مقدمة
القسم الأول: فلول الظلام
جذور التصدع
ثلاثة أصوات
نفوسنا صدئت فأصقلوها
روحانيون نحن؟ وبأي معنى
عصر الضمير الغائب
أعجاز نخل خاوية
هنالك آخرون! «وإذا الموءودة سئلت»!
شبح اسمه الغزو الثقافي
Unknown page
هذه الأجهزة وحرية الإنسان!
أدرك السفينة يا ربانها
عودة إلى تجويع النمر
ردة في عالم المرأة «1»
ردة في عالم المرأة «2»
ردة في عالم المرأة «3»
القسم الثاني: بشائر الفجر
أنت تنفخ في رماد
تعالوا نفكر بأبجدية جديدة
نماء وانتماء
Unknown page
مثقف يحاكم نفسه
رسالة في زجاجة
ثقافة السكون ... وثقافة الحركة
جاهل بالسياسة يتحدث عنها «يانوس» بين عامين
القسم الثالث: إشراقة الضحى
بينات من الهدى
من خصائص الفكر العربي
حسبك من بستان زهرة
صورتان من القرن الرابع الهجري
والنقط كذلك تحت الحروف
Unknown page
العقل الحر ما هو؟
الكاتب ومستويات القراء
ندوة في خطاب
القسم الرابع: مصر تبحث عن نفسها
قضية تستحق النظر
نحو فكر أوضح
مفتاح الشخصية المصرية
مقدمة
القسم الأول: فلول الظلام
جذور التصدع
Unknown page
ثلاثة أصوات
نفوسنا صدئت فأصقلوها
روحانيون نحن؟ وبأي معنى
عصر الضمير الغائب
أعجاز نخل خاوية
هنالك آخرون! «وإذا الموءودة سئلت»!
شبح اسمه الغزو الثقافي
هذه الأجهزة وحرية الإنسان!
أدرك السفينة يا ربانها
عودة إلى تجويع النمر
Unknown page
ردة في عالم المرأة «1»
ردة في عالم المرأة «2»
ردة في عالم المرأة «3»
القسم الثاني: بشائر الفجر
أنت تنفخ في رماد
تعالوا نفكر بأبجدية جديدة
نماء وانتماء
مثقف يحاكم نفسه
رسالة في زجاجة
ثقافة السكون ... وثقافة الحركة
Unknown page
جاهل بالسياسة يتحدث عنها «يانوس» بين عامين
القسم الثالث: إشراقة الضحى
بينات من الهدى
من خصائص الفكر العربي
حسبك من بستان زهرة
صورتان من القرن الرابع الهجري
والنقط كذلك تحت الحروف
العقل الحر ما هو؟
الكاتب ومستويات القراء
ندوة في خطاب
Unknown page
القسم الرابع: مصر تبحث عن نفسها
قضية تستحق النظر
نحو فكر أوضح
مفتاح الشخصية المصرية
في مفترق الطرق
في مفترق الطرق
تأليف
زكي نجيب محمود
مقدمة
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية (1945م) أخذ العالم يسدل ستارا على عصر ذهب زمانه، ويتأهب لدخول عصر جديد؛ فقوائم الحياة كما عهدها الناس حتى ذلك التاريخ، بدأت تتشقق وتهتز لتهوي، فلا العلم هو العلم، ولا السياسة هي السياسة، ولا الثقافة هي الثقافة، ولا شعوب الأرض هي الشعوب التي عرفناها؛ فالعلم قد وثب وثبة جبارة لا عهد للتاريخ كله بمثلها، ويكفيك أن تذكر صواريخ الفضاء ونزول الإنسان على أرض القمر؛ وأن تستحضر إلى ذهنك في عمق ويقظة ووعي كيف أرغم العلماء قطعا من الحديد على أن تحسب وتفكر وتتنبأ، وأما السياسة فقد كانت مطمئنة على وهم مريح، وهو أن في الدنيا سيدا واحدا وثقافة واحدة، والسيد الواحد هو الرجل الأبيض في أوروبا وما تفرع عن أوروبا من البلاد الأمريكية، والثقافة الواحدة هي ثقافته، فالإنسان في أي قطر من أقطار الأرض يكون مثقفا بمقدار قربه من ذلك النموذج الواحد الوحيد، وعلى سائر الألوان من صفر وسود وسمر أن تحني رءوسها لحكم أصحاب الجلدة البيضاء؛ فتغير هذا كله بعد الحرب العالمية الثانية، وتحررت الشعوب بشتى ألوانها، وذهبت عن ثقافة الرجل الأبيض سيادتها، فأصبح لكل ثقافة قيمتها في ذاتها.
Unknown page
لكن هذه التغيرات الواسعة والعميقة، ليست مما يبدأ وينتهي في ثلاثة عقود من السنين أو أربعة، بل لا بد لها من أمد طويل لكي تتسرب مضموناتها الجديدة إلى ملايين القلوب والعقول؛ ولهذا كان من الطبيعي - لنا ولغيرنا من شعوب الدنيا - أن نعبر هذه الفترة في خطوات متعثرة مترددة، ننشد هدفا لم تتضح كل معالمه! ومع ذلك فمن الطبيعي كذلك، أن خطأ الإنسان في نقل أقدامه على هذه الأرض الملفوفة بالضباب، لا بد أن يقل شيئا فشيئا، وأن صوابه يزداد تبعا لذلك شيئا فشيئا، كلما اقترب من هدفه الجديد، وتبينت معالمه أمام عينيه.
وفي هذا الكتاب لمحات كتبها كاتبها مستنيرا بمنطق عقله، مهتديا بنبض قلبه، مخلصا لنفسه ولوطنه ولأمته؛ والكتاب أربعة أقسام؛ في أولها وقفات عند مواطن القصور في حياتنا؛ وفي ثانيها تلمس لمنافذ الضياء المبشر باقتراب الفجر، وفي ثالثها تشوف لما يمكن أن يتحقق لنا في ساعات الضحى، وأما ختامها فهو خاص بمصر، يحاول تحليل المرحلة الحاضرة من حياتها، التي يمكن وصفها بأنها فترة تضارب فيها الرأي، وتعدد الهدف، وتناقض المذهب، وغمض الاتجاه، فكأنما هي تبحث عن ذاتها وسط أنقاض التاريخ، مهتدية في بحثها بمفتاح شخصيتها الأصيلة العريقة، وما ذلك المفتاح إلا أن يعود المصري فيكون - كما كان دائما - عاملا عابدا.
وبالله التوفيق.
زكي نجيب محمود
القسم الأول
فلول الظلام
جذور التصدع
استبدت في الرغبة منذ حين ليس بقصير، في أن أعرض على الناس صورة تصورتها عن الحياة الفكرية كما نحياها اليوم، لكنني أخذت أقدم يدا وأؤخر يدا، لا لأنني لم أكن على ما يشبه اليقين فيما تصورته، بل لأنني خشيت أشواك الطريق، وهي أشواك تأتي من صعوبة الموضوع وغرابته من جهة، ومن عسر معالجته على نحو يجد طريقه إلى عقول القارئين من جهة أخرى. ثم أراد لي الله خيرا، فساق إلي طالبا في إحدى الكليات العلمية، يكثر من القراءة ويحسنها، وهو طراز نادر بين طلابنا، جاءني ليسألني: هل يمكنه أن يتلقى عني شيئا يفهم به فهما واضحا ماذا يراد بالفلسفة؟ وماذا يقرأ ليرتاد ذلك العالم المجهول؟
أجبت الطالب بقولي: لا، لن أقدم لك ما تريده جاهزا على طبق من فضة، بل سأعرض عليك موضوعا يمس حياتنا الثقافية والفكرية في الصميم، وسنحاول تحليله معا، وفهمه معا، تعاونني وأعاونك، حتى إذا ما انتهينا معا إلى نتيجة ترضينا، فعندئذ فقط سأجيب لك عما جئتني لتستوضحه. فقال الشاب في فرحة وثقة بنفسه: لك علي ذلك. قلت: إذن فلنبدأ من فورنا، والخطوة الأولى في الموضوع، هي أن نحاول معا الإجابة عن هذا السؤال الآتي: افرض أن حياتنا اليومية العملية قد قذفت أمامنا بمشكلة يراد لها أن تحل حلا حاسما وسريعا، ولتكن - مثلا - مشكلة «النسل» وضرورة ضبطه، أو «تنظيمه»، ثم طرحت المسألة على أصحاب الرأي ليدلوا بآرائهم في حل المشكلة، وهي كما ترى مشكلة قومية، فتعال معي نحصر «أنواع» الآراء التي يمكن أن يعرضها أصحاب الرأي هؤلاء.
قال الفتى: ماذا تعني ب «أنواع» الآراء؟ قلت: أعني الاتجاهات المختلفة التي يمكن أن يتجه إليها المشاركون بالرأي. فأنا أريد لك أن تتبين الفرق بين اختلافات في الرأي تأتي من الزاوية الواحدة، واختلافات أخرى تأتي بسبب أن زوايا النظر قد تباينت، فمثلا قد ترى رجلين يتفقان على ضرورة تحديد النسل، لكنهما بعد ذلك يختلفان كيف يكون التحديد، وإلى أي حد يكون؟ ثم قد ترى رجلين آخرين لا يتفقان منذ البداية على المبدأ نفسه، إذ يقول أحدهما إن تحديد النسل لا بد منه، ويقول الآخر بأن مثل ذلك التحديد باطل من أساسه ولا يجوز الأخذ به، فكلا الموقفين: موقف الاختلاف بين الرجلين في الحالة الأولى، وموقف الاختلاف بين الرجلين في الحالة الثانية، أقول إن الموقفين كليهما يظهران اختلاف الرأي، لكن «نوعه» في الحالة الأولى لا يشبه «نوعه» في الحالة الثانية، إذ هو في الحالة الأولى اختلاف في ظل مبدأ مشترك، وأما في الحالة الثانية فلكل من الرجلين مبدأ يختلف به عن مبدأ الثاني.
Unknown page
قال الفتى: فهمت ما تعنيه، والآن فلنحاول إحصاء «أنواع» الاختلاف كما أردت، وفي ظني أننا قد وقعنا بالفعل على نوعين، فهناك فئة ترفض تحديد النسل لأنها ترفض المبدأ، وبالتالي فليس لديها ما تقدمه من خطط ووسائل، وهنالك فئة أخرى تقبل المبدأ، وربما تفرعت فيما بينهما بعد ذلك فروعا عند التفكير في الخطط والوسائل، فقلت له: نعم، لكن إياك أن تحسب الفئة الأولى نفسها بمثابة النوع الواحد؛ لأنها هي الأخرى قد تتفرع بدورها فروعا، كل فرع منها يقدم سببا مختلفا يعلل به رفضه للمبدأ، فهنالك من يرفضون مبدأ التحديد على أساس ديني، وهنالك من يرفضونه على أساس اقتصادي، وهنالك من يرفضونه على أساس صحي، وهكذا، لكن عد بنا إلى الفئة التي قبلت المبدأ، ثم تفرعت آراؤها تحت تلك المظلة الواحدة، فهل لك أن تحللها إلى فروعها تلك؟
قال الشاب: نعم، سأحاول التحليل ما وسعتني الحيلة، فيبدو لي أن تلك الفئة الكبرى تنقسم بادئ ذي بدء قسمين: قسم منها تغلب عليه النزعة العلمية، بمعنى أن أفراده إذا هموا بعرض وجهات نظرهم فهم يميلون إلى إقامة تلك الآراء على بحوث فيها دقة العلم، ومن هؤلاء: الأطباء، وعلماء الاقتصاد، وعلماء النفس، وعلماء الاجتماع. وأما القسم الثاني فأفراده من طراز آخر؛ لأنهم وإن يكونوا على استعداد لقبول ما يقوله العلماء بدقتهم العلمية، إلا أنهم في الوقت نفسه يرون أن ما هو أهم من العلم ودقته في موضوع كهذا، هو الذوق الحضاري، وقد جرى العرف أن يطلق على أمثال هذه الطائفة المفكرين.
قلت للطالب الشاب الساعي وراء المعرفة: يكفينا هذا القدر من التحليل، لنعود بأنظارنا إلى تلك الأقسام والفروع التي ذكرناها، فنلقي على أنفسنا سؤالا آخر، يقع في مستوى أعلى من المستوى الذي تحركت أفكارنا فيه حتى الآن، فلقد كنا حتى الآن نحصي أنواع الرأي التي يحتمل ظهورها بين رجال الفكر عندنا، إذا ما طلب إليهم إبداء الرأي في مشكلة تلح علينا أن نجد لها حلا، ألا وهي مشكلة النسل وضرورة تحديده، وبعد أن عرضنا عدة أنواع وما يتفرع عنها، نريد الآن أن ننظر، لا في مجرد السرد والإحصاء، بل في أبرز الخصائص الفكرية والثقافية التي تتميز بها تلك الأقسام والفروع، فماذا ترى في ذلك؟ فأجاب الشاب: أظن أن فكرة الزمن يمكن أن تتخذ معيارا لتقسيم هؤلاء جميعا. سألته: وماذا تعني بفكرة الزمن في هذا المجال؟ قال: إنما عنيت أن أصحاب الرأي عندنا يمكن تقسيمهم ثلاث فرق؛ بحسب ما تراه كل فرقة منها زمن المثل العليا أين كان؟ أكان الماضي وما قد شهده من بطولات ومن طموحات في كل ميادين الحياة، هو النموذج لنا اليوم فنحتذيه؟ أم يكون النموذج قائما في مجرد تصور ذهني نتصوره نحن لما نريد لمستقبلنا أن يجيء عليه؟ أم لا هو الماضي ولا هو المستقبل، بل هو تحت أقدامنا حيث نقف، أعني أنه في اللحظة الحاضرة وما تقتضيه، فلهذه اللحظة مشكلاتها القائمة بالفعل، والتي تتطلب منا حلولا لها، فلا ينبغي لنا أن نبحث عن تلك الحلول عند السلف، كما لا ينبغي أن ترجأ تلك الحلول إلى أن يتحقق لنا فردوس على الأرض ، وإنما الواجب هو حل تلك المشكلات هنا والآن. بما بين أيدينا من العلوم وأدواتها.
أعجبت أيما إعجاب بهذه النظرة التحليلية النافذة إلى حقائق الأمور، وأبديت للشاب إعجابي بعرضه للفكرة وتوابعها، ووافقته على أن خير ما يلقي لنا الضوء على أصحاب الآراء المختلفة في الموقف الواحد بين رجال الفكر والثقافة عندنا، هو - كما قال الطالب - اللفتة الزمنية عند كل جماعة منهم، فنحن - إذن - نستطيع القول بأن أصحاب الرأي عندنا منقسمون إلى سلفيين أسقطوا من حسابهم فعل الزمن، وظنوا أن الماضي بحذافيره يمكن أن يمتد وجوده كما هو الحاضر والمستقبل وإلى أبد الآبدين، فبالنسبة إلى السؤال المطروح بين أيدينا في هذا الحديث، عن مشكلة النسل فهم كأنما يصيحون بلسان الحال ولسان المقال معا، بأنه ما دام السلف لم ينظروا في مشكلة النسل إذن فهي لا يجوز أن نعدها نحن مشكلة في يومنا؛ لأن اليوم لا بد أن يصب في قالب الأمس، أولئك هم جماعة السلفيين من أصحاب الرأي عندنا، وأما الجماعة الأخرى فهي ما يمكن تسميتها جماعة النظرة المستقبلية، وهي جماعة من المثقفين والمفكرين، تميل بهم اتجاهاتهم النظرية إلى أن ينسجوا نسيجا، بوحي مما قرءوه أو ما فكروا فيه بأنفسهم لأنفسهم، يصور - أي النسيج النظري الذي نسجوه - ما يرجون أن يروه متحققا في مستقبل بلادنا، ومثل هذه النظرة المستقبلية إما أن يقيمها أصحابها على تحليل علمي للحاضر، وما ينتظر لهذا الحاضر أن يتمخض عنه من نتائج، وإما عن رؤية بالبصيرة يجاوز بها أصحابها حدود التحليلات العلمية وقيودها، وفي كلتا الحالتين نخرج ب «أمل»، ولكن الأمل وحده يترك لنا الحاضر كما هو بمشكلاته، وتبقى الجماعة الثالثة، وهي تلك التي تعلق اهتمامها الأول على اللحظة الحاضرة، فالمشكلة المعينة - كمشكلة النسل - هي مشكلة الأحياء في يومهم هذا، فلا مجد الأولين بذي نفع لنا فيها، كلا ولا جنة المستقبل التي تصورها لنا الأحلام.
