قلت: ليس في فنون الجماهير ذنب واحد، بل ذنوب تشمل المسمعين ومن يستمعون إليهم، ومن لا يسمعون ولا يستمعون!
وكانت صورة بيتهوفن تنحني إلينا كأنها تصغي إلى حديثنا. فقال صاحبي: ما كان أعظم فجيعة المسكين بسمعه وهو السفير بينه وبين عالم الأصداء والأصوات، لو كان هو الذي أمامنا ولم تكن تلك صورته لما سمع من حديثنا أكثر مما سمعت هذه الصورة الصماء، فماذا كان على الدنيا لو أسمعت هذا الذي أسمعها من أقصاها إلى أقصاها، ولا يزال يسمعها إلى اليوم!
قلت: هي محنة تمثلت فيها نزاهة الفن وخلوصه من ظاهرة الحس القريب. فقد سمعنا من نقاد الغرب من يقول: إن رافائيل لو ولد مقطوع اليدين لكان هو في ملكة التصوير روفائيل الذي علمناه. فإن كان هؤلاء النقاد قد بالغوا بعض المبالغة، فقد شاء القدر أن نرى أعظم الموسيقيين مقفل الأذنين لا يسمع ما يوحيه لأنه يتلقاه من عالم النسب المحض التي لم تترجمها الأصوات. وما يتفق هذا لأصحابنا أصحاب العود والقانون وربع المقام؛ لأنهم كالمرأة التي تنظر إلى مرآتها ولا تفارقها، فإن فاتهم أن يسمعوا أنفسهم فقرة بعد فقرة لم يحسنوا إسماع الآخرين.
وتهيأ صاحبي لسؤال يتردد فيه، فقال وهو ينقل بصره بين الصور المتجاورات: إنك لم تجمعها عمدا على هذا التفاوت البعيد فيما بينها، فأما وقد اجتمعت على غير قصد منك، فهل خطر لك قط أن توازن بين أصحابها، وأن تسأل نفسك أيهم أعظم وأيهم أحق بالإكبار والإعجاب؟
قلت: لا يخطر لك على أية حال أنني أنزل بقدر الموسيقي العظيم عن قدر المصلح العظيم أو الزعيم العظيم، إن الأئمة الموسيقيين أندر في العالم من أئمة الاجتماع وأئمة السياسة، فلا تحسبنه حتما لزاما أن يكون زعماء الاجتماع أو السياسة أعظم من زعماء الفنون؛ لأن المعول على الكفاءة اللازمة للعبقرية لا على أثرها في مواطن الجاه والسلطان، وليست حاجة الناس إلى الشيء هي مقياس العظمة فيه؛ لأن الناس يحتاجون إلى سنابل القمح ويستغنون عن اللؤلؤ، وليس القمح بأجمل ولا أبدع في التكوين، ولا أغلى في الثمن من الجوهر الذي لا نحتاج تلك الحاجة إليه.
قال: وهؤلاء الثلاثة العاملون، من أعظمهم في موازين الرجال؟
وأشار إلى جمال الدين ومحمد عبده وسعد زغلول.
قلت: أعظمهم أثرا في قطر واحد هو سعد زغلول، وأعظمهم أثرا في جميع الأقطار هو جمال الدين، وأعظمهم نفسا فيما أرى هو محمد عبده، أوسط الاثنين.
قال: وبم كان أعظمهم في موازين النفوس؟
قلت: إن عظماء البطولة الإنسانية لا يوزنون بغير الصفة العليا التي تتجلى في البطولة، وهي الإيثار.
Unknown page