وبادية الطائف فسيحة مترامية الأطراف تجعل من الطائف قطرا كاملا ومملكة، لو أنها عمرت لكانت كبعض الممالك الصغرى بأوروبا، وحسبك أن تعلم أننا أقمنا أربعة أيام نجوب أنحاءها بالسيارة من بكرة الصباح إلى ساعة متأخرة من المساء أحيانا وإلى ما بعد مغيب الشمس دائما، ما خلا يوم زرنا شبرة ولم نبلغ من هذه البادية بعد ذلك إلا بعضها، وأقرب بادية الطائف إليها بستانان يضيفهما بعضهم إليها؛ لأنهما يقعان حيث كانت تقع الطائف على عهد الرسول؛ ولأن موقعهما يختلف في طبيعته عن البادية، فبادية الطائف تقتضيك لكي تبلغها تسنم هضاب وتسلق جبال وجوب أودية ليست في شيء من طبيعة الطائف ولا من موقعها في سهلها المترامي الأطراف بين الجبال المحيطة به، وهذان البستانان يقعان في هذا السهل كما تقع فيه قروة وشبرة ونجمة وسائر ضواحي الطائف، وهذا ما يؤيد رواية الرواة أن الطائف القديمة كانت تقع حول هذين البستانين، فالمشهور أن مسجد ابن عباس كان يقع على بعد من أسفل المدينة القديمة من الجهة الشمالية، أما اليوم فهو يقع في أعلى المدينة من الجهة المذكورة، وهذان البستانان يقعان جنوب الطائف الحالية.
البستانان هما حوايا وشهار، وهما واحتان خصيبتان بين هضاب قليلة الارتفاع مليئة بالأحجار التي قذف بها السيل من أعالي الجبال، وفي كل بستان منهما مياه جارية تسقي أشجاره الباسقة الجميلة، ويتوسط «حوايا» بناء يقيم به أهله، وقد بنيت أمام أبوابه بركة ماء فسيحة يرتفع الماء فيها فوق مستوى الأرض لتيسير ريها منه، وماء البركة يؤتى به من بئر يسهل متح الماء منها لقربه من سطحها، ويوجد على مقربة من هذه البئر بئر أخرى يشيدون بصلاح مياهها لشفاء رمل الكلى، ويتحدثون متعجبين عن مجاورتها للبئر الأخرى مع اختلاف خواص مياههما بحيث يكون ماء هذه البئر شافيا صالحا للشرب ولا تكون الأخرى كذلك.
ويريد بعضهم أن يجعل اسم حوايا تحريفا لاسم سبقه هو هوايا؛ ويذكر أن هذا الاسم قد أطلقه على هذا المكان من وجد في مياه بئره الشافية ما يرضي هواه، وعندي أن هذا خيال لا سند له في كتاب من الكتب التي يصح الاعتماد عليها والتي ذكرت اسم هذا المكان.
أما البستان الآخر فشهار، وهو يشبه حوايا، غير أنه لا بناء فيه ولا بئر، وبه شجرة نبق هندي لذيذة الثمر، وآلة رافعة للمياه يديرها الهواء، وقد دقت هذه الآلة في البستان من زمن قريب على سبيل التجربة، وأهل الطائف ينتظرون نتيجة هذه التجربة قبل أن يقدموا على الاستعانة بمثل هذه الآلة في استنباط مياههم من العيون.
حول هذين البساتين إذن - وبين التلال الواقعة أمامهما من الجهة الغربية - كانت تقوم الطائف القديمة فيما يروي بعض أهلها اليوم، وفي هذا المكان إذن كانت تقوم اللات صنم ثقيف حتى عفى الإسلام على أثره إذ هدمه المغيرة بن شعبة ونساء ثقيف حسرا يبكين، وكان يقوم بيت اللات ضريبا لبيت الله بمكة، كما كانت تقوم دار عروة بن مسعود أول من أسلم من ثقيف، ودار عمرو بن عمير بن عوف التي قصدها النبي يوم نزل الطائف وحيدا فرده أبناء عمرو ردا غير جميل، وفي هذا المكان كانت تقوم المدينة التي حاصرها النبي على رأس جيش الفتح فاعتصمت بحصونها وامتنعت من هؤلاء الذين لم تمتنع عليهم مكة ولم يمتنع عليهم في بلاد العرب كلها بلد ولا حصن، أين يومنا اليوم من تلك الأيام العظيمة التي شهدت عز الطائف وعز العرب جميعا ببطولة العرب وبمجد الإسلام؟! وأين تلك الطائف القوية ذات الأيد والمنعة والحصون التي لا تقهر، من هذه الطائف التي يمتنع بها الترك أول الحرب الكبرى فيحاصرهم الأشراف فيها ويأخذونهم أسرى، ويمتنع بها الأشراف في سنة 1925، فيحاصرهم النجديون فيها ويقتحمونها عليهم ويأسرونهم بها، بل أين بلاد العرب كلها اليوم من بلاد العرب تلك حين كانت الطائف قطعة من الجنة - أو قطعة من الشام نقلها الملائكة إلى شبه الجزيرة - وحين كانت ثروة الطائف وخصبها مضرب المثل؟!