واتجهت إلى الشاب الطلعة الذكي الطموح، مكررا له إعجابي بصفاء فكره، ومقررا موافقتي إياه على اختيار فكرة الزمن أساسا لتقسيم رجال الفكر والثقافة عندنا ، ومواقفهم مما يعرضون له من قضايا، ثم أضفت له ما يأتي: لعلك تذكر أننا قد صعدنا بحديثنا عن مشكلة النسل التي ضربناها مثلا نوضح به ضروب اختلاف الرأي بين أهل الرأي في مجتمعنا، أقول لعلك تذكر أننا - حتى الآن - قد صعدنا بحديثنا ذاك درجتين، كانت الأولى حين بلورنا الآراء المصطرعة المتناثرة في جماعات تمثلها، وكانت الثانية حين أدرجنا تلك الجماعات تحت فكرة اخترناها لتكون أساسا للتمييز بين جماعة وجماعة، وهي فكرة «الزمن». وأريد منك يا بني أن تفكر لنا في درجة ثالثة للصعود، وسيكون الصعود هذه المرة، من الأساس الزمني الذي استخدمناه للتقسيم بين الجماعات المتنافرة، إلى الأصل البعيد الذي لا بد أن يكون ذلك الأساس الزمني نفسه قد اشتق منه.
فبعد فترة قضاها الطالب العلمي النابه في التفكير قال: إن ثمة إطارا نظريا عاما أراه صالحا لأن يكون هو ذلك الأصل البعيد الذي نبحث عنه، وهو تصور العلاقة بين ثلاثة أطراف، هي: السماء من أعلى والأرض من أسفل، والإنسان فيما بينهما يتأرجح صعودا إلى السماء وهبوطا إلى الأرض.
فلم يكد الشاب يطرح أمامي هذا الإطار العام، حتى أخذتني فرحة نشوانة يعرفها كل من يربط سعادته بالقدرة على كشف الجديد في دنيا الأفكار، وقلت له: ألا إنه لينبوع غزير الثراء هذا الذي وقعت عليه يا صاحبي، فلنتأمله معا لنرى كيف السبيل إلى استخدامه وما نحن بصدد البحث عنه.
قال الفتى: لقد ازدادت الصورة وضوحا أمام عيني، فالإطار النظري العام الذي يحدد به الإنسان نظرته إلى نفسه، والذي يجيء اختلاف الثقافات بعضها عن بعض، سواء أكان ذلك بالنسبة إلى تعدد الشعوب، أو بالنسبة إلى تعاقب العصور، هو أن يكون لنفسه تصورا معينا لوضع الإنسان في الكون، ووضعه بالنسبة إلى عالم الغيب، بما في ذلك من مصدر وحيه الديني، الذي يمده بالعقائد والقيم المنظمة لسلوكه، وإنني لأرسم أمام ذهني الآن صورة لثلاث درجات: عليا ووسطى ودنيا، وأتصور الإنسان هو في الدرجة الوسطى يضع قدميه على الدرجة الدنيا، ويشرئب بطموحه نحو الدرجة العليا ، ويجيء اختلاف المواقف الثقافية - بين الشعوب وبين أفراد الشعب الواحد أحيانا - من الطريقة التي نتصور بها وضع الإنسان بين تلك الدرجات، فهناك إطار ثقافي عام يقيس قيمة الإنسان بمقدار استطاعته أن يهمل الدرجة الدنيا بكل ما فيها ليعلو ما استطاع إلى الدرجة العليا، وهنالك إطار ثقافي عام آخر يرى أن الجدوى الحقيقية، والمحك الأساسي الذي يبين قيمة الإنسان هو قدرته على أن ينصرف باهتمامه إلى الدرجة الدنيا (التي هي هذا العالم الطبيعي الذي نعيش فيه) فيوغل فيها بحثا ومعرفة بأسرارها، ومن ثم يتاح له أن يكون فيها سيدا يمسك بزمام الطبيعة، كما يسيطر الفارس الجريء المدرب على جواده، مقيدا إياه باللجام والشكيمة، ليصرفه حيثما شاء، وكيفما شاء له أن ينصرف، وكلا الإطارين الثقافيين اللذين ذكرناهما، على تضاد ما بينهما؛ إذ إن أحدهما يبيع الأرض من أجل السماء، في حين أن الآخر يستدبر السماء لينكب على الأرض. أقول إن هذين الإطارين كليهما، على تضاد ما بينهما، متشابهان في الأساس العميق للرؤية، وهو عدم القدرة على الجمع بين اهتمام الإنسان بالسماء والأرض معا في وقت واحد، ولنا بعد ذلك أن نتصور إطارا عاما ثالثا، لا هو يدير نفسه على محاور الدين كما نزل، ولا هو يديرها على محاور الواقع الطبيعي كما يقع، وإنما هو يبني لنفسه بيتا من أوهامه وأحلامه، كما ينسج العنكبوت فلا هو ينعم بما رسمته له السماء، ولا هو يتقيد بواقع الأرض، ونحن إذ نقول ذلك عن الإنسان الحالم بحياته، نخرج - بالطبع - ذلك الضرب من الأحلام التي تبنى على ضرورات الواقع وقوانينه؛ لأن مثل هذه الأحلام كثيرا ما كانت أسسا لبناء حياة جديدة.
فرغ الشاب الموهوب من هذا البيان الرابع، فما وسعني إلا أن أزيده ثناء وتقديرا، ثم توليت عنه الشرح والتعليق، فقد كان فيما قدمه تخطيط يشبه رسوم المهندسين بالخطوط البيضاء على ورقات زرقاء، ظاهرها بسيط لكنها - برغم بساطتها تلك - تقام على أساسها أعقد ناطحات السحاب وأدقها وأعلاها، نعم، لقد أنار لنا الطالب العلمي النابغة مصباحا، وعلى ضوء ذلك المصباح، أستطيع أن أجيب عن أسئلة كثيرة: فمثلا، سؤال: ماذا يكمن في صميم قولنا إن أوروبا «نهضت» في القرن السادس عشر، نهضة نقلتها من عصور مظلمة إلى عصور مضيئة؟ جواب: الفكرة التي تكمن في صميم هذا القول، هي أن الأوروبي كان يهمل الأرض وشئونها، لتستوعبه السماء وغيوبها فلما نهض نهضته تلك تحول ببصره من أعلى رأسه إلى ما تحت قدميه، وعني بالدنيا ومشكلاتها فعمرت الأرض ولم تضار السماء. سؤال: ماذا يكمن في صميم قولنا إن الحياة الفكرية والثقافية في مصر خلال مرحلتها الراهنة، تدفع المصري إلى الخلف، بعد أن كانت تلك الحياة في الجيل الماضي تحاول دفعه إلى الأمام؟ جواب: تكمن في صميم قولنا هذا فكرة مؤداها أن رواد الفكر والثقافة في الجيل الماضي كانوا يشدون أبصار الناس إلى أرض الواقع الحي، بدل أن تستغرق كلها في النظر إلى أعلى، فجاء رواد الفكر والثقافة في هذا الجيل، ليصرفوا أنظار الناس عن واقعهم وحقائقه، ونموذجهم في ذلك هو ما كانت عليه مصر خلال القرون الثلاثة (16-19) التي اكتفى الدارسون فيها بتقويس ظهورهم على صحائف يحفظونها اليوم لتسميعها غدا. سؤال: لماذا فشل التعليم (بالنسبة إلى ما يبذل فيه من جهود المخلصين) في يومنا؟ جواب: للسبب نفسه، وهو إغماض العين عن الطبيعة وما يبنى عليها من علوم، والاتجاه بمعظم الجهد نحو الإعداد لحياة آخرة.
ولو كان هنالك تناقض بين أن يمسك الإنسان بالحياة من طرفيها: أولاها وأخراها معا، لقلنا إنهم معذورون في إيثار الخلود على الزوال، لكنه لا تناقض بل إنه لأساس مكين من أسس العقيدة الإسلامية أن يحيا الإنسان حياته بأولها وآخرها، وفي هذه المناسبة أذكر شيئا سمعته ممن لم أكن أتوقع أن أسمعه منه، حدث ذلك سنة 1936م حيث ذهبت من إنجلترا إلى ألمانيا في رحلة سياحية مدة أسبوعين، وبينما نحن في سفينة تجول بنا في بحيرة هناك، جاءني دليل المجموعة السائحة التي كنت أحد أفرادها، وعرف أني مصري مسلم، فاسمع ماذا قاله ذلك الشاب الألماني في تعليقه، قال: إنني أتصور الكاثوليكية والبروتستانتية (في المسيحية) والإسلام، وكأني أرى أمامي ثلاثة فروع من جذع واحد: الفرع الأوسط هو الكاثوليكية في الجنوب الأوروبي، وهي للآخرة أكثر منها للدنيا، والفرع الثاني - فرع البروتستانتية - يمتد في الشمال الأوروبي، وهو للدنيا أكثر منه للآخرة، والفرع الثالث - وهو الإسلام - يمتد جنوبا عبر أفريقيا وآسيا، وهو للدنيا والآخرة معا في توازن جميل.
Unknown page
واتجهت إلى زميلي طالب العلم، معترفا له بفضله ورجاحة عقله، وقلت: إننا الآن يا زميلي قد أصبح في مقدورنا إعادة النظر إلى حياتنا الفكرية والثقافية على ضوء المخطط الذي وضعته بين أيدينا، فنرى تلك الحياة وكأننا ننظر إلى تفصيلاتها تحت المجهر، فهنالك جماعة تتجه هي، وتشد الكثرة الكاثرة من الجمهور، نحو أن يكون المثل الأعلى هو أن نستجير بالسماء وخلودها من الأرض وعوابرها النواقص الفانيات (ونحن هنا نتحدث من ناحية الفكر والثقافة) ولو جاز لي أن أقدر بالأرقام نسبة تلك الجماعة ومن يسيرون في ركبها لقلت إنها لا تقل عن تسعين من كل مائة في أفراد الشعب الراشدين، وهنالك جماعة أخرى تقع في النقيض، لكنها قليلة، قليلة حتى ليستطيع عدها بالعشرات لا بالألوف ولا بالمئات، وديدنها الاكتفاء بحياة الدنيا، مع تعميقها بالعلوم والفنون والإنتاج والثراء والعيش الرخي المستريح، ولا يسير في ركاب هؤلاء أحد من جمهور الناس، وأما الجماعة الثالثة، فهي وإن تكن أقلية ضئيلة من حيث عددها، فهي ذات صوت مسموع إلى حد كبير، وهي جماعة تحرص أشد الحرص على أن يعيش الناس حياتهم كما أراد لهم الله أن يعيشوها، وأعني أن تجيء الحياة بكل امتلائها على الأرض، وبكل ما يرضي الله، ابتغاء حياة الآخرة بما وعد فيها المؤمنون، وليس الجمع بين الطرفين ممكنا فحسب، بل هو علامة من أبرز ما يميز عقيدة الإسلام.
ولو كان المجتمع سويا في فكره وثقافته، لاتحدت «الرؤية» في الإطار العام، ثم انحصر اختلاف الرأي تحت مظلة المبدأ المشترك، لكن مجتمعنا اليوم قد أصابه التواء، فتعددت الرؤى، فتفسخت أوصاله، وتصدعت جدرانه، وكمنت جذور ذلك التصدع في أننا لم نتفق على الألف باء، التي هي في هذه الحالة، ماذا يكون وضع الإنسان بالنسبة للإطار العام ذي الدرجات الثلاث.
قلت للطالب النابه: لقد جئتني أول الأمر، تسألني هل يمكنك أن تتلقى مني بيانا لحقيقة «الفلسفة» ما هي؟ وتساءلت إن كان في مستطاعك أن تكون على فهم جيد واضح للمراد بهذا الاسم العجيب، الذي يتبادله الناس ليرفعوا قدره إلى أعلى عليين مرة، ثم ليهبطوا به إلى أسفل سافلين مرة أخرى، فأرجأت جوابي عن سؤالك حتى نفرغ معا من محاورة نجريها لنستوضح - معا - صورة حياتنا الفكرية والثقافية كما نحياها، ولم أرد أن يكون حوارنا في غير موضوع، فاخترت لك مشكلة عينية من مشكلاتنا الحادة، وهي مسألة تحديد النسل وضرورته، وها نحن قد انتهينا معا بعد صعودنا في المحاورة درجة بعد درجة، إلى نتيجة عامة وشاملة.
ونعود الآن إلى سؤالك الذي جئت من أجله، وهو: ما الفلسفة؟ وجوابي هو أن الفلسفة منهج فكري، يبدأ دائما من السطح الفكري الذي يعيشه الناس، ثم يأخذ في الغوص تحت هذا السطح، ليصل آخر الأمر، إلى حقيقة عامة وشاملة تفسر ذلك الذي يجري على السطح - من جهة - وتشير بالتالي إلى ما كان ينبغي أن يكون، والحوار الذي أجريناه اليوم معا، هو مثل متواضع للفكر الفلسفي كيف يعمل.
ثلاثة أصوات
هي ثمانية أسابيع لم تزد على ذلك يوما ولم تقل، قضيتها وراء البحر، أطلب الراحة والعلاج: الراحة لمن لا يعرف كيف يستريح، والعلاج لما ليس منه شفاء، وماذا تكون ثمانية أسابيع بالقياس إلى عمر طال بصاحبه نحو أربعة آلاف من الأسابيع؟ إنها كنصف الدقيقة منسوبة إلى يوم ذي أربع وعشرين ساعة، إذن، فما كان ينبغي لها أن تغير من عادات حياتي شيئا، ولكنها فعلت، وذلك عندي هو موطن العجب.
فقد كنت خلالها، إذا ما أردت أثناء ظلمة الليل، أن أضغط على مصباح النور المجاور لمخدعي، مددت إلى المفتاح ذراعي اليمنى، فلما عدت إلى داري بالقاهرة، والتمست خلال الليلة الأولى نور المصباح، مددت ذراعي اليمنى كما كنت أفعل هناك، ولبثت لحظة أتحسس الحائط بأصابعي دون جدوى، فأسأل نفسي في عجب: أين ذهب مفتاح النور؟ ثم استيقظت الذاكرة لتنبئني بأنني الآن قد بت في القاهرة، حيث تمد الذراع اليسرى إلى مفتاح الضوء. ونهضت من فراشي إلى حيث أريد، فأنساني الشيطان مرة أخرى، واتجهت بخطواتي إلى اليمين، مع أن الطريق إلى باب الغرفة يتجه نحو اليسار، وكان مصدر الخطأ هو تلك البقية الضئيلة الباقية من حياة لم تدم أكثر من ثمانية أسابيع.
ولما أصبح بي الصباح، «تصفحت» الصحيفة اليومية، ولقد وضعت كلمة «تصفحت» بين الحواصر، لألفت النظر إلى أنني إنما أردت الكلمة بمعناها الدقيق، فلعل هذه الكلمة لم تخلق في اللغة إلا من أجلي ومن أجل أمثالي، الذين لا يستطيعون من القراءة - بحكم الضرورة - أكثر من نظرة تلقى على الصفحة كلها، لعلها تلتقط منها عنوانا ضخما هنا، أو عنوانا ضخما هناك، فقراءتي باتت تصفحا، ورحم الله أياما، لا بل أعواما تعد بالعشرات، لم يكن يرضيني من قراءة ما أقرؤه، إلا أن أستوعب المكتوب لفظا لفظا، أم أقول قراءة تستوعبها حرفا حرفا؟ وكنت إذا ما تبينت في المادة المقروءة أهمية خاصة، فعلت ما هو أكثر من ذلك؛ إذ كنت أثبت في قطعة من الورق - وأحيانا على هامش الصفحة التي أقرؤها - كلمة تدل على كل فكرة وردت خلال السطور، ثم أعيدها، وأترك الصفحة التي أمامي، وأشخص ببصري إلى سقف الغرفة، لأعيد رءوس الأفكار التي وردت في السياق، فلم أكن أقرأ لأتسلى، بل كنت أقرأ لأعرف.
ذهب هذا كله، وأصبحت قراءتي «تصفحا»، ولماذا أقول هذا؟ أقوله لأعلن به أنني أعترف مقدما بأن ما سوف أذكره الآن، قد لا يكون صوابا، وأن تكون علة الخطأ هي أن قراءتي للصحيفة اليومية التي أشرت إليها، لم تكن في الحقيقة قراءة يعول عليها، وإنما كانت «تصفحا»، الأغلب فيه أنه يؤدي بصاحبه إلى الباطل أكثر مما يؤدي به إلى الحق.
نعم فقد أصبح بي الصباح الأول بعد غياب لم يطل أكثر من ثمانية أسابيع، فلما «تصفحت» الجريدة اليومية، خيل إلي كأن فكرة لمعت أمامي، لم أدركها بمثل ذلك الوضوح الناصع من قبل، وهي أن ثلاثة أصوات تنبعث من الصفحات، ولا أقول إنها أصوات «متنافرة» بل أقول إنها كانت على الأقل - كما بدت لي - تستقل بعضها عن بعض، كأن كل صوت منها يتعمد ألا يكون له شأن بالصوتين الآخرين، وتلك الأصوات الثلاثة هي: صوت «الدولة» فيما تنشره من حقائق، وصوت «الجمهور» فيما يبثه من الأنين والشكوى، وصوت «الكتاب» الذي يخيل إليك أنه آت من المريخ أو من زحل.
