Fi Awqat Firagh
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
Genres
أما إذا كان السبب مراعاة العقائد العامة، فإن ذكر تاريخ القرآن والحديث لا يمس هذه العقائد في شيء. ذلك بأن كل مسلم يعلم أن القرآن جاء بلغة العرب مراعيا في نزوله عوائد العرب وعقائدهم السابقة. فما جاء في تحريم الخمر أو تحريم الربا أو غير ذلك من الآيات، إنما جاء متعاقبا ولم ينزل مرة واحدة؛ لكيلا يتحرج به الناس، وهو دين يسر لا دين عسر؛ لذلك كان ما يريده المسلم المحب لدينه اليوم أن يقف على مبلغ التغيير الذي أحدثه الكتاب في العقائد والعوائد التي كانت موجودة قبله. وبما أن المقام مقام الكلام عن الأدب فكل مسلم لا شك يريد أن يعرف الصلة الأدبية أو الفرق الأدبي بين القرآن وما قبله.
قدمنا ما ذكره جرجي أفندي زيدان عمن حرموا على أنفسهم عبادة الأوثان وشرب الخمر ونحو ذلك قبل أن يجيء به الإسلام. ونعلم أنهم قالوا في ذلك أشعارا وخطبا. فهلا كان من واجب الكتاب في أدب اللغة أن يبينوا لنا الصلة بين هذه الأشعار وبين آيات القرآن التي نزلت في هذه المعاني حتى نقف على حقيقة سلسلة الحياة النفسية التي هي أساس الحياة الأدبية عند العرب. كذلك كنا نريد أن نعرف الصلة بين طريقة رواية الأخبار والحوادث عند العرب وروايتها في القرآن. وكنا نريد أن نعرف إن كانت سورة يوسف التي هي آية الإبداع في القصص أول ما جاء من نوعها أو أنها سبقت بغيرها من صورتها. كنا نريد أن نحيط علما بهذه الأشياء التي أهملها جرجي أفندي زيدان على أهميتها، وعلى أنها من لب تاريخ الأدب وصلبه. وهي في الوقت عينه لا تمس العقائد العامة بشيء.
أما إن كان المؤلف قد ترك هذا القسم لأنه اعتبر هذه الفترة حادثة استثنائية في تاريخ الأمة العربية، وأن العرب رجعوا مع الإسلام والأمويين إلى عاداتهم وأخلاقهم وآدابهم الأولى إلا بعض ما حرم صريحا، فإن ذلك يكون من المغالاة والمبالغة الزائدة التي يرفضها جرجي أفندي نفسه حيث يقول: إن الإسلام أحدث انقلابا سياسيا واجتماعيا ودينيا، وإنه أدخل إلى آداب العرب تغييرات بنسخ بعض ما كان، واستحداث سواه على ما يوافق العوائد والعقائد والأخلاق التي جاء بها.
لا شك أن تكوين الأمم الذي يتم على الأجيال والقرون لا يمكن في سنين معدودة قلبه رأسا على عقب. ولا شك أن الإسلام لم يغير العرب مرة واحدة عما كانوا عليه بما نسخ من المعتقدات والعوائد، ولكنه من غير شك أيضا أحدث هزة عظيمة في أعصاب هذه الأمة كانت سبب ما تلاه من التغيير؛ لذلك كان من الواجب على من يريدون درس العرب أيام الأمويين والعباسيين أن يرجع إلى التغييرات التي أحدثها الإسلام؛ ليقف على أصل مهم من أصول تاريخ هؤلاء الأمويين والعباسيين.
ولذلك نرانا منقادين بهذا التعليل البسيط لنرى النقص في «تاريخ آداب اللغة العربية»، فيما يتعلق بتاريخ الأدب في عصر النبي والخلفاء الراشدين.
بل كنا نود أن يفرد المؤلف كلمة عن النبي وحياته من جهتها الأدبية والمصادر التي استقى منها، وكيف وصل ليكون أسلوبه كما كان. ولئن كان هذا الباب قد طرق من قبل من الجهات السياسية والاجتماعية والأخلاقية بشكل ما، فإن جهته الأدبية لا تزال بكرا. ولهذا كنا ننتظر من جرجي أفندي زيدان أن يضع لنا في تاريخ آداب اللغة العربية كلمة تاريخية صحيحة عن أظهر رجل في الحياة العربية من كل جهاتها .
هذا هو النقص المهم في هذا الباب من أبواب الكتاب، وأخشى أن يكون نقصا جوهريا. وحبذا لو تداركه المؤلف إذا طبع كتابه طبعة ثانية، فيكون قد سد فراغا تاريخيا ذا قيمة.
ومهما يكن غرض جرجي أفندي زيدان من كتبه نشر معرفة التاريخ لا التدقيق في نقطة، ومهما يكن هو ينظر للأشياء دائما من جانب الفكرة العامة، فإنا نعجب كيف فاته أن يكتب هذه الكلمة التي ننبه إليها.
سوى ذلك فإنه لم يذكر لنا عن حقيقة روح هذا العصر شيئا أكثر من أن العرب اشتغلوا بالفتوحات، وأن القرآن كان دليلهم في الفكر والكتابة، مع أن الفتن الداخلية كانت يومئذ لا تحصى، وكان لها قادة من الخطباء والشعراء والكتاب. وردة العرب بعد موت النبي وخروجهم على عثمان وقتله، وانقسام علي ومعاوية على الأمر، كل ذلك يمس الأدب العربي عن قرب، ويمسه في مواضع كثيرة.
على أنا نرجع فنقول: إن الكمال محال. كما أنه ربما كانت في نفس المؤلف فكرة لم نقف عليها يفسر بها هذا الذي نعده نقصا في كتابه. وإنما دعانا للتدقيق في هذا الموضع من مواقع النقد اعتدادنا بهذا القسم من آداب العرب وتقديرنا لأهميته.
Unknown page