Fi Awqat Firagh
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
Genres
وما أراني أغلو في شيء مما أقول. وبحسبك مقنعا أن تستمع في مجلس إلى قوم اختلفت معاهد العلم التي أنشأتهم. فإنك لن تجد بينهم أي معنى من معاني الاشتراك في الثقافة. بل ترى الشيخ الذي نشأ نشأة دينية لا يكاد يتفاهم مع من تعلم في معاهد الحكومة المدنية. وهذان لا يتصل واحد منهما بصلة التفاهم مع الذين أخذوا من الثقافة الغربية بحظ ونصيب؛ لذلك ترى هذه المجالس تخلو أكثر الوقت من كل حديث مثقف وتدور فيها الأحاديث حول تافه الأمور ومصالح الحياة. هذا على أنك ترى الأحاديث المثقفة أمرا عاديا في أوروبا في كل الطبقات. وترى الكلام في شئون الفن والأدب والعلم تتداوله الألسن على مائدة الطعام، وفي قاعات الاستقبال وفي كل مكان.
هذا التباين في الثقافة بين الفئات المختلفة في الشرق لا يجد حتى اليوم ما يخفف من حدته، بل إن تفشي الجهل في سواد الأمم الشرقية، وما يترتب على الجهل من ثورة نيران التعصب يجعل كل سعي للتقريب بين هذه الفئات يحاط من الريب والشكوك بما يجعل فشله محتوما أو في حكم المحتوم. كما أن هذه الفئات لم تبلغ ثقافة واحدة منها مكانا عليا ينبت من بينها الذين ينسون مصالح الحياة، ويتعلقون بالحق وحده ويجعلون سعيهم في سبيل هذا الحق كل غرضهم في الحياة وأملهم منها. ومصالح الحياة لن تصلح يوما أداة اتصال بين متباين هذه الثقافات للوصول بها إلى أن تتشابك فروعها، وتغزر مادتها وتتقارب ولو في أناة لتكون يوما ثقافة قومية لها من الحكم والسلطان ما لثقافة كل أمة من أمم الغرب.
لكن النقد الصالح يكون أداة هذا الاتصال. والنقد الصالح في هذا الموقف هو النقد الموضوعي البحت. هو النقد الذي يستطيع أن يسيغ كل ثقافة لذاتها، وأن يردها إلى أصولها وأن يبين ما في الآثار الفنية لكل مثقف من أوجه الجمال والقبح والحسن والسوء بالقياس إلى الثقافة التي صدر عنها، وأن يبين كذلك أوجه الاشتراك الصالحة بين هذا الأثر وبين ما سواه من آثار غير هذه الثقافة، وأن يجعل من أوجه الاشتراك هذه وسيلة لترسم المستقبل. فإذا أمكن أن يكون هذا النقد وأن يتجه إلى ناحية الكمال لينال منه أكبر حظ ممكن كان الأمل في تقارب هذه الثقافات في أناة ومن غير احتكاك. أما النقد الذاتي الذي يصدر عن ذي ثقافة معينة لكل آثار الفن والأدب، فقد يكون من أثره أن يزيد ما بين الفئات من تباين، وأن يبعد الأمل في وجود ثقافة عربية أو ثقافة مصرية.
وما أحسب أثرا أدبيا أو فنيا يخلو من جمال وحسن مهما تكن الثقافة التي يصدر عنها، كذلك لا أحسب أثرا من هذه الآثار خليقا بالمدح وحده. فإذا وضع الناقد نفسه في الموقف الذي وقف فيه الفنان، وتحرى الغاية التي قصد إليها والسبيل التي سلك لبلوغ هذه الغاية، فإنه واجد حتما أن هناك حظا من الحسن كبيرا أو صغيرا، كما أن هناك حظا من السوء كبيرا أو صغيرا في موقف الفنان وغايته وسبيله، وإذن فقد وجب عليه أن يبين هذا الحظ من الحسن والقبح، وأن يعالج صلة الحسن بما يراه من مثله في آثار الفن الأخرى ليضع حجرا في أساس الثقافة القومية.
أعلم أن هذا النوع من النقد يحتاج إلى مجهود كبير. لكنه كذلك جم الأثر. وهو وحده الصالح في رأيي لربط آثار الفن المختلفة وإقامة بناء قومي يكون أساس ثقافتنا في المستقبل.