Unknown page
أما أول الأصوات - صوت الدولة - فهو بغير شك أضخمها جرسا وأعلاها نبرة، وأشدها رنينا، وأميز ما يميزه هو ضخامة الأرقام التي يندر ألا تراها متصدرة في المقال، أو في البيان، أو فيما شاء أصحابه أن يسموه (وأذكر القارئ بأنني لا أجاوز ببصري حدود العنوان. بحكم الضرورة) فالأرقام هي بالملايين ومئات الملايين، وإذا تواضعت كانت عشرات الألوف ومئاتها: فالمساكن الجديدة قد شيد منها كذا ألفا، والتليفونات التي تجيء على الطريق هي كذا من عشرات الألوف، والأرض التي ينتظر زرعها بعد أن كانت جدباء هي كذا مليونا من الفدادين، وهكذا قل في جميع نواحي الحياة صغيرها وكبيرها على السواء، ولست أشك في صحة الأرقام المذكورة، لكني أقول إنها - بسبب صدقها - تبشر بما يشبه الجنة على الأرض.
فإذا ما أدرت صفحة وما بعدها، جاءك الصوت الثاني، الذي لا بد أن يكون صاحبه قد غض بصره عن أرقام الصوت الأول؛ لأن ذلك الصوت الثاني لا يسمعك إلا توجعا مما يلاقيه، ومع التوجع ضراعة أن تمتد إليه أيدي الغوث لعله يظفر هو وعياله بأقل من القليل، لماذا؟ ألم تصل إليه قطرات من ذلك الفيض الغزير الذي تعلن عنه الدولة بأرقامها، وهي أرقام لا تعرف إلا الملايين ومئاتها، والألوف وعشراتها؟ أم أن مشكلات حياتنا قد أصبحت كالبحر المحيط، وما وجوه الإصلاح إلا كاغترافنا من مائه بملعقة لنجففه، فإذا هو باق على حاله بحرا محيطا؛ كنت ذات يوم أتحدث إلى واحد من أصحاب الأنين والشكوى، فقلت له خلال الحديث: إنك يا صاحبي تنظر إلى صفحة من الكتاب وتترك الصفحة التي تقابلها، فتشكو مما يزحم الطرقات من أكوام الرمل والزلط، وتترك ما يقابل تلك الأكوام من عمائر تقام، وتشكو من غلاء اللحوم والفاكهة وغيرها من مواد الغذاء، وتترك ما يقابل ذلك من أن أحد الأسباب التي أدت إلى ذلك، هو أن ملايين كانوا لا يأكلون فأكلوا، فنافسوك في الطلب، فارتفعت الأسعار، وتشكو من قلة الأيدي العاملة داخل بيتك وخارجه، وتترك أن العلة إنما تعني أن تلك الأيدي كلها تعمل وتكسب المال، حتى لم يعد يسيرا عليك أن تجد منها يدا خالية لتسعفك.
لكننا الآن لسنا في مجال هجوم ودفاع، وكل ما يعنيني بهذه السطور التي أقدمها، هو أن أبين للقارئ ماذا صنعت بي ثمانية أسابيع قضيتها وراء البحر، ولم تكن هذه أول مرة أقضي فيها الأسابيع وراء البحر، بل هي عادة ألفتها منذ أعوام لا أدري كم يبلغ عددها، فما الذي جعلني هذه المرة أقرأ الصحيفة اليومية، فكأنما أتبين فيها - للمرة الأولى - أن من صفحاتها تنبعث ثلاثة أصوات، ولا يأبه صوت منها بالصوتين الآخرين، كأن كلا منها في واد منعزل: فالدولة بصوتها الضخم القوي العريض مشغولة بملايينها في واد، والجمهور بأنينه المتوجع في واد ثان، وأصدقاؤنا الكتاب في واد ثالث، وأقل ما أزعمه لتلك الأصوات الثلاثة، هو أنها أبعد ما تكون عن أن تؤلف معا معزوفة موسيقية تستريح لها الأذن.
كنت أحدثك عما وجدته في الصحيفة من توجع الجمهور وضراعته، وها أنا ذا أكمل لك حديثي عن الصوت الثالث، وهو صوت الكتاب بمختلف صنوفهم، وحسبي أن أقول إنني رأيت انشغالا بالآخرة أكثر من الانشغال بالأولى، ووجدت ما يشبه معركة قائمة: هل كان فلان يرجع بأصوله الأولى إلى بلاد واق الواق، أو كان يرجع بتلك الأصول إلى جزيرة الشيطان؟
ترى هل أزالت عني تلك الأسابيع الثمانية حجابا فوضحت الرؤية أمامي، أو أضافت لي حجابا إلى حجب فضللتني؟ لقد جلست على مسمع من التليفزيون عشية ذلك اليوم، لأسمع الأخبار، فكنت كمن أدرك للمرة الأولى أننا لا نقدم الأخبار مرتبة وفق أهميتها الموضوعية الحقيقية، كما رأيت الناس يفعلون وراء البحر، بل نرتبها بمقدار قربها أو بعدها عن أصحاب المناصب العليا، فمقابلات السيد رئيس الجمهورية، والأخبار المتعلقة بالوزراء وكبار المسئولين، تسبق أنباء حرب اشتعلت نيرانها في أرض تهمنا، أو أنباء زلزال ارتجت له الأرض فقضى في لمح البصر على عشرات الألوف من البشر، والله أعلم منا أين الصواب في ذلك وأين الخطأ. لكن ذلك لا يمنع الإنسان من عرض رأيه على الناس، وهم أحرار في رفضه وقبوله، ورأيي هو أن مقياس الصواب في هذه الحالة وأمثالها، هو أيهما أنفع أثرا في تربية الشعب تربية إنسانية مرهفة الحس، يقظانة الضمير؟ وأحسب أنني إذا حرصت على تقديم الأهم قبل المهم، يوما بعد يوم، وعاما بعد عام، كنت بذلك أقرب إلى تربية الشعب في سلامة الإدراك، وفي رؤية النسب الصحيحة بين الأشياء والحوادث.
وإن ذلك ليغريني بذكر شيء، قرأته في صحيفة الصباح، وسمعته في تليفزيون المساء، وهو شيء تعمدت بادئ الأمر ألا أتورط في ذكره أو الإشارة إليه، لكنني أحسست - حين حانت لحظته المناسبة - بأن واجبي هو أن أقول الحق كما أراه، ولتشفع لي سني التي بلغت ما بلغته، إن لم تكن النية الحسنة وحدها شفيعا كافيا، وإنما قصدت بهذا ما قرأته وما سمعته عن «منحة» العيد للعاملين، بتوجيهات من السيد الرئيس، وإني لأستأذن السيد الرئيس بكل ما عرفناه فيه من إخلاص ونزاهة وجدية وصدق، أستأذنه في أن أطرح السؤال الآتي: هل نعمل على تربية الشعب تربية ديمقراطية صحيحة، وعلى بث روح العزة والكرامة والاعتداد بالنفس، حين نعلن في مناسبات الأعياد عن «منحة» للشعب العامل، بأمر من رئيس الجمهورية؟ من الذي يمنح من؟ ومن أي مال يمنحه؟ إنني - معاذ الله - لا أستهدف قطع الأرزاق، ولكنني لا أستريح ضميرا حين أرانا نعيد صور الماضي الذي ثرنا عليه لنغيره، ذلك الماضي الذي كان الحاكم فيه يقول للناس إنه «ولي النعم»، وواجبنا هو أن نمحو من الوجود محوا، كل أثر يوحي للإنسان بأنه تابع يتلقى الصدقة من سيده، إذا أراد سيده أن يتصدق عليه، ومغفرة إذا كنت على خطأ.
وأعود إلى الأصوات الثلاثة التي لا يلتقي صوت منها بصوت وكل في واد يهيم، إنك إزاءها لا تعرف هل لك أن تتفاءل أو عليك أن تتشاءم؟ فإذا أردت تفاؤلا، فاقرأ صوت الدولة بأرقامها، وإذا أردت تشاؤما فاقرأ صوت الجمهور، وإذا أردت أن تفقد هويتك وأن تسبح في بحر النسيان وغياب الوعي، فاقرأ بعض ما يكتبه «الكاتبون»، صوت الدولة يضعك على أرض تجري فيها أنهار العسل واللبن، وصوت الجمهور يملأ سمعك بالأنين، ويملأ قلبك بالحسرة والأسى، ومع بعض الكرام الكاتبين لا تعرف أين أنت، ولا تدري وأنت معهم متى ولماذا.
مع كل صوت من الأصوات الثلاثة خريطة لمصر، لكن خريطتها هنا ليست هي خريطتها هناك، ومن يقصر رؤيته على خريطة واحدة منها، لم يعرف شيئا عن أهل الخريطتين الأخريين، فأنين الخريطة الثانية لا تسمع أصداؤها في الخريطة الأولى، وأرقام الخريطة الأولى لا تعيها الخريطة الثانية، وأما أصحاب الخريطة الثالثة فهم في عالم آخر، وعلى سبيل التفكهة أروي ما قاله لي صديق كان أستاذا للجغرافيا الاقتصادية في كلية التجارة، وقد ورد في كتاب له يدرسه طلابه، عن محصول البن أنه يهم الناس جميعا، من الزارع والتاجر إلى رجل الشارع وسيدة الصالون وهي تحتسي قهوة الصباح، فجاءه طالب ليقول له مازحا: لقد بحثت يا دكتور في كل خريطة عندي عن السيدة التي تحتسي القهوة في صالونها، فلم أجد لها أثرا.
الفرق بعيد بين أن تتعدد الأصوات في جماعة من الناس، تعددا يجعل كل صوت منها مقطوع الصلة بالأصوات الأخرى، وأن تتعدد الأصوات في جماعة أخرى تعددا لا يمنع أن تجيء تلك الأصوات بمثابة التنويعات على لحن واحد، في الحالة الأولى تنتج عن الأصوات ضجة، وفي الحالة الثانية تنتج عنها معزوفة موسيقية، في الحالة الأولى قد يمحو كل صوت أثر الصوت الآخر، وفي الحالة الثانية يزداد كل صوت قوة بفعل الأصوات الأخرى، وفي الحالة الأولى تجيء حركة المجتمع أقرب إلى حركة الذي يقفز قفزته إلى أعلى، ليعود إلى موضعه من الأرض حيث كان، وفي الحالة الثانية تجيء حركة المجتمع شبيهة بحركة من يقفز قفزته إلى أمام، حتى إذا ما عاد إلى موقع من الأرض، وجد نفسه قد تقدم بمقدار ما قفز.
المثل الأعلى لحياة المجتمع، هو أن يكون لكل فرد طابعه الخاص الذي يتميز به دون سائر الأفراد، وأن يختلف بصوته (أي برأيه) ما شاء له فكره أن يختلف؛ لأنه إذا تشابه فردان من البشر تشابها كاملا، كان أحدهما زائدة لا مبرر لوجودها، ولكن شريطة أن يجيء اختلاف الأفراد، مماثلا لاختلاف الآلات الموسيقية مع مختلف العازفين في سيمفونية واحدة، فما دامت الفرقة العازفة بكل أفرادها، تتبع «نوتة» واحدة، فاختلاف الأصوات عندئذ يكون قوة ولا يكون ضعفا.
Unknown page
ولنقف هنا لحظة هادئة، نتأمل فيها هذه السمة التي هي من علامات الحياة السليمة القوية، نتأملها على مهل؛ لأنها مفتاح مهم للطريق السوي، إذا ما أردنا لأنفسنا هداية على الطريق، فحياة الناس في أمة بعينها، وفي أي مرحلة زمنية من مراحل تاريخها، إنما هي مجموعة مركبة من مئات الألوف من الأمزجة والأفكار والأعمال والهوايات والقدرات والميول والرغبات، ويستحيل ألا تجيء الحياة على صورة شديدة التركيب والتعقيد، ما دام لكل فرد من أبناء تلك الأمة الواحدة اتجاهاته وملكاته واختياراته، ولكن هذه الكثرة الغزيرة من مناحي الحياة وطرقاتها، كثيرا جدا ما تلتقي كلها في جذور واحدة، إبان العصر التاريخي الواحد، بحيث يستطيع المؤرخ بعد ذلك، بشيء من نفاذ البصيرة، أن يصف ذلك العصر بالصفة التي تميزه دون سائر العصور، وذلك - بالطبع - إذا كانت تلك الحياة - كما قلنا - سليمة التكوين، واضحة الأهداف، سديدة الخطى، وأما إذا جاءت كثرة العناصر خليطا مهوشا، لا يتفق العازفون فيه على لحن واحد، كان الناتج شيئا كالذي أصيبت به بابل القديمة، حتى امتنع عليها أن يكون لها كيان موحد، يطرد سيره ويصبح له تاريخ.
إنه لأمر معروف مألوف، في تاريخ الحضارات، أو في تاريخ الفكر، أن يبحث الباحثون عن الخصائص البارزة المميزة للعصور المختلفة، ولولا أن الحياة الاجتماعية، على الرغم من تباين أفرادها فيما يعملون، يظل لها المحور الواحد الذي تدور عليه رحاها، أقول إنه لولا ذلك، لتعذر أو استحال أن نميز عصرا معينا في حياة أمة معينة، أعني أن نميزه بصفة تحدد معالمه، وفي هذه المناسبة أذكر أنه قد صدر منذ بضع سنين، سلسلة من الكتب الإنجليزية يصور كل كتاب منها، الحياة الفكرية في أوروبا إبان قرن من الزمان، بادئة من القرون الوسطى فصاعدة نحو عصرنا، ويكفي أن يقرأ القارئ عنوان الكتاب في تلك السلسلة، ليعرف الروح التي سادت خلال القرن المعين الذي يتحدث عنه الكتاب، فكتاب العصور الوسطى عنوانه «عصر الإيمان»، وكتاب القرن السادس عشر عنوانه «عصر النهضة»، ثم تتوالى العنوانات مع القرون: «عصر العقل»، «عصر التنوير»، «عصر التطور»، وأخيرا «عصر التحليل»، وهذا هو القرن العشرون، فإذا قرأت كتابا من تلك السلسلة، عرفت كيف تلتقي مناشط الفكر كلها - في القرن الواحد - عند محور أساسي واحد. وبديهي أن واحدية المحور قد نتجت عن واحدية الهدف عند الجميع.
وعلى هذا الأساس، أطرح السؤال الآتي أمام القارئ: بأي الخصائص نصف الحياة في مصر إبان هذه الفترة من تاريخها؟ إنه إذا وجد الجواب الصحيح، كنا بخير ونسير على هدى، وأما إذا وجد مناشطنا واتجاهاتنا أقرب إلى الخليط البابلي الذي لا يجد ما يوحده على صوت واحد، ولغة واحدة، كان من حقنا أن نطالب بوقفة هادئة نراجع فيها أنفسنا، لعلنا نرسم طريقا للسير، يترك المجال فسيحا لكل فرد أن ينشط بما يحقق ذاته، لكنه في الوقت نفسه يربط الجمع برباط اللحن الواحد.
ولكن على فرض أنني كنت على صواب، حين قلت إن ثلاثة أصوات في حياتنا يزحم بعضها بعضا، ولا يبالي صوت منها ما يصيح به صوت آخر، وبالتالي فإن حياتنا تلك قد جاءت بلا لون غالب يميزها؛ لأنها حياة بغير هدف واضح، فماذا نحن صانعون؟ إنه لا يكفي أن نشخص المرض - وإن يكن هذا التشخيص ذا أهمية بالغة إذا كان صادقا - بل لا بد كذلك من التفكير في العلاج، فلو جاز لي أن أختم حديثي بإشارة سريعة إلى العلاج الذي أراه، توحيدا للهدف، وتوحيدا للصوت، أو قل توحيدا للنغمات المتباينة في معزوفة واحدة، لقلت: إنه لا بد أولا من الإيمان بوجوب المشاركة الفعالة في أسس حضارة عصرنا وثقافته، ثم صب هذه الأسس في قالب الشخصية المصرية العربية، فإذا أدركنا تلك الأسس على حقيقتها، وأدركنا معها مقومات الشخصية المصرية العربية، عرفنا كيف نقيم إطارا للتربية والتعليم على هذا الأساس، وإطارا للحياة السياسية على هذا الأساس، وإطارا للفن وللأدب على هذا الأساس، وإطارا للنظم الاجتماعية من الأسرة فصاعدا على هذا الأساس، وفي كل مجال من تلك المجالات، لا بد بطبيعة الحال أن تتعدد شواغل الناس واهتماماتهم وأعمالهم، بمقدار ما يتعدد الأفراد، لكن هذا التعدد سينطوي كله تحت مظلة واحدة، هي تلك الصيغة التي تصورناها وصورناها وأقمنا مناشطنا على أساسها.
هي ثمانية أسابيع قضيتها وراء البحر، لم تكن أول مرة ولا عاشر مرة أقضي مثلها هناك، لكنني هذه المرة دون سابقاتها، عدت فأحسست بعدها بأن في حياتنا تتزاحم الأصوات، مما يكاد يبطل بعضها بعضا.
