الكتاب الأول: في النقد
خواطر في النقد
أناتول فرانس (1)
أناتول فرانس (2)
أناتول فرانس (3)
أناتول فرانس (4)
أناتول فرانس (5)
أناتول فرانس (6)
بيير لوتي
قاسم أمين (1)
قاسم أمين (2)
ذكرى قاسم أمين1
توماس وودرو ولسن
أحمد لطفي السيد
محمد فريد وجدي
الدكتور طه حسين (1)
طه حسين (2)
حديث الشمس
مصطفى صادق الرافعي
جرجي زيدان
محمد السباعي
الكتاب الثاني: شئون مصرية
آثار وادي الملوك (1)
آثار وادي الملوك (2)
آثار وادي الملوك (3)
في حضرة الفراعنة
أبيس
سميراميس
خالد أو سبيل اليقين
انتقام من الجمود
تذكارات الطفولة (1)
تذكارات الطفولة (2)
ساعة واحدة
حديث شباب
الكتاب الثالث: خواطر في التاريخ والأدب
الأدب واللغة القديم والحديث (1)
الأدب واللغة القديم والحديث (2)
العرب والحضارة الإسلامية
الكتاب الأول: في النقد
خواطر في النقد
أناتول فرانس (1)
أناتول فرانس (2)
أناتول فرانس (3)
أناتول فرانس (4)
أناتول فرانس (5)
أناتول فرانس (6)
بيير لوتي
قاسم أمين (1)
قاسم أمين (2)
ذكرى قاسم أمين1
توماس وودرو ولسن
أحمد لطفي السيد
محمد فريد وجدي
الدكتور طه حسين (1)
طه حسين (2)
حديث الشمس
مصطفى صادق الرافعي
جرجي زيدان
محمد السباعي
الكتاب الثاني: شئون مصرية
آثار وادي الملوك (1)
آثار وادي الملوك (2)
آثار وادي الملوك (3)
في حضرة الفراعنة
أبيس
سميراميس
خالد أو سبيل اليقين
انتقام من الجمود
تذكارات الطفولة (1)
تذكارات الطفولة (2)
ساعة واحدة
حديث شباب
الكتاب الثالث: خواطر في التاريخ والأدب
الأدب واللغة القديم والحديث (1)
الأدب واللغة القديم والحديث (2)
العرب والحضارة الإسلامية
في أوقات الفراغ
في أوقات الفراغ
مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
تأليف
محمد حسين هيكل
إلى الأستاذ أحمد لطفي السيد مدير الجامعة المصرية
سيدي الأستاذ المحترم
لك الفضل الأول في تعليم من أسعدهم الحظ بالاستماع إليك أول شبابهم كيف يقضون أوقات فراغهم يفكرون فيما يعرض لهم من النظريات؛ بسبب عملهم وأثناء أحاديثهم ومطالعاتهم. وكنت أنا أحد هؤلاء. ولك كذلك الفضل في أن جعلت «الجريدة» ميدانا لما تسيله القلوب والعقول على الأقلام من ثمرات التفكير في أوقات الفراغ. وكنت أنا ممن أفادهم فضلك هذا بما نشرته في الجريدة أيام كنت أطلب العلم في مصر وفي أوروبا، وحين كنت محاميا. ولك فوق ما لك من الفضل ما يتركه عطفك الأبوي في نفس من عرفك من حب لك وتعلق بك؛ لذلك كان حقا علي وأنا أنشر بعضا من ثمرات أوقات فراغي التي نشر في الجريدة منها شيء غير قليل أن أتقدم بإهداء الكتاب إليك فذلك ما يجب لك.
محمد حسين هيكل
إلى القارئ
بقلم محمد حسين هيكل
هذه مجموعة رسائل نشر أكثرها في الصحف والمجلات وكلها ثمرات لأوقات فراغي. كتبت على أثر مطالعات أو مشاهدات في هذه الأوقات، وما أثارته هذه المطالعات من تفكير خاص.
ولقد رتبت في هذه المجموعة ترتيبا نظمت فيه الرسائل الخاصة بموضوع واحد، بعضها أثر بعض من غير مراعاة لتاريخ نشرها ولا للصحيفة التي نشرت فيها. فبدأت بالنقد وبما كتبته عن أناتول فرانس في السياسة، وفي الاستقلال وفي السفور، وفيه قسم لم ينشر. وتتلو ذلك رسالة عن بيير لوتي. ثم تتلو هذه عدة رسائل عن قاسم أمين، تعقبها رسائل عدة عن كتب نشرها جرجي زيدان ومصطفى صادق الرافعي والدكتور طه حسين ومحمد السباعي وغيرهم من رجال القلم. وهذا هو الكتاب الأول من المجموعة.
أما الكتاب الثاني فرسائل خاصة بمصر؛ كرسائل بيبان الملوك وخلاصة كتاب مستر كارتر عن قبر توت-عنخ-أمون. كما أن فيه قصصا وأحاديث كابيس وسميراميس وخالد وغيرها.
فأما الكتاب الثالث فرسائل متفرقة.
ولقد عنيت بأن لا أمس هذه الرسائل بتحوير إلا ما كان فيها من خطأ مطبعي أو بعض نبو في اللفظ عن المعنى المقصود، وذلك برغم ما في بعضها مما أشعر اليوم بأنه يحتاج إلى إعادة تحريره من جديد.
وإذا وفقت هذه المجموعة إلى أن تشغل من أوقات فراغ القارئ فترة غير مملولة كنت بذلك سعيدا.
الكتاب الأول
في النقد
خواطر في النقد
دفعني ملال الأرق ليلة إلى التنقل في قراءتي بين كتب مختلفة. فانتقلت من روسو، إلى الأغاني، إلى أناتول فرانس، إلى مصطفى صادق الرافعي، إلى حصاد الهشيم للمازني. وانقضت علي في هذه الحال ساعات كان كل شيء حولي فيها ساكنا ؛ لأنها كانت ساعات ليل أرخى فيها الظلام سدوله على الوجود وعكفت فيها الخلائق على نفسها لتستريح من نضال النهار؛ ولتجد في أحضان الكرى نعمة النسيان المطلق تستمد منه قوة تعود بها إلى نضال نهار جديد.
وكنت كلما مللت القراءة في كتاب وضعته إلى جانبي على المقعد الطويل وأطبقت أجفاني وحاولت تمليق النوم. فإذا استيأست منه تناولت كتابا آخر وقرأت فيه حتى الملال. فلما استطال بي الوقت جعلت أفكر في معركة النقد الأدبي التي حمي وطيسها أخيرا بين كتابنا، وانتقلت من ذلك إلى التفكير في النقد في فرنسا ومصر. وتواردت على أثر ذلك خواطر ثبت معها عندي أن الأخذ في مصر بقواعد النقد الأدبي المقررة في أوروبا فيه شيء من التعسف غير قليل. وأن الناقد في مصر يجب عليه أن يكون أوسع صدرا وأكثر مرونة من غير أن يكون لذلك أقل دقة، ومن غير أن يتهاون في الحق أو يتسامح فيما يجب للفن.
يفرق الكتاب في أوروبا بين النقد الذاتي والنقد الموضوعي. ويرى الأكثرون أن النقد الذاتي - الذي يصدر فيه صاحبه عن مجرد تقديره الخاص وحسه بالجمال، فيجعله مقياسا لكل ما يعرض له من ثمرات الفن - نقد غير جدير بالتقدير. ذلك أن الناقد مهما يكن من سمو الإدراك وحسن الذوق لا يستطيع أن يضع كل صور الجمال ومظاهره في مستوى واحد أمام نظره. وأنت إذا دخلت إلى متحف من المتاحف الجامعة لطرف فن التمثيل الحديث وجدت بين التماثيل الكثيرة التي يعبر بها نوابغ المثالين عن معنى خاص من معاني الجمال أوجه خلاف شتى. فهذا يرى جمال المرأة في الخصر النحيل والساق الدقيق، والنظرة الناطقة بمشاعر الحب كله. وذلك يراه في انسجام ميول الجسم انسجاما تتتبعه العين في طمأنينة كما يراه في النظرة البريئة الساذجة، وثالث يراه في رشاقة الأطراف، ورابع في بديع استدارة النواتئ. أتراك إذا كان حسك وذوقك ميالا لنوع خاص من هذه المعاني إلا مأخوذا به أكثر مما يأخذك إليه سواه؟ مع ذلك فهذه التماثيل كلها بدع من قطع الفن. فإذا أنت حكمت مندفعا وراء شعورك فقد تعرضت للغلو في مدح ما راقك، وتعرضت كذلك لإهمال ما سواه مما حكم له غيرك من الذاتيين بالتفوق المطلق.
ومهما يكن في هذا الاعتراض على النقد الذاتي من بعض الإسراف - لنسيان أصحابه أن أذواق الناقدين، إنما تتكون بعد ممارسة طويلة لمختلف صور الفن الذي يعرضون لنقده، ومعرفتهم أن الجمال لا يتقيد في الذهن المثقف بصورة مطلقة - فإن فيه كذلك جانبا من الحق غير قليل. فالذاتية في النقد داعية التحكم. والنقد قاض. وكل قاض تحكم معرض للخطأ. ومهما يقل عن فضائل المستبد العادل، فإن فيه إلى جانب فضله نقصا لا محيد له عنه؛ لأنه كمين في طبيعة الاستبداد. ذلك أنه إن أخطأ مرة لم يجد من يصده عن الخطأ، فأمعن فيه فتعرض لفساد كل مقاصده.
على أن النقد الموضوعي الذي يقصد إلى استعراض الأثر الفني من الوجهة التي أرادها الفنان قصد غاية معينة ليحكم بعد ذلك على مبلغ توفيق الفنان في اختيار غايته والوسائل التي سلكها لبلوغ هذه الغاية - لا يخلو من ذاتية النقد بمقدار قل أو كثر. فالناقد كما قلنا قاض. ومهما يتقيد القاضي بالوقائع والأدلة التي أمامه، فإن لنوع تعليمه ولإدراكه وحسه أثرا مباشرا في تقدير قيم هذه الوقائع والأدلة، والقاضي في أمور الفن أقرب للتأثر بالذاتية من القاضي في معاملات الناس؛ لأن الفن لا يرتبط بقوانين مرصودة النصوص كما ترتبط المعاملات، والفن لا يتقيد بقواعد مقررة عند السواد كما تتقيد الأخلاق، بل فيه مزية اللين والمرونة وله فضل الفيض والسيولة. لكنه مع لينه وفيضه ليس حرا إلى حد الفوضى، بل تمسكه الحياة بضروراتها وتخضعه لنواميسها الأزلية الخالدة التي تتحكم في كل مظاهر الحياة. وإذا كنا لم نصل بعد لكشف ضرورات الحياة ونواميسها جميعا في دقة وتحديد علميين فلن يعفينا ذلك من الارتباط بها في كل ما نعمل، والفن بعض ما نعمل.
لكن للنقد الموضوعي على النقد الذاتي فضل سعة الأفق ومزية العدل. فالناقد الموضوعي يعمل عمل القاضي السمح يسعى ليجيء تحت نظره عند النقد بالظروف الفنية وغير الفنية التي أحاطت بالفنان. ولا يتبرع برفض كل ما لا يلذه لذة خاصة، وكل ما لا يرى فائدته إلا بعد إيمان بأن ما كره لا يمكن أن يكون سائغا في الحياة؛ وليتكون هذا الإيمان في نفسه يجب أن يرد هذا النوع الذي ينقد إلى نظائره وأشباهه، ويرى هل لهذه النظائر والأشباه مثل في الحاضر. فإن لم يكن لها مثل في الحاضر رأى مثلها في الماضي، وما كان لهذا المثل من قيمة. ثم هو يستأني قبل أن يصدر حكمه ليرى أهذا المثل القديم قد قضت عليه الحياة قضاء أخيرا فلا سبيل إلى بعثه، أم إنه كانت له الشهرة زمنا ثم كسفه غيره وقد تعيده ظروف إلى الشهرة من جديد. وإذا كانت هذه الثانية هي الحال فهل هذه الشهرة متعلقة بشهوات الناس الأصيلة التي تبدو زمنا ثم تخبو ولكن لتبدو من جديد، أم هي من نوع أقوى حياة وأحرى بالبقاء بل بالخلود.
وقد يظهر فضل النقد الموضوعي على النقد الذاتي واضحا صريحا إذا دخل جماعة من النقاد متحفا كمتحف اللوفر بباريس أو كالمتحف البريطاني بلندره أو غيرهما من هذه المتاحف الكبيرة، التي تضم بين جدرانها آثار الفن في العصور والبلاد المختلفة. هذا الناقد الذاتي تراه إذا وقف أمام قطعة أعجب بها أخذته عن نفسه وملكت عليه لبه، ودفعته إلى أن ينكر ما لا سبيل لإنكاره من جمال الفن في غيرها إذا هو رأى بينهما خلافا أساسيا. أما الناقد الموضوعي فيرى لكل أثر جماله وإن اختلف عنده مقدار ما يخلعه جمال كل أثر على عصره، وعلى العصور الأخرى من نعمة الحياة التي يرجوها كل إنسان في آثار الفن.
وأكاد أحسبني لا أغلو إذا قلت: إن النقد الذاتي ليس نقدا وإنه إلى فن القصص أقرب. وهل تراه يزيد على وصف التأثرات الخاصة لشخص معين أمام مظهر من مظاهر الفن. فإذا كان هذا الشخص عاديا كان قصصه عاديا. وإن كان ممتازا كان قصصه ممتازا. لكنه على كل حال قصص وليس بنقد.
وقد يكون هذا الحكم الذي نصدره أصدق ما يكون على الأدب العربي في هذا العصر. فليس نقد لهذا الأدب جديرا باسم النقد وبالبقاء لمن بعدنا على أنه نقد، إلا ما كان من نوع النقد الموضوعي، وما كلف صاحبه من العناء ما يحتاج إليه النقد الموضوعي. فأما الأدب الغربي فقد يجمع نقده الذاتي بين القصص والنقد. وسبب هذا الفرق راجع إلى نوع الثقافة في الغرب والشرق من جهة، وإلى تاريخ الأدبين من الجهة الأخرى.
فثقافة الغرب قد تأصلت جذورها وتشابكت فروعها، وبلغت من الغزارة مبلغا عظيما. وهي بعد ترجع إلى أصول متشابكة على ما في ثمرها من مظاهر التناقض. ثم إن ما أطعمت به من ثقافات أجنبية قد جاءها على هون وفي أناة وجاءها على يد أبنائها، فتمثلته وأساغته وصار منها وسار في تيارها. ولما كان الأدب مظهرا من مظاهر الثقافة كان تيار الأدب الغربي في كل أمة مرآة لهذه الحياة الغزيرة. وكان كل كاتب وكل ناقد ينهل مع أصحابه من ورد مشترك، فيشارك بذلك غيره من الكتاب والأدباء في أكثر من ناحية من نواحي حسهم وذوقهم.
ولقد عنيت أمم الغرب فيما وضعت من قواعد التربية والتعليم بأن لا تجني على هذه الشركة القومية العقلية. ومع ما تراه من شدة نضال الطوائف ومن اختلاف منازع الأحزاب وتقاتل آرائهم، ومع شدة أوار هذه الحرب العقلية الدائمة الاستعار في الغرب يدرك أهل هذه الأمم تمام الإدراك أن الحزبية والمذهبية يجب أن تكون ثمرات للثقافة، وأن لا تكون أصلا من أصول الحياة. فكما أنك تبعث بأبناء الأمة يتلقون جميعا علوما معينة على طريقة معينة، وكما أن ذلك يظل شأنهم حتى يبلغوا الرشاد العقلي، ويومئذ يختار كل منهم ما يشعر بالميل إليه من أنواع العلوم؛ فينقطع واحد للحقوق وآخر للطب وآخر للهندسة وآخر للتعليم وهلم جرا، ثم يتخصص الطبيب بعد تمام دراسته لطب العيون أو للجراحة أو للطب الباطني، ويتخصص القانوني للمحاماة أو للقضاء أو للتشريع، ويتخصص المهندس للري أو للعمارة أو للكهرباء. فإذا تخصص كل من هؤلاء جاز أن تكون له نظريات جديدة في فنه يدعو إليها، ويطالب أمثاله بالأخذ بها. كذلك لا تكون الحزبية المذهبية في الأدب أو في السياسة إلا بعد الأخذ من تلك الثقافة الغزيرة المشتركة بنصيب وافر.
فالنضال الذي نرى واختلاف المذاهب والأحزاب في الغرب هو كاختلاف ألوان الزهر والثمر في الشجر. هذه الألوان لا يكون اختلافها آخذا بالنظر داعيا إلى التفضيل إذا كانت باهتة ذابلة؛ لأن الأشجار التي أثمرتها ضعيفة السوق ومادة الحياة. وإنما تأخذ بالنظر إذا كانت أمهاتها من الأشجار قوية مملوءة حياة، وكانت تستمد هذه الحياة والقوة من أرض خصبة التربة لا ينفك صاحبها يعمل ليزيدها خصبا وقوة.
وأنت إذا تحدثت هناك إلى مثقف من رجال الدين أو من رجال العلم أو الأدب، أو من رجال الفن، رأيت لأول وهلة الأصل الثابت من الثقافة العامة بادي الأثر عند هؤلاء الرجال جميعا. وهذه الثقافة هي - كما تقدم - متأصلة متشابكة غزيرة. وهي ترجع إلى أصول مشتركة تمثلت كل مطعوم وكل طارئ؛ لذلك صح لنا القول بأن النقد الذاتي لآثار الفن الأدبي في الغرب يجمع بين النقد والقصص؛ لأن آثار الفن ذاتها تصدر عن الثقافة العامة، وتقصد إلى الغاية التي جعلتها هذه الثقافة غايتها.
