون الطامح من هؤلاء المقربين قبل أن يكون من القادرين، فنتج عن ذلك نتيجة حتمية، وهي أن يصعد الصاعدون فوق رءوس القادرين، حتى إذا ما بلغوا ذراهم كانت لهم السيطرة على توجيه الكفاءات إلى حيث يريدون لها أن تتجه، لا إلى ما تقتضيه طبائع الأشياء والمواقف كما تراها المعرفة العلمية والخبرة بتطبيقها.
فإذا تذكرنا بعد هذا كله أن العدل الاجتماعي لا يعني آخر الأمر إلا أن يجد كل مواطن نفسه في الموضع الذي هيأته له فطرته وقدراته، عرفنا أمرين يتصلان بموضوع حديثنا: الأول هو أننا أخلصنا لمبدأ العدالة الاجتماعية أكثر جدا مما نجحنا في تحقيق ذلك المبدأ، والثاني - وهو المهم في الموضوع حديثنا هذا - أننا كثيرا جدا ما جعلنا الطريق إلى بلوغ الأهداف التي يطمح إليها الطامحون، يقتضي بالضرورة أن يداس على أعناق «الآخرين»، ومن هنا نشأ «نموذج» اجتماعي جديد، هو الذي أراه مصدر «الخلل» أو مكمن «الوجع» فيما نشكو منه، وعلاج الأمر هنا - لحسن الحظ - بسيط ويسير وهو أن نعود إلى النموذج الاجتماعي الذي لا يعطي مكانا لمواطن إلا إذا قدم من عمله وقدرته ما يبرر ذلك العطاء، وإذا حدث هذا قلت حدة السعار في أن يأكل أحدنا لحم أخيه ميتا ثم لا نكرهه!
ومن بواعث حيرتي أن أجد في المرحلة الزمنية نفسها، التي تشهد هذه اللامبالاة القاسية من الفرد نحو «الآخرين» - إذا ظنهم عقبات في طريقه - أقول إن المرحلة الزمنية نفسها التي تشهد هذا، تشهد كذلك ميلا ملحوظا إلى التزمت الديني، أو التظاهر به، فكيف حدث لهذين الخطين أن يتوازيا جنبا إلى جنب في وقت واحد؟ مع أن المسلم إذا ما شدد قبضته على عقيدته الإسلامية، ازداد شعورا ب «الآخرين» لا من حيث هم وسائل تستغفل وتستغل، بل من حيث هم غايات في أنفسهم، وانظر نظرة مدققة متعمقة إلى كل ركن من أركان الإسلام الخمسة، تجده منطويا على ضرورة أن يتصور المسلم نفسه دائما، لا على أنه فرد مستقل منعزل، بل على أنه كذلك عضو في جماعة.
فالركن الأول، وهو شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، يتضمن بمنطق «الشهادة» نفسه الاعتراف بثلاث حقائق: الشاهد، والمشهود به، والمشهود أمامه، فأنا موجود بحكم أني «أشهد»، والله سبحانه موجود وحده لا يشاركه في الألوهية إله آخر، بحكم منطوق الشهادة، وثالثا أن «آخرين» موجودون، هم الأمة التي أنا عضو فيها، والتي أشهد أمامها شهادتي لتكون معلنة، والركن الثاني من أركان الإسلام هو إقامة الصلاة، وفيها يحث الفرد على أن يصلي مع «آخرين» جماعة، فإن تعذر ذلك طيلة أيام الأسبوع، أصبح الأمر فرضا عليه يوم الجمعة، ليتحقق وقوفه أمام الله مع «الآخرين»، وكأن في ذلك عهدا مقطوعا من الفرد أمام ربه، بأنه يقر بألا حياة له إلا منتسبا إلى هؤلاء، ومتآزرا معهم في صف واحد، يستقبلون قبلة واحدة، والركن الثالث هو إيتاء الزكاة. فإلى من تزكي إن لم تكن زكاتك ل «آخر»، وتأمل جيدا موقف «الزكاة»، فالزكاة تنمية بمعناها اللغوي، فأنت تنمو وتزكو وتسمو حين تعين «الآخرين» على النمو والزكو والسمو، فهي ليست تبعة «اقتصادية» نحو الآخرين فحسب، بل هي في الوقت نفسه تبعة أخلاقية وروحية، وكدت أقول «حضارية» أيضا.
وأما الركن الرابع فهو صيام رمضان، ولست أعرف فترة زمنية يتكلم المسلمون خلالها لغة حياتية واحدة، أكثر مما يفعلون في رمضان، فالأمة كلها كأنها على صلة هامسة كل فرد بالآخرين، يأكلون معا ويمسكون معا، بل وكثيرا ما يتحدون في ألوان الطعام، فتزول الحواجز كلها بين الفرد و«الآخرين» والركن الخامس وهو حج البيت لمن استطاع إليه سبيلا، ففكرة «الآخرين» أوضح من أن يشار إليها، على أن «الآخرين» هنا تتسع دائرتهم لتشمل العالم الإسلامي كله.
فهل يكون المصري مصريا وهو يغض ناظريه عن «الآخرين» وجودا وحقوقا؟ وهل يكون المسلم مسلما إذا فعل؟
«وإذا الموءودة سئلت»!
في سرحة من سرحات فكري، التي تعاودني كلما خلوت إلى نفسي، وإني لأخلو إليها ألف مرة في النهار الواحد، شأن من فرغ وفرغت حياته من أثقالها، وهي السرحات التي كلما عاودت، شطحت بذاكرتي في ذلك المستودع العجيب الرهيب، مستودع النفس وما حوته من مخلفات ماضيها، أقول إنه في سرحة من تلك السرحات التي ينصرف فيها الإنسان إلى دخيلة نفسه، حتى لتصبح العين وكأنها مغمضة عما حولها، والأذن وكأنها صمت لا تسمع الصوت، رأيتني وجها لوجه مع تلك الفتاة، التي كنت قد التقيت بها على صفحات التاريخ، ولم أكد أنظر إلى شبحها في ثوب أبيض كأنها القديسة في طهرها وصفائها، حتى تذكرت في وضوح ناصع، متى وأين التقيت بها، ووقفت معها طويلا طويلا، إنها «هيبا شيا» الإسكندرانية، نذرت حياتها - على قصر تلك الحياة - للفلسفة ، فهي في ذلك فريدة في تاريخ الفكر، فذاكرتي الآن لا تسعفني باسم آخر لامرأة ذكرها تاريخ الفلسفة على صفحاته، لكنها كانت كذلك فريدة في مصرعها على أيدي رجال قساة غلاظ القلوب يحملون على أعناقهم رءوسا خاوية إلا من الهوس وأخلاط الجنون.
كانت «هيبا شيا» هي التي جاءتني بها سرحة فكري هذه المرة، رأيتها ماثلة أمامي في رزانتها الرصينة، ففتحت العين وأرهفت الأذن وكأنما سمعتها تقول: لقد دعوتني، فها أنا ذا.
Unknown page