نفوسنا صدئت فأصقلوها
كنت أنقل عيني في كراسات قديمة، ملأت صفحاتها على امتداد سنوات خمس، في مرحلة معينة من مراحل حياتي، وهي مذكرات عن مقروءات مررت بها، إذ كنت إذا أعجبتني عبارة، أو استوقفتني فكرة، أسرعت إلى إثباتها في تلك الكراسات، ومعظم ما أثبته منها قصير، لا تزيد الواحدة منها عن سطر واحد أو سطرين، لكنني أهملت تلك الكراسات إهمالا أخرجها من حياتي، حتى لقد نسيت أين وضعتها، وذلك لأني أدركت قلة جدواها، فلا هي مفهرسة ولا هي مبوبة، فكيف لي أن أستخرج منها شيئا، إلا أن أظل أتصفح ما يقرب من خمسمائة صفحة، عسى أن تقع العين على المدونة التي أبحث عنها؟
لكنها موجة الملل التي غمرتني بالأمس، هي التي دفعتني إلى التقليب والتنقيب هنا وهنا وهناك، وإذا بتلك الكراسات تظهر من خفائها، فكانت هي ما اخترته لأزيح به موجة الملل! ورحت أقلب الصفحات، وأنقل العين، معجبا بهذه العبارات هنا، مبتسما لتلك الفكرة هناك، ولقد كان جميع ما امتلأت به خمسمائة صفحة من قبسات مدونة، مغرقا عندي في بحر النسيان، ولكنني - يا للعجب - برغم طول المدة على تلك القبسات، وعمق النسيان الذي غرقت في بحره عندي، كنت كلما وقعت عيني على واحدة منها، تذكرت من فوري أين كنت قرأتها، فكأنني كنت أوقظ النيام من رقادهم بلمسة أصبع.
ووقفت عند إحداها، وهي عبارة تقول: «حادثوا هذه النفوس، فإنها سريعة الدثور.» كأنما أراد: أصقلوها وأجلوا الصدأ عنها. انتهت العبارة كما وردت في تلك المذكرات، وبلمعة كلمعة البرق، تذكرت أنني نقلتها عن أبي حيان التوحيدي في كتابه «الإمتاع والمؤانسة»! وقبل أن ألجأ إلى الكتاب لأبحث عن تلك العبارة في سياقها الذي وردت خلاله، وقفت بضع دقائق أتساءل فيها عن كلمة «حادثوا» في قوله: «حادثوا هذه النفوس». ما معناها؟ لقد بدت لي العبارة على شيء من الإبهام، وهنا أخرجنا الكتاب من مكمنه، وما هي إلا لحظة خاطفة حتى تذكرت كل شيء عن ذلك المعنى، فكتاب «الإمتاع والمؤانسة» هو تسجيل لأحاديث دارت في قصر الأمير، وأظنها كانت أربعين حديثا (أو نحو ذلك) دارت على أربعين ليلة، وكان الحديث الأول الذي وقع في الليلة الأولى، يدور حول سؤال ألقاه الأمير على أبي حيان التوحيدي عن خصائص الحديث الجيد، ما هي؟ فأخذت خواطر المتحدث تنساب متقاطرة خاطرا بعد خاطر، وكان بينها تلك العبارة التي أسلفت ذكرها: حادثوا هذه النفوس فإنها سريعة الدثور. كأنما أراد أصقلوها وأجلوا الصدأ عنها.
ويزداد المعنى لك وضوحا، حين تعلم أن جزءا كبيرا مما قاله أبو حيان التوحيدي في تلك الليلة، كان منصبا على العلاقة في المعنى بين كلمة «حديث» بمعنى ما يدور بين المتكلمين من حوار ونقاش وتبادل رأي، وهذه اللفظة نفسها (حديث) بمعنى: جديد، ليخلص الحاضرون - بعد استطراد في الخواطر - إلى نتيجة هامة جدا في هذا الموضوع، وهي: وجوب أن يأتي كلام المتحدث بما هو جديد، وإلا فالصمت خير له من الكلام، فحديث المتحدثين ليس بذي نفع إلا إذا كان «حديثا» أي إلا إذا كان يحمل معنى جديدا لم يكن يعلمه السامعون.
Unknown page
وبعد هذا التوضيح، فلنعد إلى الجملة التي كنت نقلتها في مذكراتي: «حادثوا هذه النفوس، فإنها سريعة الدثور»، أي إن الضرورة الحيوية تقتضي أن نزود الناس في محادثاتنا إياهم بما هو جديد، تتجدد به النفوس، إذ لو ظللنا نعيد لهم ونبدي في غمة رتيبة، أشياء ألفوها، لأنهم سمعوها من قبل ذلك ألف مرة، فسرعان ما يعلو نفوسهم الصدأ، وينتابها البلى، وواجبنا هو أن نصقلها ونجلوها من الصدأ الذي لحق بها، وذلك لا يكون إلا بجديد نقدمه، وبتجديد في النفوس يترتب عليه.
وفي هذا الضوء، أرجوك أخلص الرجاء - يا قارئ هذه الكلمات - أن تركز انتباهك فيما يقال لنا من «أحاديث»، وما يذاع فينا، وما ينشر علينا، وانظر كم في تلك «الأحاديث» ما هو حديث، بمعنى الجديد؟ ومتى يكون الجديد جديدا بكل معنى هذه الكلمة؟ إنه لا يكفي في الجديد الذي نطلبه أن يكون أي شيء غير مألوف، وإلا لكانت حركات اللاعبين في السيرك من مشي على حبال مشدودة في الخلاء، ومن مداعبات للسباع والنمور، وما إلى ذلك، هي ذروة العبقرية في حياة الناس؛ لأن فيها ما لم يألفه الناس في حياتهم المعتادة في البيت والشارع؛ بل الجديد المطلوب هو ذلك الذي يغير حياتنا العملية أو الثقافية، إنه هو الذي يبدل فينا نظرة بنظرة، إننا بغير شك قد تخلفنا على طريق الحياة المتحضرة المتطورة، كنا في طليعة الطليعة على مدى قرون من الزمان، ولم يقتصر بنا موقع الريادة على مائة عام أو مائتين، فما الذي أصابنا إن لم يكن فكرا فاسدا ملأ رءوسنا، وسلوكا عقيما قد شغل حياتنا؟ وكانت أحاديث المتحدثين لنا في معاهد التعليم وفي أجهزة الإعلام، لتنتج فينا ما ينقلنا من الضلال إلى الهدى، لو أن تلك الأحاديث قد التزمت معناها الذي أشار إليه التوحيدي، وهو أن تكون «حديثا» أي أن تنقل إلينا الجديد الذي نتجدد به فكرا وسلوكا.
وإنه ليخيل إلي أننا - وأعني الأمة العربية في مجموعها - متميزون بالنسبة إلى سائر الأمم بحبنا للتحدث بعضنا مع بعض، «فالكلام» جزء حيوي جوهري في حياتنا، هو بالطبع حيوي وجوهري بالنسبة إلى كل إنسان، عربيا كان أو غير عربي! ولكنه معنا يزيد عنه مع غيرنا، ولا أدري إن كانت البيئة الصحراوية علة مباشرة لتلك الخاصة فينا. وفي هذه المناسبة، أحب لك أن تلحظ بأن الصحراء هي موطن الأمة العربية كلها، ولا ينفي هذه الحقيقة الجغرافية أن يتخلل تلك الصحراء الممتدة من الخليج العربي شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا، أقول إنه لا ينفي صحراوية تلك الصحراء الفسيحة، أن تتخللها واحات خضراء بزرعها، بعضها صغير متناثر هنا وهناك، وبعضها الآخر كبير يتمثل في وديان الأنهار، ومنها نهر النيل وواديه الأخضر، فالصحراء هي التي أمدتنا بكثير جدا من طباعنا، التي ربما كان منها طبع «الكلام» ليكون وسيلة - أهم وسيلة - في شغل أوقات الفراغ، وحين يبلغ ذلك الكلام ذروته الفنية، يكون «أدبا» شعرا ونثرا، ومرة أخرى أقول إن البيئة الصحراوية، التي هي موطن الأمة العربية كلها بصفة عامة، هي المسئولة عن شدة حبنا ل «الحديث» من حيث هو وسيلة لتمضية الفراغ، كما أنها هي التي أدت - في الوقت نفسه - إلى أن يكون للشعر في حياة العربي مكانة قد تعلو على مكانته في أي شعب آخر، وقد لحظ الجاحظ هذه الملحوظة عن الشعر العربي ومكانته، وقال إنه كما تميزت الشعوب الأخرى بما يميزها، فاليونان ميزهم الكتاب (أذكر أن هذه هي اللفظة التي ذكرها الجاحظ في هذه المناسبة، ليشير بها إلى «الفكر» اليوناني) والفرس ميزتهم العمارة، والهند ميزها كذا، فالعرب قد تميزوا بالشعر، ويرتب الجاحظ على ذلك نتيجته، وهي أنه بقدر ما يسهل على الشعوب الأخرى نشر ثقافتهم عن طريق الترجمة، يصعب، بل يستحيل على العربي نشر ثقافته بين الآخرين، لتعذر نقل الشعر بالترجمة (اقرأ ذلك في الجزء الأول من كتاب «الحيوان» للجاحظ).
أردت أن أقول إن اللغة - حديثا يتبادله السامرون، أو أدبا من شعر أو نثر فني - هي في الصميم من الحياة العربية، جدا ولهوا، فلم يكن من قبيل المصادفة أن يجتمع معنيان في كلمة «حديث»، فالحديث معناه الكلام، والحديث كذلك معناه ما هو جديد، فكان هذا الربط بين المعنيين من عبقرية اللغة العربية؛ لأنه ربط صدر عن ضرورة تحتمها حياة الصحراء. فساكن الصحراء، إذا لم يأته الجديد عن طريق الأحاديث، فقلما يأتيه من مصدر آخر، وفي ضوء هذه الحقيقة الطبيعية والنفسية نسأل: هل يجوز لنا أن نضيع ألوف الساعات بعد ألوفها في أحاديث فارغة، أو شبه فارغة، إذا قيست بما يغير فينا وجهات النظر؟ من أين يأتينا التغيير نحو الأفضل والأرقى، إذا لم نكن نسمع من المتحدثين إلينا إلا كلاما مكرورا معادا، كأن تيار الزمن قد قيل له: قف! فوقف وتجمدت حركته عند لحظة مرت عليها قرون؟
إن مما يقال على سبيل الفكاهة، ولكنها فكاهة يميزون بها بين بعض الشعوب في الغرب، أنه إذا كان الفيل هو مدار الاهتمام، كانت طريقة الألماني أن يقرأ عنه في مراجع علوم الحيوان، ليقدم عليه دراسة فلسفية، وكانت طريقة الفرنسي أن «يتفرج» عليه في حديقة الحيوان، وكانت طريقة الإنجليزي أن يحمل معدات الصيد ويذهب إلى الفيل في موطنه ليصيده، وكانت طريقة الأمريكي أن يأخذ صيد الإنجليزي ليتاجر فيه. ولقد أضفت من عندي إلى هذا القول أن طريقة العربي هي أن ينظم فيه شعرا، أو أن يتحدث عنه مع خلانه في حلقات السمر، فللحديث عندنا طلاوة وحلاوة، وليس في ذلك بأس، شريطة أن يلتزم معناه، وهو أن يحمل الحديث في ثناياه ما هو حديث، ولابن الرومي بيتان من الشعر يبدأ أولهما بقوله: لقد سئمت مأربي ... (ونسيت بقيته) ثم يأتي البيت الثاني فيقول: «إلا الحديث، فإنه، مثل اسمه، أبدا حديث.»
وأعود إلى البيئة الصحراوية وما تبثه في أبنائها من طبائع، فنرى كيف أن اطراد الحياة وظروفها، واطراد المناخ وحالاته، يجعل ساكن تلك البيئة دائم التطلع إلى حدث جديد يخفف عنه سأم الرتابة، ومن ثم كانت أهمية «الجدة» فيما يطرأ عليه مما يفسر أن تجمع اللغة العربية كلا المعنيين: الحدوث، والجدة، في لفظة واحدة، هي لفظة «حديث»، ولعل تطلع العربي للحادث الذي هو في الوقت نفسه يحمل معه النبأ الجديد، هو ما جعل اللغة العربية تضع «الفعل» قبل الفاعل في ترتيب مفردات الجملة الفعلية فنقول: «جاء زيد» أكثر مما نقول: «زيد جاء»؛ لأن المجيء - مجرد المجيء - هو الذي يهم المترقب، أكثر مما يهمه من هو الذي جاء، ولقد عبر التوحيدي عن هذا المعنى في حديث الذي أشرنا إليه، بقوله: «الحس شديد اللهج بالحادث.» أي أن حواس المترقب، من بصر وسمع، شديدة اللهفة على ما يحدث في الحياة الرتيبة من جديد يصاحبه بالضرورة شيء من التغير.
وفي هذه المناسبة سأله الأمير: ما الفرق بين الكلمات الثلاث: حادث، ومحدث، وحديث؟ فقال التوحيدي ما معناه: إننا نستعمل كلمة «حادث» عندما يكون الموقف الذي نحن بإزائه مفهوما بذاته، مستقلا عما سواه، وأما كلمة «محدث» فتستخدم عندما يرتبط الموقف الذي نتحدث عنه في أذهاننا، بالشيء الذي كان مصدرا لحدوثه، ثم تستعمل كلمة «حديث» بمعنى «جديد» عندما يكون الأمر وسطا بين الحالتين اللتين ذكرناهما، فالموقف الحديث، لا هو مرتبط في الفهم حتما بموقف سبقه، ولا هو مستقل بذاته، وإنما هو مرتبط في الفهم عند المتكلم والسامع كليهما باللحظة الزمنية، فهو حديث لأنه وليد لحظة حاضرة أو قريبة من اللحظة الحاضرة، وعلى هذا فلا بد أن يكون ما هو حديث، قريب الولادة، أو قريب النشوء، أو بعبارة التوحيدي: «قريب العهد بالكون، وله نصيب من الطرافة.» وها هنا وردت عبارة التوحيدي التي أخذت منها عنوان هذا المقال، وهو قوله: «حادثوا هذه النفوس، فإنها سريعة الدثور.» وكأنما أراد (ذلك السلف) أن يقول: أصقلوها، وأجلوا الصدأ عنها.
ولم يفت التوحيدي، في هذا الموضع من كلامه، أن يشير إلى منزلة ما هو «قديم» في النفوس، بالقياس إلى ما هو حديث (أو جديد)، فقال إن ما هو حادث من شأنه أن يثير في النفس شعور التعجب، وأما ما هو «قديم» فيثير الشعور بالتعظيم والإجلال، وكاتب هذه السطور يضيف إلى قول التوحيدي هذا، ما يشرحه، أنه لما كان الشيء الحديث أو الجديد - بحكم حداثته هذه - مغايرا لما ألفه الناس، كان لا بد له أن يلفت إليه النظر المقرون بالدهشة، وبالتالي فهو يحرك الذهن نحو التفكير فيه، ومن هنا قال اليونان الأقدمون إن الشعور بالدهشة هو الذي يحفز الإنسان إلى التفكير العلمي أو التفكير الفلسفي، فلو فرضنا أن شعبا قضى على نفسه أن يوصد أبواب الجديد مكتفيا بما هو قديم موروث ومألوف، فالراجح ألا يعرف شعب كهذا طريقه إلى الإبداع بكل جهاته: في العلم وفي الفلسفة وفي الأدب والفن، وأما «القديم» فله منا كل تعظيم وإجلال؛ ولذلك حرصنا على بقائه وإقامة المتاحف التي تعرضه على الأنظار، ليكون مصدر وحي في عملية الإبداع، ولنلحظ هنا تلك العلاقة الوثيقة بين «القدم» والخلود لمبدعات السلف، فحتى لو كشفنا في باطن الأرض عن بقايا إناء من الفخار، لبث حيث احتقرناه بضعة آلاف من السنين، فإننا نعظمه ونوقره ونصونه في صندوق زجاجي داخل متحف الآثار. لماذا وهو مجرد إناء قديم من فخار؟ ذلك لأن «القدم» في ذاته يكسب القديم قيمة فنية فيخلد بها، ولا عجب أن نجد رجال الفن حريصين على أن تكون المادة التي يستخدمونها في مبدعاتهم قادرة على مغالبة الدهر، والذي استهدفته من هذا الشرح الذي قدمته، تبيانا للفرق بين الجديد والقديم في نفس المتلقي، هو أن أوضح ما ينبغي لنا أن نضعه إزاء قديمنا وجديدنا، فللقديم منا كل التعظيم وكل الإجلال، من حيث هو باعثنا على الإبداع، وأما الجديد فهو الذي من شأنه أن يكون موضع تفكيرنا العلمي، أو تأملنا الفلسفي؛ لأن القديم قد استنفد أغراضه مع أصحابه السالفين، علما وفلسفة.