أما النقد الذاتي للأدب العربي فقصص صرف وليس في شيء من النقد؛ لأنك لا تستطيع - مع أكبر الأسف - أن تقول: إن ثمة في هذا العصر الحاضر ثقافة عربية غزيرة مشتركة الأصول. ولا تستطيع أن تزعم أن أدبنا العربي مظهر هذه الثقافة. فالبلاد التي تكتب العربية وتتكلمها في هذا الزمان الذي نحن فيه قائمة ثقافتها على أرض جرداء، فيها أكثر الأمر نبت مستقيم من مخلفات الماضي المجيد، ومجهودات تنفق لتطعيم هذا النبت السقيم بمظاهر مدنية الغرب الحاضرة. بل إن من الجهود ما ينفق ليطعم بمدنية الغرب غير فرع ولا شجر، ولكن ليلقى بها في هذه الأرض المكسو ظاهرها بالصدأ والمحمل باطنها بميراث الماضي، فلا يستطيع أن ينبت نباتا منقطع الصلة تمام الانقطاع بهذا الميراث . وتلك لعمري جهود ستبقى عقيمة حتى يجيء الزمن الذي يربط ما بينها وبين مدنية شرقية قائمة.
وما أراني أغلو في شيء مما أقول. وبحسبك مقنعا أن تستمع في مجلس إلى قوم اختلفت معاهد العلم التي أنشأتهم. فإنك لن تجد بينهم أي معنى من معاني الاشتراك في الثقافة. بل ترى الشيخ الذي نشأ نشأة دينية لا يكاد يتفاهم مع من تعلم في معاهد الحكومة المدنية. وهذان لا يتصل واحد منهما بصلة التفاهم مع الذين أخذوا من الثقافة الغربية بحظ ونصيب؛ لذلك ترى هذه المجالس تخلو أكثر الوقت من كل حديث مثقف وتدور فيها الأحاديث حول تافه الأمور ومصالح الحياة. هذا على أنك ترى الأحاديث المثقفة أمرا عاديا في أوروبا في كل الطبقات. وترى الكلام في شئون الفن والأدب والعلم تتداوله الألسن على مائدة الطعام، وفي قاعات الاستقبال وفي كل مكان.
هذا التباين في الثقافة بين الفئات المختلفة في الشرق لا يجد حتى اليوم ما يخفف من حدته، بل إن تفشي الجهل في سواد الأمم الشرقية، وما يترتب على الجهل من ثورة نيران التعصب يجعل كل سعي للتقريب بين هذه الفئات يحاط من الريب والشكوك بما يجعل فشله محتوما أو في حكم المحتوم. كما أن هذه الفئات لم تبلغ ثقافة واحدة منها مكانا عليا ينبت من بينها الذين ينسون مصالح الحياة، ويتعلقون بالحق وحده ويجعلون سعيهم في سبيل هذا الحق كل غرضهم في الحياة وأملهم منها. ومصالح الحياة لن تصلح يوما أداة اتصال بين متباين هذه الثقافات للوصول بها إلى أن تتشابك فروعها، وتغزر مادتها وتتقارب ولو في أناة لتكون يوما ثقافة قومية لها من الحكم والسلطان ما لثقافة كل أمة من أمم الغرب.
لكن النقد الصالح يكون أداة هذا الاتصال. والنقد الصالح في هذا الموقف هو النقد الموضوعي البحت. هو النقد الذي يستطيع أن يسيغ كل ثقافة لذاتها، وأن يردها إلى أصولها وأن يبين ما في الآثار الفنية لكل مثقف من أوجه الجمال والقبح والحسن والسوء بالقياس إلى الثقافة التي صدر عنها، وأن يبين كذلك أوجه الاشتراك الصالحة بين هذا الأثر وبين ما سواه من آثار غير هذه الثقافة، وأن يجعل من أوجه الاشتراك هذه وسيلة لترسم المستقبل. فإذا أمكن أن يكون هذا النقد وأن يتجه إلى ناحية الكمال لينال منه أكبر حظ ممكن كان الأمل في تقارب هذه الثقافات في أناة ومن غير احتكاك. أما النقد الذاتي الذي يصدر عن ذي ثقافة معينة لكل آثار الفن والأدب، فقد يكون من أثره أن يزيد ما بين الفئات من تباين، وأن يبعد الأمل في وجود ثقافة عربية أو ثقافة مصرية.
وما أحسب أثرا أدبيا أو فنيا يخلو من جمال وحسن مهما تكن الثقافة التي يصدر عنها، كذلك لا أحسب أثرا من هذه الآثار خليقا بالمدح وحده. فإذا وضع الناقد نفسه في الموقف الذي وقف فيه الفنان، وتحرى الغاية التي قصد إليها والسبيل التي سلك لبلوغ هذه الغاية، فإنه واجد حتما أن هناك حظا من الحسن كبيرا أو صغيرا، كما أن هناك حظا من السوء كبيرا أو صغيرا في موقف الفنان وغايته وسبيله، وإذن فقد وجب عليه أن يبين هذا الحظ من الحسن والقبح، وأن يعالج صلة الحسن بما يراه من مثله في آثار الفن الأخرى ليضع حجرا في أساس الثقافة القومية.
أعلم أن هذا النوع من النقد يحتاج إلى مجهود كبير. لكنه كذلك جم الأثر. وهو وحده الصالح في رأيي لربط آثار الفن المختلفة وإقامة بناء قومي يكون أساس ثقافتنا في المستقبل.
وإن الناقد الغربي مثله حين يعرض لآثار الفن مثل الرجل يدخل في قصر مشيد ثابت الأركان مزين بالداخل والخارج قد جيء فيه بزينة جديدة، وضعت في مكان معين من إحدى الغرف، وهو يبدي رأيه في صلاح هذه الزينة وصلاح المكان الذي وضعت فيه، وهو على علم بالقصر وما اشتمل عليه. فلو أن نقده كان ذاتيا بحتا لم يعتمد فيه إلا على تقديره الخاص وحسه بالجمال، لكان عرضة للتحكم؛ لكنه تحكم نسبي؛ لأن علمه بالقصر وما اشتمل عليه يعدل به عن التورط في فاحش الخطأ، أما الناقد العربي فمثله حين يعرض لآثار الفن كمثل الرجل يذهب إلى أرض يراد تشييد بناء عليها من مواد كثيرة بعضها حاضر وبعضها غائب وهو مكلف الاختيار بين الصالح من المواد الحاضرة وبين ما يجب إحضاره؛ ليكون البناء متينا قويا ملائما للذين يتخذونه مقاما وسكنا. هذا الناقد العربي أدق من صاحبه الغربي مهمة وأشق عملا، وهو بعد لا يحظى بمثل مكانته ولا ينال مثل شرفه، وهو بعد منظور إليه من الفئات المختلفة المتباينة الثقافة بشيء غير قليل من الريبة، وقل أن يحظى من الجمهور بذلك العطف والإعجاب اللذين يحظى بهما ناقد الغرب. لكنه إذا رسم لنفسه غاية التقريب بين الفرق والتأليف بين مختلف منازعها وآرائها، وبيان الصالح وغير الصالح من آثارها، وشمله التوفيق بحظ يجعل عمله مثمرا، إذن فقد مهد السبيل إلى الثقافة القومية، ووضع حجر الأساس في المدينة الفاضلة التي لا تقوم على غير هذه الثقافة.
وما نحسب أحدا يخالفنا في ترتب هذا الأثر على النقد الموضوعي. وما نحسب كذلك أن ما ينفق في سبيل بلوغه من الجهد إلا ينفق في خير سبيل ولخير غاية. والجهد الذي يقتضيه النقد الموضوعي يحتاج من الناقد إلى الرضوخ لنوع ثقافة الكاتب الذي ينتقده وصلة ما بين الكاتب وهذه الثقافة، وموضعه منها وفضل الكاتب أو نقصه وصلته بآثار غيره من الكتاب وهلم جرا.
خذ مثلا كاتبا كمصطفى صادق الرافعي، فهو من الكتاب الذي يرون جمال الأدب العربي في احتذاء أساليب الأقدمين من الكتاب. وهو قد يغلو في تنفيذ فكرته إلى حد التوغل في الماضي والبحث عن آثار الأقدمين على نوع خاص من الأساليب يبدو لأهل هذا العصر في ثوب من التكلف، الذي لا يسيغه غير الملمين بهذه الآثار، ولا يرتاح إليه كثير من الملمين بها ومن يجدون بين الأساليب القديمة ما يتصل بأساليب عصرنا ويتسق وإياها على خير نحو كأسلوب صاحب الأغاني وكأسلوب ابن المقفع في كليلة ودمنة وفي غيره من كتبه. لكن الرافعي حتى عند هؤلاء وأولئك يجيد في بعض الأحايين، ويسمو بإجادته إلى درجة عالية في النوع الذي يعالجه من أنواع الفن، ويتفق له أحيانا من بديع صور الخيال ما يبعث إلى نفس قارئه هذا الأثر الذي يطمع فيه كل فن: الغبطة واللذة. فأنت إذا أردت نقده نقدا موضوعيا وجب أن تبين ما له من فضل، وأن تظهر كذلك أن هذا الأسلوب الذي يكتب به لا يسهل تحميله كل المعاني والصور التي كشف عنها تطور المدنية في هذا العصر.
ولكي تستطيع أن تصف الرافعي أو غيره من الكتاب يجب أن توازن بين أدبه وأدب غيره من مذهبه ومن المذاهب الأخرى. فأنت بهذه الموازنة تجعل القارئ مطمئنا تمام الاطمئنان لحكمك، وتجعل الكاتب الذي تنتقده بعيدا عن أن يطعن في نزاهتك.
واطمئنان القارئ لحكم الناقد عظيم الأثر في درك الغاية من النقد الموضوعي على ما بيناها. وهي غاية سامية على ما رأيت. وليس من غضاضة في أن يجعل إنسان من السعي إليها غاية حياته. •••
هذه بعض خواطر في النقد وردت على الذهن في تلك الفترة من الليل دوناها كما وردت ولم نرد أن نضيف إليها شيئا، وهي لا تزيد على أنها خواطر. ولا نطلب إلى قارئها أن يجعل لها أكثر من هذه القيمة.
أناتول فرانس (1)
الاحتفال ببلوغه ثمانين عاما (في 16 أبريل سنة 1924)
احتفلت فرنسا أول من أمس بأناتول فرانس شيخ مشايخ كتابها في هذا العصر لبلوغه الثمانين عاما. وقد شارك فرنسا في احتفالها برجلها الكبير كل كتاب العالم المتمدين. فليس أناتول فرانس كاتب فرنسا وحدها، وهو ليس كاتب هذا الجيل وحده، إنما هو من كتاب العالم الذين تظل كتبهم للعالم في كل الأجيال وفي كل الأمم. هو هومير، وهو دانت، وهو شكسبير، وهو جيتي، وهو أناتول فرانس. هو الفكرة الإنسانية المجتمعة في نفس واحدة؛ لذلك كان الاحتفال به احتفالا بالفكرة. وإذا صح أن الفكرة هي الحياة في أسمى معانيها، فالاحتفال بأناتول فرانس احتفال بأسمى معاني الحياة.
ومن حق أناتول فرانس على المصريين أن يذكروه يوم الاحتفال ببلوغه الثمانين، فهو كاتب من كبار كتاب العالم. وللكاتب من المكانة في النفوس ما ليس لغيره؛ لأن الكاتب كغيره من رجال الفن - بل أكثر من غيره من رجال الفن - هو أداة انتقال الفكرة بين الناس جميعا؛ وهل كان لغير آثار الفن ومظاهر الفكر خلود على الحياة؟ إن العالم لا يزال يتناقل شعر الأقدمين وحديثهم وما كتبوا معجبا به مقدسا إياه، والعالم لا يزال يجد في آثار الفن مما خلف المصريون القدماء والرومان واليونان متاعا للقلوب والعيون. فالعالم لا يذكر سوى آثار الفن ومظاهر الفكر والفن على صفحات الحياة.
ومن حق أناتول فرانس على المصريين أن يذكروه يوم الاحتفال ببلوغه الثمانين. فقد عرف هذا الكاتب الحكيم ما أصاب مصر من ظلم، وما تتطلع إليه من حرية ومجد يوم كان الوفد المصري في باريس سنة 1919. فلما كتب مارجريت كتابه «صوت مصر» وضع أناتول فرانس له مقدمة شارك بها هذا الشعب المجيد الطامح إلى الحرية، وإلى المجد في آماله وفي طموحه.
وكنا نود أن نذكر أناتول فرانس وأن نشارك العالم في الاحتفال به بشرح فكرته وكتبه، لكن فكرة أناتول فرانس فكرة واسعة المدى، وكتبه من تلك الكتب الدقيقة التي تحتاج منك إلى عناية كبرى. لا يسعك أن تترك صفحة من صحفها من غير أن تلتفت إليها، وأن تشرك القارئ معك فيها. كل صفحة، بل كل سطر، كالماسة الدقيقة قد يفوتك جمالها لأول نظرة تلقي بها عليها، فإذا أنت قلبتها وأنعمت النظر فيها ثم عدت إليها لم تطق بعد ذلك تركها. ومثل هذه الصحف، ومثل تلك الكتب وما تحويه من فكرة وفن ليس مما يهون نقله في كلمة تكتب في صحيفة سيارة.
لكنا مع ذلك نود أن نشرك القارئ معنا في كل مجمل من بعض نواحي فكرته، علنا نكون قد أدينا للكاتب الكبير حقه من الذكر، ولشريك المصريين في آمالهم ومطامحهم بعض ما يجب له من الشكر. •••
أناتول فرانس كاتب، لكنه كاتب محيط بكل ما في الحياة، محب لكل ما في الحياة، ساخر من كل ما في الحياة. هو ليس بالرجل الذي يقف عند أحد مظاهر الحياة ليولع به حبا وينقطع لتقديسه والتسبيح بحمده. وإنما يقف أمام هذه المظاهر جميعا. سواء ما كان منها في الماضي وما هو واقع أمام النظر، وهو يرى في كل منها موضعا لمسرة النفس والعقل، فيبحث عن هذه المواضع يبتغي لنفسه المسرة واللذة، ويطول به البحث فلا يلبث أن يرى إلى جانب المواضع السامية مظاهر الضعف الإنساني فيبتسم، وقد يضحك. وهل الحياة إلا الاضطراب بين القوة والضعف، والرفعة والضعة، والسمو والانحطاط؟ وجوانب الضعف في الحياة هي التي تحبب الحياة إلى أكثر الناس، بل هي حياة أكثر الناس. وهي، على أنها جوانب ضعف في نظر العقل وحده، جوانب القوة في الحياة. أليست الشهوة في الإنسان ضعفا؟ شهوة الحكم وشهوة المال وشهوة المجد وبعد الصوت. لكن هذه هي التي تدفع الإنسان لكل النقائص، هي التي تبعث فيه القوة على الكفاح والسعي والنجاح في الحياة. أفتضحك أنت من سلطان الشهوة الذي يدفع في النفس الحياة، أم تضحك من حكمة العقل الذي يقف عاجزا أمام سلطان الشهوة مكتفيا بالسخر منها ...؟
يقف أناتول فرانس أمام مظاهر الحياة جميعا، ماضيها وحاضرها. وهل سبيل إلى الوقوف أمام مظاهر الماضي غير الكتب وسائر آثار الماضي؛ لذلك يحب أناتول فرانس الكتب؛ ولذلك يفرد لها من داره خير مكان؛ ولذلك يعنى بها عنايتك بابنك العزيز عليك، لا يضن عليها بمشقة. هو قد يعرف أن كتابا نفيسا في بلد سحيق، فلا يزال يسعى ليحصل عليه، ولو كلفه السعي الأسفار وأكثر من الأسفار، ويعدل حبه للكتب حبه لسائر الآثار، فالرسوم والنقوش والصور على أنواعها عزيزة عنده. وهذا الغرام يدفع به إلى الولع بالمجموعات العجيبة النادرة. وقد يدهشك ما تكلف هذه المجموعات من مشقة ونفقة. سافر «سلفستر بونار» بطل رواية أناتول فرانس المسماة بهذا الاسم إلى إيطاليا باحثا عن علبة من الكبريت عليها صورة قديمة تكمل مجموعة من مجاميعه، وعلب الكبريت وما عليها من نقوش ليست أعجب ولا أندر المجاميع.
وهذا العاشق للكتب يجد أكبر اللذة في التحدث إلى ما فيها ومن فيها، وإلى كتابها ومؤلفيها. كان من أول ما كتبه أناتول فرانس رسائل في نقد الكتب والكتاب مجموعة اليوم في أربعة أجزاء بعنوان «الحياة الأدبية». في هذه الرسائل القصيرة صورة من أناتول فرانس، فيها ترى الرجل المطمئن النفس والضمير، الدائم الابتسام، الجامع في ابتسامته بين الإشفاق والاستخفاف؛ وفيها ترى الرجل الذي استطلع صور الحياة في مختلف العصور ومختلف الأمم. ولعل أصدق صور حياة الأمم ما تتناقله من أساطير؛ لذلك يحب أناتول فرانس الأساطير ويلذه أن يرويها هازئا بما فيه من سخف الإنسانية التي لا تزال طفلة برغم ما مر بها من القرون، محبا لهذا السخف حبك لما يبدو من الطفل الصغير الذي تحبه لسخفه.
