ولك أن تستزيد من الحياة بتعميقها أو بتوسيعها أو بتفسيرها، ولك أن تتوسل إلى ذلك كله بقصيدة من عيون الشعر، أو بنظرة في عجائب حشرة ضئيلة تخالها من أسرار الصناعة المكتومة، بل من «مسودات» الخلق الأولى، أو باستقصاء آماد الحياة فيما وراء الغيب، وفيما بعد الموت وقبل الميلاد، أو بالمقابلة بين سير العظماء على ضروب شتى من العظمة، وبين سير الصغراء على ضروب شتى من الصغار، فكل أولئك بباعث واحد مختلف العناوين، وكله صحاف تعطيك ألوانا شتى من الطعم والمذاق، ولكنها لا تعطيك في النهاية غير دم واحد ينبض في العروق. ومعذرة بعد من هذه اللفتة إلى الطعام وأنت لا تحب ذكر الطعام في هذا المقام. •••
قال: لا عليك من المعذرة بعد هذه الفترة، فقد أوشكت الساعة أن أستطيب التشبيه الذي كنت أعافه منذ برهة، وأوشكت مع هذا أن أؤمن بأن الثبات على الرأي في البلاغة غير الثبات على الرأي في الأخلاق، فقديما قيل لنا: إن الثبات فضيلة، وأخشى أن أكون اليوم قد أخللت بهذه الفضيلة، لولا باب من الرحمة في هذا الخلاف بين شرعة البلاغة وشرعة الأخلاق، وليست هي مسألة فكرة تقاس بالرأي بل هي شيء أحسه الساعة، ولا أبالي أن أفكر فيه، فما أرتضيه من البلاغة، وأنا شبعان مكظوظ لا أرتضيه منها وأنا جائع أتلمس الطعام، وأنت لا تشهي الكتب إلي حين تشبهها بالمائدة، وأنا من الكظة أعاف المائدة وأحاديثها، ولكنك تشهيها إلي حين تصفها بهذه الصفة، وأنا متفتح المعدة والرأس لكل غذاء.
قلت: هو ما قالوه قديما وأصابوا فيه أكثر مما أرادوا، فالبلاغة هي «مراعاة مقتضى الحال»، ولقد كنت بليغا في إشارتك هذه، فلك عندي من المكافأة عليها مائدة غير مائدة أفلاطون وأشباه مائدة أفلاطون!
وعدنا نستطيب القماقم والأرصاد بعد هنيهة، ولكن على أن نتركها بسلام، فلا نطلقها فرادى ولا جماعات، وحسبنا منها العناوين والرفوف.
ثم راح يجول ببصره جولة الطائر فيما يعبره وهو يقول: ما أصغر نصيب القصص من هذه الرفوف!
قلت: نعم، وإنه لو نقص بعد هذا لما أحسست نقصه؛ لأنني - ولا أكتمك الحق - لا أقرأ قصة حيث يسعني أن أقرأ كتابا أو ديوان شعر، ولست أحسبها من خيرة ثمار العقول. قال: كيف؟ أليس في الرواة والقصاصين عبقريون نابهون كالعبقريين النابهين في الشعر وسائر فنون الآداب؟
قلت: بلى، ولكن الثمار العبقرية طبقات على كل حال، وقد يكون الراوية أخصب قريحة، وأنفذ بديهة من الشاعر أو الناثر البليغ، ولكن الرواية تظل بعد هذا في مرتبة دون مرتبة الشعر، ودون مرتبة النقد أو البيان المنثور، والمثل هنا أقرب إلى الإيضاح من سوق القضية بغير تمثيل: إن الحديقة التي تنبت التفاح لا يلزم أن تكون في خصبها ووفرة ثمراتها أوفى من الحديقة التي تنبت الجميز أو الكراث، ولكن الجميز والكراث لا يفضلان التفاح، وإن نبتا في أرض أخصب من الأرض التي تنبته وتزكيه.
ونحن نقرأ القصص التي تجود بها قرائح العباقرة من أمثال ديكنز وتولستوي ودستيفسكي وبوجريه وبروست وبراندلو، فتؤمن بتلك العبقريات التي لا تجارى في هذا المضمار، ولكن إيماننا بها لا يلزمنا أن نضع القصة في الذروة العليا من أبواب الآداب، ولا يمنعنا أن نقدم عليها غيرها في التقدير والتمييز.
قال: وما المقياس الذي نرتب به هذه الرتب يا ترى؟
قلت: لعله مقاييس شتى لا مقياس واحد، ولعل الناس يختلفون فيها كاختلافهم في كل شيء يرجع إلى المشرب والتعبير، غير أنني أعتمد في ترتيب الآداب على مقياسين يغنياني عن مقاييس أخرى، وهما الأداة بالقياس إلى المحصول، ثم الطبقة التي يشيع بينها كل فن من الفنون.
Unknown page