وإن الناقد الغربي مثله حين يعرض لآثار الفن مثل الرجل يدخل في قصر مشيد ثابت الأركان مزين بالداخل والخارج قد جيء فيه بزينة جديدة، وضعت في مكان معين من إحدى الغرف، وهو يبدي رأيه في صلاح هذه الزينة وصلاح المكان الذي وضعت فيه، وهو على علم بالقصر وما اشتمل عليه. فلو أن نقده كان ذاتيا بحتا لم يعتمد فيه إلا على تقديره الخاص وحسه بالجمال، لكان عرضة للتحكم؛ لكنه تحكم نسبي؛ لأن علمه بالقصر وما اشتمل عليه يعدل به عن التورط في فاحش الخطأ، أما الناقد العربي فمثله حين يعرض لآثار الفن كمثل الرجل يذهب إلى أرض يراد تشييد بناء عليها من مواد كثيرة بعضها حاضر وبعضها غائب وهو مكلف الاختيار بين الصالح من المواد الحاضرة وبين ما يجب إحضاره؛ ليكون البناء متينا قويا ملائما للذين يتخذونه مقاما وسكنا. هذا الناقد العربي أدق من صاحبه الغربي مهمة وأشق عملا، وهو بعد لا يحظى بمثل مكانته ولا ينال مثل شرفه، وهو بعد منظور إليه من الفئات المختلفة المتباينة الثقافة بشيء غير قليل من الريبة، وقل أن يحظى من الجمهور بذلك العطف والإعجاب اللذين يحظى بهما ناقد الغرب. لكنه إذا رسم لنفسه غاية التقريب بين الفرق والتأليف بين مختلف منازعها وآرائها، وبيان الصالح وغير الصالح من آثارها، وشمله التوفيق بحظ يجعل عمله مثمرا، إذن فقد مهد السبيل إلى الثقافة القومية، ووضع حجر الأساس في المدينة الفاضلة التي لا تقوم على غير هذه الثقافة.
وما نحسب أحدا يخالفنا في ترتب هذا الأثر على النقد الموضوعي. وما نحسب كذلك أن ما ينفق في سبيل بلوغه من الجهد إلا ينفق في خير سبيل ولخير غاية. والجهد الذي يقتضيه النقد الموضوعي يحتاج من الناقد إلى الرضوخ لنوع ثقافة الكاتب الذي ينتقده وصلة ما بين الكاتب وهذه الثقافة، وموضعه منها وفضل الكاتب أو نقصه وصلته بآثار غيره من الكتاب وهلم جرا.
خذ مثلا كاتبا كمصطفى صادق الرافعي، فهو من الكتاب الذي يرون جمال الأدب العربي في احتذاء أساليب الأقدمين من الكتاب. وهو قد يغلو في تنفيذ فكرته إلى حد التوغل في الماضي والبحث عن آثار الأقدمين على نوع خاص من الأساليب يبدو لأهل هذا العصر في ثوب من التكلف، الذي لا يسيغه غير الملمين بهذه الآثار، ولا يرتاح إليه كثير من الملمين بها ومن يجدون بين الأساليب القديمة ما يتصل بأساليب عصرنا ويتسق وإياها على خير نحو كأسلوب صاحب الأغاني وكأسلوب ابن المقفع في كليلة ودمنة وفي غيره من كتبه. لكن الرافعي حتى عند هؤلاء وأولئك يجيد في بعض الأحايين، ويسمو بإجادته إلى درجة عالية في النوع الذي يعالجه من أنواع الفن، ويتفق له أحيانا من بديع صور الخيال ما يبعث إلى نفس قارئه هذا الأثر الذي يطمع فيه كل فن: الغبطة واللذة. فأنت إذا أردت نقده نقدا موضوعيا وجب أن تبين ما له من فضل، وأن تظهر كذلك أن هذا الأسلوب الذي يكتب به لا يسهل تحميله كل المعاني والصور التي كشف عنها تطور المدنية في هذا العصر.
ولكي تستطيع أن تصف الرافعي أو غيره من الكتاب يجب أن توازن بين أدبه وأدب غيره من مذهبه ومن المذاهب الأخرى. فأنت بهذه الموازنة تجعل القارئ مطمئنا تمام الاطمئنان لحكمك، وتجعل الكاتب الذي تنتقده بعيدا عن أن يطعن في نزاهتك.
واطمئنان القارئ لحكم الناقد عظيم الأثر في درك الغاية من النقد الموضوعي على ما بيناها. وهي غاية سامية على ما رأيت. وليس من غضاضة في أن يجعل إنسان من السعي إليها غاية حياته. •••
Unknown page