والحياة في نظر فرانس، الحياة الإنسانية على الأقل، أو قل الحياة كلها، ليست نظاما محكما يستطيع العقل تقرير أسسه وقواعده. إنما هو مجموع مضطرب دائم التجدد والانهيار، للمصادفة في تجدده وانهياره أثر كبير؛ لذلك لا تراه في كتبه روائيا، ولا شاعرا، ولا فيلسوفا، ولا قصصيا. بل تراه حكيما جمع بين الشعر والفلسفة والقصص والرواية، وألف بينها في نظام بديع كما يؤلف الصائغ بين مختلف الدرر المختلفة اللون والشكل فلا يكون من هذا الاختلاف إلا كمال النظام، ولا يكون من جمع فرانس بين صور الحياة المختلفة إلا ما يزيد المجموع حقيقة وحياة.
ولتكون حياته حية حقا؛ وليكون فيها كل ما في الحياة من معان وصور، ينزع هذا الكاتب الكبير في كل كتبه إلى الحوار. وهو يجمع المتحاورين من مختلف طبقات الجماعة على صورة عجب. فهو يجمع بين الفلاسفة والعلماء الذين ملوا الحياة، فكانوا لشدة ما ملوها أشد لها حبا، وأكثر بها تعلقا؛ والشبان الذين لا يزال الأمل في المثل الأسمى يغويهم بالمجازفات والمخاطر، فيجعلهم بمجازفتهم ومخاطرتهم أكثر استمتاعا بالحياة، وإن كانوا أكثر لها احتقارا؛ والعذارى البالغات في الطهر والبراءة حد السخف والتفاهة، والسيدات اللاتي اعتصرن لب الحياة من قلوب الرجال وعقولهم، فهن ينعمن به ويخلعن فتات نعيمهن متاعا للرجال. فإذا اجتمع هؤلاء ودار الحوار بينهم رأيت الإنسانية على حقيقتها، ورأيت العقل المحلق في سماوات التجريد يصل إلى حدود الوهم، ويحسب الوهم حقيقة وحسا، ورأيت العلم المحدق بالمجهر المستكشف بالأشعة الواقف عند حدود الملاحظة يزعم أنه كشف عن حقيقة كل شيء ونظامه، وهو بعد عاجز عن أن يكشف عن كثير من أقرب الأشياء لنا وأمسها بنا. ورأيت هذا العلم وذلك العقل يجدان في اندفاعات الشباب ما يبسم له العالم الفيلسوف. ورأيت في اندفاع الشباب وشهوته وحياته ما يضطرب له العلم والعقل فزعا. ثم كانت الابتسامة التافهة الطاهرة، وكانت النظرة النسائية المملوءة حبا للحياة وحرصا على خلودها ... وأنت بين هذه القوى المتدافعة تشعر بيد الكاتب المحسنة تنقلك من حديث إلى حديث، فإذا كل حديث حق وحكمة، وإذا العقل والعلم والشباب والحب كلها الحياة الدائمة الانهيار والتجدد في نظام لا يضطرب ولا يتعثر. وإذا هذا الحوار الذي جمع بين هذه المظاهر كلها هو صورة الكاتب الذي يرى الحياة من كل جوانبها ويحبها جميعا حب حنان ورحمة كما يحب الأب ابنه، وحب استمتاع ولذة كما يحب العاشق معشوقته. ثم إذا بك قد شغفت بهذا الحوار حبا أن صاغه أناتول فرانس حوارا مملوءا بالحياة والقوة؛ لكنها حياة مطمئنة وقوة هادئة؛ وهو مع حياته وقوته ينساب سلسا في أسلوب لا ينبو، وكأنه الماء الصافي ينم صفاؤه عن كل ما في الغدير من صور الحياة فيزيدها بهاء وجمالا.
وهذه الحكمة التي تجمع العقل والعلم والشباب والحب، وكل ما في الحياة من صورة ومعنى، والتي تدرك كل شيء وتعذر من كل شيء وتشفق على الضعيف إشفاقها على البائس وعلى الأثيم؛ لأنها ترى الإثم بؤسا وضعفا، وترى الضعف بؤسا وإثما؛ والتي تعجب من الحياة بكل صورة الحياة - هي أسمى مظاهر ما يسمونه التشكك واللاأدرية وما شئت من ألفاظ تقابل لفظ (السبتسسم) الفرنسي. وهل ترى في الحياة شيئا ثابتا تقف عند الإيمان به دون سواه؟ أليست الحياة تمور وتجدد وتغير؟ فأي صورة خير؟ أيهما أنعم حالا: هذا الرجل الغني المستمتع بسلطان الغنى وبجاه المال والقدير على أن يحسن ويسيء؛ أم هذا الرجل الفقير المنقطع إلى الله يريد أن يغفر الله له وهو لا يستطيع لنفسه ولا لغيره خيرا ولا شرا ولا يستطيع الإحسان ولا الإساءة؟ وأيهما أكثر بالحياة استمتاعا: هذا العالم الذي بحث أسرار الحياة ووقف من دقائقها على كثير؛ أم هذا الرجل الساذج المفتول الساعد الذي يسير بين الموجودات سيرة الحيوان القوى ويستمتع بها استمتاعه؟ وأيها أحب إليك: هذه المرأة الجميلة التي تجد في كل وقت من إعجاب المعجبين بها ما يملأ قلبها سرورا، وهي مع ذلك معنية بهم جميعا معطية نفسها للحاضر خشية ما في المستقبل من تجاعيد في الوجه ومن بياض في الشعر؟ أم هذه الأم المكبة على عملها في بيتها تنتظر من أولادها رجالا يكونون لها في المشيب شبابا وحين الضعف قوة؟ ... ثم أي الجماعات أسعد: أهي الجماعات القديمة الرحالة العائشة عيش البدو والبساطة؟ أم هي الجماعات المتمدينة المترفة الجامعة إلى جانب بؤس الفقراء ما تنعم الجماعة به من صور الفن والعلم؟
لكن هذه جميعا على ما بينها من تناقض هي صورة الحياة. وهي كلها قد اجتمعت عند أناتول فرانس فوسعتها نفسه فنفثها قلمه، معجبا بها محبا إياها جميعا.
وهو لا يقف عند محبته للحياة، بل هو يحب مظاهر الحياة، على أن تكون هذه المظاهر باقية متجددة. وليس باقيا على الحياة من مظاهرها إلا العلم والفن؛ وهو لذلك بهما مشغوف ولهما عاشق. وهو لشدة شغفه بهما يتمثلها تمثلا. فعلمه فن وفنه علم. اقرأ ما شئت من كتبه، إنك لن ترى فيما تقرأ خيالا ولا وهما. إنما تلك آثار الفكر الإنساني في مختلف العصور؛ وقف عليها فرانس لأن شغفه بالإنسانية جعل الأقاصيص والكتب وما إليها من آثار وصور عزيزة عليه فهو لا يفتأ ينقب فيها من غير ملال ولا ضجر. وهل يمل محب النظر إلى محبوبه؟ وهل يمل التغني بآثاره؟ وهل يمل الابتسام من ظريف سخفه وحمقه؟ إذن أنت إذ تقرأ ما يلذ لفرانس أن يكتبه من قصص الماضي إنما تجتلي ابتسامته الساخرة من غير سوء؛ وأنت تقرأ تاريخ الرومان في كتابه (على الحجر الأبيض) وتاريخ العصر الحاضر في أجزائه الأربعة وفي سائر كتبه، إنما تسمع أغاني هذا المحب الوامق للإنسانية الخالدة بنعيمها وبؤسها، وبجمالها المخيف وقبحها المليح.
لكنه في حبه للحياة يمقت من مظاهر الحياة القسوة والشقاء، ولا يرى في أولئك العظماء الذين يقيمون عظمتهم على الدماء إلا قتلة مجرمين؛ وهو لذلك يحب الاشتراكية لأنه يعتقدها محققة أكبر قسط من العدل، وإن كان يسخر من الإنسان ولو اشتراكيا؛ لأنه يعرفه خاضعا للشهوة، والشهوة لا تعرف العدل. هو يحب الاشتراكية ويمقت القسوة والشقاء والدم؛ ويرى في أبطال الثورة الفرنسية، أو آلهتها كما يسميهم، قوما غلبت أطماعهم مبادئهم فهدموا ركن العدل الذي سعوا لإقامته؛ لأنهم لجأوا للبطش والتنكيل بالحرية. وهل للحياة من غير الحرية معنى أو قيمة؟ أو ليس إذن من واجب كل فرد أن يقوم في وجه كل اعتداء على الحرية مهما كلفه قيامه من تضحية؟ ...
أعلنت ألمانيا الحرب سنة 1914 وكان فرانس يومئذ في السبعين من عمره، وكان في ذروة مجده وحكمته، مع ذلك هجر قصره ومجموعاته المحبوبة، وذهب إلى أصدقائه الوزراء يرجوهم، ويلح في الرجاء أن يكون جنديا يدافع عن الحرية المهانة، وكم كان أسفه عظيما حين اضطر إلى أن يعود إلى حياة السكون؛ لأن الجيش لا يقبل من بلغ السبعين في صفوف الجنود.
ولا يزال فرانس إلى اليوم أكبر نصير للحرية على مختلف صورها؛ ولا يزال نصيرا لحرية الفكر والرأي بنوع خاص. دافع عن هرفيه يوم حوكم؛ لأنه كتب يحبذ إحدى الجرائم. ودافع عن مؤلف (الجارسن) يوم استردت الجمهورية منه (اللجيون دونور). وهو في دفاعه يرى أن كل عمل وكل قانون يحد من حرية الرأي وإبدائه قانون أثيم.
فالحرية وحدها والدفاع عنها هو الذي يثير هذه النفس المطمئنة، وهو الذي يمحو عن شفاه أناتول فرانس ابتسامتها الدائمة. فأما ما بقيت الحرية مصونة فالحياة سخرية لذيذة تستحق أن تحب في سكون وسلام؛ فإذا كان آخر الأجل اطمأن الحكيم إلى الانتقال من هذا العالم راضي النفس هادئا مستريحا. •••
فلعل القدر الذي مد في أجل هذا الحكيم إلى الثمانين يضاعف له في سني الحياة. فليس شك في أن كتابا يكتبه في عام يعدل حياة كاملة تقضى في حماقة من الحماقات التي تنطوي صفحتها بانطواء صحيفة الحياة.
أناتول فرانس (2)
لمناسبة وفاته في 12 أكتوبر سنة 1924
ارتضى أناتول فرانس أن يموت أمس. ولسنا ندري مبلغ ما كان لرضاه من حظ في فاجعة موته. لكنه عودنا أن نقرأ عمن نقلتهم ريشته من عالم الحياة أنهم ارتضوا الموت، وأنهم كانوا بالموت أكثر رضا كلما كانوا من الحكمة أوفر حظا. فإذا صح هذا كان أناتول فرانس قد مات؛ لأنه أراد أن يموت، وكان قد طال احتضاره؛ لأنه لذ له أن يتذوق على مهل درجات الحياة ودركات الموت. وكذلك كان من فضل حكمته أن اتفق كتاب أجله مع ما أراد لنفسه.
ارتضى أناتول أن يموت في منتصف الحادية والثمانين من عمره، وأن يودع العالم ولما لم يمض نصف عام على احتفال العالم بثمانينه. فكأنه استنفد في ستة أشهر تاجا من المجد كان يكفي ليقيم حياة متهدمة سنين طوالا. أو كأن الاعتراف بفضله طمأنه إلى أداء واجبه للحياة فرأى من حق نفسه عليه أن يستريح من الحياة. أو ليس من حق من جهد نهاره أن ينام مطمئنا؟ فمن حق من جهد حياته أن يموت راضيا.
ولقد قضى أناتول فرانس حياة جد وعمل لم يفتر يوما ولم يخمد نشاطه؛ ولم يلهه المجد ولا الجاه ولا المال عن العمل. بل كان كلما علا نجمه زاد سعيه، وكان سعيه في دائرة العلم والفن. وتلك دائرة أزلية خالدة من زادها سعة أجلسته في عالم الخلد على أكثر عروشه سموا. ولعل العرش الذي قدر لأناتول فرانس أن يجلس عليه هو بين أسمى تلك العروش السامية. •••
ولد أناتول فرانس بباريس في 16 أبريل سنة 1844م. وكان اسمه جاك أناتول فرانسوا تيبو، وكان أبوه صاحب مكتبة؛ فشب بين الكتب والنقوش والصور فهويها جميعا. لكنه أحب القديم منها وتعشقه . فجعل يديم في هذا القديم النظر والفكر. فقرأ كتب اليونان والرومان ودرس كتب المسيحية أول نشأتها. لكن غرامه بهذه الصور لم يثنه عن درس عصره وعصور السابقين له. وكان أكثر دراسة للشعراء؛ لأنه كان مولعا بالشعر وبقوله. فكانت أولى رسائله رسالة عن ألفرد دفيني
Alfred de Vigny ، نشرها في سنة 1886م. ثم انقطع للقريض ينشره في مجلات الشباب حتى إذا كانت سنة 1883م نشر مجموعة من الشعر عنوانها
قابلها النقادون جميعا بالاستحسان، وأعجب الناس منها بسمو الفكرة ورشاقة الأسلوب وبروز ذاتية الشاعر.
ثم نشر بعد ذلك عدة كتب تناول فيها بدء المسيحية في انتشارها، ونالت هذه الكتب من الإعجاب ما نالته مجموعة شعره الأولى، حتى لقد قال عنه ناقد: «إن لأشعار فرانس صفاء سماء الشرق وبساطة فرجيل وسلاسة الأقدمين. ولكأنها حديث اللاتين سرى بين أبحاثنا في اللغة وفي الإلهام. وشعره ضاحك ضحك دافنيه، ويشتمله ما يشتملها من أردية الأقدمين التي تمتاز - وإن ألقيت على أكتاف شابة - بدقة في الثنايا وبرشاقة التماثيل.»
ولم يقف أناتول فرانس عند قرض الشعر، بل ظل بحكم نشأته بين الكتب في مكتبة أبيه مغرما بالكتب عظيم الشغف بها والمحبة لها. وكما يود المحب أن يقدم لمحبوبه أجمل الهدايا، كان هو يود أن يهدي الكتب ما يعجبها ويلذها. فشارك في وضع فهرس نشر تحت اسم
Bibliophil illustrè . ثم نشر لمحبي الكتب مؤلفات راسين وكتاب العفريت الأعرج للساج ومؤلفات موليير وغيرها من الكتب، بعد إذ علق عليها جميعا بشروح جليلة الفائدة.
وفي سنة 1887م تولى قسم النقد الأدبي في جريدة الطان. فلم يقف نقده عند ما كان يظهر من الكتب. بل كثيرا ما كان يتناول كتبا قديمة، وكثيرا ما رجع إلى شعراء الرومان واليونان وكتابهم يتحدث عنهم إلى قارئيه، ويتحدث وإياهم عن زمانهم ويشرك قارئيه معهم في الحديث. وكان حديثه يخلق من مقالاته في النقد «صالون» أدب، يأوي إليه الكتاب والفلاسفة قدماء ومحدثين.
ومن ذلك التاريخ بدأ أناتول فرانس يهجر الشعر ويظهر في ثوب جديد. وكان ثوبه هذا أكثر جمالا وبهاء من شعره، ومن ذلك التاريخ قيل عنه: «مهما يكن من فضله كشاعر فقد عقد له لواء المجد عن حق كمتحدث ذي ظرف وكياسة.» لبس ثوب المحدث في كتبه وفي قصصه وفي رواياته، وظل مرتديا إياه لم يخلعه إلا أمس حين عقل الموت قلمه ولسانه. •••
كان فرانس إذن باريسي المولد والنشأة. وكان في مكتبة أبيه يقلب ما يشاء من كتب ونقوش وصور. وباريس عالم يموج بكل صور الحياة؛ ماضيها وحاضرها. اجتمع فيها جلال القديم وبهاء الحديث؛ تتحدث إليك مدارسها ومتاحفها؛ تناجيك طرقها وبساتينها بكل ما قد يجول بنفسك من حديث أو نجوى. كل سؤال لك فيها له جواب. أتريد أن ترى الملك وعظمته؟ إذن فاقصد إلى فرساي فناج هذه التماثيل المنتشرة في كل مكان محدثة عن جلال الملك وسلطانه. أتحب الديمقراطية والجمهورية؟ هذه الحياة هناك فيها كل مظاهر الديمقراطية من حرية ونشاط. وكل مظهر للملك وكل أثر للحرية تجد منه ما تحب في هذه المدينة. والكتب عالم أوسع من باريس وأطول من الحياة. أليس قد اجتمع في صحفها ميراث الماضي جميعا! هذا الماضي الذي لا نعرف أوله وكلما كشفنا منه عن جديد أودعناه بطون الكتب. فكيف يكون حال رجل نشأ في هذين العالمين - باريس والكتب - إذا كان القدر قد وهبه نفسا تتسع لهما وتفيض عنهما، ووهبه قلبا شاعرا يحبهما ويشغف بكل ما فيهما.
تلك كانت حال فرانس. أحب ما في باريس وما في الكتب من حياة الماضي والحاضر؛ وكان حبه لهذه الحياة أول شبابه قويا ينبض به قلبه. لكن قلبه كان رفيقا وإن نبض؛ لأن قلبه كان في حكم عقله وتحت سلطانه. فلما آن للشاعر أن يضع قيثارته ليترك المكان للمحدث الكيس الظريف كان حب فرانس قد شمل الحياة جميعا. والحب إذا اتسعت دائرته كان لطيفا رقيقا؛ كان حبا يزنه العقل ولا تلهبه الشهوة؛ كان حب الأب لأبنائه الكثيرين لا حب الأم لطفلها الوحيد: هذا الأب الذي يبتسم مغتبطا لابنه المجد، ويبتسم مسرورا لابنه الثاني حاضر البديهة، ويبتسم فرحا بالطفل الصغير يتعثر حين يجري يريد أن يمسك فراشة أمامه. لا تلك الأم التي تخاف على صحة ابنها إن جد، وتخاف عليه الحسد إن بدا ذكاؤه، وتخشى عليه الخطر إذا تعثر. وهل كان لفرانس أن يرى في الحياة خيرا أو شرا؟! وما حكمة الحكيم إذا ظل يخضع للشهوة خضوع الجاهل لها؟!
