Fi Awqat Firagh
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
Genres
نشرت إحدى المجلات المصرية مقدمة كتاب الرافعي لأول ظهوره، وعدتها آية من آيات البلاغة. وإني لشديد الأسف أن لا أجد فيها هذه البلاغة وأن أراها ألفاظا متراكمة فوق ألفاظ، وصورا عتيقة تتلو تشابيه ضعيفة المعنى. وإنما أعطاها في نظرهم هذا الثوب من البلاغة أنها سميكة الألفاظ صعبة الفهم لمن يحب أن يكون دقيق الفهم. وإلى القارئ بعض عبارات منها: «هذا التاريخ علم قد كثرت عليه الأيدي واضطربت فيه الأقلام. واستبقت إليه العزائم حتى عثرت بها عجلة الرأي ولجاجة الإقدام. وقد أخصب في الأوهام. حتى نفشت في واديه كل جرباء وامتزج أمره بالأحلام ... إلخ إلخ.» فأي بلاغة في هذه الجملة التي لا تعطي معنى ذا قيمة يحتاج ضخامة التركيب إلى حد تصبح الكلمات فيه لا معنى لها.
أسلوب الكاتب مرآته. فالكاتب السهل الأسلوب السيال الألفاظ هو الكاتب السهل موارد الفكر. والشخص الذي يعتمد في بلاغته على غموض المعاني فلا ينتقي الألفاظ الدقيقة لمعانيها الموضوعة لها، إنما يدل بذلك على عدم وضوح أفكاره أمام نفسه. (2) طريقة أبي السامي في التأليف
ويدل على ذلك ما اتخذه أبو السامي - وتلك هي الكنية التي اختارها الرافعي لنفسه ووضعها على غلاف كتابه - في طريقة وضع كتابه وتأليفه. فإنك تجده جاء ما بين طرفيه بأخبار ومعلومات وضعها بعضها إلى جانب بعض، بحيث يكون من كبير التجاوز أن نسمي هذا الوضع ترتيبا. وبالرغم من أنك تقرأ على غلاف الكتاب أنه «تاريخ آداب العرب»، فإنك تمر به من أوله إلى آخره ولا تكاد تقف على كلمة واحدة عن آداب العرب وتاريخها. تجد فيه كل شيء عن العرب إلا ما يخص أدبهم. وكأن أبا السامي خشي أن لا يجد عنده من مواد التأليف ما يكفي ليظهر كتابه في خمس أجزاء من «غرار الجزء الأول وحجمه»، فنفد منه الجزء الأول قبل أن يكتب كلمة واحدة في موضوعه، بل لقد كتب عن أشياء لا تتعلق قليلا ولا كثيرا بأدب العرب ولا بتاريخه. ويكفي الإنسان أن يراجع فهرست الكتاب ليعلم أن ما فيه لا يفيد مريد الوقوف على الآداب العربية شيئا مطلقا.
ولقد حسبت حين رأيت ذلك أنه وضع للفظ الأدب معنى خاصا به. وقوى هذا الظن عندي أن التعاريف التي جاء بها عن الأدب تشمل تحتها علوما متعددة. فهذه الكلمة تشمل - على حساب ابن الأنباري - «ثمانية علوم: النحو واللغة والتصريف والعروض والقوافي وصنعة الشعر، وأخبار العرب وأنسابهم. أما الزمخشري فجعل علوم الأدب اثني عشر.» والرافعي نفسه يعتقد «أن كتب الأدب هي على الحقيقة كتب العلوم التي مرت.» وبما أنه كان يكتب عن تاريخ الأدب، فقد حسب نفسه مكلفا بطرق أبواب كل هذه العلوم، وإيراد ما جاء عن العرب فيها.
ولو أنه سمى هذا الجزء من كتابه تاريخ اللغة العربية، لكان أدق في انتقاء عنوانه وأبعد عن أن يخدع القارئ، الذي يحسب نفسه سيجد في المجلد الضخم الذي يرى شيئا عن أدب العرب، فإذا هو يراه خلوا منه على الإطلاق، حاويا لمواضيع بعيدة في الغالب عنه، تتعلق بالنحو والصرف والفقه، ولا صلة بينها وبين الأدب. هذا خلاف قسم عظيم وضعه عن الرواية والرواة، يخيل للقارئ أنه يجد فيه شيئا عن الأدب، فإذا هو متعلق باللغة وبالفقه، ولا يفيد المطلع عليه عن أدب العرب شيئا.
هذه المواضيع التي كتب فيها الرافعي مفيدة في ذاتها، وتستحق البحث، وأن يتعمق فيها ويفتش عن دقائقها. لكن ذلك شيء وتاريخ أدب العرب شيء آخر. لا بأس لو أن الكاتب جاء بكل ما جاء به عن هذه العلوم في مقدمته للكتاب. لكنه لم يفعل. فلك أن تأخذ كل الجزء الذي ظهر دليلا على أن المؤلف ليست عنده فكرة من أدب أية أمة من الأمم.
خلط أبو السامي بين اللغة في ذاتها وبين أدب اللغة؛ فصار حين وضع كتابه كالذي أراد أن يكتب عن الآلات البخارية، فأطال في البحث عن الحديد وأصله وكيفية تكونه في طبقات الأرض، وكيف أمكن استخراجه، وكيف وصل الناس إلى الانتفاع به، وكيف تناقلوه. فهل هناك إنسان يفهم أبسط الفهم في الآلات البخارية يستطيع حين يقرأ هذا البحث أن يقول إنه موضوع عن الآلات البخارية؟ كذلك لا يستطيع إنسان يقرأ كتاب الرافعي أن يقول إنه مكتوب عن تاريخ أدب العرب.
هذا، وإذا نحن انتقلنا من هذه النقطة إلى غيرها، واعتبرنا الكتاب في ذاته بالنظر إلى المواد المجموعة فيه فماذا نرى؟
عنى الرافعي نفسه وبحث كثيرا في كتب العرب، وأراد أن يخرج من بحثه بنتيجة يفخر بأنها شيء جديد. أما المعلومات التي في الكتاب فكثيرة ومنها المفيد. لكن النتيجة العامة لا تفيد إلا الأقلين، وفي مواضيع ليست بذات أهمية كبيرة.
من الفصول الطيبة في ذاتها وإن لم يكن لها مساس بأدب اللغة الفصل الذي كتبه عن أصل اللغات. فقد أبان فيه عن فهم للأمور ووقوف على ملاحظات الكتاب والعلماء إلى حد يلذ القارئ ويفيده. وإذا كان هو نفسه يعترف بأن ما كتبه ظني أكثر منه علمي؛ فذلك لا ينقص من قيمته ولا من حسن تقديرنا له. فقوله مثلا (ص48): «من ثم قيل: إن الإنسان يستعمل الصوت للدلالة بعد أن استكمل علم الإشارة؛ ولذلك بقي الصوت محتاجا إليها احتياجا وراثيا، ثم ارتقى الإنسان في استعمال الأصوات بارتقاء حاجاته، وساعده على ذلك مرونة أوتار الصوت فيه، وبتجدد هذه الحاجات كثرت مخارج الأصوات، واتسع الإنسان في تصريف ألفاظه؛ فتهيأ له من المخارج ما لم يتهيأ لسائر الحيوان، يدل على عدم تقيده بآراء المتقدمين تقيدا يبلغ حد التعصب.»
Unknown page