وكذلك البراجماتية جاءت معبرة عن نزوع عصرنا نحو العمل والتطبيق، إذ جعلت ما يترتب على أي فكرة من آثار عملية هو نفسه المعنى الذي يكسب الفكرة قيمتها، فليست من الفكر في شيء فكرة ترتسم في الذهن ولا يكون أمام صاحبها سبيل إلى تنفيذها، لا لقيام العوائق المادية التي تحول دون ذلك التنفيذ، بل لشيء في طبيعة الفكرة المزعومة نفسها، يجعلها مقصورة على الذهن لا تخرج منه إلى ضوء الواقع في صورة عمل يؤدى.
فقل لي ما مدى انتفاع «الإنسان» انتفاعا عمليا في حياته، بفكرة عندك تعرضها، أقل لك ما مدى قيمتها من حيث هي فكرة بالمعنى الصحيح - على أن كلمة «الإنسان» هنا يراد بها المجتمع، ولا يراد بها كل فرد على حدة.
ومع الواقعية والبراجماتية تسير الوضعية المنطقية في نفس الطريق، إذ تلتقي معهما في وجوب الربط الوثيق بين الفكر من جهة والتجربة العملية من جهة أخرى، مع طابع خاص يميزها، هو تفرقتها بين العلم الطبيعي والعلم الرياضي، تفرقة تجعل العلم الطبيعي وحده - دون العلم الرياضي - مستندا إلى شواهد التجربة.
وبهذا يكون العلم إما علما طبيعيا قائما على التجربة، وإما علما رياضيا، صدقه في طريقة بنائه، وأما ما لا يكون من هذا ولا من ذاك فلك أن تسميه بما شئت من أسماء، لكنه ليس «علما».
هذه اتجاهات رئيسية ثلاثة في الفلسفة المعاصرة تستطيع أن تبلورها معا في وجهة نظر مشتركة تقول عنها إنها تمثل روح العصر من أحد جوانبه وهي وجهة النظر التي تربط الفكر بالعمل، تصل الإنسان بالواقع، توحد بين العقل والإرادة، فلم تعد القيمة للقابع في صومعته «يتأمل»، بل عادت القيمة كل القيمة لمن يتبع الفكر بالتنفيذ؛ ولذلك تراها هي وجهة النظر المسيطرة اليوم على ميادين النشاط في السياسة والتربية والاقتصاد والاجتماع.
ففي السياسة - وخصوصا في البلاد الناهضة التي همت بتغيير أوضاع الحياة فيها بأسرع ما تستطيع - ترى هذه «العلمية»، وهذه «الواقعية» وهذه «الإرادة» ماثلة في وضوح، فالحرية التي تنشدها هذه البلاد، يراد لها أن تكون حرية خلاقة لبناء مجتمع جديد، ولا يراد لها أن تظل أغنية يتغنى بها الناس ومعاشهم باق على حاله.
وحسبنا في هذا الصدد مثال نسوقه من الميثاق الوطني، وذلك حين أكد أن النصر في معركة السويس كان معناه الحقيقي استخلاص الشعب لإرادته، يصطنع بها الحرية، أي أن «الحرية» شيء «يصنع» لا شيء «يقال» والإرادة - لا مجرد التأمل - هي أداة ذلك الصنع ...
وفي التربية كذلك تسود هذه النزعة نفسها التي تربط بين الفكر والعمل، وإذا قلنا: «التربية.» فقد قلنا: «الجيل القادم.»، فلم يعد أساسه الاهتمام بالمادة العلمية من حيث هي، بل أصبح الأساس هو أن يتحول العلم المدروس إلى فعل ينصب على مشكلات المجتمع، فأولا: لا بد من نقل مركز الاهتمام إلى الفرد الإنساني نفسه الذي يتعلم ويتربى، بعد أن كان الاهتمام بالمادة العلمية التي تلقن، وذلك بأن تهيأ الفرصة لإمكانات كل فرد من الناس أن تنمو وفق طبيعتها وحدودها ليجيء في نهاية الأمر أصلح ما يكون استعدادا للقيام في المجتمع بما يلائم طبيعته من عمل، وثانيا: لا بد من ربط الصلة القوية في كل ما يتعلمه المتعلم بين الدرس والنظري والعمل التطبيقي، وما ليس له مجال في دنيا التطبيق على مشكلات الحياة الواقعة، لا يكون له مجال في برنامج الدرس النظري.
وفي هذا يقول ميثاقنا الوطني عن هدفنا من التعليم إنه قد أصبح في ظل الثورة «تمكين الإنسان الفرد من القدرة على إعادة تشكيل الحياة» ...
وتلك هي روح العصر من إحدى نواحيها.
Unknown page