كانت حكمة فرانس إذن باسمة؛ لأنها كانت محيطة بحياة العالم بل بحياة العوالم؛ وكانت ترى في كل شيء عذره؛ وكانت لا تعرف شيئين متناقضين: أليس الخير والشر جميعهما أعمالا لبني الإنسان؟ وهل بينها من فرق إلا ما بين الزيتون الأخضر والزيتون الأسود من فرق في اللون على تقاربهما في الطعم؟ لكن الخير يجب أن يكون، والشر يجب أن يكون، كما يكون الوجود والعدم والماضي والمستقبل. ويجب أن لا يعرف الناس أن الوجود والعدم لا فرق بينهما؛ وأن الماضي والمستقبل لا وجود لهما. بل فليعرفوا فلن تغني عنهم معرفتهم شيئا.
على أن هذه الحكمة الباسمة إلى حد السخر بما في الحياة لم تدفع صاحبها يوما إلى التخلي عن الحياة والزهد في الناس. بل لقد كان فرانس يحب الإنسانية حبا جما. وكانت قاعدة الحياة عنده العبث بالناس والإشفاق عليهم. لكن عبثه بهم كان بريئا وإشفاقه عليهم كان عظيما. نكبت روسيا بالمجاعة بعد قيام الحكومة البلشفية فيها، وأعطي فرانس جائزة نوبل وقدرها اثنا عشر ألف جنيه فوهبها لمنكوبي المجاعة من الروس. وكثيرا ما دعاه إشفاقه على طبقات العمال والبؤساء إلى أن يحتمل من أجلهم مشقة وعنتا.
لم يتخل فرانس عن الحياة ولم يزهد العمل، ولقد يدهشك أن تعرف أنه كتب أكثر من خمسين كتابا كلها حكمة بالغة. وقد يزيدك دهشة أن تعرف أنه لم يخط في هذه الكتب سطرا من غير أن يزنه أحكم الوزن ومن غير أن يختار له أسلس اللفظ وأفصحه وأمتنه. ذلك بأنه كان يرى النبوغ نتيجة جد وسعي متواصل لتنمية هبة تخلعها الطبيعة على مختاريها. فأما الذين يكتفون مما تهبهم الطبيعة ببريقه فأولئك لا ينبغون ولا يعرف الناس لهم قدرا. •••
واليوم ارتضى أناتول فرانس أن يموت بعد إذ خلف للإنسانية ميراثا يبقى جديدا على كل زمان جديد. واليوم ينتقل فرانس من بين ذويه وأهله ليبقى خالدا بين الناس جميعا. واليوم تتبادل عوالم العلم والفن والأدب والحكمة التعازي فيعزيها: إن فرانس خلدت حكمته، ومن خلدت حكمته لا يموت.
أناتول فرانس (3)
أشهر مؤلفاته
قل بين القراء من لا يعرف تاييس، فكثيرون من رأوها في الأوبرا تمثلها السيدة منيرة المهدية، أو على الشريط السينمائي، وكان أولاء قد أحبوها، لكن الذين عرفوا تايييس في قصة أناتول فرانس أكثر لصاحبتهم حبا، وإن كانوا أقل من السابقين عددا.
وهؤلاء دفعهم حبهم فرأوا تاييس الأوبرا وتاييس السينما، وعشقوا موسيقى الرواية وصورة بطلة الشريط، لكن هذا العشق لم يزدهم غراما بالراقصة القديسة؛ لأن قصة أناتول فرانس تشمل الموسيقى وتشمل الصورة جميعا، فليست نبرة من النبرات ولا جواب ولا قرار يهز نفسك عند سماع أوركسترا تاييس إلا كان له مقابله من هزات النفس أثناء قراءة القصة. فأما صورة الشريط فلا تعدو أن تكون خيالا للحقيقة التي يصورها فرانس. وأنت إلى جانب الموسيقى والصورة مغمور خلال القصة بعالم بديع تخلقه ريشة الكاتب العظيم، فلا تلبث في انتقالك من صفحة إلى صفحة ومن حديث إلى حديث أن تشعر بلذائذ مختلفة تتمتع بها مشاعرك جميعا: يتغذى بها عقلك، وتسر لها نفسك، ويطرب لها فؤادك، ويبتهج بها قلبك، وتنتعش بها عواطفك، ولا يبقى عصب من أعصاب الحس إلا ينال من الاستمتاع نصيبا يذره مطمئنا في نشوته ناعما رضيا.
مع ذلك فتاييس قصة ليس أبسط منها، هي خلو من الوقائع ومن المفاجآت ومن الاضطراب، وهي قد تبدو للنظرة العجلى لهو خيال ظريف يلذه أن يبهرك، لكنها لدى إنعام النظر قصة صادقة قوية فيها كل ما في العالم من سخر الحب والألم بالناس. •••
فقد ولد بفنوس بالإسكندرية من أسرة ذات نبل، لكن أهله لم يكونوا يمدونه من المال بما يسد مطامع لذائذ الحياة عنده، فلما كان في العشرين من سنه لقيه راهب دله على طريق الهدى الذي يؤدي إلى لذة الخلد من غير حاجة إلى المال، فنسك وانقطع إلى العبادة في الصحراء بين المتقشفة والمعتزلة، ولم يطل به الزمن حتى صار قديسا بين الرهبان، وصار له تلاميذ وأتباع يأخذون عنه قواعد التقى والإيمان.
وقضى نسكه أن يذكر ماضي شبابه ليقدر شوهه وقبحه، فذكر يوما أنه رأى في ذلك الحين على مسارح الإسكندرية ممثلة تدعى تاييس بارعة الجمال، يثير رقصها البديع شهوات النفوس، وتدفع حركاتها الموسيقية الأرواح إلى الضياع في حمأة الملذات، وذكر أنه اندفع يوما إلى دارها فلم يرده إلا حياء الشباب وضيق ذات اليد، وأثارت هذه الذكرى في نفسه صورة الراقصة ودقائق جمالها الباهر، فاستغفر ربه من نزغ الشيطان واعتزم خلاص هذه الروح من الخطايا لتخلص معها أرواح كثيرة؛ وليكون هذا الجسم الذي أبدعه الله مثلا للجمال دار روح لا يقل عنه جمالا.
ولم يثنه عن عزمه نصح أخ له ذي فضل وتقى، بل ودع تلاميذه وأتباعه وهجر الصحراء، وسار في طريقه إلى الإسكندرية يدعو كل من لقيه إلى حمى الله، ويدعو الله غير وان أن ينزل على تاييس هداه، ولما بلغ المدينة استعار من صديقه القديم نسياس ثوبا ستر به ملابس الراهب، وذهب إلى المسرح فرأى تاييس اكتملت فيها روح المرأة فازدادت بهاء وسحرا، ثم دلف إلى دارها يدعوها إلى حمى الغفور الرحيم.
ولم يجد الراهب عنتا في بلوغ غايته؛ فقد ولدت تاييس في عائلة فقيرة، ونشأت نشأة دينية، وأحبت في طفولتها ألوانا من التقى، وحين ألقى بها الشباب في يم الحياة أحبت فتى عريض الجاه عظيم الثروة أذاقها لذائذ العصر طرا، فلما أترعت كرهته فهجرته فذهبت إلى المسارح راقصة بين الراقصات، فبرزت عليهن بفتنة جمالها ورشيق قدها ولين حركاتها، فسحرت الناس وصارت تاييس الإسكندرية يرتمي عند أقدامها كل عظيم، وينثر تحت نعالها الذهب والجوهر. ثم سئمت هذه اللذائذ المضنية حين خشيت أن ترتسم تجاعيد الزمن على جبينها النقي، فلما ناداها الراهب إلى حمى ربه عاودها رجع من تقى الشباب، فلم يطل ترددها وتبعته حتى بلغ بها دير الأم «البين»، فأسلمها إليها وسجنها في غرفة ضيقة لتطهر نفسها من رجس العالم، ولينسي جسمها لمس الأيدي ومس الشفاه وحرارة الأنفاس ورعشة القبلات.
وعاد بفنوس إلى تلاميذه في الصحراء؛ لكنه عاد عامر النفس بتاييس، فكان لا يذكر غيرها ولا يقترن بعبادته إلا كمال جمالها. فاستغفر ربه واستعان على الشياطين بكل ما في الدين من عون ومدد، ولم ينجه الدين من نزغ الشياطين فترك صومعته وهام، فوجد في الصحراء عمادا رفيعا منفردا، اعتلاه كي يتعرض جسمه للتلف بنار الشمس وزمهرير الشتاء ومياه الأمطار، لعل نفسه تصلح بتلف جسمه. لكن خيال تاييس لم يفارقه، فتولاه اليأس ونزل من عليائه وعاد لهيامه فصادف قبرا خربا فاتخذه ملجأ وسكنا، لكن خيال تاييس لم يفارقه داخل القبر أيضا. وإنه لكذلك إذ مر به رهبان عرف منهم أن آية من السماء دلت كل ناسك على أن أنطوان رئيس متدينة الصحراء قد آن له أن يلقى ربه، وأن النساك جميعا قد هرعوا إليه كي يباركهم قبل موته. فسار بفنوس معهم وقد ملأ الهم نفسه أن تجافت آية السماء عنه، فلما كان عند أنطوان تضرع إليه أن يباركه وأن يستغفر الله له، فاستدنى أنطوان بولس الساذج ليتكلم، وانفتحت السماء أمام الساذج فرأى من أمر ربه أن تاييس توشك أن تموت يحفها الإيمان والخوف والحب، وأن بفنوس سيبقى يعذبه الغرور واللذة والشك، وأعلن ما رأى، فانطلق بفنوس وقد انقلب شكه يقينا وإيمانه كفرا، وجعل يلعن السماء والآلهة، وأسرع يطلب تاييس في بيت «البين» يريد أن يضمها إلى صدره، ويستمتع وإياها بالحب ولذته، ويدفع إليها من حياته حياة تمد في أجلها وتغفر له ما أذنب في هدايتها. وألفاها في النزع تستقبل فجر صباح الأبد وترى الملائكة والقديسين، فناداها ألا تذعن للمنون وأن تبقى لتحب، فلا حق في الحياة إلا الحب. لكن تاييس ارتضت الموت بعدما استنفدت الحياة، وتركت هذا البائس المسكين يلقى من «البين» ومن عذاراها لعنة لم تزعجه بعدما كفر.
هذه قصة تاييس ، وهي تبدو لهو خيال ظريف يلذه أن يبهرك؛ فكيف ينقلب الناسك القديس كافرا والراقصة البغي تقية بتولا؟!
والحق أن الخرافة القديمة التي بعثها أناتول فرانس في هذه القصة لم تشر إلى شيء من صبا بفنوس وميله لتاييس، ولم تنته بفنوس إلى الإلحاد وإلى حب تاييس، وإنما ذكرت أن تاييس كانت فتنة الإسكندرية حتى بلغ من غيرة محبيها أن كانوا يقتتلون عند بابها، فكان هذا الباب ملطخا أبدا بالدماء. وذهب بفنوس عندها، فلما دعته إليها طلب غرفة بعيدة عن الأنظار، وكانت كلما دخلت به إلى غرفة كرر طلبه، فلما كانت آخر الغرف قالت له: إن كنت تريد البعد عن الناس فهذه غرفة لا يسمع أحد لك فيها ركزا؛ لكنك غير ناج من عين الله وإن حاولت. فلما علم أنها تؤمن بالله وباليوم الآخر وتخاف عقاب الله وترجو ثوابه دعاها للنسك، فقبلت بعد شيء من التردد، وظلت ثلاث سنين رهن محبس ضيق تعذب جسمها لتطهر روحها، فلما انتهت تلك السنون باركها بفنوس وأصبحت قديسة يقام لها عيد في ثامن أكتوبر من كل سنة، وظل بفنوس في الصحراء يفوح منه شذا القداسة، ويجتمع حوله المؤمنون.
لكن أناتول فرانس لم يرض أن يصدق هذه الرواية؛ فقد ذكر تاريخ القديس بفنوس أنه وقف بمجمع تير سنة 335 لميلاد السيد المسيح في وجه القائلين بضرورة انفصال الراهب عن زوجه لما في ذلك من مقاومة الطبيعة ومخالفة ما يفرضه الزواج لكل من الزوجين. فبفنوس إذن كان يؤمن بأن للطبيعة سلطانا لا يقاوم. وهل سلطان أقوى من سلطان الزهرة؟! ولما كان لكل خرافة في التاريخ أساس، فلا بد أن يكون للخرافة التي اتشحت باسمي تاييس وبفنوس أصل هو الذي صوره لنا أناتول فرانس.
ولم لا تنقلب البغي قديسة بتولا؟ ألم تسكب المجدلية دمع التوبة عند أقدام السيد المسيح فطهرت من الرجس، وصار مقامها في السماء بين المقربين؟ وإذا كان للبغي أن تنقلب بتولا فللقديس أن ينقلب ملحدا؛ وكما فتح الحب للمجدلية باب التوبة فقد فتح لبفنوس باب الخطيئة؛ ولو أن بفنوس أخطأ قبل أن يحب لصهره الحب وطهره كما صهر تاييس وطهرها، لكنه طهر قبل أن يحب فاستحال حبه خطيئة كما تحيل النار الماس فحما. ذلك سلطان الطبيعة وتلك سنتها، لن ينجو منه أحد ولو كان راهبا.
ليست تاييس إذن لهو خيال ظريف يلذه أن يبهرك، وإنما هي صورة صادقة من صور الحياة، وهي أكثر صدقا أن تمت بالإسكندرية في القرن الرابع المسيحي حين كانت مدرسة الإسكندرية زاهرة، وكانت آراء الفلسفة من زهد أو إباحة تشتبك مع طقوس الدين وألوان الإيمان اشتباكا رفيقا لا عنف فيه ولا جفاء، وكانت أبيقورية الترف واللذة الفاشية في المدينة لا يؤذيها انتشار المتقشفة والرواقيين في الصحراء. فلا عجب وهذه هي الحال أن جذب جمال الإيمان بغيا، أو استغوت نعمة المدن ناسكا.
لكن أناتول فرانس لم يكفه أن لا تكون قصته عجبا، فجعل بغيه التي نسكت متدينة بدء حياتها، وجعل ناسكه الذي بغى مترفا بدء حياته، ثم نقل الشباب كلا منهما إلى نقيض نشأته. فلما آن للحياة أن تنحدر إلى منبت الطفولة عاد كل منهما إلى عهده الأول؛ فبغى الناسك، ونسكت البغي.
وقصة تاييس هي قصة هذا الانتقال الأخير. وقد وصف أناتول فرانس في هذه القصة حياة ذلك العصر أدق الوصف، فرسم الصحراء ومن فيها من المعتزلة، وما فيها من أكواخهم المنشورة على الرمال، وما يعالجونه من طقوس العبادة وأنواع التقشف، ورسم بذلك صورة المؤمنين بالدين أول نشأته: يغلون فيه إلى غير حد، ويقومون بفرائضه على صورة لم يتوهمها صاحب الدين يوم أعلنه للناس. ورسم الإسكندرية وما فيها من ترف وما تصبو إليه نفوس أهلها من لذائذ، وما يدور في مجالس فلاسفتها من حديث. لكنه فيما صور من ذلك كله كان أناتول فرانس في أسلوبه وفي تفكيره، وفي ابتسامته وفي سخره وفي إشفاقه، فلست تنسى لحظة وأنت تقرأ القصة أنك تقرأ أناتول فرانس؛ ذلك بأن الكاتب خيل هذا العالم القديم أمامه بما شاء بحثه وعلمه، ثم نظمه كما يريد، ونقشته ريشته بعد أن تم نظامه، فبرزت تاييس للقارئ صورة من نفس فرانس ومن العالم القديم مطبوعا فيها. •••
ولعل أقل صور أشخاص القصة وضوحا صورة تاييس، فأنت لا تستطيع أن تعرف عنها أكثر من أنها راقصة بارعة الجمال، فتنت الإسكندرية، فلما خافت تجاعيد الزمن ودعاها بفنوس إلى الهدى لبت دعوته، لكنك لن تجد في القصة كلها شيئا يميز تاييس عن كل راقصة جميلة. فمن أي نوع كان جمالها؟ وأي نفس كانت تختفي تحت هذا الجمال؟ وما ميول هذه النفس وما طبيعتها؟ وما عسى أن تكون الخواطر المبهمة التي تمر بها؟ ذلك شيء لا يحدثك فرانس عنه، وذلك ضعف تجده في كل تآليفه؛ فبطلاته الجميلات نسوة لا ذاتية لهن. ولعل سبب هذا الضعف أن نفس فرانس كانت أقوى من أن تتمثل نفس امرأة كملت فيها حياة المرأة. وهذه «تريز» بطلة الزنبقة الحمراء، وهي مثال المرأة في نظر الكاتب الكبير، لا تزيد صورتها على صورة تاييس وضوحا. أو لعل سبب الضعف ما يسبغه فرانس على هاتيك البطلات من ثوب حكمته، وما يجريه بين شفاههن من حديث لا عهد لامرأة به من عهد حواء! ... أم إن تشابه صور النساء في كتب فرانس لم يكن ضعفا، وإنما كان مرجعه عقيدة فرانس في المرأة؛ فهو لم يكن يراها خاضعة لحكم العقل ولما يدعو إليه من تردد واضطراب يؤدي إلى اختلاف نفوس الرجال في الصور والألوان والمشارب، بل كان يراها تسير في الحياة متأثرة بهدي الفطرة وشهواتها السليمة غير خاضعة لتمويه الفكرة البديع الألوان. وهو لذلك لم يكن يرى موضعا للتفرقة بين صور نفوس نسائه، فهن عنده سواسية في السمو فوق مدارك الفكر، وفي الانحدار مع ميل الهوى. وتاييس الراقصة، وتريز زوج الوزير، وألودي أخت المصور، وكاترين بائعة الدنتلا، وملاني خادمة البيت، جميعا سواء؛ يختلفن في المظهر، لكنهن يلتقين عند دوافع شهوات الفطرة. ولم تقصر ريشة فرانس في رسم اختلاف المظهر وتباين الميول الاجتماعية رسما صادقا دقيقا. فأما وصفه لنفس أية من نسوة كتبه فيصدق عليهن جميعا؛ فكل امرأة تهوى في الرجال محبتهم إياها وإعجابهم بها، وتحرص من حياتها على ما يجلب هذا الإعجاب وتلك المحبة، وتعجب من الرجل الذي يحبها وتقسو في محبته قسوة الشحيح على ماله.
