ويذكر إبراهيم رفعت باشا في كتابه «مرآة الحرمين» ما في الروضة من الأعمدة الجميلة المفرغة ويذكر «نجفة» كبيرة، ويخص بالذكر نجفتين على أطرافهما تنانير يوقد منها الشمع أهداها إلى المسجد النبوي عباس باشا الأول، والكبيرة منها معلقة في السقف القبلي مما يلي الروضة، كما يذكر أن عباسا هذا أهدى إلى المسجد أربع شجرات على أعمدة من البلور مفرعات بأغصان مائلة عليها تنانير صافية وضعت بالروضة المطهرة وما يليها من الغرب في صف واحد من الأساطين.
ويصف عبد القدوس الأنصاري اثنتين من هذه الشجيرات الأربع فيقول: «وبجانبي المحراب نخلتان صفر، مثبتتان في الأرض، ولكل جذر وجذع وساق وغصون، وهما مثمرتان وذواتا أكمام، ولكن ثمرتهما قطع البلور الصافي، وأكمامهما المصابيح الزجاجية الملونة.» أما وصف الروضة وما فيها فلم يتناوله صاحب «آثار المدينة المنورة» في اتساق كما فعل السويسري برخارت، بل تحدث عن بعض ما فيها فذكر المحراب النبوي وأنه في شرقي المنبر: «تزينه الآيات المرقومة بماء الذهب، وقطع ملونة من الرخام، وناهيك بجمال العمودين بجوانبه، فهما من الرخام الأحمر ذي اللون الإثمدي، وفي الجانب الغربي من المحراب مكتوب: «هذا مصلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم .» وشكل بناية هذا المحراب ينبئ على أنه قرين المحراب السليماني في تاريخ العمارة، والمحراب السليماني يقع في غربي المنبر، وبظهره كتابة تنبئ أنه بني سنة 938ه، وأن بانيه السلطان سليمان، أما المنبر فيقع بين المحرابين، وبه اثنتا عشرة درجة، ثلاث بخارجه وتسع بالداخل، مصنوع من المرمر، وظاهره مغمور بالتذهيب وبالنقوش الفائقة، وفوقه قبة لطيفة قائمة على أربعة أعمدة من المرمر، وفوق بابه شرفات آية في الإبداع، وإن لماء الذهب لبريقا حتى لكأن الصانع فرغ من صنعه بالأمس، وتاريخ عمارته وإرساله من قبل السلطان مراد هو سنة 998ه، كما تنطق به الأبيات المنقوشة على بابه، وأمام المنبر مقصورة المبلغين وتسمى المكبرية، وبينها وبينه إلى الشمال نحو خمسة أمتار ومنها يقيم المبلغون الصلوات، وهي عبارة عن مربع رخامي قائم على ثمانية أعمدة رشيقة، ستة منها محلاة بصبغ أحمر عقيقي اللون، واثنان أبيضان.»
سقت هذه الأوصاف لما في الروضة اكتفاء بها عن الوقوف أمام كل أثاث فيها أو زخرف، فهذا الوقوف يقتضي من أراد الإحاطة بجمال الفت في دقة تفاصيله ساعات طويلة وعلما مستفيضا بفنون شتى، ما لم يكن ممن يكفيهم إبداء الإعجاب بهذا الجمال والبهر لمرآه، ثم إني على كثرة ترددي على المسجد والروضة لم أكن حريصا على دراسة التفاصيل في عمارته وزخرفه حرصي على دراسة ما تبعثه الروضة، وما يبعثه المسجد كله إلى النفس الإسلامية في عهدنا الحاضر من أثر في خشوعها وتعبدها، فهذا الرجل الجالس إلى جوار المحراب النبوي ملصقا نفسه به حتى يكاد يصبح جزءا منه مخافة أن يزحزح عن مكانه، مؤمنا أنه يدنو بذلك من رياض جنة الخلد، وهذا الآخر الذي ينفح خادم الحجرة بما ينفحه ليختصه بمكان إلى جوار منبر الرسول يجلس فيه كلما جاء إلى الروضة، وهذه الصفوف الأولى من الجالسين الذين يبدو عليهم أثر النعمة والوجاهة بالقياس إلى الجالسين في الصفوف التي وراءهم، هذه المظاهر وأمثالها هي التي عنيت بملاحظتها ودرسها في هذا الجانب الأقدس من مسجد النبي العربي الذي نادى في الناس بكلمات من ربه:
إن أكرمكم عند الله أتقاكم ،
فأينما تولوا فثم وجه الله . وما لي وتفاصيل المنبر والمحاريب والنجف والسجاجيد وما طعمت به، ومم صنعت، وأين نسجت، وهي كلها في نفاسة صنعها ترجمان حالات نفسية في الروح الإسلامي خلال تطوره على العصور؟! وما تحاط به اليوم من تقديس، وما تبعثه إلى النفس من أثر في خشوعها وتهجدها، إنما هو صورة النفس الإسلامية في طورها الديني الحاضر، وهذا عندي أجدر بالدرس والعناية من الآثار الفنية لذاتها.
ومما لا ريب فيه أن الأكثرين ممن يجيئون إلى الروضة ويختارون أماكنهم منها يحسبون أنها كانت على الصورة التي يشهدونها منذ برأ الله الأرض ومن عليها، أو أنها كانت كذلك على الأقل من عهد النبي - عليه الصلاة والسلام، وقل منهم من يفكر في الأدوار التي مرت بها من حيث العمارة والزخرف، ولا ريب كذلك في أن لعمارة الروضة ولزخرفها في نفوس هؤلاء الأكثرين أثرا تعبديا يتغير إذا تغيرت هذه العمارة وهذا الزخرف، كتغيره حين انتقالهم من الروضة إلى المكان المحيط بصحن المسجد مع شدة الشبه بين ما في هذا المكان وما في الروضة من عمد وما فوق هذه العمد من قباب، ولو أن النفس الإسلامية كانت اليوم كما كانت في عهد الرسول وخلفائه الأولين صفاء وطهارة وقوة لما تأثرت في خشوعها وتهجدها وتوجهها إلى الله بمكان، وإن بلغت الذكريات التي يثيرها هذا المكان فيها غاية الطهر والسمو، ولكان الاجتماع بمسجد الرسول أدنى أن يبعث فيها من معاني المحبة والقوة والجهاد أسوة بصاحب هذا المكان وأصحابه الأولين ما يزيدها على الحياة قوة، وما يجنبها أن تعبد إلا الله وحده لا شريك له.
يحسب الأكثرون أن الروضة كانت دائما كما يشهدونها اليوم، أو أنها كانت كذلك منذ عهد النبي - عليه الصلاة والسلام، والحق أنها لم تكن إلا في عصور متأخرة، وأن هذا المسجد النبوي قد مر به من الأدوار التي تمثل التفكير الإسلامي في تطوره أكثر مما مر بالحرم المكي، بل لقد كان هذا المسجد خاضعا للتطور السياسي والديني أكثر من الحرم منذ صدر الإسلام وفي عهد الخلفاء الأولين.
فقد كان المكان الذي يقوم المسجد فيه مربدا لغلامين يتيمين في المدينة هما سهل وسهيل ابنا عمرو يوم جاء النبي مهاجرا إليها، والمشهور أنه
صلى الله عليه وسلم
Unknown page