انتهى من هجرته إلى قباء على فرسخين من المدينة فأقام بها ومعه أبو بكر أربعة أيام، وفي هذه الأيام الأربعة أسس مسجدها، وكان آخر الأيام الأربعة يوم جمعة، وفيه سار ومعه أبو بكر وعلي بن أبي طالب حتى دخل المدينة وأهلها في انتظاره يتحرقون شوقا لمشاهدته، وهناك في المسجد الذي ببطن وادي رانوناء أقبل عليه مسلمو يثرب وكلهم الإيمان والمحبة الصادقة، وصلى الجمعة معهم، واعتذر لمن عرض عليه منهم أن يقيم عندهم في العدد والعدة والمنعة، وامتطى ناقته القصواء وألقى لها خطامها وتركها تسير وأهل المدينة من حولها في حفل حافل، فلما كانت عند مربد سهل وسهيل ابني عمرو بركت، فقال رسول الله: «هذا إن شاء الله المنزل.» ودعا: «اللهم أنزلنا منزلا مباركا وأنت خير المنزلين»، وسأل عن المربد فأجابه معاذ بن عفراء أنه ليتيمين في رعايته، وأنه سيرضيهما، ورجاه أن يتخذه مسجدا، وقبل محمد على أن يدفع ثمنه، وأقام أثناء بناء المسجد في دار أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري، وشارك أصحابه في بناء المسجد وعمل فيه بيديه، وبني المسجد يومئذ فناء فسيحا، جدرانه الأربعة من الآجر والتراب، وسقف جزء منه بالجريد، وترك الجزء الآخر مكشوفا، وخصصت إحدى نواحيه لإيواء الفقراء الذين لا يملكون مسكنا.
وقد أورد السمهودي في كتابه «وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى» روايات لا تختلف عن هذه ولكنها تزيدها وضوحا وتفصيلا، فقد أحاط المسلمون بالناقة في مسيرها حتى وقفت أمام المربد، وكان يومئذ يصلي فيه جماعة من المسلمين، وكان أبو أمامة سعد بن زرارة ذا آصرة قربى باليتيمين وكانا في حجره، وكان قد اتخذ بعض هذا المربد واتخذ أرضا له متصلة به مسجدا واتخذ عليه عريشا، وقد أقام النبي اثني عشر يوما بعد وصوله إلى المدينة وإقامته بدار أبي أيوب يصلي فيه، ثم إنه سأل سعدا أن يبيعه أرضا تجاور ذلك المسجد مملوكة لليتيمين سهل وسهيل ليزيد فيه حتى يتسع للمسلمين حين صلاتهم، وكان هذا المربد للتمر يجفف فيه، وكان به نخل وغرقد وقبور للجاهلية، فأمر الرسول بالنخل والغرقد فقطعت، وبالقبور فنبشت، وبعظامها فغيبت، وكان به ماء فسيره فذهب، فلما تم ذلك بدأ بناءه كأبسط ما يكون البناء باللبن، وسقفه بالجريد، وجعل عمده من خشب النخل.
وذكروا أن محمدا لما قدم المدينة قال: «ابنوا لي عريشا كعريش موسى ثمامات وخشبات، وظلة كظلة موسى، والأمر أعجل من ذلك.» قيل: وما ظلة موسى؟ قال: «كان إذا قام أصاب رأسه السقف.»
وبدءوا يبنون المسجد والرسول يبني معهم ينقل اللبن والبناءون يبنون، لقيه رجل وهو يحمل لبنة فأراد أن يخفف عنه بأن يحملها وقال: أعطينيها، فأجابه: «اذهب فخذ غيرها فلست بأفقر إلى الله مني.» وجاء رجل من حضرموت يحسن عجن الطين فنحى رسول الله غيره عن هذا العمل وقال للرجل: «الزم أنت هذا الشغل فإني أراك تحسنه، ورحم الله امرأ أحسن صنعته .» ولما رأى كبار الصحابة إقبال رسول الله على العمل أقبلوا عليه جميعا ولم يكن لأغنيائهم قبل ذلك بهذا عهد، وكان علي بن أبي طالب يعمل ويرتجز:
لا يستوي من يعمر المساجدا
يدأب فيها قائما وقاعدا
ومن يرى عن الغبار حائدا
وكان عثمان بن عفان على واسع ثروته وعظيم جاهه، وعلى أنه كان رجلا نظيفا متنظفا، يحمل اللبنة فيجافي بها عن ثوبه، فإذا وضعها نفض كمه وما يكون قد أصاب ثوبه من التراب، وكان سائر المسلمين يعملون ويرتجزون:
لئن قعدنا والنبي يعمل
ذاك إذن للعمل المضلل
Unknown page