وهل بين النسوة امرأة مهما تبلغ من الطهر، ومهما تكن زوجا وأما، تتوهم ذبول جمالها في غير الصورة التي رسمها أناتول فرانس لتاييس وقد عادت يوما من المسرح إلى منزلها الغني المترف، فجلست في «كهف العذارى» تبتغي الراحة من عناء رقص بالغت في إتقانه، فأحيت به ما مر بخاطر كل مصور وكل رسام وكل شاعر من بديع الخيال، «ثم استشفت في مرآتها نذر انحدار جمالها، وفكرت في فزع أن اقترب حين الشعر الأبيض وتجاعيد الوجه، وعبثا حاولت تسكين روعها بما حدثت به نفسها من أن إحراق بعض الأعشاب والنطق ببعض تعاويذ السحر يكفيان لإعادة نضارة اللون، فإن صوتا لا أثر للرحمة فيه صاح بها: «إن الهرم مدركك يا تاييس لا محالة.» وأثلج جبينها عرق الفزع، لكنها عادت فنظرت إلى نفسها في المرآة نظرة كلها العطف، فألفت نفسها لا تزال جميلة بأن تحب. فابتسمت لصورتها وتمتمت: ليس في الإسكندرية امرأة تستطيع أن تنافسني في ميس القد وخفة الحركات وبهاء الأذرع؛ والأذرع أي مرآتي هي سلاسل الحب حقا.»
قد تختلف عبارة كل امرأة حين تعرب عن هذا الإحساس، لكنه يمر بنفوسهن جميعا على هذه الصورة يختلط فيه الخوف بالرجاء والضعف بالقوة، وتتأثر فيه أعصابهن وعواطفهن بأثر واحد. ذلك ما يؤمن به فرانس؛ ولذلك لا يكون تشابه نسائه ضعفا، بل يكون كمالا لصدقه في تصوير الطبيعة النسوية. •••
فأما صورة بفنوس في قصة تاييس فبالغة حد الكمال في وضوحها. وهل قصة تاييس إلا صورة بفنوس، وهي صورة المؤمن العبوس الإيمان. وهي لذلك النقيض من صورة أناتول فرانس اللاأدري المتشكك الباسم في لاأدريته وتشككه، الساخر من اللاأدرية والإيمان جميعا، الضاحك للحياة ومما في الحياة ضحكة تشوبها مرارة الهزء بكل شيء، والإشفاق على كل شيء. ولعل أناتول فرانس قد انتقم في تصوير بفنوس للشك من الإيمان كما انتقم في تصوير نسياس للإيمان من الشك، وإن كان انتقامه من الإيمان قاسيا، وانتقامه من الشك لطيفا رفيقا.
فقد اعتزل بفنوس الحياة وانقطع لله فأزمعت الحياة انتقامها من احتقاره إياها، فسلطت عليه الزهرة آلهة الجمال والحب وألبستها صورة تاييس ومكنت لها من نفسه، وأقامت عليه الآلهة حربا بدأتها بالخدعة، فظلت به حتى قادته إلى المسرح ثم وقفته في حضرة تاييس، وهي فيما فعلت من ذلك إنما كانت تسخر من إيمانه أن جعلته يتوهم أنه صاحب السلطان على مشيئته، فكان باسم الإيمان يحب تاييس، وباسم الإيمان يعبد جمالها، فلما طالت الحرب وشعر الراهب بالزهرة تغالب الإيمان وتكاد تغلبه، تولاه الفزع وجعل يحارب نزغ الشيطان في نفسه. لكن سلطان الحب رفيق شديد، فلم يستطع بفنوس مغالبته، بل انتهى إلى الفكر حين عرف أن تاييس مشرفة على الموت.
في هذه الحرب بين الحياة والزهد في الحياة تجلت نفس بفنوس مملوءة حقدا على العالم وأنانية وكبرا؛ فهو يزعم لنفسه سلطانا على الكائنات جميعا، ويتهم كل خارج على عقيدته بالنقص والرذيلة، ولما كان التسامح مظهر الحياة فقد كان هذا الجاحد المتعنت عدوا للحياة. وماذا يستطيع الرجل إن هو نصب نفسه للحياة عدوا؟ ولو أن بفنوس صانع الحياة واتخذ الزهد لذة من لذائذها وجعل من انقطاعه لله فرضا يؤديه للحياة لما عصفت به وبإيمانه، لكنك تلقاه في طريقه إلى الإسكندرية وفي حضرة تاييس وفي مأدبة الفلاسفة وفي تعذيبه نفسه فوق العماد، وداخل القبر، قاسي النظرة يود أن يحترق كل ما لا يعجبه، وتستمع له فإذا حديثه سوط عذاب مسلط على أجمل ما في الحياة وأبهاه. ولست أذكر لك كيف صوره أناتول فرانس في حالاته، ولكنك إذ تقرأ «تاييس» لا تستطيع أن تحول بين نفسك وبين الإشفاق على رجل تتلاعب به صروف الحياة، وتجعل من عظمته ومن إيمانه ألم نفسه وسخرية سواه.
ولو أنه اتخذ الزهد لذة من لذائذ الحياة لما عصفت به. وهذا هو في طريقه إلى الإسكندرية قد لقي «تمكاس» المتشكك، فألفاه وقد أدى به ازدراؤه الحياة إلى التخلي عما فيها جميعا. مع هذا كان «تمكاس» راضيا؛ لأنه كان قد نزع من نفسه كل أثر للطمع في هذه الدنيا وفيما بعدها، واتخذ طقوس حياة بوذا وإن لم يؤمن بدينه. فالزهد لم يكن إذن سبب عذاب بفنوس، وإنما كان حرصه على النعيم سبب عذابه. وقل أن يحرص إنسان على نعيم الآخرة كلها ويزهد في متاع الدنيا ونعيمها جميعا.
هذا ما يريده أناتول فرانس حين فصل عذاب بفنوس وسخر منه، ولو أن بفنوس كان على إيمانه متسامحا وعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا، ولآخرته كأنه يموت غدا، وأوغل في الدين برفق، لما تقطعت به الأسباب، ولما انتقل من النقيض إلى نقيضه فكفر بعد إيمان وطلب لذة الحياة بعد الزهد فيها. •••
صورة بفنوس هي النقيض من صورة أناتول فرانس. وأناتول فرانس لم يدع واحدا من كتبه إلا رسم فيه صورة من نفسه؛ فهو «برجريه» في أربعة أجزاء (تاريخ العصر)، وهو «بروتو» في (الآلهة ظمأى)، وهو «بيير» في أربعة كتب كتبها عن طفولته وبدء صباه، وهو «جيروم كوانيار» فيما عزاء من قصص وذكريات ومذكرات إلى «جاك تورنبروش»، وهو «نسياس» في قصة «تاييس». وأي مؤلف ينسى نفسه حين يكتب؟ وأي مؤلف يكتب عن شيء غير نفسه؟ وأي قارئ يرى فيما يطالع غير نفسه؟ والذين يقرأون أناتول فرانس سعداء؛ لأنهم يجدون في صورة المؤلف ما يجذبهم إليها ويجعلهم يحبونها إن كان صاحبها قد اتسعت نفسه فوسع العالم وما فيه حبا، ووسع العالم وما فيه سخرا وإشفاقا.
نسياس أبيقوري مترف يتمتع من الحياة بكل لذائذها من غير تهافت على هذه اللذائذ أو حرص عليها، وقد استمتع «بتاييس»، فلما جاء صديقه القديم بفنوس لهدايتها وطلب إليه رداء يستر به مسوحه نصح إليه نسياس أن يحذر انتقام الزهرة، ولم يفكر في أن يصده عن غايته، فلما وثق بفنوس من تاييس صحبها إلى مائدة كان نسياس بين من دعوا إليها. وقضت تاييس الليل تسمع إلى حديث الفلاسفة، فلما آن الليل أن يولي كان القوم قد أمال الشراب أعناقهم ، فخرج بفنوس وتاييس إلى دارها فحرقا متاعها وانطلقا يبغيان الصحراء، فأحاط بهما أطفال رجموهما بالأحجار، ولم ينجهما منهم إلا أن جاء نسياس فنثر الدراهم بين الصاخبين فشغلهم ونجا بصاحبيه. ثم كان بين الثلاثة حديث يمثل نفس نسياس، ويمثل نفس فرانس، ويمثل الشك واللاأدرية في أجمل صورها؛ فقد ذكر نسياس في أسف مطمئن مغادرة تاييس الإسكندرية، فأجابته أنها ملته وأمثاله المترفين وملت ما تعرف، وأنها تريد البحث عما لا تعرف، وترجو أن تجد المسرة في الألم كما قال لها بفنوس؛ لأن بفنوس قد ملك الحقيقة.
قال نسياس باسما: أما أنا أيتها النفس الصديقة فأملك الحقائق، ولئن لم يك لديه منها إلا واحدة فهي عندي جميعا؛ فأنا أكثر منه ثروة وإن لم أكن، والحق يقال أكثر منه لذلك كبرا ولا أعظم سعادة.
ولما رأى الراهب يسدد إليه نظرات كأنها اللهب قال: لا تحسب يا عزيزي بفنوس أني أراك سخيفا كل السخف أو بعيدا كل البعد عن موجب العقل، ولو أني قارنت حياتي بمثالك لأرتج علي القول أيهما أفضل لذاتها. فهأنذا ذاهب الآن أغتسل في الحمام الذي أعدته كروبيل ومرتال، ثم آكل بعد ذلك صدر دراج من دراريج فاز، ثم أقرأ للمرة المائة بعض أساطير «آبيوليه» أو بعض رسائل «بورفير»، أما أنت فستذهب إلى صومعتك فتنيخ كما ينيخ الجمل الوادع، وتلوك من التسابيح ما طال بك عهد مضغه ولوكه؛ وإذا أمسيت تبلغت بالفجل من غير زيت. أترى يا صديقي أننا فيما نقوم به من هذه الأعمال المختلف ظاهرها ألا يذعن كلانا لعاطفة واحدة هي وحدها المحرك لأعمال بني الإنسان طرا؟ فكلانا يسعى وراء لذته يبغي غاية مشتركة هي السعادة، هي هذه السعادة المستحيلة. فليس من حسن الذوق يا صديقي أن أنسب إليك الخطأ إذا أنا نسبت إلى نفسي الصواب. «وأنت يا تاييس فاذهبي وتمتعي، وإن استطعت فكوني في الزهد والتقشف أكثر سعادة مما كنت في الغنى والمسرة، وإنك على كل حال لتحسدين. فإذا كنت أنا وبفنوس قد أطعنا طبعنا ولم نسع إلا وراء لون واحد من ألوان الرضا، فإنك أيتها العزيزة تكونين قد طعمت في الحياة لذائذ متضادة قلما كان لإنسان من الحظ أن يعرفها. والحق أني أود أن أكون مدى ساعة قديسا كعزيزنا بفنوس، لكن ذلك ما ليس لي إليه سبيل. فالوداع إذن يا تاييس، اذهبي حيث تقودك القوى الخفية في طبيعتك وفي حظك، اذهبي تصحبك خير أماني نسياس. ولئن تكن هذه الأماني خلاء فهل أستطيع أن أمنحك خيرا من عقيم الحسرات وفارغ الأماني ثمنا لما اشتملني بين ذراعيك من لذيذ الأحلام التي لا يزال خيالها إلي باقيا؟! الوداع يا من أحسنت إلي! الوداع يا رحمة لا تعرف أنها رحمة! يا فضيلة تحوطها الأسرار! يا لذة الناس طرا! الوداع يا أبدع صورة ألقت بها الطبيعة على وجه هذا العالم لغاية غير معروفة؟»
فلما أتم حديثه كان الراهب قد نفد صبره، فانسابت من فمه لعنات نظمها أناتول فرانس خير نظام، فكان جواب نسياس أن نظر إليه نظرة رفق وعطف وقال: الوداع يا أخي، ولعلك مستطيع أن تحتفظ حتى الفناء الآخر بكنوز إيمانك ومقتك وحبك! وداعا يا تاييس! عبثا تنسينني ما دمت حفيظا على ذكراك.
كذلك قال نسياس. ولا يحسب القارئ أني أحسنت النقل، فكل نقل لعبارة أناتول فرانس إلى غير لغته يجني عليها، وما أحسب أحدا ممن حملوا أنفسهم عناء ترجمته إلى غير لغته إلا نظر إلى ما صنع فذكر قول نسياس: لو أن الفضيلة حصرت في المجهود وحده لكانت الضفدعة، التي تنتفخ لتعظم حتى تصير كالعجل، مؤدية أكبر عمل من أعمال الرواقيين. •••
تاييس وبفنوس ونسياس هم أكثر أشخاص قصة تاييس حياة وحركة، وقد أحاطهم فرانس بعدد جم من الرهبان أمثال بفنوس، والرواقيين أمثال نسياس، وبجميلتين تأكل الغيرة صدرهما حقدا على تاييس لتفوقها عليهما في الجمال. ولئن لم يكن لهذا العدد الجم غير دور ثانوي في القصة، فقد رسم فرانس صورة كل واحد منهم بما طبع عليه من دقة؛ فالجميلتان فلينا ودروزيه تنفسان على تاييس جمالها وتنافسانها في استهواء الشبان، كما تنفس كل امرأة على كل امرأة وتنافسها. والرجال ينظرون إلى النسوة الثلاث بما ينظر به كل رجل إلى كل امرأة من عطف، ويملقونهن بالكلام الرقيق العذب الذي يسحر به الرجل المرأة كما يسحر الطاووس أنثاه بريشه والبلبل أنثاه بصوته. فأما الفلاسفة زنوتوميس وهرمدور ودريون والمسيحي ماركوس وأصدقاؤهم في الوليمة، فليسوا أشخاصا ذوي حياة تتجلى في صلات أفراد الرواية بعضهم ببعض، وإنما هم أمثال للمذاهب الفلسفية والدينية التي كانت إسكندرية ذلك العصر الذهبي مهدا لها. على أنك لا تعدم مع ذلك أن تجد في حديث كل واحد منهم ما يرسم أمامك منه صورة تميزه عمن سواه من أهل مذهبه، وتجعله إنسانا يخضع رأيه وإيمانه لميوله وشهواته، شأننا جميعا في الحياة.
أما الرهبان والقديسون متدينة الصحراء فبينهم من الشبه في ازدراء الحياة ما بين النساء في محبتها والحرص عليها. •••
تلك قصة تاييس، وأولاء هم أشخاصها، وهي عند كثيرين أفضل كتب فرانس. ولعلك إذا دخلت حديقة أو عند جوهري تتردد كثيرا أي أزهار الحديقة البديعة النظام أبهى وأي أحجار الجوهري الدقيقة الصنع أكرم! وذلك رأينا في كتب أناتول فرانس. وهو عندنا على ما قال جول لمتر: «أسمى خلاصة للروح اللاتينية وأبهاها.»
أناتول فرانس (4)
الآلهة ظمأى
أناتول فرانس - ذلك الشيخ الذي ذهب أول هذه الحرب رغم مجاوزته السبعين من العمر، يريد أن ينتظم جنديا للدفاع عن وطنه فرنسا - هو رأس طائفة المتشككة من كتاب هذا العصر في فرنسا وفي العالم أجمع؛ فهو لا يؤمن بمذهب ويعتقد كل المذاهب، وهو يرى الحياة سخرية سخيفة لا معنى لها، ويجدها ذات لذة وجمال، وهو يحب الفقراء ويحتقر الضعفاء، ويعجب بالقديم ويولع بالجديد، وهو يهزأ من كل شيء، ويسخر من كل عمل، ويضحك مما يجله الناس، ويبسم أمام ما يقدسون. وهو مع ذلك لا يخفي ميله للأبيقورية على أنها أعقل من سواها من المذاهب الأخرى العاقلة جميعا؛ لذلك كانت كتبه ورواياته ليست تلك الغابة القطوب التي تأخذ لبك وتدلك بقطوبها على عظمة شجر السنديان أو البلوط وقوته على كل ما سواه؛ ولكنها الحديقة الغناء تنتقل فيها من زهرة إلى فاكهة إلى فرش سندسية إلى خرير النبع الجميل المنحدر من قمة التل تتوجه الأشجار الكبيرة تغرد فوقها الطيور المختلفة اللون والصوت. وهذه الحديقة ليست متروكة للطبيعة ينمو بعض أجزائها على حساب البعض الآخر، بل هي مشمولة بعناية الإنسان ورعايته؛ فكل ما فيها من زهر وفاكهة وغرس ونبع وتل وشجر وطير مختلف جمالا وصحة ونضارة، وكله يأخذ بنظرك ويستدعي التفاتك ويبعث إلى نفسك أبدا سرورا رقيقا، حلوا يجعلك دائم الابتسام؛ لأنه سرور النفس والعقل وليس سرور الحس المضطرب بتيارات يستدعي الضحكة العالية ليعقبها بدمعة مرة.