عندما طلب الأمير من التوحيدي أن يحدد له خصائص الحديث الجيد، وكان ذلك في مستهل الجلسات التي اعتزم الأمير إقامتها في داره، ليتيح الفرصة للصحاب أن يستمعوا إلى علم التوحيدي ومعرفته الواسعة، كان شرط «الجدة» محتوما، وقد عرضنا فيما أسلفناه أبعادا مختلفة لتلك الصفة في الحديث الجيد، لكن ذلك الشرط لم يكن عند التوحيدي هو الشرط الوحيد، بل أضاف شروطا أخرى في غضون حديثه، يلفت النظر منها قوله: «الحديث معشوق الحس بمعونة العقل.» وهو قول يستحق منا وقفة متأملة، فأما أنه معشوق الحس فأمر واضح؛ لأنه إذا لم يكن الحديث لافتا للأسماع، فما جدواه؟ إذا حدثنا محدث فكان في حديثه ثقيل الدم كثيف الظل، وصممنا عنه آذاننا، فقد سددنا عليه الطريق إلى عقولنا، وذهبت كلماته لغوا فارغا، لكن الذي يحتاج إلى بعض الشرح والتوضيح في عبارة التوحيدي، فهو قوله «بمعونة العقل»، فماذا يصنع «العقل» في الحديث الجيد؟
العقل في أخص خصائصه، وهي الخصائص التي من أجلها أطلقت عليه لغتنا العربية اسم «العقل» أي «القيد» الذي يقيد خطواته ويحكمها، لنضمن به الوصول إلى غاية منشودة، أقول إن «العقل» في أخص خصائصه هو «ترتيب» المقدمات مع النتائج التي تتولد عنها، وأرجوك أن تتمهل في قراءتك لكلمة «ترتيب» هنا؛ لأن فيها لب العقل وصميمه، فالكلام، «اللامعقول» هو الذي لا يلتزم ترتيب اللاحق مع السابق في سياق الحديث، وأظن القارئ على علم بما كان يسمى بأدب اللامعقول، وكان من أمثلته مسرحية «يا طالع الشجرة» للأستاذ توفيق الحكيم، فهو أدب جاء في عصرنا ليصور ما أصيب به الناس في عصرنا من انسداد في طريق التفاهم، فالناطقون باسم هذا الشعب أو ذاك - في هيئة الأمم المتحدثة مثلا - إنما يتكلم الواحد منهم، وكأنه يخاطب الهواء؛ لأن أحدا من الشعوب الأخرى لا يعنيه أن يسمعه السمع الذي يتأثر به.
Unknown page
مرة أخرى أقول إن شرط «العقل» الذي يشترطه التوحيدي في الحديث الجيد والنافع، معناه أن تجيء الأجزاء مرتبة على نحو يكون فيه الجزء اللاحق قائما على بينات وردت في الأجزاء السابقة، ومثل هذا التسلسل مؤد حتما إلى نتيجة يخرج بها السامع، إما أن يأخذ بها، وإما أن يعترض عليها، بأن يبين للمتكلم أين يقع موضع الخطأ في التسلسل المذكور.
ذلك هو جانب «العقل» في الحديث الجيد، مذاعا لتسمعه الأذن، أو منشورا على الورق لتطالعه العين ، ولا كذلك تكون الحال فيمن يتحدث حديثا يشبع به وجدانه، فها هنا لا يطلب من المتكلم أو الكاتب مثل ذلك الترتيب، بل يكون المطلوب ترتيبا آخر مؤداه أن يتأثر شعور المتلقي بالأثر الذي يراد له أن يتأثر به، ومن هذا القبيل يكون الشعر - مثلا - فلسنا نطالب الشاعر بأن يرتب أفكاره مقدمات تتلوها نتائج، بل نترك له حرية الترتيب الذي يراه كفيلا بإحداث الأثر المطلوب، وغاية ما يجوز اشتراطه في هذه الحالة هو أن يراعي الشاعر - أو الفنان في أي فرع من فروع الفن والأدب - أن تجيء الأجزاء متصلا بعضها ببعض، على نحو ما تتصل أعضاء الكائن الحي، وذلك لكي تتاح الفرصة بأن يتجمع الأثر في بؤرة واحدة، فيبلغ في التأثير أقصى مداه.
لقد استطرد بنا الحديث حتى لأخشى أن نكون قد بعدنا عن قلبه إلى أطرافه، فقلب الموضوع الذي نعرضه هو أن نروج لما هو جديد، مستندين في هذا الترويج إلى قطعة حية من التراث، ومستندين فيه كذلك إلى دلالات اللغة العربية ذاتها، حين جمعت في كلمة «حديث» المعنيين معا: الألفاظ التي نتحدث بها، والجديد الذي لا بد لتلك الألفاظ أن تحمله إلى المتلقي، وإلا فقدت قيمتها، فقد سئل أعرابي: أتمل الحديث؟ فأجاب بذكاء قائلا: إنما يمل العتيق. فكأنما أدرك الأعرابي المسئول ازدواجية المعنى لكلمة «حديث»، فإذا كان السائل قد قصد بسؤاله جانب «الكلام» من معنى كلمة حديث؛ فقد آثر المجيب أن يبرز الجانب الآخر المتروك، وذلك لأهميته وهو جانب «الجدة»، فأجاب بجوابه المذكور، وهو أن الذي يمل إنما هو القديم الذي قتله التكرار.
وإني لأقولها في صراحة، ورزقي على الله، وهو أنني في كثير جدا مما يذاع أو يكتب، في مجال الثقافة والتثقيف، والقيم والتقويم، كأني أشم رائحة العفن، حتى لقد زكمت الأنوف وصدئت النفوس، وحق لنا أن نصيح بالدعوة التي أفصح عنها أبو حيان التوحيدي في حديثه مع الأمير وجلسائه: قال السلف: حادثوا هذه النفوس، فإنها سريعة الدثور. كأنما أراد: أصقلوها، وأجلوا الصدأ عنها.
روحانيون نحن؟ وبأي معنى
شهد الله أني ما كتبت حرفا، أبتغي من ورائه شيئا إلى أن يحمل عني فكرة أريد لها أن تبلغ القارئ، بلوغا يقنعه عقلا، أو يهزه قلبا، وشهد الله أني لم أكتب حرفا لأسعى من ورائه إلى مال أو جاه أو شهرة، فهذه أمور - حتى لو سعيت إليها - فليست وسيلتها أن تنثر لها قطرة من المداد في صحيفة أو كتاب، وإنما يتوسل إليها أصحابها بوسائل أخرى تقترن بكتابة أو لا تقترن على حد سواء، وكل شأني مع الكلمة والقلم، هو أني وجدت أمتي - على تدرج اتساعها مصرية وعربية وإسلامية - أمة ضعيفة بعد قوة، هزيلة بعد عز ومجد وسلطان، متخلفة بعد إمامة وريادة، جاهلة بعد علم ومعرفة، مقعدة بعد قوة وفتوة ومغامرة، تابعة بعد أن كانت في طليعة الدنيا، تحمل اللواء وتشق الطريق لها وللآخرين يجيئون من ورائها تابعين، فسألت نفسي لماذا؟ ثم حملت القلم لأجعل أخوتي في الوطن يشاركونني السؤال، ويحاولون معي أن نجد الجواب.
ونمد أبصارنا إلى ما وراء البحر، فنرى شعوبا أخرى تمسي في نشاط وتصبح في نشاط، لها ساعة الضحى من كل يوم كشف علمي جديد، ولها ساعة الظهر من كل نهار برهان على قوة وجبروت، ثم لها في ساعات الأصيل من كل يوم إبداع جديد، في الفن، في اختراق الآفاق، في الصناعة، في الطب، في كل شيء يخطر لنا في بال أو في الخيال، أو لا يخطر. نعم، نعم، ولهم كذلك في كل ساعة قتل وفتك وعنف وتخريب، يوجهونه إلينا نحن الضعفاء الكسالى والمساكين، أكثر مما يوجهونه إلى أنفسهم.
ونسأل: لماذا؟ ماذا أصابنا؟ فلا نجد إلا الحيرة، أو الصمت الذاهل، ولكن ينطق لك مجيب من تحت الغطاء ليقول لك: هم ماديون، ونحن روحانيون! وهنا يتحول السؤال ليكون: أحقا ما تقولون؟ وبأي معنى يا ترى تكون تلك المادية الملعونة وهذه الروحانية المزعومة؟
كلا، لا تغضب، فهو سؤال جاد لا هزل فيه، ومعذرة إذا وجدتي أسير بك ومعك نحو دقة في التحليل، ربما لم تكن قد ألفتها، لكن الأمر هو أمر حياتنا، كرامتنا، وجودنا، فلا يحتمل أن نمر عليه بلمسات على السطح، نستخدم فيها ألفاظا مبهمة وغامضة، قد لا يكون فيها من القوة إلا تكرارها في أحاديثنا ألف ألف مرة كل دقيقة من نهار أو ليل. فترسخ فينا لتكرارها، فنظنها من حقائق الكون الثابتة، كشروق الشمس مع الصباح، وغروبها مع المساء.
روحانيون نحن؟ وبأي معنى؟ إننا إذا نزعم المعنى لأي لفظ مما نستخدمه في حديث أو كتابة، فلا بد أن نكون على استعداد لبيان ذلك المعنى، إذا سألنا عنه سائل. على أن «المعاني» ليست كلها من نوع واحد، بل هناك منها عدة أنواع، تختلف باختلاف الألفاظ ذوات المعنى، وأهم تلك الأنواع ثلاثة: أولها هو أن يكون معنى اللفظ شيئا مجسدا محسوسا، يمكنك الإشارة إليه، كأن تسألني عن معنى «تمثال نهضة مصر» فأصحبك إلى التمثال المقام على الطريق المؤدي إلى جامعة القاهرة، وأشير إليه قائلا هذا هو معنى «تمثال نهضة مصر»، والنوع الثاني هو معان تكون في أذهاننا تصورات عقلية لا هي مجسدة ولا محسوسة، فإذا سألتني عن معنى «الحرية» ما هو؟ أجبتك بشرح يشرح ما «أتصوره» في ذهني عن الحرية. وبعد ذلك قد نجد ذلك التصور مجسدا في أنماط سلوكية نراها في حياة الناس الفعلية، ويمكن رؤيتها بالعين، وقد لا يكون لها وجود فعلي على الإطلاق، وفي هذه الحالة تكون الحرية بالمعنى الذي أردته لها، مجرد وهم عندي أتخيله، دون أن يكون له تطبيق يجسده في دنيا الواقع، وأما النوع الثالث من ضروب «المعنى» فهو ذلك الذي نجده في الحالات التي يكون فيها الحديث عن كائنات ليس لها وجود في عالم الأشياء وإنما هي من محض الخيال، الذي لا كان ذات يوم أمرا واقعا، ولا هو الآن كائن، ولن يكون أبدا متحققا في كائن من كائنات الواقع الفعلي، مثل «هاملت» في مسرحية شكسبير، ومثل «طائر الرخ» في حكايات ألف ليلة وليلة، وأمثال هذه الأسماء التي ليس لها مسميات في عالم الواقع، كثيرة الورود في الروايات وما يشبهها من مبدعات الخيال، وفي هذه الحالات، أين نجد «معنى» تلك الأسماء؟ الجواب: نجده في السياق الذي وردت فيه، فهذا السياق هو بمثابة العالم الطبيعي الذي نرجع إليه كلما أردنا أن نتثبت عن شيء مما ورد فيه من أسماء وعبارات، فمثلا، إذا سألت قائلا: هل صحيح أن هاملت قتل عمه؟ فأين نجد الإجابة عن سؤالك؟ في المسرحية المعروفة. وهنا أرجو من القارئ أن يركز انتباهه، حتى لا تفلت منه هذه الحقيقة الهامة - الهامة جدا في تكويننا العقلي - وهي أن هنالك أسماء كثيرة وكلمات لا حصر لعددها، ليس لها معنى إلا فيما ورد عنها في الكتب التي هي مذكورة فيها، أي إنها لا تعني شيئا على الإطلاق في دنيا الأشياء والكائنات.
Unknown page
إذا كنت قد صبرت معي خلال الفقرة السالفة، واستوعبت الأنواع الثلاثة ل «المعاني»، فتعال ندقق النظر في «الروحانية» التي ننعت أنفسنا بها، ونتخذها تعلة نتعلل بها، كلما تحركت ضمائرنا لتحاسبنا على حياة التخلف التي نحياها في طمأنينة ورضا؛ يقينا إن معنى «الروحانية» ليس من النوع الأول الذي ضربنا له مثلا عبارة «تمثال نهضة مصر»، فليس هنالك شيء قائم على الأرض، نشير إليه قائلين: تلك هي الروحانية، كما نشير إلى الهرم الأكبر وجبل المقطم ونهر النيل، والأغلب كذلك أنها ليست من النوع الثالث، الذي يشمل الأشياء التي تسمى كائنات من خلق الخيال، وردت في رواية أو قصيدة شعر، إنها ليست من قبيل واق الواق، أو العنقاء، أو مصباح علاء الدين، وبقي لنا النوع الثاني من أنواع المعنى، الذي قلنا عنه إن المعنى فيه يكون تصورا عقليا يمكننا شرحه للسائلين، وإما أن يكون لذلك التصور تجسيد في عالم الواقع - كما يحدث أحيانا - وإما ألا يكون له مثل ذلك التجسيد - كما يحدث أحيانا أخرى - وقد ضربنا مثلا لهذا النوع من المعاني كلمة «حرية» ومثلها في ذلك كلمات كثيرة، وأحسب أن «الروحانية» هي من هذا القبيل، فهي تصور ذهني لنمط معين من السلوك ومن وجهة النظر إلى الكون والإنسان، على أن ذلك التصور الذهني قد يجد في عالم الواقع ما يجسده أو لا يجد.
فما هي العناصر الأساسية، التي نتوقع لها أن تكون مكونة لمفهوم «الروحانية» في أذهاننا؟ لا بد أن يكون واضحا أمامنا - بادئ ذي بدء - أن اسم الروحانية منسوب إلى الروح، وأن الإنسان في تصوره العقلي، إذا ما ذكر الروح، قابله بالجسد، فالإنسان يتصور نفسه ذا جانبين: أحدهما مشتق من عالم المادة، والآخر آت إليه من حيث لا يدري أحد من أمره شيئا، سوى الخالق سبحانه وتعالى، فالزاعمون بأنهم «روحانيون» في طريقة حياتهم، لا بد أن يكون بعض ما يقصدون إليه هو دورانهم في حياتهم حول محور ذلك العنصر المجهول من كيانهم البشري، أي «الروح»، وأما البدن وحاجاته فيكتفي في شئونه بالحد الأدنى الذي يضمن للإنسان استمرار الحياة، من طعام وشراب وسائر ما هو خاص بالوجود البدني.
وأما عن حياة الروح، فأهم ما يرد عنها إلى الخاطر هو عبادة الله جل شأنه، وعلى الرغم من أن العبادة في معظم أركانها تعتمد على الجسد، فالشهادة ينطق بها اللسان ومعه سائر أجزاء الجهاز الصوتي، والصلاة وقوف وركوع وسجود ونطق، والصيام امتناع الجسد عن الطعام وغير الطعام مما يتصل بحاجات الجسد، والحج طواف ووقفة على عرفات وعبارات تقال ورمي للجمرات ... إلخ، وكلها يؤديها الجسد، أقول إنه على الرغم من أن الجسد أداة ضرورية لأداء العبادات، إلا أنه في ذلك مجرد أداة، وأما الغاية فهي من شأن الروح التي لا يعرف أمرها وسرها إلا ربها.
إلى هنا والتقسيم بسيط وواضح، وخلاصته أن من يزعم عن نفسه أنه روحاني، فإنما يعني أنه لا يعنى بحياة بدنه إلا من حيث هو أداة، وأن عنايته تنصب على العبادات، وهو تقسيم، إذا وسعناه، استطعنا أن نجعل شطريه - بدل قولنا جسد وروح - دنيا وآخرة، فالحياة الدنيا لا بد منها، لكنها ليست مقصودة لذاتها، وإنما قصد بها أن تكون معبرا لما هو غاية في ذاته، وأعني الحياة الآخرة، ومن هنا كان وصف الإنسان لنفسه بأنه «روحاني» يتضمن اكتفاءه من شئون الدنيا بالحد الأدنى الضروري للبقاء ، فهي - كما قيل عنها - دار مفر لا دار مقر.
لكن تعال معي نمعن النظر أكثر فأكثر، فيما تتضمنه «العبادة» ومفهومها، إنها وإن تكن في معظمها تتجلى في صورة حركات بالجسد، بما في ذلك ما ينطق به اللسان من كلمات وعبارات، فإن هذا كله لا يكون شيئا إذا لم نجاوزه إلى دلالاته، وليس هنا الموضع الذي نتناول فيه تلك الدلالات بالتفصيل، لكن الذي يهمنا منها في سياق حديثنا هذا هو ما تنطوي عليه العبادات من «قيم» مطلوب لها أن تنتقل من مجرد كونها كلمات ينطق بها العابد، لكي تصبح ضوابط للسلوك الفعلي الذي يمارسه ذلك العابد في حياته العملية اليومية، وقارئ كتاب الله الكريم إنما يقرأ في كل آية من آياته عن قيمة من القيم العليا، التي من شأنها أن تجعل من الإنسان الفرد إنسانا كاملا، وأن تجعل من ذلك الإنسان الفرد حين يواطن آخرين ويشاركهم في وطن واحد وفي أمة واحدة، مواطنا كاملا، و«الروحاني» هو ذلك الذي يحيا حياته وفق المعايير التي تفرضها تلك القيم.