وتمثل لي جيش المسلمين أيام النبي مقبلا من ناحية الجبال الواقعة شرق الطائف بعد أن انتصر في حنين وخلف أسراها في الجعرانة، تمثل لي هذا الجيش يزيد رجاله على عشرة آلاف كلهم إيمان بالنصر، وكلهم حرص على الاستشهاد في سبيل الله، وقد أحاطوا بالطائف، فرماهم أهلها بالنبل من أعلى الحصون واضطروهم للانزواء بعيدا عن مرمى النبل، وهناك عند مسجد ابن عباس أقام الجيش، وضربت للنبي خيمتان بعيدا عن هذا المرمى، ويطول حصار القوم وهم متحصنون بمدينتهم الغنية لا يسلمون، وهم فيها كالثعلب في جحره لا سبيل إلى إخراجه منه إلا بطول المكث، ثم يدهمهم المسلمون فيرمونهم بالمنجنيق، ويبعثون إليهم بالدبابات وقد دخل تحتها نفر منهم زحفوا بها إلى جدار الطائف ليخرقوه، فيكره رجال الطائف هؤلاء الزاحفين على الفرار بأن يلقوا الحديد المصهور على الدبابات فيحرقها، ويأمر النبي بإحراق كروم الطائف، ويبدأ المسلمون ينفذون، فيبعث أهلها إلى النبي أن يأخذه لنفسه إن شاء، وأن يدعه لهم وللرحم لما بينهم من قرابة إذا أراد، وينتهي الأمر بأن يرفع المسلمون الحصار وأن ينصرفوا عن الطائف ليبعث الثقفيون بعد قليل من ذلك يطلبون إلى النبي أن ينضموا إلى لوائه.
كيف صارت الطائف إلى ما صارت اليوم إليه؟! وكيف هوت من تلك المكانة التي كانت لها والتي كانت تنافس بها مكة حتى أقامت للات بيتا جعلته منافسا للبيت الحرام؟! لعل ما حول الطائف مما تحدث عنه باديتها يجلو لنا من ذلك ما يزيدنا فهما لما يحدثنا به التاريخ وما تنطوي عليه الكتب، فلنزر بادية الطائف، ولنحاول أن نقف منها عند كل ما نستطيع الوقوف عنده.
بادية الطائف
كانت الطائف القديمة تقع بين التلال القائمة أمام البستانين حوايا وشهار من الجهة الغربية على رواية أهلها اليوم، أما في هذا الزمن الحاضر فالبستانان يقعان خارج الطائف ويبعدان عنها بضعة أميال؛ لذلك يحسبهما البعض بحق باب بادية الطائف، فأنت لا تكاد تراهما بالمنظار المقرب، وإن رآهما البدو بالعين المجردة، فإذا أنت جاوزت البساتين إلى الجهة المقابلة للطائف لقيتك البادية مترامية أمام نظرك، منطلقة كأنها السهل حينا، منثورة فيها الأحجار التي حطها السيل من أعالي الجبال حينا آخر، ناتئة جبالها المتباينة الارتفاع على مقربة من النظر أو عند مرماه.
آثر أصحابي يوم زرنا بستاني حوايا وشهار أن نمعن بعض الشيء في البادية، وأغروني على الإمعان بما ذكروا من أنا سنلقى على مقربة منهما آثارا تنير أمامي السبيل لما أبحث عنه من تاريخ هذه البقاع، وانطلقت بنا السيارة تؤم وادي السداد حيث تقع هضاب الردف، وفيما تجري السيارة مسرعة حينا، متعثرة بالأحجار المنثورة في الطريق حينا آخر، لفت رفيقي نظري إلى واد تتخطاه وذكر لي أنه وادي وج، وأنه يمر بقرية المثناة منحدرا إلى ناحية الطائف، وأن الماء الذي يسيل به في فصول الأمطار ينحدر من جبل برد ومن جبال الطلحات حيث تقيم بعض قبائل هذيل ... وعجبت أن لفت نظري إلى هذا الوادي ولا شيء فيه يلفت النظر، لكنه استطرد قائلا: إنه من الأودية المأثورة؛ فقد روي أن النبي - عليه السلام - حرم صيده، وإن تكن هذه الرواية موضع خلاف، ولم أرد أن أناقشه في الأمر أو أذكر أولئك الذين دعاهم الرسول إلى الإسلام فأبوا إلا أن يحرم واديهم كما حرم مكة، فلم يجبهم إلى ما طلبوا؛ لأن حرمة مكة من أمر الله، ومرجعها إلى البيت العتيق الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا.
Unknown page