ومن العسير أن يقال أي كتبه المفضل، فمن بين كتبه الأربعة والثلاثين أو الستة والثلاثين يقع كل قارئ على عدد منها غير قليل يستدعي كل إعجابه. على أن ما لا شك فيه أن كتابه عن الثورة الفرنساوية الذي وضعناه عنوانا لهذا المقال هو من خير كتبه، وأدقها تصويرا لعصر كثر عنه الكاتبون. وناهيك بالثورة الفرنساوية؛ فما نحسب مؤرخا ولا سياسيا ولا شاعرا ولا روائيا ولا خطيبا ولا صحفيا، إلا تناولها في ما كتب عنه، واستشهد به ووصفه واستظهره. وكثير من أولئك قام بما قام به بطرافة وقوة لا ينكرها عليه أحد، لكن أناتول فرانس من بين هؤلاء جميعا كان أدق مصور فني يمكن تذوقه؛ فهو لم يكن فوتوغرافيا جمع رجال الثورة، وفي يد كل منهم مجموعة خطبه وكتبه ليأخذ منهم صورة كصورة الموظفين الذين يجتمعون تذكارا لسفر أحد رؤسائهم؛ بل كان ذلك المصور النابغ الذي يلقي نظرة عامة على ما أمامه ثم يتجه لركن يأخذ بنظره، فيستظهر المحيطات الدقيقة والجليلة التي حول ذلك الركن والأضواء المتسلطة عليه والغمام المتراكم فوقه. وأنت فلا تلبث أن ترى الصورة التي أبدعتها ريشة المصور حتى يظهر أمامك مجموع الثورة ناطقا قويا ظاهرا ببوارزه وخوافيه وبفظائعه وفضائله وبما فيه من جمال وقبح. ترى في هذه الصورة التي رسمها فرانس ما كان قواما للثورة من فظيع المجازر؛ وترى فيها تحت الفظائع والفضائل النفس الإنسانية كما هي، مدفوعة بطبائعها في الطريق الذي لا تعرف لسيرها في سبيله سببا. في هذه الصورة تظهر العواطف والشهوات والعلاقات الجنسية طبيعية بسيطة لا تعرف هياج روسو ولا أوهام شاتو بريان، كما تظهر فيها نفسية الشعوب في حالة الثورة نفسية عادية تافهة ميالة للركود لولا النفوس القوية المتطلعة للكمال، والتي تؤثر بسحرها على نفس المجموع المطبوع على عبادة القوة والبطولة. ويظهر فيها كذلك ما لقوة الإيمان من أثر في الوصول إلى ما يريده المؤمن مهما تقم في وجهه المصاعب والعقبات، ما دام لا يرى إلا الغاية التي يحددها له إيمانه، وما دام لا يحول نظره إلى غاية سواها. ••• «أفارست جاملن» بطل الرواية نقاش شاب يعيش مع أمه العجوز في حي القنطرة الجديدة من أحياء باريس الثائرة، ويهتم للسياسة اهتماما صرفه عن المثابرة على النقش وعن كسب ما يعيش منه هو وأمه عيشا معقولا. وكان له أخت هجرت البلاد مع شاب من الأشراف الذين هاجروا أول الثورة. ويسكن في أعلى غرف الدار التي يقطن حكيم اسمه (برتو)، كان شريفا وكان ذا مال ونعمة، فلما استولت الثورة على أموال الأشراف وامتيازاتهم ترك برتو ماله ولقبه غير آسف، وقنع من الحياة بوكره الذي كان يتسلق إليه تسلق الحيوان إلى عش الطائر، وعكف على قراءة (لوكريس)، وعلى صنع لعب للأطفال يجد منها ما يقيته. وكان لبرتو صديقة قديمة من الأشراف تدعى مدام رشمور، عرفت كيف تنتقل من العصر القديم إلى الثورة مع الاحتفاظ بمالها ونعمتها، ومع الاستمرار على دعوة الكبراء والمعروفين إلى حفلاتها الراقصة. فعرض لها ذات يوم خاطر أن تسعى لتعيين جاملن محلفا في المحكمة الثورية. ومع ما أظهره لها برتو من التخوف من هذه المحكمة التي تدفع إلى (الجليوتين) المرأة البغي وماري أنتوانيت، والتي تؤلب الفرق المتنازعة ضدها بما تصبه عليهم جميعا من جامات غضبها، فقد نجحت رشمور وتعين جاملن محلفا. ومن ذلك اليوم ازدادت حبيبته (ألودى) تعلقا به وشغفا. ولما استفسرها عن ماضيها أخبرته أن شابا من الأشراف استغواها، فملكت هذه الفكرة على المحلف الجديد نفسه ، وجعل يرقب في كل شريف يعرض للمحاكمة مغري محبوبته، فلما اتجهت شبهاته لأحد الأشراف الذين قدموا للمحاكمة والذين كانت الأدلة عليهم تافهة لم يأل جهدا في إقناع زملائه بأنه رجل مجرم خطر على البلاد قدير على قلب الحكومة، وكأنما كان يقول في نفسه: إن أولئك الذين لا يعبأون بالعرض ولا بالشرف بالنسبة لفتاة تستسلم إليهم جديرون أن يكونوا كذلك مع أمة يجدون إلى استلام زمامها الوسيلة. ومع عدم اقتناع أكثر الباقين، فقد انتهى الحال بأحد المحلفين إلى أن قال لجاملن: يجب أن يتبادل الزملاء الخدمات في ما بينهم حتى هنا يا صديقي. وانضم لصف جاملن وحكم على الشريف بالإعدام وأعدم.
وجاملن شاب طاهر القلب طيب النفس قوي الإيمان بمبادئ الثورة، حقيق أن يكون من أتباع مارا وروبسبيير اللذين كانا آلهة العصر وموضع إعجابه وعبادته؛ لذلك لم يخطر بباله أن يبرئ أحدا إلا مرة أول تعيينه، أما بعد ذلك فقد كان يرى في القواد الذين انهزموا، وفي الفتيان الذين يصيحون «يحيا الملك» في الميادين العامة، وفي الأشراف الذين يتهمون بالارتباط مع الأعداء أخصاما للثورة، قديرين جميعا إذا لم يكبح جماحهم بالقتل أن يقبلوها ويعيدوا نظام العهد القديم. وكان يعتقد أن شرف المساواة الذي نشرته مبادئ الثورة ليس مقصورا على الحقوق التي يتمتع بها الأفراد، بل هو ممتد إلى العقوبات التي تنزل بهم أيضا. على أن شرف المساواة في العقوبة هو الذي كان في يده دون شرف الإمتاع بحقوق الحياة الذي لم يكن في يد أحد؛ لذلك حقق هو وزملاؤه المحلفون والقضاة أعضاء المحكمة الثورية الشرف الأول، ولم يستطع أحد أن يحقق الشرف الثاني.
ولما عرض أمر رفيق أخته على المحكمة لم يكن أكثر إشفاقا في هذا الظرف منه في أي ظرف آخر، بل رفض أن يرد نفسه قائلا: إن سلام الجمهورية أعلى من أن تؤثر فيه علاقة أو عاطفة. وكذلك أعدم «دشاساني» مع من أعدم.
وفي هذه الأيام غضب الضابط هنري رفيق مدام رشمور منها فسرق خطابا كانت موجهة إياه لأحد الأشراف المهاجرين، وقد ذكرت فيه ما قاله برتو عن المحكمة الثورية وعن الجيوش المحاربة. ولما سرقه وعرضه على رجال الإدارة كانت النتيجة أن قبض على رشمور وبرتو وحليف لبرتو من القسس يدعى لنجمار، وفتاة احتمت عند برتو ولنجمار من أبحاث السلطة وتفتيش رجال الثورة، وأودعوا جميعا في السجن.
ولما كانت المحكمة الثورية قد ضاقت ذرعا بالتحقيقات العادية، وبالمتهمين يقدمون إليها واحدا بعد الآخر، فقد صدر قانون يبيح محاكمة من يشتم من أعمالهم أنهم يتآمرون بمجرد جمع الأدلة، ثم يحصل البحث في المحكمة. فلما قدم برتو وصحبه وتلا المدعي العمومي ورقة الاتهام التي جاء فيها من تهم برتو أنه قال: «إن المحكمة الثورية تشبه روايات شكسبير التي تخلط بين أفظع المناظر الدموية وأسخف التفاهات، وإنه ينتظر من وراء انتصارات الجمهورية أن يجيء أحد هؤلاء الذين يحملون السيف فيبتلع الجميع كما ابتلع الطائر الضفادع في الخرافة.» ومن تهم رشمور أنها متصلة بالخارج ومختلطة بالمرتشين. لما تلا المدعي العمومي ورقة الاتهام وسئل برتو: هل تآمرت؟ أجاب: أنا لم أتآمر، وكل ما جاء في ورقة الاتهام التي سمعت الآن باطل. فكان الرد عليه: ألا ترى أنك تتآمر الآن من جديد ضد المحكمة؟!!»
وبعد ذلك، وبعد أن سئم الناس القتل والدماء، رأت الجمعية الوطنية أن روبسبيير قد بلغ حدا أصبح لا يطاق معه، فاعتبرت أعضاء الأقسام المنضمة إليه وأعضاء المحكمة الثورية ومحلفيها كلهم خوارج على القانون ويجب إعدامهم، وأعدموا وأعدم جاملن. •••
هذه الصورة التي أبدعها أناتول فرانس، والتي نقلنا هنا ظلا منها قد لا يوازي ما ينقله الكارت بوستال عن أبدع صور اللوفر، لا يمكن أن يتذوقها إلا من يقرؤها ويعيدها ثم يعيدها غير مرة، وحينئذ تتبدى له الثورة الفرنساوية كلها وكيف كانت، وتنقشع من أمامه الغيوم التي يجدها في كتب التاريخ الجامدة، والتي تنقل حكاية الحوادث كما تنقل الأجواء صدى الصوت البعيد.
وإني لفي غنى عن أن أذكر شيئا عن أسلوب أناتول فرانس، وألوان ذلك الأسلوب الدقيق الهادئ الرزين لا تشعر معه بالتكلف، بل تسيغه سهلا عذبا ينساب إلى نفسك فلا يهزها هزات عنيفة كأسلوب الشعريين، ولا يستوقفها بيبوسته التحليلية. ومع ذلك فلن تجد تحليلا ولا شعرا أبدع مما عند أناتول فرانس. وإن وصف أشخاص رواية الآلهة لأكثر ما تكون الصورة دقة في التحليل. وبحسب أسلوب فرانس مقدرة على اشتمال فضائل كل الأساليب أنه سهل ممتنع لا تستعصي عليه صورة، ولا يتعقد معه رأي. وبحسب رواية الآلهة أنها كتبت بهذا الأسلوب، وأنها رواية الثورة الفرنساوية، أكبر ثورة عرفها التاريخ وأبعدها في حياة الأمم أثرا.
أناتول فرانس (5)
ماري باشكير ستف (لأناتول فرانس كتاب يقع في أربعة أجزاء عنوانه (الحياة الأدبية)
La Vie Litteraire
جمع ما كتبه في النقد والتعليق على الكتب وما وضعه من خلاصة تاريخ بعض الأشخاص في أخص ما تتميز به حياتهم. وكتابة أناتول فرانس في النقد لا تعتبر حجة؛ لأنه يأخذ فيها بالمذهب الذاتي أكثر مما يأخذ بالمذهب الموضوعي، لكن ذاتية أناتول فرانس وما برزت به على كل ذاتية سواها من صفات خاصة مر بالقارئ شيء منها فيما قرأه تجعل كتابته في النقد شائعة محبوبة لذاتها، أما ما وضعه من خلاصة تاريخ الأشخاص، فله طابع خاص يسمو به على آرائه في النقد؛ فأنت تراه ينظر من جوانب حياة الشخص إلى الجانب الذي كان له في حياته أكبر الأثر. ولعل من القراء من اطلع على ما كتبه في الحياة الأدبية عن بسمارك، وفي «الزنبقة الحمراء» عن نابليون، فرأى كيف أظهر فرانس ما في هذه النفوس من ضعف كان سبب قوتهم، ومن هوس سما بهم إلى العظمة. وها نحن أولاء نترجم رسالة من رسائله في «الحياة الأدبية» عن ماري باشكير ستف ليرى من لم يطلع على موجز تواريخ الأشخاص بالنحو الذي يكتبها به فرانس مثلا قد يتبين منه ما لم نستطع نحن بيانه من صورة نفس الكاتب العظيم.) •••
ماتت ماري باشكير ستف، التي نشرت يومياتها أخيرا، منذ أربع وعشرين سنة، وكانت وفاتها في 31 أكتوبر سنة 1884، وقد خلفت عدة نقوش وبعض صور تنبئ عن حب خالص للطبيعة وعن هيام وولع بالفن، وكانت حفيدة الجنرال جريجوريفتش باشكير ستف أحد من تولوا الدفاع عن سباستوبول، كما كانت تزهى بأن في عروقها دما تتريا عريقا ورثته عن أمها. وكانت بيضاء اللون بديعته، حمراء الشعر، ناهدة الخدين، قصيرة الأنف، عميقة النظرة، ذات شفاه كأنها شفاه الطفل. وكانت صغيرة الجسم جميلة التكوين، وكان هذا من غير شك سبب ولعها بالنظر إلى التماثيل، حتى لكانت وهي في الثالثة عشرة من عمرها تمضي الساعات أمام تماثيل الرخام في متحف الكابتول بروما. ولم تكن يداها الرقيقتان البيضاوان على أحسن صورة، لكن مصورا ذكر أن الطريقة التي كانت توضع بها هاتان اليدان على الأشياء كانت غاية في الجمال، لكنها مع ذلك قلما كانت تصف نفسها في يومياتها، وإنما ألاحظ صورة كتبتها في 17 يولية سنة 1874 بالغة في جمال التنسيق، قالت: «شعري أشد ما يكون حمرة، وعلي فستان من الصوف الأبيض رشيق حسن الهندام، وطرحة من الدنتلا حول العنق، وكأني بذلك إحدى صور الإمبراطورية الأولى، وإنما أحتاج لكمال تلك الصورة إلى أن أقف تحت شجرة، وأن أمسك بيدي كتابا.» ثم أضافت إلى ذلك أنها تحب الوحدة أمام المرآة.
وكانت أكثر إعجابا بصوتها منها بجمالها، حتى كان من أولى أمانيها أن تصبح مغنية عظيمة.
وقد أرادت أن تبدو كما هي بنقائصها وفضائلها، وبعدم ثباتها وبدوام تناقضها، لكن أنفتها أبت عليها أن تعترف بشيء لشخص مهما يبلغ من قدره، فكشفت في يومياتها عن نفسها للعالم كله.
أينا لا ينال بإشفاقه وعفوه تلك الطفلة المسكينة التي كانت بائسة أن لم تحظ بالطفولة! وليس على أحد في ذلك من ذنب؛ فإن ماري باشكير ستف لم تكن أبدا من أولئك الذين عناهم الإله الذي كانت تعبده كل يوم بأنهم وحدهم حقيقون أن يدخلوا في ملكوت السموات، فهي لم تعرف قط تلك اللذة الرقيقة؛ لذة التواضع والصغر، بل طارت بجناحيها في الخامسة عشرة من عمرها ولم يبق للعش الذي طارت عنه ذكر عندها؛ لذلك كان ينقصها دائما البساطة والمرح الساذج.
وأول الأسرار التي تبوح لنا بها في يومياتها ألعوبة بدأتها في أيام الكرنفال في روما، وكان كل ما انتهت إليه منها قبلة بين عينيها، وقد أبدت الفتاة في ذلك غير قليل من الخلاعة والحيلة؛ فقد قال لها ابن عم الكردينال، وكانت اتخذته في ذلك العيد رفيقا: وا أسفا، فأنت لا تحبينني! - كلا. - أليس لي أن آمل؟ - بلى، يجب أن تأمل دائما، فالأمل في طبع الإنسان، لكني لا أترك لك من جهتي حظا فيه.
وأظهر ابن عم الكردينال غاية الظرف والرقة، لكن ماري باشكير ستف لم تخدع له، ثم إنها ترددت بعد ذلك ... «لو أنني اعتقدت ما قاله لبلغت بذلك غاية السرور، لكني داخلني الشك رغم مظهره الصادق الرقيق البسيط. وذلك حظ الشقي من شقاوته.» ثم أضافت: «على أن الخير فيما وقع.»
وهي لم تكن ترغب مطلقا في التزويج من المسكين بترو، بل فكرت: «لو كنت زوجة إذن لقضيت على ثروته وقصوره ومتاحفه؛ فإن بي من الطمع والكبرياء ما لا حد له. والعجب أن يحب شخص مخلوقا ذاك شأنه لا لشيء إلا لأنه يعرفه، أو لو عرف هذا المخلوق ... أواه ... أنه مع ذلك لا يحبه.»