فكم مرة يقرن الكتاب الكريم إيمان المؤمن بما يعمله من صالحات؟ وكم مرة يحض الكتاب على الصدق والإخلاص والأمانة؟ كم مرة يدعو الكتاب إلى فك الرقاب وإطعام المسكين ورعاية ذوي القربى؟ كم مرة يدعو الكتاب إلى الجهاد في سبيل الله؟ كم مرة ينادي بوجوب الرحمة والعدل؟ كم مرة يشجع المؤمن على النظر في خلق الله والتعقل والحكمة والتدبر؟ فحياة «الروحاني» هي حياة تجمع من هذا كله ما استطاعت قدرة البشر، لقد شاء لي الله في لحظة مباركة أن ألحظ فارقا عظيما في مغزاه، بين تصور الإسلام للقيم الأخلاقية وتصور غيره من عقائد ومذاهب، وهو أنه بينما «المثل العليا» عند تلك العقائد والمذاهب إنما هي «نماذج» يتصورها الإنسان ليجعلها غاية يسير نحوها، مع استحالة أن يحققها هنا في هذه الدنيا، أي إنه يتحتم بحكم الضرورة أن تكون هنالك فجوة بين المثل الأعلى من جهة وسلوك الإنسان الفعلي من جهة أخرى، مهما بلغ ذلك السلوك من درجات الكمال ، ترى التصور الإسلامي يدمج الطرفين معا فيما هو ممكن للإنسان أن يحققه، بمعنى أن سلوك المسلم الحق، هنا على هذه الأرض، يمكن أن يتطابق مع ما هو مثل أعلى، ذلك لو أخلص المسلم لعقيدته، وصدق فيها، وآمن بها على النحو الذي يصور به الكتاب الكريم جماعة المؤمنين، مفرقا بين من أسلم مجرد إسلام، وبين من أسلم وآمن، وهذا هو «الروحاني» في حياته وفي رؤيته، وفي تعامله مع الناس، إن الكتاب الكريم يشير إلى فرق بين من يقنع في حياته بمجرد «حياة» (بغير أداة التعريف) وبين من يحيون «الحياة» (بأداة التعريف) كما ينبغي لها أن تكون.
وبعد أن رسمنا هذه الصورة الموجزة ل «الروحاني» فإنه من حقنا أن ننظر إلى صور من الحياة الفعلية التي يحياها أولئك الذي يرفضون علوم العصر، وفنون العصر، وأدب العصر، ونظم العصر لأنهم «روحانيون». أما أبناء العصر فماديون حقت عليهم اللعنات، وهنا أترك لكل قارئ أن يراجع خبراته بمسالك الناس من حوله وفي دواوين الحكومة وفي الأسواق وفي أي ميدان آخر يختاره للمراجعة والنظر، ليرى إن كان فيما يراه ويراجعه من «الروحانية» ما يساوي أن نتخلف على طريق الحضارة، تاركين لغيرنا أن يكونوا هم العلماء، وهم المبدعون.
أهو «مادي» من يفني حياته منقبا في الأرض، وغائصا في البحر، وطائرا في الهواء وما يجاوز الهواء، ليزداد علما بخلق الله؟ وهل هي «الروحانية» أن نتربع على الأرض جلوسا، في انتظار «الخواجة» ليخرج لنا من أرضنا بترولها وحديدها ونحاسها؟ أهو «مادي» ذلك الذي صنع لنا «القمر الصناعي العربي» الذي ينتظر استخدامه بعد قليل، والذي إذا سمعت ما سوف ينجزه للأمة العربية ذلك القمر الصناعي فكأنك سمعت المذهلات من سحر الساحرين؟ وهل «الروحانية» هي أن نجمد كالمقعد الأشل، انتظارا لما يصنعه لنا ذلك «المادي» الملعون، فننعم نحن بما صنع؟ أحقا تكون أجهزة كأجهزة الحاسبات الإلكترونية «مادية» وهي تؤدي ما يؤديه «العقل» في دقة لا تستطيعها عقول البشر في حالتها الفطرية؟ إن جهازا من تلك الأجهزة إنما هو عقل مجسد، فكر مجسد، علم مجسد، وليس هو قطعة من حجر الأرض ملقاة في فلاة، أهي «مادية» تلك الأجهزة الدقيقة التي تصور للطبيب حنايا القلب في مريضه، وثنايا أمعائه، ليقوم بالعلاج على بصيرة وهدى؟ متى، وأين، منذ كان على الأرض إنسان خلت حياة الإنسان من استخدمه للآلات في زراعة أرضه وإقامة بيوته ونسج ثيابه؟ فهل تكون روحانية إذا ظلت تلك الآلات على سذاجتها الأولى، وتنقلب «مادية» إذا زادها الإنسان لنفسه دقة وتهذيبا؟
أم يريد أولئك الذين يضربون الطبول وينفخون في الأبواق تنفيرا للناس من عصرهم وحضارته، إني أسأل: أم يريد هؤلاء بالمادية تلك الفنون والآداب، من موسيقى وشعر، وتصوير، وعمارة، التي قصارى جهودنا حتى الآن أن نحاكيها فنزداد بالمحاكاة غزارة وثراء ونورا، فكيف بنا إذ كنا نحن الأصلاء المبدعين؟ كنت أتمنى للدعاة الذين يملئون علينا الهواء صياحا، في محاربة العصر وعلوم العصر وفنون العصر، ويصدقهم الناس، كنت أتمنى لهم ألا يجدوا أنفسهم مضطرين اضطرارا أن يستخدموا في صياحهم تلك الأجهزة والآلات والوسائل التي هي «مادية» صنعها «الماديون» الأشرار، لكنهم يصيحون صياحهم في مذياع هو من صنع الماديين، وفي تلفاز هو من صنع الماديين، أو هم ينشرون صياحهم مطبوعا بمطابع هي من صنع الماديين، ويكتبون ما يكتبونه بأقلام هي من صنع الماديين، ويلبسون ثيابا نسجت بمكنات من صنع الماديين، ويسكنون عمارات بنيت على طراز معماري هو من فن أولئك الماديين، أحلال لنا أن نستخدم كل هذه الوسائل، وحرام على أصحابها أن يبدعوعها؟ اللهم سبحانك.
لا، لا، يا رجل - هكذا قد يصرخ في وجهي من يصرخ - ليست هذه الأمور المادية التي نعنيها، وإنما نعني «الأخلاق»، ففي حياة تلك الشعوب المتحضرة بحضارة العصر - والعياذ بالله - فوضى بين الرجال والنساء تأباها الأخلاق، وفي حياتهم خمر، وقنابل ذرية تفتك بالبشر ... إلى آخر ما يقولون، فمن ذا يصدق أن حياة فيها من الفوضى الخلقية ما يزعمون تستطيع أن تبلغ من العلم ما بلغوه، ومن الفكر والفن ما بلغوه، ومن النظام في شئون الحياة اليومية ما بلغوه؟ ومع ذلك فليس الأمر بيننا هجوما ودفاعا، فعصرنا مثقل بمشكلاته، فلماذا لا ننظر النظرة الصادقة ونعد العصر عصرنا ومشكلاته مشكلاتنا؟
Unknown page
الوقفة الصحيحة التي ننادي بها، ليست رفضا للعصر وحضارته، على زعم أنه عصر الفوضى الخلقية التي تتنافى مع تراثنا وتقاليدنا، بل هي وقفة نقبل فيها حضارة العصر بكل مقوماته الأساسية ثم نحاول أن نضيف إليه من تراثنا وتقاليدنا بعدا إنسانيا خلقيا يكمل وجه النقص فيه، فليس الرأي الصواب فيما بيننا وبين الغرب مبدع الحضارة القائمة، هو أن نقول إما نحن وإما هم، بل الرأي الصواب هو أن نخلق صيغة حياتية جديدة تشمل مقومات حضارتهم من علوم وصناعات ومنهج وفنون وطائفة صالحة من النظم السياسية والاجتماعية، كما تشمل في الوقت نفسه مقوماتنا الخلقية وغيرها مما يشكل وجهة النظر وفلسفة الحياة. لا ليس الصواب هو: إما نحن وإما هم، بل الصواب هو: نحن وهم في صيغة واحدة، بها لهما من الخطأ أن نشير إلى مبدعي الحضارة الجديدة بضمير الغائب «هم»، والصحيح هو أن نستخدم ضمير المتكلم الجمع «نحن»، وفي نحن هذه نضع كل ما يسلكنا في الحياة الحضارية بالصورة التي ترضينا، وإلا كنا كمن يحكم مسبقا علينا بالعقم الذي لا يرجى منه مشاركة في إنتاج علمي وفني وتكنولوجي نشارك به في إقامة البناء.
البديهية التي يفوتنا إدراكها هي أنه كان من الممكن أن يكون السلطان والتقدم والازدهار ما يزال معقودا للمسلمين وفي تلك الحالة الافتراضية كان هذا العلم كله والتقنيات كلها والفنون كلها، ليكون من إبداع مسلمين. فليس في إسلام المسلم ما يمنعه من أن يكون هو الذي كشف عن أسس العلم الجديد ونهض بالصناعات الجديدة وصعد إلى القمر، وأنشأ كل ما يتميز به العصر من سمات؛ أقول ليس في إسلام المسلم ما يمنع هذا، سوى ما أصاب المسلمين من ضعف وتخلف حضاري تبعه ضعف وتخلف اقتصادي وسياسي حتى أصبح نهبا مباحا لكل من أراد أن يغزو ويسيطر. إن أولئك الذي يهاجمون أسس الحضارة العصرية يوحون للناس بأن مبادئ الإسلام وتلك الأسس نقيضان لا يجتمعان ، ومن هنا تشيع فينا دعوى أننا روحانيون على سبيل الدفاع عن النفس في عجزها وقصورها.
لكن الروحانية بالمعنى الذي حددناه لها، والذي يجعلها متمثلة في العبادات أولا ثم متمثلة في القيم الخلقية التي تسري في دنيا العلم والعمل لا تتناقض مع أن يكون الروحاني عالما في ميادين العلم الطبيعي بكل فروعه ولا يتناقض مع أن يكون الروحاني هو الذي ابتكر الحاسبات الإلكترونية وغيرها، بل العكس هو الصحيح؛ لأن الكشف عن أسرار خلق الله من شأنه أن يزيد الروحاني روحانية أي - والمعنى واحد - أن يزيد العابد إخلاصا في عبادته لله عز وجل، كما يجعل ذلك العابد نفسه ينقل الأسس الخلقية من ساعات العبادة ليقيمها كذلك في ساعات العلم والعمل.
ولقد بدأت لك الحديث بعنوان جاء في صيغة سؤال: روحانيون نحن؟ وبأي معنى؟ والآن أترك لك أنت أن تجيب.
عصر الضمير الغائب
لست في الحق أدري، أكان هو «الوعي» الذي غاب عن الناس ثم عاد إليهم أو لم يعد، أم هو «الضمير» الذي طمس ليختفي ولو إلى حين؟ أم أنهما - الوعي والضمير معا - يطفوان على سطح حياتنا حينا، أحدهما أو كلاهما، ثم يتواريان حينا آخر، أحدهما أو كلاهما؟ هذه الاحتمالات كلها ممكنة الحدوث! أي إنها قد تكون صحيحة ومتحققة، وقد لا تكون، إلا احتمالا واحدا منها، وهو أن تكون ضمائر الناس في أرجاء العالم، ومصير جزء من العالم، مستيقظة لما يقولونه ويفعلونه؟ مما ترى جزءا منه منشورا في الصحف وغير الصحف، وأما التسعة والتسعون جزءا الباقية من المائة، فيدخرونها ليجعلوها موضوعات لأسمارهم كلما اجتمعوا يسمرون.
وقبل أن أمضي في الحديث، قد يكون من المفيد لنا، أن نقف وقفة قصيرة شارحة، نبين بها ما نراه فرقا بين «الوعي» من جهة و«الضمير» من جهة أخرى، فأما «الوعي» فهو إدراكنا لما حولنا، فوعيك قائم في يقظتك، غائب في نعاسك، أو ما يشبه تلك الحالة غيبوبة الإغماء أو التخدير، وإن الوعي ليغيب بدرجات تتفاوت عمقا، لكنه لا ينعدم إلا مع الموت، وأما «الضمير » فشيء آخر ، فليس كل ذي وعي ذا ضمير حي بالضرورة، واسمه وحده يدل على شيء من خصائصه، فهو دائما «مضمر» في صاحبه، كما تضمر تروس الساعة في غلافها، بحيث تحرك العقارب لنراها في مواضعها من وجه الساعة، أما هي فتظل في مخبئها، ولست في حاجة إلى القول بأنني قد أردت بهذا التشبيه أن أقول إن الضمير مؤلف من قطع معدنية - أو غير معدنية - ركب بعضها مع بعض، وحفظت في ركن معين معلوم من الجسم، كلا، بل الأمر في بساطة، هو أن أولئك الذين يتولون عملية التربية للإنسان، طفلا وصبيا وشابا، إنما يبثون فيه يوما بعد يوم أن الفعل الفلاني جائز وأما الفعل الفلاني فلا يجوز، وهكذا حتى ينشأ عند الفرد «ذوق» عام يستطيع به في كل موقف يعرض له، أن يحكم بما يجوز فعله وما لا يجوز، على أن هنالك من يرون بأن هذه القدرة عند الإنسان على التمييز بين الجانبين، هي جزء لا يتجزأ من فطرته، يولد بها، ثم تأخذ في الظهور كلما نما الإنسان واتسعت مداركه، وسواء أكانت المسألة مرهونة بتربية الفرد على أيدي من يتولون أمر تربيته، أم كانت فطرة مغروزة في جبلة الإنسان، فالنتيجة واحدة بالنسبة إلى ما يهمنا في هذا الحديث.
والذي يهمنا بالدرجة الأولى هنا هو أن الإنسان ينطوي في دخيلة نفسه على «دفة» كدفة السفينة توجهها، أو قل إنه ينطوي على «رقيب» يجيز لصاحبه شيئا ولا يجيز له شيئا آخر، لكنه رقيب - لسوء حظ الإنسان - يشبه مجلس الأمن في هيئة الأمم المتحدة، ليس لديه قوة التنفيذ، فهو قد يقرر بأن فعلا معينا من دولة معينة، غير مشروع لها، ولا هو مقبول من سائر الدول، فلا تأبه الدولة المعنية بالقرار، ويكتفي مجلس الأمن عندئذ بالأسف، وهكذا يكون الضمير مع صاحبه، فهو يقرر له متى يصح الفعل ومتى يبطل، فإما اهتدى صاحبه بهدي ضميره، وإما رفض أن يهتدي فيحيا وكأنه بلا ضمير، أو كأن ذلك الضمير قد غاب عن صاحبه إلى حين، لا يدري كم يقصر أو يطول.
وأتحدث هنا عن العالم في مجموعه، ومصر جزء منه، فأقول إنه يجتاز مرحلة لعلها حتمت بالضرورة أن يغيب عنه ضميره، أو أن هذا الضمير هناك، يأمر بالقبول وبالرفض، لكن أوامره تذهب مع الريح إلى حيث لا يدري، وأرى أن بلادنا قد شاركت سائر الدنيا في كثير من غيبة الضمير، أو من وجوده وجودا أشل، حتى ليخيل إلي أننا إذا أردنا أن نصف عصرنا هذا بصفاته المميزة، لوجدنا قائمة طويلة من تلك الصفات، فهو عصر العلم الذي تصحبه تقنيات، وهو عصر الفضاء وغزوه، وهو عصر الحرية لشعوب كثيرة كانت مقيدة بقيد المستعمرين، وهو عصر كذا وعصر كيت، ثم هو عصر الضمير الغائب، ومن ثم فقد انطلقت الشياطين من قماقمها، ففي كل يوم ألف من حوادث العنف، الذي يخطف الطائرات براكبيها، ويمسك بالرهائن الأبرياء، ويلقي في الطريق بقنابل لا يعرف من الذين سيلقون بها حتفهم، إلى آخر ما أعرفه وما لست أعرفه من أعمال العنف، إن كانت لها آخر، ولا عجب أن يكون هذا العصر كذلك عصرا للخوف والقلق، والاغتراب وما يدور هذا المدار.
