اجتازت السيارة بنا يوما علمي التنعيم قاصدة وادي فاطمة، وظلت في مسيرها حتى بلغت بنا سرف ووقفت منه عند مسجد ميمونة أم المؤمنين، وقل من يعرف اليوم اسم «سرف» أو يطلق على المكان اسما غير مسجد ميمونة، فقد درس هنالك كل ما سوى المسجد، ولم يبق من المسجد إلا أطلال دوارس، وتخطت السيارة القوافل القاصدة إلى المدينة وانفسح أمامنا واد تموج جنباته بالرمال وتقوم الهضاب على جانبيه، وتمهلت السيارة حينا، فأدرت البصر فيما حولي، ما أجمل هواء الصحراء! وما أجمل هذا الفضاء المترامي صمته فلا نسمع فيه هسيسا أو نبأة!
كم مر ها هنا من أقوام لم يذروا من بعدهم أثرا نذكره، وكان لهم على الحياة من فسيح الأمل ما لنا اليوم، وسنقضي كما قضوا، وسيمر بعدنا من يقول عنا ما نقوله عمن قبلنا، لكن التاريخ لا ينسى قوما مروا بهذا المكان آتين من المدينة معتمرين يريدون بيت الله ثم صدهم المشركون عنه وكادت الحرب تنشب بينهم حتى عقد رسول الله معهم عهد الحديبية، ولكن التاريخ لا ينسى هؤلاء القوم حين جاءوا بعد ذلك بعام فدخلوا مكة وطافوا بالبيت وأتموا مناسك عمرة القضاء وأقاموا بمكة ثلاثة أيام والرسول على رأسهم، ولا ينسى أن قريشا جلت أثناء هذه الأيام الثلاثة عن مكة نزولا عن حكم العهد الذي وقع بالحديبية في العام الذي قبله، وبعد ثلاثة الأيام خطب رسول الله ميمونة إلى عمه العباس، ثم جاء بها بلال إلى سرف فبنى محمد في خيامه بها، والتاريخ لا ينسى عشرة آلاف من المؤمنين جاءوا بعد ذلك بسنتين ومحمد على رأسهم يغذون السير ليفتحوا مكة، فيدخلونها ولم يلتحموا في حرب ولم يسفكوا دما.
والتاريخ لا ينسى بعد سنتين أخريين مائة ألف من المسلمين مروا بهذا المكان والرسول على رأسهم وقد فرضوا حج البيت على أنفسهم، ولا ينسى طوافهم وسعيهم ووقوفهم بعرفة وقضاءهم مناسك الحج جميعا، نعم! لا ينسى التاريخ أولئك المسلمين الأولين الذين مروا بهذا الدرب آتين من المدينة؛ لأنهم هم الذين فتحوا مكة، وهم الذين قضوا على عبادة الأوثان، وهم الذين أقروا التوحيد في العالم، ونحن الذين نسير اليوم في عشرات الألوف وفي مئات الألوف من كل عام متخذين هذا الدرب الذي مروا به طريقنا بين مكة والمدينة إنما نسير على نهجهم، نبتغي أداء فرض الحج ليغفر الله لنا ذنوبنا، لا نريد بمسيرنا غزوا ولا فتحا، ولا نخاف أن تصمد قريش لقتالنا لتصدنا عن بيت الله، ما أعظم الفرق بين مسيرنا ومسير أولئك المسلمين الأولين! هو الفرق بين المجاهد الذي يفتح الطريق عنوة، مخاطرا بحياته، غير مبال يتم أولاده وحزن ذويه وشقاءهم، ومن يسير في الطريق الذي عبده المجاهد، لا يخشى أن يصيبه من بأساء الحياة وضرائها إلا ما يصيب غيره، دون أن يكون له في ذلك فضل الجهاد وفضل الإقدام.
وحين بلغنا سرف نزلنا من السيارة وزرنا مسجد ميمونة، وهو قائم اليوم وسط الصحراء في عزلة الناسك، إلا أن يزوره من يقصد إلى زيارته، فأما قبل أن يحل النجديون بالحجاز ويتولوا حكمه فقد كان أهل مكة يزورون هذا المسجد زرافات ويقيمون حوله ويشربون من البئر المقابلة لبابه في الثالث عشر من شهر صفر من كل عام، وكانت أنباؤهم تدعو كثيرين من الحجيج إلى زيارته تبركا بقبر أم المؤمنين ميمونة، فلما حل النجديون بالحجاز واحتلوا مكة كانت القبة القائمة على هذا القبر بعض ما هدموا، وكان تحريم زيارة القبر والتبرك به بعض ما صنعوا؛ لذلك انصرف الناس عن زيارة القبر والمسجد، وأصبح هذا المكان خلاء لا يكاد ينزله إلا من قصد إلى الوقوف عنده ومعرفة أمره.