وكان الظهور والاستلفات والإشراق أملها الدائم، وكان الكبر يقتلها؛ فقد كانت تردد من غير انقطاع: «أواه لو كنت ملكة.» وكانت تصيح أثناء رياضتها في روما: «أريد أن أكون قيصر أو أغسطوس أو ماركس أورليس أو نيرون أو كاراكالا أو الشيطان أو البابا.» وكانت لا تجد جمالا في غير الأمراء، أما سائر الناس فلا يستحقون نظرة ولا التفاتا.
وكانت الأفكار المتناقضة تختلط في رأسها فتضطرب فيه اضطرابا غريبا، فقد كانت تقية ورعة تصلي لله صباح ومساء، وتطلب إليه أن يهبها أميرا تتزوجه وصوتا حسنا وصحة كصحة أمها، وكانت تصيح: «ليس شيء أدعى للفزع من عدم القدرة على العبادة.» وكانت تخلص التوجه للعذراء وتقوم بطقوس الديانة الأرثوذكسية، وكانت تتعرف المستقبل في مرآة مكسورة، حيث كانت ترى جما من الصور الصغيرة وأرض كنيسة من الرخام الأبيض والأسود، كما كان يبدو لها في تلك المرآة نعش في بعض الأحايين. وكانت تستشير المخرف ألكسس الذي كان يرى الكردينال أنتونللي في نومه، كما كانت لا تحجم عن أن تدفع دينارا للعرافة جاكوب كي تفتح لها الغيب. وكانت تعتقد بكل الخرافات، فكانت مقتنعة بأن عين البابا بيوس التاسع حاسدة، وكانت توجس شرا إذا هي رأت الهلال الجديد بالعين اليسرى، إلا أن آراءها كانت سريعة التغير في كل لحظة، فقد سألت نفسها فجأة وهي في نابولي: «أي شيء ذلك الروح الخالد الذي يطير شعاعا لكل تخمة تصيبنا؟» ولم تفهم كيف يترتب على ارتباك في المعدة أن يطير الروح السماوي إلى بارئه، واستنتجت من ذلك أن ليس ثمت روح، وأن هذا الاسم «محض اختراع» ... ثم لم يمض على ذلك إلا أيام حتى وضعت مسبحة في عنقها؛ لتشابه بياتركس، «ولأن الله في عظمته المجردة لا يكفينا، فيجب أن تكون في حيازتنا صور ننظر إليها وصلبان نقبلها.»
وهي رشيقة وهي مجنونة، لكن هذا الرأس المضطرب ممتلئ امتلاء رأس قارئ كتب قديم؛ فقد قرأت ماري باشكير ستف - ولم تعد السابعة عشرة من عمرها - أرسطو وأفلاطون ودانتي وشكسبير، وكانت حكاية أميدي تييري للتاريخ الروماني تأخذها عن نفسها، وكانت تذكر مغتبطة «كتابا مفيدا عن كونفوشيوس»، وكانت تحفظ عن ظهر قلبها هوراس وتيبيل وأمثال سيرس، وكانت تتذوق شعر هوميروس إلى أعمق نفسها ... ومن قولها: «لن يستطيع أحد أن يتخلص من عبادة القدماء ... فلم تترك مأساة حديثة ولا قصة ولا مهزلة مما يكتب دوماس أو جورج ساند في نفسي ذكرا باقيا ولا أثرا عميقا صريحا كالأثر الذي تركه فيها وصف الاستيلاء على ترواده؛ فإني يخيل إلي أني شهدت هذه الفظائع، وسمعت تلك الصيحات، ورأيت النار تشتعل، وكنت وأسرة بريام مع أولئك التعساء الذين كانوا يختبئون وراء محراب القرابين التي كانوا يتقربون بها لآلهتهم لتكشف عنهم النيران الملتهبة في مدينتهم، ولا تسلمهم إلى أعدائهم ... وأينا لا تعروه هزة حين يصل من قراءته إلى طيف كروز.»
وكان رأسها مخزنا تختزن فيه مختلف الكتب والروايات من غير ترتيب، وكانت دائبة على السياحة تذهب من نيس إلى رومة، ومن رومة إلى باريس، ومن باريس إلى بطرسبورج وفينا وبرلين. وإذ كانت لا تستقر أبدا فقد كانت السآمة تتولاها أبدا، فكانت ترى حياتها مرة خلاء حتى كانت تقول: «في هذا العالم كل ما ليس أليما سخيف، وكل ما ليس سخيفا أليم.» وكان ينقصها كل شيء لأنها كانت تريد كل شيء، وكانت لذلك في هم مفزع، ترسل حولها صيحات الألم، لكنها مع ذلك كانت تحب الحياة. قالت: «إنني أجدها طيبة، فهل يظن ذلك أحد؟ وأجد كل شيء فيها طيبا لذيذا حتى الدموع وحتى الألم. إنني أحب أن أبكي وأحب أن أيأس، أحب أن أكون حزينة آسية، أحب الحياة بالرغم من كل شيء. إنني أحب أن أحيا، ومن القسوة أن أموت وأنا كذلك مؤاتية لينة.»
وكانت تمر بها ساعات تشعر فيها شعورا مبهما مفزعا بالمرض الذي اندس إليها، وهي قد شعرت به من ربيع سنة 1876 إذ كتبت في أول يونيو: «الساعة وأنا خارجة من غرفة زينتي مر بي طيف مفزع؛ فقد رأيت إلى جانبي امرأة في ثوب طويل أبيض تحمل النور في يدها، وتنظر إلي ورأسها منحن شاك على مثال طيف أساطير الألمان. لكن مهلا! إن هذا الطيف لم يكن إلا خيالي عكسته المرآة. ألا كم أخشى أن تكون هذه الآلام النفسانية منشأ مرض جسماني!»
وفي سنة 1877 تولت هذه النفس الحائرة شهوة واحدة، فكرست ماري باشكير ستف كل وجودها للتصوير، وجمعت له كنوز ذكائها المشتتة، واجتمعت عنده كل آمالها في المجد، ولم يبق لها من حياتها غاية إلا أن تكون فنانة كبرى، فأجهدت نفسها في الدرس في أكاديمية جوليان؛ ولم يمض غير قليل حتى كانت من خيرة تلاميذها، وكان ذلك بعض تلك الانقلابات الفجائية التي تجد لها مثلا شتى في حياة الصالحين، والتي تنبئ عن طبع مخلص متطرف كثير التحول. ومن ذلك الحين لم يبق للأمراء عندها قدر، بل أصبحت جمهورية اشتراكية، بل ثورية بمقدار؛ فلم تعد تلبس لبس المترفين، وتسربلت بالجلباب الأسود الذي ترتديه النساء الفنانات، واكتشفت جمال البائسين وأصبحت مخلوقا جديدا. ولم يمض إلا ستة أشهر حتى كانت على رأس فرقتها مع مدموازيل برسلاو.
وفي انتظار المجد الذي كانت ترجوه كانت منكبة على العمل مجدة فيه، وقد رأت في 21 يناير سنة 1882 لأول مرة باستيان لوباج، وكانت تعجب به وتقلد نقوشه. «وهو صغير الحجم، شعره لون الذهب، ناتئ الأنف له لحية الشباب، وكان يومئذ مصابا بالمرض الذي قضى على حياته بعد قليل.» وهي الأخرى كانت تشعر بأن إصابتها شديدة، فقد مضى عليها سنتان يهزها سعال ممزق، وكانت في خلالهما تزداد نحافة، وفي خلالهما أصيبت بالصمم. وقد أدخلت هذه العاهة اليأس إلى نفسها، فكانت تقول: «لم يخلقنا الله لنألم. وإذا كان هو الذي خلق العالم فلم خلق الشر والألم والسوء ...؟ إنني لن أبرأ وسيبقى بيني وبين العالم حجاب، فلن أسمع حفيف الريح في الشجر، ولن أسمع خرير الماء المتساقط على ألواح النوافذ، ولا الكلمات التي تلفظ بصوت واطئ. كلا، لن أسمع من ذلك كله شيئا.» ثم لم تلبث أن علمت أن صدرها مصاب وأن رئتها اليمنى تفنى، فصاحت: «فليتركوا لي من اليوم عشر سنوات، وليتركوا لي خلالها الحب والجد، فأموت في الثلاثين مطمئنة راضية. ألا لو وجدت من يعاهدني على ذلك لعقدت معه أن أموت في الثلاثين بعد إذ أكون قد حييت.»
وسار السل في طريقه المحتوم، فكتبت ماري باشكير ستف في 29 أغسطس سنة 1883 تقول:
إني أسعل الوقت كله رغم حرارة الجو، وقد أخذتني سنة على المتكأ عصر اليوم أثناء راحة النموذج، فرأيت نفسي نائمة وإلى جانبي شمعة موقدة!
أتراني أموت؟ لشد ما أخاف ذلك.
وهي اليوم والحياة تفر منها تغرم بالحياة حبا؛ فالفنون والموسيقى والنقش والكتب والناس والثياب والترف والصحة والضحك والحزن والأسى والحب والقمر والشمس والفصول كلها وسهول روسيا الساكتة وجبال نابلي والثلج والمطر والربيع وجنونه، وأيام الصيف الهادئة ولياليه البديعة ذات النجوم ... كل ذلك هي تحبه وتعجب به ... لكنها يجب أن تموت: «والموت كلمة سهل أن نقولها وأن نكتبها، لكن التفكير في أمرها ... الاعتقاد بأن الإنسان سيموت عاجلا! ... وهل تراني أعتقد ذلك؟ كلا، ولكني أخشى.»
وبعد أيام من ذلك أزاحت عنها هذه الأوهام التي تطوف حول مراقد المسلولين، وحدقت بالموت وجها لوجه: «ها هو ذا إذن غاية كل آلامنا. كم في الحياة من الآمال والرغائب والشئون و ... ويموت الإنسان في الرابعة والعشرين عند أبواب ذلك كله.»
وفيما كانت تموت كان باستيان لوباج المحتضر يحمل كل يوم إليها. وفي يوم الاثنين 20 أكتوبر وقفت يومياتها، وفي ذلك اليوم حضر باستيان لوباج معتمدا على أخيه عند مرقد المريضة. وقد ماتت ماري باشكير ستف بعد أحد عشر يوما من هذا التاريخ، «في يوم ملأ الضباب جوه، فصار أشبه الأشياء بما نقشته هي في إحدى صورها الأخيرة: الممشى.»
إن من المناظر التي تمس القلب دائما ذلك المنظر الذي نرى فيه الطبيعة والحب والموت متقاربين في مضيق بشع، لكن في حياة ماري باشكير ستف القصيرة ما أدري أية مرارة وأي يأس يقبض القلب. وإنه ليخيل للإنسان إذ يقرأ يومياتها أنها ماتت قبل أن تطفأ رغباتها ... لذلك يسري طيفها متنقلا في بعض الجهات ينوء بحمل من الرغبات الثقال.
وإني كلما فكرت في اضطراب تلك الروح المتعبة، واتبعت تلك الحياة المجتثة ألقي بها إلى كل رياح أوروبا زمزمت في إخلاص المتعبد بهذا البيت من شعر سانت بيف:
من لي بأن أولد وأعيش وأموت في بيت واحد.
أناتول فرانس (6)
خرافة يونانية
كم خلق خيال بني آدم من صور، وكم أخذت هذه الصور تشبه الحقيقة زمنا حتى جاءت صور غيرها ردتها إلى عالم الحلم والوهم، وقامت مكانها تزعم أنها الحقيقة الملموسة. ثم جاء عصر جديد زج بهذه الحقيقة في عالم الخرافات ليبني هو لنفسه اعتقادات وحقائق جديدة، من يدري كم يكون على الزمن بقاؤها! وهكذا يبقى بنو آدم يلعبون بالخيال والوهم ويلعب الخيال والوهم بهم؛ وهم في ذلك يحسبون أنهم يبتغون الحقيقة وفي أملهم أن يصلوا إليها يوما ما.
وقعت على خرافة قديمة من خرافات اليونان ، خرافة أبدعها خيال شاعر وطرح بها وسط قومه على أنها الحقيقة، واتخذها قومه مثالا للحقيقة حتى تغير الزمان وتغيرت هذه الحقيقة معه. وفي هذه الخرافة فكرة حلوة خلابة لفتتني.
فقد زعموا أن يونيا هي التي خلقت جماعة البشر، ولم تخلقهم من أب واحد وأم واحدة كما قررت الأديان طرا، بل رأت - وهي محقة في كل ما ترى - أن خلق عدد كبير من هذا الجنس أضمن لسرعة العمارية في العالم؛ ولكيلا تستغرق زمنا طويلا في إبداع هذه الخلائق، ولتبعثها كلها في لحظة واحدة، قامت بادئ الأمر بتسوية كل عضو من الأعضاء منفردا. فسوت عددا من أذرع الرجال، وعددا آخر من أرجلهم، ومثلها من الجماجم والقلوب وسائر الأعضاء. وسوت مثل هذا العدد من أذرع النساء وأرجلهن وصدورهن وسائر أعضائهن، ثم ما كادت تتم ذلك حتى دعاها باكوس إله الخمر لوليمة أولمها، فأجابت دعوته وذهبت مع من دعي معها من الآلهة إلى الوليمة، وهناك أمضوا وقتهم في الشرب والطرب. وقامت يونيا ورجعت إلى عملها وقد ملكتها صورة الخمر، فلم تكد تميز أعضاء الرجال من أعضاء النساء، فجعلت من حين لآخر تضع في كيس مما أعدت لاحتواء هذه الأعضاء صدر رجل مع بقية جسم امرأة، وجمجمة امرأة مع بقية أعضاء رجل، وبعد إذ ملأت كل الأكياس نفخت فيها من روحها حياة وحركة، وكان ذلك مبدأ خلق الناس ومنه خرجوا، ومن بين رجالهم من يعاوده ضعف المرأة لأن صدره يحوي قلب امرأة، ومن بين النساء من تجد فيها شكاسة الرجل أو شدته لأنها أوتيت خطأ فؤاده أو ذراعيه. وبقي ذلك ميراثا يتسلل على مر الأجيال.
هذه هي الخرافة التي كان يفسر بها اليونانيون ما نراه في بعض الرجال من الخنوثة وفي بعض النساء من الشكاسة، وهذه الخرافة أخذت صبغة الحق زمنا ما، ثم جاء الحق الجديد فأزهقها وصرنا معاشر الناس من كل الأجناس أبناء آدم وحواء. •••
ملحوظة: هذه الخرافة في كتاب من كتب أناتول فرانس، وعنه أخذنا فكرتها.
بيير لوتي
لمناسبة وفاته
متى؟
نعاه البرق منذ أيام، فنعى كبيرا من كتاب فرنسا المعدودين وأحد محبي الإنسانية الذين امتازوا بالعطف على الشرق وعلى مصر عطفا خالصا من كل شائبة؛ فقد ظل لوتي، رغم أحداث السياسة في هذه الأيام الأخيرة، شديد العطف على تركيا، شديد التعلق بها، شديد الأمل في ألا يقع بينها وبين فرنسا ما يدفع الألم إلى قلبه الذي جمع بين محبة وطنه وإعزاز تركيا.
ولو لم يكن من آثار لوتي الأدبية إلا كتابه (موت أنس الوجود) الذي كتبه عن مصر، وأهداه إلى المرحوم مصطفى كامل باشا، لحق على المصريين أن يشاركوا فرنسا في الأسف على موته، وأن يقيموا له بينهم ما يخلد ذكره ويديم أثره. ولو لم يكن إلا هذا الكتاب لوجب عليهم أن يعنوا بدراسة كاتبه، وبمعرفة ما انطوت عليه روحه من عبقرية، وما اشتمل عليه قلبه من عواطف دائمة التجدد، ولكان أول واجب عليهم في هذا السبيل أن ينقلوا الكتاب إلى اللغة العربية؛ ليقف بنو مصر جميعا على ما انطوى عليه من قوة عبارة، وسحر أسلوب، وجمال وصف، وسلطان عاطفة.
على أن (موت أنس الوجود) ليس إلا جزءا من عشرات الأجزاء التي وضعها لوتي، والتي أحدثت في الأدب الفرنسي نوعا طريفا جمع بين بساطة القديم وجمال الحديث، وكان ولا يزال له أثر على قارئيه إذا هم قرأوه في سن معينة، واستمعوا فيه إلى نغمات أسلوبه المتجاوب البديع الذي يحرك في النفس الشابة كل أنغام حياة الشباب، والذي يبعث إلى النفس التي تعدت الشباب صورا من الشباب تحييها فتلذ لذكرى ماض كان لذيذا حين عاشته، ثم لم يزده تدثره في طيات الماضي إلا جمالا وروعة.
وليس يسعنا، نحن أبناء الشرق، إذا قرأنا كتب لوتي إلا أن نشعر بشيء من التجاوب بين نفوسنا الممتلئة بالخيال، وبين ما في هذه الكتب من صور العالم وخيالاته. ويصل هذا التجاوب إلى حد التمازج أحيانا ثم ينقضي التمازج ويضعف التجاوب، وتحتاج النفس إلى غذاء عقلي أكثر دسما مما يجود به الخيال.