ولكن هذا العصر بكل ما فيه هو عصرنا الذي نعيش فيه، قد تعرض لما تعرض له بسبب كونه عصرا انتقاليا بين حضارتين، إحداهما سادت إلى أوائل هذا القرن العشرين، والأخرى قد يرجى لها أن تسود في القرن الحادي والعشرين، وعصور الانتقال الحضاري تشبه إلى حد ما فترة المراهقة في حياة الفرد الواحد، إذ هي فترة تنقل صاحبها من الصبا إلى الشباب، فلا هو صبي مع الصبيان يلهو كما يلهون، ولا هو شاب نضج واكتمل، يعمل في ميادين الإنتاج كما يعمل الشباب، ومن هذه الطبيعة الانتقالية لتلك المرحلة، يتعذر جدا أن يحدد المراهق معالم ذاته، بل ويتعذر ذلك التحديد على من يتولونه بالرعاية، وذلك لأنه - بالفعل - يجتاز مرحلة يبحث فيها عن ذاته، أي إنه يبحث فيها عن خصائص - يختص بها - تتفق مع قدراته وميوله من جهة ويتميز بها عن سائر الناس من جهة أخرى، ومثل تلك المرحلة الرجراجة المتميعة التي لم يتبلور لها شكل بعد، ولا ظهر لها لون، نرى المرحلة الراهنة التي تجتازها شعوب الأرض جميعا، في انتقالها من حضارة كانت، إلى حضارة أخرى بدأت بشائرها ولم تكتمل بعد ظهورا.
Unknown page
لكن ما لنا الآن وسائر الدنيا وشعوبها، إن الذي يهمنا هو مصر في المقام الأول، فمصر هي أنت وأنا، وولدك وولدي، إنها طعامنا وشرابنا ومأوانا، إنها ماضينا وحاضرنا ومستقبل حياتنا، إنها ليست معنى من تلك المعاني النظرية المجردة التي تتبادلها أذهان مع أذهان، كلما أراد المفكرون لأنفسهم شيئا من رياضة العقل، لا بل هي - مصر - رئاتنا وأنفاسها، قلوبنا ونبضاتها، تقلنا فوق أرضها، وتظللنا بسمائها، فهذه الأرواح من جوها، وهذه الأجساد من تربها، (كما قال أبو العلاء المعري) فلئن كانت مصر تشارك أرجاء العالم غيبة ضميره، في هذه المرحلة الانتقالية من تاريخه، فليس حديثنا عن الأرجاء الأخرى في ذلك شبيها بحديثنا عن مصر فيه؛ لأن حديثنا عن تلك الأرجاء البعيدة عنا، هو كحديثنا عن القنابل الذرية التي أسقطت في ختام الحرب العالمية الثانية، على هيروشيما وناغازاكي، نرويه خبرا من الأخبار، وأما حدثينا عن مصر فمتصل شريانه ووريده بنبض القلب وتنفس الرئتين ... والضمير في مصر اليوم غائب غيابه في سائر أنحاء الدنيا.
وانعكس غياب الضمير عندنا في ظواهر كثيرة، منها أنه لم تعد في حياتنا قواعد ضابطة، كبر الأمر أو صغر، فمثلا، بكم يكون الانتقال في إحدى سيارات الأجرة من الجيزة إلى الزمالك؟ ثلاثة جنيهات في تقدير السيارة الأولى - من سيارتين متجاورتين - وبجنيه واحد في تقدير السيارة الثانية، وبات محرما على طالب الانتقال أن يسأل: أليس في كل سيارة عداد يضع القاعدة، ويضبط التعامل بين الناس؟ لا، لا، هذه العدادات وأمثالها من ضوابط القانون قد أصبحت خرافة من خرافات الأولين ... وكم يكون راتب الجامعي إذا عمل في إحدى الشركات، إنه ثلاثون أو أربعون جنيها عند إحداها، وثلاثمائة أو أربعمائة (وقد تبلغ ألفا) عند الأخرى، فإذا سألت عن القاعدة الضابطة لهذه الرواتب هنا وهناك؟ أهي الخبرة. وليس عند أحد من متخرجي العام الجامعي الواحد، خبرة يزيد بها على أخيه، أهي درجة النجاح؟ لا أبدا، فالممتاز منهم قد يكون نصيبه العشرات، ومن دونه قد يكون نصيبه المئات؟ إذن فما هو الضابط؟ كلا، محرم عليك هذا السؤال؛ لأن الحقيقة المقررة الآن هي ألا قواعد ولا ضوابط، والمسألة كلها «شطارة» في شطارة! ولن أترك هذا الموضع من حديثي قبل أن أزيدك علما بهذه «الشطارة» ما أصلها وما فعلها؟ إذ قد لا تعلم أن أصل اللفظة هو أولئك الذين كانوا في الماضي يشطرون جيوب الضحايا لسرقة ما فيها؟ فالشاطر هو لص في أكثر الحالات.
وكم تتقاضى «أمينة المنزل»؟ (وهذه التسمية عندي أفضل من قولنا خادمة وشغالة) إن أحدا لا يدري أي رقم تنفرج به شفتاها عند النطق بالجواب، فالأمر في ذلك مرهون بالمصادفات، إنه خمسون جنيها مرة، ومائة جنيه مرة أخرى، وأكثر من ذلك أو أقل من ذلك مرة ثالثة، فلم يعد هناك «هامش» تنحصر فيه احتمالات التقدير، بحيث يكون فيه حد أعلى وحد أدنى، وكم سوف يتقاضاني - يا ترى - نجار دعوته لإصلاح باب انكسر مفصله؟ اللهم إنه لا يعلم ذلك إلا أنت يا علام الغيوب، أما نحن البشر فلا بد لنا من انتظار ما ينطق به النجار عند «النطق بالحكم»، فقد يكون خمسة جنيهات، وقد يكون عشرين، وكم يكون هذا، وكم يكون ذلك؟ إننا لا ندري شيئا - نحن البشر - قبل النطق بالأحكام؛ لأنه لا قواعد، وقد اختفت القواعد حين غابت الضمائر عن أصحابها، فباتت حياتنا سفينة بلا سكان (وسكان السفينة في اللغة هو دفتها) ومع غياب الضمائر وانقلاب السفينة، غاب الذوق، وغابت الرحمة، وتعرضت إنسانية الإنسان نفسها للضياع.
ولولا غياب الذوق لما وقع ما حكاه لي صديق بيني وبينه أوثق الروابط، إذ حكى أن إحدى جامعاتنا خارج القاهرة، اتصلت به ملحة عليه أن يستجيب لرغبة الطلاب في الاستماع إليه محاضرا، وقد كان إلحاحها بالخطابات مرة، وبالهواتف مرة أخرى نتيجة لاعتذاره المتكرر، وما كان اعتذاره إلا لضعفه في شيخوخته، ولكثرة معوقاته، لكنه لبى الدعوة آخر الأمر، وسافر إلى هناك بسيارته وتم اللقاء بينه وبين الطلاب في محاضرة عامة وفي مناقشات سبقتها ولحقتها، وبالطبع لم يكن له بد من قضاء ليلته في الفندق الذي دعي للمبيت فيه، فلما أصبح عليه الصباح، وأراد العودة، أبلغه مضيف الفندق بأن خطاب الجامعة إليه، يحتم عليه ألا يقدم إلى الأستاذ الزائر إلا طعام الإفطار فقط، وأظنه وضع تحت كلمة فقط خطين غليظين لئلا تفلت من عين القارئ، وأما أن الأستاذ سافر على حسابه الخاص، وأما أنه بحكم الضرورة كان لا بد له من غداء وعشاء، فذلك ما لم ترد الجامعة الداعية أن يؤخذ في حسابها، ذلك ما حكاه لي الصديق، فلم يسعني ساعتها، إلا أن أصيح في وجه الهواء: يا ناس يا هوه اسألوا في أقطار الدنيا جميعا، هل رأت أستاذا جامعيا، هرم وشاخ في أستاذيته ولبى الدعوة بعد إلحاح ضاغط يعامل من إحدى الجامعات بمثل هذه المهانة والإهانة؟ فماذا نقول إلا أن الضمائر قد غابت عن أصحابها؟
ذلك عن الذوق الذي جف عوده وذوى، وأما غياب الرحمة فلا أطلب منك إلا أن تقرأ صحيفة يومية واحدة، في يوم واحد، فأنت لا بد واقع فيها على عدة حوادث تكشف عن قسوة القلوب كم بلغت بالناس، وعلى غلظ الأكباد وما قد وصل إليه التعامل بعضنا مع بعض، وقد كنا قبل الآن نتوهم أن تلك الفظاظة يعرفها ناس في غير بلادنا، وأما في مصر فأبناؤها يحنو بعضهم على بعض حنان الأشقاء في أسرة واحدة، ونعم، وألف نعم لقد كانت تلك هي مصر التي كانت ولم يبق إلا دعاء ضارع إلى المولى عز وجل أن يعود بمصر إلى ذاتها، وإلا فهل عرفت مصر قبل الآن فتاة تذبح خمسة أطفال، لتأخذ ما فوق أجسادهم من ذهب وفضة؟
لا، استحلفتك الله ألا تقول: إن العيب هنا هو عيب الدولة التي لا تسن القوانين الرادعة! ولست أملك في هذا الموضع من سياق الحديث، إلا أن أعيد بضعة أسطر من مسرحية شكسبير «دقة بدقة »؛ إذ يقول فيها «الأمير» في مناسبة كهذه:
لقد أصدرنا من القوانين أشدها صرامة، ومن «اللوائح» أدقها تفصيلا، وأعددنا لجوامح الخيل اللجم والشكائم لكننا أرخينا قبضاتنا أربعة عشر عاما فأصبحت تلك القوانين واللوائح، وتلك اللجم والشكائم جميعا كالليث الهرم قابعا في عرينه لا يخرج لصيده، أو قل إننا كالآباء الحمقى الذين يخزنون عصا التأديب الرادعة أو هم لا يزيدون على التلويح بها أمام صغارهم يتوعدونهم العقاب ثم لا يعاقبون فيجيء على العصا يوم محتوم، تصبح فيه مثارا للسخرية أكثر منها أداة للوعيد، وهكذا القانون قد بات مجمدا كأن لم يكن ولما كانت الحرية تابعة للعدالة، فإذا كانت عدالة، كانت الحرية مرغمة على الظهور.
وما دامت العدالة بيننا قد ذهبت مع اختفاء القانون.
رأيت الطفل الرضيع يصفع حاضنته. «رأيت الحياة الكريمة قد تفككت منها الأواصر.»
لا يا صاحبي، نشدتك الله ألا تهيل على الدولة تبعات فوق تبعاتها. (انتهى قول الأمير)
Unknown page
فإذا كان ما نطلبه من الدولة قوانين رادعة تزجر أصحاب الضمير الميت، فالقوانين هناك، ولكنها - كما قال شكسبير على لسان «الأمير» في مسرحية «دقة بدقة» - كالليث الهرم، رابضا في عرينه، لا يبرحه في سبيل صيده، ومع ذلك فالقانون لا يغني عن الضمير؛ فالإنسان بالقانون «يخشى» ولكنه بالضمير «يختشي»؛ القانون صوت زاجر يأتي إلى الإنسان من خارجه وأما الضمير فصوت زاجر من الداخل، القانون يفرض نفسه على الإنسان فرضا، بقوة الشرطة والتهديد بالسجن أو التغريم؛ فأما الضمير فينبع تشريعه من نبع باطني في الإنسان نفسه، وعقابه عذاب التأنيب، وثوابه الطمأنينة بالرضا، الإنسان أمام ضواغط القانون هو كالجماد أو الحيوان أمام ضواغط السنن التي خلقت عليها، وأما أمام الضمير وأوامره فالإنسان ينفرد في الكون سيدا يرتفع إلى رتبة الملائكة، ومع ذلك كله، فما أكثر ما يجد الإنسان في قوانين الدولة ثغرات للمراوغة والهرب، وأما الضمير إذا رصد صاحبه، فأين منه الفرار والنجاة؟ ونشدتك الله يا صاحبي مرة ثالثة، لا تلق بهمومنا على «الظروف»! إن حفر الطريق، وما ألقي على قارعته من أكوام الحديد والرمل والزلط، ليست مبررا للكفر بالوطن، لأن الوطن - وأقولها وأعيدها - هو أنت وأنا وهم وهن، الوطن هو نحن، وهل يكفر الإنسان بنفسه ثم يحق له أن يعيش؟ لا، يا صاحبي، إننا نعيب زماننا والعيب فينا، كما قال أبو العلاء، وليس الخطأ، أي عزيزي بروتس كائنا في طوالع نجومنا، بل الخطأ كامن في جوانحنا. كما قال شكسبير أيضا في مسرحية «يوليوس قيصر».
عد ببصرك إلى السطرين الأخيرين من المقطوعة التي نقلتها إليك من «دقة بدقة»، تجد شكسبير يفتح أعيننا على حقيقة هامة، وهي أن «العدالة» أصل، و«الحرية» فرع من فروعها، فإذا قامت قائمة العدالة - كما قال - شدت وراءها الحرية شدا رغم أنفها، وذلك صحيح وواضح لو تأملت قليلا؛ لأن العدالة أيا ما كان معناها (ويمكن فهمها بمعان كثيرة) تتضمن وجود «الآخر»، وإلا فبين من تقيم التعادل الذي يوازن بين شتى الأطراف؟ إن «العدل» هو اسم من أسماء الله الحسنى، وهو الذي يتضمن معنى التوازن بين قوى الكون التي كانت لتصطرع ويهدم بعضها بعضا لولا أن «العدل» سبحانه وتعالى يقيم لها موازينها، وما دامت العدالة تتضمن وجود «الآخر» فإن الحرية بعد ذلك إذا ما ظفر بها الإنسان، كانت حرية مقيدة بوجود الآخرين، ولقد قلت في مناسبة أخرى، إن العلة التي ينتهي إليها التحليل آخر المطاف، والتي تفسر ما أصابنا، وأصاب العالم كله بدرجات، هو أن كلا منا يتصرف وكأنه وحده في هذا البلد الكريم، وكأنه ليس إلى جانبه «آخرون»، واللحظة التي يتبين وجود الآخرين معه، هي نفسها اللحظة التي تقام فيها دعائم العدالة، ثم هي اللحظة كذلك التي يستقيم له فيها ضمير، ويصدق هذا القول على مستوى الأفراد داخل الوطن الواحد، وعلى الدول داخل العالم الواحد، على حد سواء.
إن تسلسل الحلقات يجري هكذا: عدل، فقانون وشرع، فضمير ينعكس على مرآته القانون والشرع، وبهذا الاتساق يسير الإنسان - أنى سار - وفي صدره محكمة، إنه يسير وفي صدره الرقيب والقاضي، وأما إذا تحطمت في أنفسنا تلك المرآة التي تعكس لنا على سطحها القوانين والشرائع ، غامت الرؤية أمام أبصارنا، واختلط علينا الأمر بين حق وباطل، فإذا ما اهتدينا إلى الحق فبالمصادفة نهتدي، وإذا أضلنا الباطل فبالمصادفة نضل، لا، بل إنه إذا تحطمت في أنفسنا مرآة الضمير، تحطمت معها الوحدة التي تجعل كلا منا فردا متماسك الشخصية، تماسكا يجعل سلوكه مطردا على نسق واحد، ويجعل من يعاملونه على بينة من حقيقة أمره، فيصبح كل شيء ممكنا، فلا يدري أحد بماذا يفاجئه هذا الشخص أو ذاك، وهذا الشيء أو ذاك، ولا غرابة إن لعبت هذه الفوضى بخيال السابقين، فتصوروا للجن خاتما، إذا وجدناه وحككناه على نحو أو على آخر، قدمت لنا الدنيا كل ما نريده، وتختفي كل الفوارق بين الجائز والمستحيل.
وإنه ليبدو لي أن اللحظة التي ولد فيها «الضمير» لآدم - عليه السلام - ولبنيه من بعده - هي اللحظة التي عصى فيها ربه هو وزوجه، فأكلا من الشجرة المحرمة، استجابة لوسواس الشيطان هاتفا: ... يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ؟
فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى .
وطرد مع الإنسان ضميره يفرق له بين الحق والباطل، مستلهما في ذلك الشرع والقانون اللهم إلا إذا تنكبت به الطريق فطغى عليه عصر غام فيه الأمر على ذلك الضمير فغاب.
أعجاز نخل خاوية
قلتها يوما، وأقولها اليوم مرة أخرى، وهي أن مصر في مرحلتها التاريخية الراهنة، ليست هي مصر التي عرفها التاريخ في معظم مراحله؛ كلا، ولا هي مصر التي سوف تكون - بإذن الله - بعد حين لن يطول؛ إذ هي في عصر يتوسط بها بين مصرين: مصر التي عهدناها، ومصر التي سوف نحياها، وحديثي هنا ثقافي حضاري قبل أي شيء آخر، فقد كانت مصر - من هذه الناحية - مثلا رائعا للبلد الذي يعرف كيف يحافظ على الأصول ويغير في الفروع، فقد لبثت مصر هي مصر دائما، دون أن يحول ذلك بينها وبين أن تنضو عن نفسها حضارة ذهب زمانها، لترتدي ثوب حضارة جديدة، ومع الحضارة تأتي ثقافة، أو مع الثقافة تأتي حضارة - إذا شئت - فالعلاقة بينهما هي علاقة الجسد والروح التي تحل فيه: الحضارة مجسدات والثقافة قيم وأذواق تسري في عروقها.