ومسجد ميمونة أفسح من مساجد مكة، وهو خير منها نظاما وأجمل بناء، وجدرانه من الخارج تشهد بأن عمارته ليست بالغة في القدم؛ فقد حاولت أن أقف على تاريخ بنائه فلم أجد في الكتب القديمة شيئا عنه، وكل ما رواه الأزرقي في كتابه «أخبار مكة» عن قبر ميمونة قوله: «قال أبو الوليد: وقبر ميمونة بنت الحارث الهلالي زوج النبي
صلى الله عليه وسلم
وهي خالة عبد الله بن عباس، على الثنية التي بين وادي سرف وبين أضاءة بني غفار، ماتت بسرف فدفنت هنالك.» وكانت وفاة الأزرقي في القرن الثالث للهجرة، ولم يذكر الأزرقي ولا ذكر الذين جاءوا من بعده ممن دونوا تاريخ مكة ما يدل على وجود مسجد على قبر ميمونة في أيامهم؛ فلا عجب أن يكون المسجد قد استحدث في عهد متأخر، وأن تكون القبة قد بنيت على القبر للتبرك في العصر الذي أصبح التبرك بالقبور وبناء القباب فوقها والمساجد حولها بعض ما يؤمن به جماعة من المسلمين.
ويرتفع مسجد ميمونة عما أمامه من أرض البادية، ولكنه يتصل في ارتفاعه بما خلفه من هضبة، لا ريب أنها الثنية التي أشار إليها الأزرقي إن كان المسجد قد بني فوق القبر حقا، وأغلب الظن أنه بني فوقه، ويصعد الإنسان إلى باب المسجد بضع درجات فيجد الجدر مما حوله أرفع من جدر مساجد مكة، ويرى في شرف البناء حلية من أقواس صغيرة متتابعة تعيد إلى الذاكرة الطراز العربي، ثم يرى أمامه عقدين من ورائهما المحراب، ومن وراء المحراب القبر مكشوفا إلى السماء بعد أن هدمت القبة التي كانت فوقه، وليس يفرش أرض المسجد حصير ولا فرش أيا كان نوعه، مما يدل على أنه غير مقصود، فشأنه في ذلك شأن غيره من المساجد خلا المسجد الحرام.
وعدنا إلى السيارة فانطلقت بنا في الطريق بين المسجد والبئر، وبلغت بنا وادي فاطمة بين العصر والمغرب، تباركت ربي! هذا اليوم الذي جئنا فيه إلى هذا الموضع هو يوم السبت الرابع عشر من شهر مارس، ثمانية عشر يوما قد انقضت إذن منذ غادرت مصر. وها أنا ذا لأول مرة من يومئذ أشعر بنشوة الطرب لمرأى الخضرة الناضرة والزرع البهيج، نعم! فالوادي الذي كان أجرد قاحلا قد استحال جنة يانعة تجري فيها جداول المياه، وتقوم على جانبيها زروع مختلفة من نبات وشجر، وتتنفس خضرتها عن ابتسامة عذبة تهون من وحشة الرمال والهضاب التي كانت تحيط بي مذ هبطت الحجاز، لقد شعرت لمرأى النبات في هذا الوادي كأنما وجدت شيئا فقدته، وأحسست ما يحسه أبناء مصر - بلد الخصب والنماء - من الشوق والوحشة إذا التمسوا مظاهر الخصب والنماء فلم يجدوها! وعلى حافة وادي فاطمة قامت أكواخ كأكواخ أهل العزب من سكان مصر، وأحسن أبناء هذه الأكواخ استقبالنا حين سرنا في حذر على حافة الجدول نستنشق عبق الخضرة والحياة، فجاءوا لنا برداء جلسنا عليه، ودعونا إلى قهوة اعتذرنا عنها شاكرين، ووضعت في الجدول يدي وأنا بمجلسي على الرداء كأني في ريب من مسيل الماء فيه، أو أني أردت أن أضيف إلى شعوري المعنوي بالمسرة شعورا ماديا بمصدر هذه المسرة، وجاء أحد الغلمان من أهل الوادي بأبراج من قطن قيل لنا: إنهم يزرعونه، وذكروا لنا أنهم يبعثون بالكثير مما ينبتون من الخضر إلى مكة، وأما ما ينبتون من الفاكهة فقليل.
وأقمنا زمنا على حافة الجدول، ثم قمنا ندور في أنحاء هذه الحقول حتى آذنت الشمس بالمغيب، هنالك استأذنا القوم وعدنا إلى سيارتنا فأقلتنا إلى مكة، ولشد ما كان اغتباطنا حين سمعنا ونحن على مقربة من التنعيم غناء مصريا تردده قافلة تقصد المدينة على طريقة غناء الحجاج، فلما جاوزنا التنغيم ألفيتني فرح القلب بما رأيت من ماء وخضرة وما سمعت من غناء، وإن كان الماء جدولا وكانت الخضرة قليلة ولم يكن في ترجيع الغناء من سبب للطرب إلا أنه مصري، ما لي لا أقنع بالقليل يوم أحصل عليه؟! بل ما لي لا أجد فيه غاية النعمة ولذاذة العيش؟! أليس هذا القليل خيرا من كثير تغص به النفس؟! وكثيرا ما يورثها الملال. •••
Unknown page