أتعثر بأمي خارجة من الحمام، تتفاجأ هي أيضا بي وكأنما تذكرت وجودي على حين غفلة. رأيتها ندية، بنظرات خجولة، ألقت تحية صباحها على عجل، ثم دخلت غرفتها وأغلقت بابها خلفها.
المقهى
ينادي يوسف أو «جو» حسبما يلقبه زبائنه، عبد الله عامل القهوة الأقدم بين العاملين لديه، ليسرع في رص ما بقي من أشياء مهمة في الصناديق المعدة لذلك.
يراقب جو عبد الله وهو ينزل الصور المعلقة بمختلف جدران المقهى التي يزيد عمر بعضها عن سني عمره، يتحسس إطاراتها المذهبة القديمة كأحد كنوز علي بابا. هو يعلم بحزن عبد الله لقراره ببيع المقهى، يتذكر محاولاته لثنيه عن قراره بطرق عدة؛ كإقناعه بأنه سيقوم بأعمال التنظيف إلى جانب تقديم الطلبات، موفرا بذلك أجرة عامل، أو أن يقتطع جزءا من أجور العمال من أجل تجديد المقهى لعل ذلك يزيد من رواده ويعيد زمنه الذهبي.
يوسف وعبد الله في العمر نفسه تقريبا، لا يعتبره يوسف مجرد عامل. بدأ ارتباطهما بالمقهى منذ الصبا، ولكن بالطبع كان يوسف هو ابن صاحب المقهى، اليوناني، الذي ولد وتربى في مصر، ورغم ذلك فقد كان لقبه دائما «الخواجة جو» تمييزا له عن «الخواجة» والده.
في صغرهما لم يملا أبدا من مراقبة والده وهو يعامل الزبائن، يتحرك بكد ونشاط، لا يكتفي بمتابعة عماله، بل يسارع لخدمة زبائنه بنفسه، يتأكد من ضبط توابل الأطعمة التي تقدم إليهم، ويشتري أفخم أنواع الشيشة، ويشرف على تنظيف الطاولات والأرضية بعد ذهاب كل زبون.
اعتادا زيارة المخزن الصغير المرفق بالمقهى، والذي كان يضع فيه «الخواجة» الأجهزة والأدوات التي لم تعد تستخدم؛ كالبكرج، والجرامافون، وأسطواناته السوداء. كانا مبهورين بتلك التفاصيل، ينتشيان وهما يودعان آخر زبون مع أذان الفجر. وفي جلساتهما مع الأصدقاء يتباهيان بمعرفتهما لمعاون النيابة والعمدة وابن المأمور الذين كانوا من رواد المقهى.
كان مقهى «الخواجة» علامة مسجلة بالمنطقة، تميز خلال الخمسينيات والستينيات عن المقاهي الشعبية الأخرى، يجتمع به الموظفون، وتقدم لهم «الشيشة» بدلا من «الجوزة» التي تقدم بالمقاهي الشعبية، وكذلك المشروبات المغلية على البكرج، والجلاس، والأطباق النظيفة التي تقدم بها وجبات خفيفة.
أما ليلة الخميس من أول كل شهر، فكانت ليلة تعلن فيها حالة الطوارئ بالمقهى؛ استعدادا يليق بحفلة «الست» أم كلثوم، تزيد فيها المشروبات، وينظف الراديو من الغبار، ويتم التأكد من نقاء الصوت حتى لا يعكر صفو المستمعين شيء طارئ.
وكان الخواجة بلكنته اليونانية ولهجته المصرية المكسرة، محبوبا من الجميع، يحرص على استقبال زبائنه باحترام وإظهار تبجيله لهم، وهم يودعونه أسرارهم ويشاورونه في مشكلاتهم.
Unknown page