ثم راجعت نفسي في تفسير ذلك، فلم أعجب من وهلة الفتاة كما عجبت من صدق حاستها، أو من مبادرة هذه الحاسة إلى التفرقة بين الأشياء المتشابهة حين يتفرق بها المكان.
فإنما تختلف الأشياء عندنا بما يقترن بها من تداعي الخواطر، وما توحيه من اللوازم والملابسات، فالكتب في السوق بضاعة للبيع، والكتب في المدرسة موزعة بين أيدي الأساتذة والطلاب، ولعلهم مئات ولعلهم ألوف، فلا توحي إلى الخاطر تلك «الزحمة» التي ترهق الرءوس. أما الكتب في حجرة واحدة في بيت رجل واحد فللفتاة العذر إذا أجفلت منها تلك الجفلة، وخافت منها على رأسها الدوار.
إننا نمر بالمائدة في الفندق العامر فلا نستغربها وإن امتلأت بطعام جيش، ولكننا إذا رأينا هذه المائدة بعينها أمام ضيف واحد خطرت لنا التخمة أو خطر لنا الغثيان، ولنا المعذرة في هذه التفرقة بين المائدتين! •••
واحتجنا يوما إلى نقل بعض الرفوف من هذه الحجرة إلى الحجرة التي تليها، ريثما نصلحها ونفرغ من طلائها، فاستعنا بقريب لبواب المنزل يومئذ على النقل مع خدم البيت، وكان ريفيا أميا يزور قريبه أو يزور «آل البيت» على التعبير الصحيح، أو لعلها أول زياراته للقاهرة في طلب الخدمة، وطلب البركة على السواء، ولم يكن له علم بالأحرف العربية، ولا بالأحرف الإفرنجية، فإذا رأى كتابا في هذه الأحرف أو في تلك فكله كتاب، وكله مما يقرأه المطهرون.
البيت الذي سكنه العقاد طوال حياته، وهو يحمل رقم 13 شارع السلطان سليم بضاحية مصر الجديدة.
فلما اقترب من باب المكتبة خلع نعليه، وتهيب أن يمد يده إلى الكتب؛ لأنه كما قال لم يكن على وضوء!
أليس لهذا الريفي الأمي منطق صادق فيما فعل على البداهة؟ إنه تعود أن يقرن صورة الرجل العالم بصورة رجل الدين، فما باله لا يقرن كتاب العلم بالقداسة الدينية؟ وهل يكون الكتاب لغير علم أو لغير قداسة؟!
لقد أكبرت تحية الجهل للعلم في مسلك هذا الريفي الصالح، وأستغفر الله؛ لأنني أفسدت سمعة الكتب في رأيه على الكره مني، فأعلمته أنها كأبناء آدم وحواء فيها الصالح والطالح وفيها الطيب والخبيث، وأنها لا تحرم في جميع الأحوال على اللمس بغير وضوء، فلم أجرئه على حرمتها ولا أقنعته بلمسها حتى أريته على غلاف بعضها صور التماثيل العارية، وفي صفحات بعضها صور السادة والسيدات، فتحلل من حرج وأقدم بعد إحجام.
ولا أخال هذه «الهيبة» للكتاب بعيدة جدا من هيبة «المكتوب» عند القبائل الفطرية ، كما أنبأنا عنها رواد المجاهل الأفريقية، فإنهم لا يفهمون هناك كيف يقرأ الرجل الورقة ويفهمها ويعمل بما فيها دون أن يكون فيها روح مرصد أو طائف من الجان. وقد روى بعض الرحالين أنه أرسل خادمه الأسود إلى زوجته على مسيرة ساعات ليطلب بعض الأمتعة والأدوات من بيته، فكتب له ورقة وأمره أن يأتيه بجوابها، فحمل الورقة مطمئنا ولم يلق إليها كبير اكترث، ولكنه لما رأى السيدة تقرأها وتراجعها كلما أسلمته أداة من الأدوات المطلوبة فيها خامره الشك، وأيقن أنها تستوحي بمراجعة الورقة روحا تفقه عنها ما تسأل عنه في صمت ووقار، فلما أسلمته السيدة تلك الأدوات تقبلها وحملها ولم يوجس منها، ولكنه تردد وأوجس حين أسلمته الورقة بالجواب! وحملها كمن يحمل ثعبانا يخاف أذاه أو شيطانا يخاف سخطه وغضبه، وأدى الأمانة بتمامها؛ لأنه في حراسة رقيب ينقل عنه ما يظهره ويخفيه.
قال صاحبي: ويح الأسود المسكين لو انطلق عليه روح من وراء كل كلمة مخزونة في هذه الرفوف! إن عفاريت الآجام جميعها لتصبحن عنده من ملائكة الرحمة بالقياس إلى هذه العفاريت، وإن سحرة أفريقية على بكرة أبيها لا ينقذونه من وبال هذا السحر المخيف!
Unknown page