فما فرغت مصر من عصرها الأول، الذي كانت فيه مبدعة الحضارة لنفسها ولغيرها، حتى أخذت حضارات أخرى تتوالى عليها، فلا تكاد تتلقى حضارة منها حتى تمسك بزمامها وتنزل منها منزل الصدارة، وهذا هو جانب من معنى عبارة نرددها بحق وصدق، إذ نقول عن مصر إنها «مقبرة الغزاة»، فهؤلاء الغزاة ومعهم غزواتهم، يفنون في أرضها، لتحيا هي، وسر ذلك هو أن الغزوات غالبا ما كانت حاملات لحضارات استحدثت، فتصادف في المصري إنسانا واثقا بنفسه وبتاريخه، فيأخذ ما يتلقاه، ويتمثله، وسرعان ما يبرع فيه حتى ليحتل منه مكان الريادة، كالذي حدث في حالات اليونانية والرومانية والمسيحية والإسلامية، وكالذي أوشك أن يحدث شيء منه أمام الحضارة الحديثة وثقافتها، لولا نكسة انتكسناها، فولينا وجوهنا - من الذعر - نحو ظهورنا، وكأننا هممنا أن نجعل سيرنا إلى الوراء.
والسؤال مطروح أمامنا جميعا، نسأل به: ماذا أصابنا؟ وهل يمكن أن نعود بالمصري إلى حيث كان؟ إنه سؤال طرحته هيئات علمية، وطرحه أفراد، وحاول الجميع - مخلصين - أن يجدوا الجواب، وكان السؤال يوضع - عادة - في هذه العبارة: كيف نحقق إعادة بناء الإنسان المصري؟ وهي عبارة تتضمن أن خللا ما قد أصاب بناء المصري في شخصيته، فما هو؟ وكيف نعالجه ليعود المصري سيرته الأولى؟ وكنت بين من حاولوا الإجابة أكثر من مرة، في أكثر من مناسبة وكانت الإجابة في كل مرة تدور حول محور أساسي، هو أن مصر تجتاز اليوم مرحلة، هي نفسها المرحلة التي يجتازها العالم كله، فتتعرض خلالها لما يتعرض له العالم كله، من جهة، ثم تنفرد وحدها بظروف خاصة بها، من جهة أخرى، فأما الجانب الذي تشارك فيه سائر أقطار الأرض، متقدمها ومتخلفها على السواء، فهو ذلك القلق الذي يسببه السير في طريق مجهول، فعصرنا هذا - منذ ختام الحرب العالمية الثانية بصفة خاصة - هو عصر انتقال بين حضارتين، عرفنا إحداهما؛ لأنها هي التي سادت الدنيا خلال القرن الماضي وأوائل هذا القرن، وأما الحضارة الأخرى التي ننتقل إليها فلا نعرف عنها إلا بشائر ومقدمات، لكن تفصيلاتها لم تزل مجهولة، انتقلنا من حضارة انعقدت فيها السيادة بلا منازع، للرجل الأبيض الأوروبي والأمريكي، إلى حضارة بدأت كتابها بصفحة جديدة من حيث تلك السيادة اللونية، ولم يعد أحد يجادل الآن في إزالة الفوارق بين الألوان، اللهم إلا أن تكون تلك الفوارق مكتومة في الصدور، ونتج عن هذه الثورة اللونية ثورة أخرى حققت الحرية للشعوب الملونة وغير الملونة، التي كانت مغلوبة على أمرها، وأصبح الجميع سواسية في عضوية الأمم المتحدة، اللهم إلا بقية هامة ما زالت باقية في امتياز للدول الكبرى في مجلس الأمن، وانتقلنا من حضارة تصنع الآلة ليستخدمها الإنسان في النقل وفي الانتقال، وفي الصناعة والزراعة والحرب ... إلخ، إلى حضارة أخرى تصنع آلات أمهات تلدن آلات، وكان بين «الفراخ» المتولدة ما حقق المذهلات، وماذا تقول في أجهزة تقوم بمعظم ما كان يتميز به العقل البشري دون سائر كائنات الأرض والسماء؟ ثم ماذا تقول في أجهزة تغزو أجواز الفلك؟ لقد كان بعض المشتغلين بالفكر الفلسفي (في بريطانيا على وجه الخصوص) إلى عهد قريب جدا، إذا ما تناولوا موضوع «الممكن» و«المستحيل» ليروا خصائص كل من الحالتين، يضربون أمثلة لما هو مستحيل، كان منها رؤية الإنسان للوجه الآخر من القمر، إذ من المعلوم أن القمر يواجه الأرض بأحد نصفيه دون نصفه الآخر الذي يظل دائما مختفيا عن الأرض وسكانها، ولم يكن يخطر لأحد منهم أن الإنسان على وشك أن يدور بمركبته حول القمر نفسه - فضلا عن نزوله ليطأه بقدميه - فيرى بعينيه ذلك النصف الذي كان خافيا عن أبصارنا منذ كان في العالمين قمر وأبصار.
Unknown page
نعم، إننا ننتقل إلى حضارة جديدة، قائمة على أسس جديدة، لم نعلم من حقيقتها وطبيعتها إلا البشائر والطلائع، ومن أراد صورة مفصلة بعض الشيء عن تلك البشائر والطلائع، فليقرأ كتابا ممتازا في ذلك أصدره الأستاذ الدكتور حازم الببلاوي بعنوان «على أبواب عصر جديد»، وفي اجتيازنا لهذه المرحلة الانتقالية بين الحضارتين، لا مندوحة لنا - في مصر وغير مصر من سائر أقطار الأرض - عن التخبط في الطريق؛ إذ انبهمت أمامنا الفواصل بين الصواب والخطأ في كل الميادين، وإلا فمن منا يستطيع القول وهو موقن بما يقوله: ما هو أفضل نظام للحكم؟ ما هو أفضل نظام في دنيا الاقتصاد؟ ما هو أفضل نظام للتعليم؟ وهكذا يمكنك المضي بأسئلة كهذه عن كل وجه من وجوه الحياة الإنسانية، فإذا بك أمام عشرات الإجابات المتضاربة، والسبب واضح، وهو أن الإنسان لم يعرف بعد طبيعة العصر الذي نحن في حالة انتقال إليه، فكأننا نعيش على تجارب نجريها كل يوم تفشل تجربة فنجرب أخرى.
في هذا الضباب الحضاري - ويلحق به ضباب ثقافي - تشارك مصر بقية العالم، لكنها تعود فتنفرد وحدها بظروف جديدة خاصة بها، لا أقول إنها ظروف تضيف إلى الضباب ضبابا أكثف، بل هي ظروف فعلت بنا أكثر من ذلك؛ لأنها مالت بنا نحو أن نترك المسيرة الحضارية بضبابها وصفائها، لننكص على أعقابنا قافلين إلى مولد التاريخ.
ثم لم تكفنا تلك الردة الحضارية العامة، فزدناها تخليطا وعسرا، بأن أقمنا أمام الأبصار نموذجا جديدا للإنسان الناجح في حياته (والنجاح في قاموسنا القومي معناه منصب كبير أو مال كثير) ويتلخص ذلك النموذج الجديد في برنامج سهل على من اتسعت حيلته، وهو برنامج شعاره: أكبر ناتج ممكن، بأقل جهد ممكن، فلم يعد النجاح مكفولا لمن يحملون الأثقال، ويحطمون الصخر، ويلهثون وتتفصد أجسادهم عرقا، لا، فتلك صور من الماضي، حين كان الخبراء الحكماء يضحكون على الأبناء بقولهم: من طلب العلا سهر الليالي، أو ربما بقيت تلك الحكمة الخالدة، مع تغيير في مضمون كلمة واحدة من كلماتها، هي كلمة «سهر» وكان الذي أوحى بالشعار الجديد، أمثلة لا تعد ولا تحصى، لأفراد بلغوا ذروة الجاه، إذا قيس الجاه بالمناصب ونفوذها، أو بلغوا ذروة من الثراء لم يكن أحد يسمع قبل اليوم بمثلها، فثراء المصري حتى الأمس القريب، كان يقاس بعشرات الألوف أو بمئاتها، أما لغة الملايين فلم تكن معروفة في اللغة العربية بأسرها، فالألف هو أقصى ما استعدت له لغتنا باسم خاص، لا بل إن «الملايين» الدخيلة على حياتنا، قد كثرت حتى أهينت، فاختير لها اسم الأرانب.
وإذا لم يكن العمل المنتج هو الذي يصل بصاحبه إلى «النجاح» بالمعنى الذي نعرفه له، وهو مناصب النفوذ والثراء، فما هي الوسيلة في ظل الشعار الجديد؟ إنها وسيلة غاية في البساطة، تتلخص في: الكلمة المناسبة، تقولها في اللحظة المناسبة، للشخص المناسب، فإذا وفقت في ذلك، وجدت نفسك بين غمضة عين وانتباهتها، صاحب النفوذ الذي يهيمن ويسيطر ويكسب المال، وما دام هذا هو النموذج القائم أمام الأبصار، فلا بديل أمام الشباب الساعي إلى حياة ناجحة (بمعنى النجاح في قاموسنا القومي) سوى أن يتجه بمعظم جهده لا نحو مزيد من كد وكدح وعناء في دنيا العمل، بل إلى البحث عن تلك «المناسبات الثلاث» التي هي: الكلمة المناسبة، في اللحظة المناسبة، للشخص المناسب، وهو طريق يؤدي بنا حتما إلى اختلال العدالة من جهة، وإلى ضعف الإنتاج (المادي والعلمي) من جهة أخرى، أما اختلال العدل، فلأن من لا يستحق ستكون له السيادة على من يستحق، وأما ضعف الإنتاج بكل أنواعه، فلأن الزمام حين تمسك به أيد غير قادرة، ضلت سواء السبيل، وأضلت، ثم هي فوق ذلك تحدث في نفوس العاملين مرارة ويأسا واستهتارا وتراخيا.
كان ذلك أو ما يشبهه هو ما كنت أقدمه جوابا على السؤال المطروح، الذي نسأل به: ماذا أصابنا؟ وهل يمكن أن نعود بالمصري إلى حيث كان. لكنني - في الحق - حين كنت أقول شيئا كهذا، لم أكن أخلو من قلق باطني؛ لأنني لم أكن أجده قولا يشمل فئات الشعب جميعا، فهنالك ملايين ممن لا يزالون يعملون «مصريين» كما كانوا، أو «مصريات» كما كن، فانظر إلى المرأة المصرية، زوجة وأما، سواء أكانت في الريف أم كانت في المدينة، وقل لي كم منهن قد انحرفن عن الجادة بمغريات المناصب والثراء. إن الأم المصرية في رعاية أبنائها لا تعرف إلا شيئا واحدا، هو التضحية بكل ما يتعلق بشخصها في سبيل أطفالها ، وإذا قصرت في التماس الطرق الصحيحة لقصور في تعليمها ودرجة وعيها، فليس الذنب ذنبها، ولا هو وليد الظروف الجديدة بشعارها الجديد، ونسبة ضخمة من الرجال العاملين، لا يزالون على إخلاصهم المعهود، وإذن فلعلها فئة لا تبلغ ربع السكان، هي التي أصابها السوء، ومع ذلك فهي حقيقة لا ريب فيها، سواء أكان السوء مقتصرا على الربع أو ينقص عن ذلك أو يزيد، وتلك الحقيقة هي أننا نشعر جميعا بأن مناخا جديدا يسودنا في حياتنا، هو ذلك الذي أشرنا إليه، فما يزال السؤال قائما: لماذا؟ وكيف؟
وخطرت لي خاطرة، مرت كلمعة البرق حتى كادت تفلت وتختفي مع أنها خاطرة تحمل إلي فكرة جديدة، تزيل عني كثيرا من القلق الذي كان ينتابني كلما أجبت بإجابتي تلك عن السؤال المطروح، لشعوري الغامض بأنها إجابة ناقصة، وخلاصة الفكرة الجديدة، هي أن المصري في هذه المرحلة الزمنية من حياته قد أصابه انقسام فصل جانب «الفرد» من كيانه عن جانب «المواطن»، وكان الناتج هو أنه ظل كما كان دائما «فردا» يتميز بما يتميز به من حسنات، لكنه أصيب في جانب «المواطن» من شخصيته، فلم يعد ذلك المواطن الصالح الذي كان، ومعنى هذا التحليل هو أن موضع الشكوى لا يشمل «المصري» بكل وجوده، بل يشمل المصري بجزء من ذلك الوجود، وهو الجزء الذي «يواطن» به الآخرين من أبناء الوطن الواحد.
انظر إلى المصريين «أفرادا» في حياتهم الخاصة، بين ذويهم ومع أصدقائهم، تجدهم كما تريد لهم أن يكونوا، وكعهدك بهم، أوفياء متعاونين يخلصون الود ويصدقون النصيحة، ثم انظر إلى كثرة منهم في ميادين العمل والتعامل، تجدهم قد تهاونوا فيما عرفوا به من صفات من تواد وتراحم وتعاون وإخلاص؛ العامل يريد الأجر الفادح بلا عمل، والزميل يراوغ ويخادع، لا يزال المصريون على امتلائهم بالقيم المصرية الأصيلة وهم فرادى، أعني وهم في دنياهم الخاصة، لكنهم في «المواطنة» قد أصبحوا وكأنهم أعجاز نخل خاوية، أو قل في اختصار: إن المصري في حياته الراهنة «صادق» وهو فرد، «كاذب» وهو مواطن.
فإذا أجريت الحديث بلغة النقد الفني، قلت إن قصيدة الشعر التي كانت محكمة البناء مبنى ومعنى ووزنا وقافية (والقصيدة هنا رمز للمجتمع المصري) قد انهار بناؤها، وفصلت الشكل عن مضمونه، حتى أصبحت مجموعة مفردات وجمل لا نجد الوحدة العضوية التي تربطها معا في وجود مشترك. هنا همست لنفسي: إننا لو عرفنا متى يكون الشاعر «صادقا» عرفنا بالتالي متى يصدق المصري، لا في حياته الخاصة فحسب، بل كذلك في حياته التي يجتمع بها مع سائر الأفراد، وأحسب أننا لا نبعد عن الصواب إذا قلنا إن الغاية التي يتعلق بها الشعر ويتعلق بها الأدب بصفة عامة هي «الإنسان»، فالشاعر في حقيقته كشاف لطبيعة الإنسان التي قد تخفى عن العين العابرة، وحتى حين يتعلق الشاعر بالطبيعة الجامدة، كالجبل، والنهر، وأنجم السماء، فهو لا يتركها جمادا كما هي بل يبث فيها حياة مثل حياته، ليبادلها الحديث، وليضفي عليها مشاعره وكأنها من الأناسي، حتى إذا ما تكاملت للشاعر العلاقة العاطفية التي تربطه بما حوله، كان مطالبا بالصدق في التعبير، وليس الصدق المقصود هنا هو الصدق العلمي الذي يحلل الشيء الواقعي إلى مقوماته وتفاعلاته الحقيقية كما تقع في دنيا الأشياء، بل المطلوب هو صدق التعبير عما يجده في نفسه فعلا إزاء ما يجعله محورا لشعره.
فهنالك ثلاثة مواقف مختلفة نحو أي شيء نريد التحدث عنه، وليكن هو «النيل» مثلا، الموقف الأول هو موقف الجغرافي الذي يصف المجرى والمنبع والمصب وكمية الماء والبلدان التي يمر عليها ... إلخ ... إلخ، وهذا هو موقف «العلم»، والموقف الثاني هو موقف الشاعر الرديء الذي تراه ينعت النهر بأي صفة يراها هو جذابة، إلا أن يقول عنه إنه نهر وفيه ماء، فقد يقول عنه إنه عسل أو لبن، يجري على أرض من زمرد وعقيق، فكل ما هو في الأسواق أغلى ثمنا من الطين والماء، يكون عند الشاعر الضعيف الكاذب، أجدر بأن يصف به نهر النيل، من أن يصفه بما هو على حقيقته من حيث هو ماء يجري على أرض من صخر وتراب. وأما الموقف الثالث فهو موقف الشاعر الجيد الصادق، فالنيل أمامه مجرى ماء ينساب على الأرض، لكنه - كأي شاعر حق - لا يدعه جمادا مواتا، بل يؤنسنه، أعني أنه ينفخ فيه من خياله حياة الإنسان، ليحبه أو ليكرهه، ليزامله أو لينفر منه، أي إنه يصل نفسه به بروابط مشاعره الحقيقية نحوه.
ولسنا نقول عن الشعر الجيد الصادق، ولا عن أي فن من الفنون على إطلاقها، شيئا كثيرا، إذ نحن لم نذكر شرطا أساسيا جوهريا لا يكون الفن فنا بغيره، ولا الأدب أدبا بغيره، ألا وهو «الصورة» أو «الشكل» أو «الإطار» أو «القالب» الذي يقيمه الفنان أو الأديب ليضع بين جدرانه وحول دعائمه ما يريد أن يقوله.
Unknown page