إذا اطردت فيه الشمال تتابعت
ذوائبه حتى يقال: غدير
فالواعية الفنية وحدها هي التي تغريه بوصف حقل من حقول الكتان، التي مرت بألف شاعر منذ الخليقة ولم يلتفتوا إليها؛ لأن حقل الكتان لا يحسب من موضوعات الوصف التقليدية بين شعراء التقليد، فليس هو بروضة من رياض الورد والياسمين، وليس هو بستانا من بساتين الفاكهة والثمرات، ولا هو بمنزه من منازه الحسان أو موعد من مواعد الغرام. فانظر كيف علق هذا المنظر بوعيه اللاقط المستوعب، وكيف أحصى عليه كل ما يحصيه التصوير في شرط النقد الحديث، بعد طول المشاهدة والمراجعة لآيات الأساتذة من نوابغ التصوير، واذكر كيف صنع ذلك بداهة وابتداعا غير عامد ولا متنبه، وهم يتعمدون ما يسجلون من ملاحظات النقد ويتنبهون إليه.
فالنقد الحديث يشترط على المصور النافذ البصر والبصيرة أن يستوعب المنظر، فلا يفوته اللون ولا الملمس ولا الزمان ولا جو المكان، ولا الحركة التي تشيع فيه إن كانت فيه حركة، أو السكون الذي يشمله إن كان به سكون.
وكل أولئك تجده في البيتين الاثنين مطبوعا منقولا إليك نقل البداهة عن تلك الواعية المستوعبة، التي لا تفوتها مدركة من مدركات الحس والخيال: لمح اخضرار اللون، ونعومة الملمس، وأحاط بوقت الصورة كما مثلت أمامه فهو وقت الوسن، وأحاط بجو المكان فهو المكان الذي يظل عليه رباب مسف فويق الأرض يؤذن بالمطر القريب، وأحاط بالحركة وبمصدرها من ريح الشمال، فإذا رءوس الشجر تموج بالحركة الذاهبة الآيبة فكأنها صفحة غدير، لا موضع لنقص في الصورة ولا محل فيها لزيادة، وليس أصدق من الوعي الذي أحسن اللقط، وأحسن التمثيل في لمحة عين وفي بيتين اثنين.
مثل هذا المقياس الذي تقاس به الواعية الفنية لم يكن مقياس أولئك النقاد، الذين جهلوا فضل ابن الرومي وأشادوا بفضل سواه، ولو أنهم تتبعوا مئات الأبيات من شعره - بل ألوفها - على هذا المنوال لعلموا أنه مغبون - جد مغبون - حين يقرن بشاعر من شعراء العالم ما كان في هذه الملكة الفريدة، فكيف بالغبن الذي يصيبه إذا قدموهم وأخروه، وأشادوا بفضلهم وأنكروه.
أثارني هذا الظلم فآليت لأدفعنه عنه، فإذا بصحبي يثنونني عن إنصافه وهم وجلون، ولئن كانوا غير جادين لقد كانوا كذلك غير مازحين، فما لقيني أحدهم مشتغلا به إلا صاح بي! حذار حذار، إنه مركب غير مأمون العثار! والرجل موصوف ببأسه في شؤمه، فلا شأن لك بإنصافه وظلمه، ودعه لقضائه، واقنع بأنك من قرائه، فقد يتحداك شقاؤه المعهود إذا تهجمت على حرمة شقائه!
وكانت ثورة فأصبحت ثورتين؛ لقد ذل من يخاف ذلك الشؤم المعتز بجبروته، ولقد طغى ذلك الشؤم الذي يسطو على فريسته في حياتها وبعد مماتها، ثم ينذر بالنقمة من يتصدى لغوثها، فإذا أنصفنا الشاعر المغبون وغضب الشؤم الواقف له بالمرصاد، فليصنع الشؤم إذن ما يشاء.
وسكنت هذا البيت ورقمه ثلاثة عشر، ووضعت فيه التليفون ورقمه يومئذ مبدوء بثلاثة عشر، وجعلت أسأل الشؤم في كل دعوى من دعاويه، وأولها دعواه الكبرى على البومة المسكينة، ما لهذه الطريدة المظلومة وهي قد تركت الدنيا والنهار للإنسان ولاذت منه بالليل والخلاء؟ وما عيبه عليها وهي أوفى الطيور في عشرة الأليف منها للأليف؟ أليست هي إحدى الأحياء النادرة، التي يسكن الزوج منها إلى زوجه مدى الحياة؟ أليست هي التي تغني لنور القمر ولعزلة الليل، ولا تقتحم صوتها على من يأباه؟ ألم تكن عند الأثينيين - وهم عباد الجمال - رمزا للمدينة ينقشونه على الدراهم مع أغصان الزيتون؟ فإذا جنى الظلم على سمعتها ولاحقها الظلم في خلوتها، فليصنع ما بدا له فإننا نتلقاه منها باثنتين لا بواحدة؛ لأنها لا تحب الفراق، وإن زعموها نذير الفراق.
قال صاحبي: وكيف رأيت العاقبة؟
Unknown page