ونحن أبناء الشرق في أشد الحاجة إلى المتاع بهذا التجاوب، ثم التمازج ثم الانفصال؛ فإن أدبنا القديم غني ولكنه قديم، فيه العواطف الرقيقة القوية، وفيه نزعات النفس للفضيلة ونزغها للهوى، وفيه المعاني الكثيرة، لكن لكل عصر ميولا خاصة، ومهما يعترف الأوروبي بأن أدب القرن السابع عشر الفرنسي بالغ غاية الإبداع، فإنه يعترف بأنه لا يتجاوب مع نفس رجل القرن العشرين؛ ولذلك يحب الرجل منا بعد إذ يعيش عصور امرئ القيس وحسان وجرير وأبي نواس والمتنبي أن يعيش العصور الحديثة. والأدب العربي في العصور الحديثة متهم بالضعف، وهو من غير شك قليل في كمه، لا يروي ظمأ النفس في هذا العصر الذي فتح من كنوز مخبآت العالم ما لا تقنع النفس أمامه بوشل من خيال فج أو ذهن محصور أو عقل ضيق الأفق.
أنت بحاجة إذن أن تقرأ لوتي، وأنت تحس بنفسك تتحادث مع نفسه، وخيالك في حاجة إلى السبح مع خياله. وأنت تتركه بعد ذلك متطلعا إلى غذاء أدسم، فإذا وقفت عليه وانقضت سنون ورجعت إلى لوتي شعرت بلذة الماضي، ورأيت في هذه الكتب صديقا قديما كان معك زمنا ثم تخطيته، وقد يتعذر أن تعود فتبقى طويلا معه.
ولا عجب، فليس لوتي بالرجل الذي حبس نفسه في غرفة جعل فيها يستقصي تاريخ الأمم، ويرد فيها الوقائع إلى أصولها ويحلل هذه الوقائع، ثم يضع قصة تاريخية أو تحليلية أو يقيم نظرية خاصة تؤيدها قصته، بل هو رجل نشأ ضابطا في البحرية الفرنسية، فجاب أقطار العالم وتخطى البحار فوق ظهر الموج المضطرب فعرف الوحدة اللذيذة المتشابهة، وعرف الانكماش فوق سطح المركب الساعات الطوال يناجي الطبيعة الهادئة أحيانا، والمضطربة أخرى، والمتجددة دائما في صور متشابهة متعاقبة لا يمل تشابهها ولا يؤيس تعاقبها. وهو في انكماشه لا يفتأ يستعرض أمام خياله ما قد يكون وراء الحجب التي يحيطه بها الأفق من كل جانب من ذلك الغيب المريب الذي بدأ منذ الأزل ولزم العالم وما زال ملازما له برغم جهود الأجيال المتعاقبة لكشف مستوره. ولم يكشف له خياله من ذلك الغيب إلا عن مخاوف تلخصت عنده في ذلك الشبح المفزع الذي أفسد عليه نسمات الحياة، شبح العدم المتجدد في صور الموت الذي يحصد كل صور الحياة والتجدد. كشف له خياله عن ذلك الشبح فرآه في كل قوته وكل سلطانه لا يغالب ولا يقهر، فاستسلم له وأنكر كل ما سواه، وأقر له بالقدرة وجعل منه الغاية الأخيرة للحياة، فرتب حياته وفاق هذه الغاية.
كثيرون غير لوتي يرون فيما رأى هو من صور الطبيعة ومظاهر الوجود دليلا على الخالق، ووسيلة إلى الإيمان، ودافعا للإمعان في تقديس الله والتسبيح بحمده. أما هو فقد أثقلت هذه المظاهر كاهله بفكرة العدم والموت، فكان عبوسا، لكنه استسلم لفكرته فكان عبوسه في غير ثورة ولا قطوب، بل كان عبوس أبيقوري مستسلم لفكرة الحياة استسلامه لفكرة العدم، مندفع في سبيل المتاع بالحياة حتى ينسى نفسه في الحياة قبل أن يدركه العدم.
وهذه الفكرة البسيطة العظيمة، وهذه الطبيعة المترامية الأطراف التي يظل يجوبها من طرف إلى طرف طول شبابه، وهذا الاستسلام للطبيعة وللفكرة التي ألهمتها الطبيعة إياه - ذلك كله هو ما تراه واضحا جليا في كتبه، ظاهر الأثر في أسلوبه. •••
كان لوتي يجوب البحار مستسلما لهواجسه، رازحا تحت حمل فكرة العدم، «يدس الموت بسمه في حياته فيفسد عليه لذتها وينغص عليه شهوتها.» ولذلك كان إذا رسا به السفين عند الشاطئ يندفع مع زملائه يريد أن ينسى نفسه في لذائذ الحياة وشهواتها تخلصا من عبء فكرة العدم والموت. وكان بطبعه سريعا إلى الانخراط في البيئة التي يحل بينها وإلى تقمص روح الطبيعة، والناس الذين يحيطون به، وإلى العيش كما يعيشون، وإلى المتاع بما به يمتعون؛ فكان تركيا في تركيا، مصريا في مصر، يابانيا في اليابان، مستوحشا في تايتي. وكان يرى في الحب خير متاع ينسى به ألم الحياة، كما كان يرى فيه خير مطية تنقله فوق لجة الحياة إلى ساحة العدم؛ وأنت لذلك لا ترى في كتبه إلا وصفا للطبيعة المحيطة به يشعرك بمبلغ حبه لها، وبأنه فني فيها فانطبعت بكلها في خياله؛ وتحدثا بعيشه بين أهل البلاد التي نزل فيها على صورة حياة أهلها؛ وقصصا لحكايات حبه للفتاة التي تمثل في هذا الوسط مجموع جمال الوسط مجسدا في المرأة. ثم تبدو من خلال ذلك الوصف وهذا الحديث والقصص فكرة العدم والموت من حين إلى حين، وتبدو في صورة محزونة تدلك على مبلغ ما وخز الألم لوتي حين مرت هذه الفكرة المخيفة بخياله المستسلم لملذات الحياة.
وأنت ترى كذلك في كتب لوتي ما يجعلها أشبه بالذكريات كتبها صاحبها لنفسه، فوصف فيها ما رأى وما سمع، وما أحسه وما اندفع نحوه، وكأنه يريد بهذه الذكريات أن يزيد في متاعه بالحياة، وأن يجمع حوله في كل لحظة من لحظات الحاضر صورة ذلك الماضي المتعاقب بملاذه وشهواته وآلامه ومخاوفه، حتى يكون متاعه بالحياة مضاعفا، وحتى ينسى مع هذه الذكريات شبح المستقبل الذي لا يحوي عنه لوتي إلا صورة الفناء الأليمة المحزنة ... على أن هذه الذكريات لم تكن لتكفي كاتبها أداة لنسيان فكرته؛ لذلك جمع حوله حين عاد إلى مسقط رأسه تذكارات شتى من البلاد التي مر بها، فكان منزله مجموعة عجيبة مما في الأرض من عجائب. وكان لوتي، وهو في وكره فوق ثرى فرنسا، يشعر وسط هذه المجموعة بالأرض مجتمعة حوله، وبصور صديقه تحيط به، وبالزمن مجتمعة سنوه تحت نظره.
كان لوتي إذن يحب الحياة ويخشى الموت، وكان حبه شديدا وخشيته شديدة؛ فكان يجمع حوله كل أدوات الحياة يتلهى بها عن شبح الموت، وكان دائم الاشتغال بما يحب وما يخشى، فلم يتسن له أن يبتسم للحياة، ولا أن يسخر من الموت؛ ذلك بأن المحب والخائف لا يعرفان الابتسام، إنما يبتسم من يقف موقف المتفرج. من أجل ذلك كان أسلوبه بين الاستسلام والتهجم، وكان تصويره للأشياء تصوير المعجب بها أو الحذر منها. وكان حبه للمرأة حب امتلاك ليفنى فيها ولتفنى فيه أكثر مما كان حب غزل ليلهو بها وتلهو به، وأكثر مما كان حبا نفسانيا يتشارك المحبان بسببه في المتاع بدقائق الكون وبدائع الخليقة. كان لوتي لا يتخير لحبه إلا فتاة فجة الذهن والنفس، تفتحت عيونها للحياة كما تتفتح عيون الزهر إن حان موعد إزهاره، وبقي قلبها غضا يدفع إلى وجودها شبابا عذبا لا يفتر يبتسم؛ لأنه الشباب ولأنه عذب، كما لا تفتر الزهرة تبعث من أريجها ما دامت في شباب أزهارها لم يجئ عليها ذبول ولا أفول. «فأزياديه» «وفاتوجيه» «وجنان» ومدام «كريزنتم»، وغيرهن كن في عذوبة الشباب جمالا ورقة، وكن في طفولة الإنسانية استسلاما وطفولة. وهن قد بلغن من ذلك أن كن لا يرين في اتصالهن بلوتي خطيئة ولا إثما.
وكان لوتي يعرف كيف يصف هذا الحب المتنقل وهاتيك الطفلات المحبوبات وتلك الطبيعة المترامية الأطراف المتنوعة الأرجاء، كان يعرف كيف يصف، وكان يعرف كيف يرى، وكان يرى كل ركن من أركان الأرض بالعين التي يراه بها أهله، وكان قلما يلجأ إلى الكلمات المبهمة المعنى إلا إذا كان المعنى الذي يريد أن يصيغه مبهما لذاته. مع ذلك كان عدد كلماته محصورا حتى لا تكاد تجد كلمة وحشية أو معقدة أو مهجورة. وما للوصف والكلمات المهجورة أو المعقدة أو الوحشية، إنما يصف الكاتب ليرى القارئ من غير حاجة لمنظار معظم، وليس منظار يحتاج إليه القارئ أتعس من القاموس يلتجئ إليه.
على أن لوتي كان كثير التكرار في وصفه، ليس ما يمنعه من أن يصف مغرب شمس اليوم ليعود بعد قليل فيصف لك مشرق شمس غد ثم مغربها، وليس ما يمنعه من أن يصف سفحا من سفوح الجبل ينتقل منه إلى وصف السفح المجاور له. وقد يجد الناس مثل هذا التكرار مملا، لكن للكاتب الوصاف عذره؛ فالشمس تشرق كل يوم وتغرب كل يوم وليس يضعف ذلك من أن كل مشرق شمس جميل. وأنت تتمتع كل يوم بصور متاع متشابهة، فلا يصدك عن المتاع بشيء غدا أنك متعت بمثله اليوم، بل لقد يكون في التكرار لذة لذاته، وقد يكون التكرار مضاعفا للذة؛ لأنه يضاعف قوة الإحساس بها. والصحيفة التي يكتبها الكاتب المجيد كمشرق الشمس أو كسفح الجبل أو كساعة الحب، تود لو تعود إليها، فما بالك لو أنك رأيت مشرق الغد فكان أكثر من مشرق اليوم بهجة، وإن كان أقصر منه حينا، أو لو أنك رأيت سفح الجبل غدا فإذا أزهار جديدة تفتح عنها أكمامها فتزداد بشذاها متاعا والتذاذا.
فالتكرار لا يمل لذاته، وإنما يمل منه ما زاد عن الحاجة، وليس كاتب مجيد إلا يعرف مقدار هذه الحاجة وإلا تداعت إجادته. وقد ظل لوتي وصافا مجيدا حتى أتى عليه الموت.
وقد لا يعنيك وأنت بين جنات لوتي أن ترى عقلا كبيرا وحكمة كثيرة، إنه ينقلك من وحدة التفكير إلى ساحات العالم الواسع، وهو ينتقل بك من متجمد الشمال حيث تكون بين الصيادين في إسلاندة إلى المحيط الهادي وإلى خط الاستواء، فليس لديك وقت للتفكير. وهو لا يعنى بأن يحبس عنك صور الوجود المترامي لتحبس نفسك على التفكير في ذرة من ذراته، ولو أيقن أن هذه الذرة أصل الحياة ومصدر الوجود. •••
تلك بعض خواطر عن لوتي الذي نعاه لنا البرق أخيرا، وليس يسيرا أن نكتب عن لوتي فنوفيه حقه، وإنما أردنا أن نقف برهة عنده في ساعة ارتحاله إلى العالم الآخر، أو إن شئت فقل في ساعة دخوله من باب الموت إلى ساحة العدم التي كان يفزع من هولها. وحق علينا أن نقف عنده؛ فقد كان شاعر فرنسا، ولكنه كان نابغة من نوابغ العصر، وكان محبا للإنسانية كلها، وكان كلفا بالشرق معجبا به.
قاسم أمين (1)
لكل عصر في حياة أمة من الأمم مميزات خاصة، ولم يعن المؤرخون بدرس هذه المميزات في أوروبا إلا في العصور الأخيرة، بعدما ثبت لهم أن مواليد الملوك ووفياتهم وما يقومون به من الغزو والفتح ليس هو وحده الذي يقيم حياة الأمم. كلا، بل ليس هو الركن في إقامة حياتها. وإن قيام الملوك ونزولهم عن عروشهم وما يتخلل ذلك من الحروب ليس إلا مظهرا من مظاهر هذه الحياة؛ خصوصا بعد إذ دك عرش الاستبداد وقامت الديمقراطية حاكمة آخذة بيدها النهي والأمر. وإنما قوام حياة الأمم مميزاتها من أخلاق وعادات وعقائد وآمال. تلك مجموعة المظاهر التي تصدر عن الأمة والتي تقوم عليها الحكومات والملوك والحروب. من يوم ثبت ذلك لعلماء التاريخ في أوروبا وجهوا عنايتهم الخاصة لبحث جميع المظاهر التي كانت تصدر عن المجموع الذين يريدون تعرف ماضيه، فلم يتركوا أثرا يهدي لبعض هذه المظاهر إلا قفوه، وبذلك أمكن لهم أن يرسموا في التواريخ التي وضعوها صورا مضبوطة من تلك الأمم، واستطاعوا من بعد ذلك أن يربطوا الحاضر بالماضي، وأن يقدموا بذلك لأنفسهم ولغيرهم من المفكرين وعلماء الاجتماع مادة جيدة غزيرة يمكن معها رسم أقوم الطرق للوصول إلى أحسن ما يرجى في المستقبل.
وكما كانت القوانين وكتب العقائد من تلك الآثار المفيدة التي عني المؤرخون ببحثها والتنقيب عن أصولها لمعرفة العلاقة بين الفرد وضميره وبين الفرد ونفسه وبين الفرد والفرد، كذلك كانت كتب المفكرين وكتاب الآداب من الآثار النفسية التي قامت نبراسا لهداية الباحثين إلى عوائد الأمم وأخلاقها وطرق تفكيرها ونظام حياتها اليومي في أعمالها؛ ولهذا اتجهت عناية التاريخ إلى دراسة هذه الكتب على اعتبار أنها آثار اجتماعية لا مجرد مظاهر فردية، وانقطع كثير من رجال العلم للتنقيب فيها يريدون رد كل فكرة أو صورة أو خيال مما يجدونه إلى الأصل الاجتماعي الذي صدر عنه، كما استعانوا بها لتحقيق هذه الأصول الاجتماعية وتحديدها. وذلك المعنى هو ما أراده (تين) حين قال في مقدمة كتابه عن تاريخ الآداب الإنجليزية: لقد ظهر للمؤرخين أن الأثر الأدبي ليس مجرد حركة خيالية، ولا هو شهوة ساعة لرأس حامية، ولكنه صورة من الأخلاق وأثر من آثار الحال النفسية التي تحيط به. ومن الخطأ درس الأثر الأدبي على أنه عمل قائم بذاته، فما آي الإيمان بشيء لذاتها، وإنما هي أثر الذين وضعوها. وإنما يكون التاريخ الحق حين يبدأ المؤرخ يتعرف الرجل من خلال غيابات الزمن، ويميزه حيا عاملا ذا شهوات وعوائد، مسموع الصوت منظور الوجه، ويرى إشارته وملابسه ويحيط به واضحا كاملا كأنما كان معه في الطريق ولما يكد يتركه.
وظاهر أنه متى وصل المؤرخ من استفسار الآثار العقلية والأخلاقية والمادية لأمة من الأمم حتى أحاط بها إحاطة استطاع معها أن يعرض أمام النظر صورة دقيقة من الشعب الذي اختار في الزمن الذي اختار، كان من السهل عليه وعلى من يقف معه عند الصورة التي وصل إليها الاتفاق على رسم طرق الإصلاح والعمل لتوطئة مستقبل أقل أغلاطا من الماضي وأكثر سعادة. ومن دونه يكون نظر كل فرد أو جماعة صغيرة للحاضر وأحواله وحوادثه محدودا ضيقا، وتكون الوسائل التي يتخيرها المفكرون للعمل خير في المستقبل متشعبة متناقضة متضاربة. ومهما تكن حياة الأمم من القوة فإن التشعب والتضارب في خطط السير التي ترسم لها تذهب بمجهودات المجموع فيها، ولا يكون لها حينذاك مهما حسن حظها إلا أن تقف في نقطة لا سبيل إلى التقدم بعدها. ووقوف الحي عن التقدم معناه التدرك إلى الفناء.
وإنه ليحزننا أن نقول: إن مميزات حياتنا والآثار التي صدرت عنها لم يعن بالنظر فيها منا أحد؛ وترانا لذلك أشد ما نكون جهلا بحقيقة حياة هذا الوادي الذي نعيش فيه، وبالتالي أبعد ما نكون عن معرفة الوسائل لإصلاحه، ولكم علت صيحاتنا طلبا للإصلاح، ثم كم اختلفنا على هذا الإصلاح لا لشيء إلا لأننا نجهل حقيقة حالنا ... إليها حتى يتم بعض ما نريد.
ولو عني بعض دعاة الإصلاح باستظهار صورة حية ناطقة من تاريخنا المتصل بحاضرنا أو البعيد عنه عناية المؤرخ الذي يريد أن يتعرف الرجل من خلال منائي الزمن، ويميز شهواته وعوائده، لوفروا علينا كثيرا من مجهوداتنا الاجتماعية الضائعة، ولطرقوا باب الإصلاح الصحيح الذي منه يصلون.
لا أعرف مصريا كتب عن عوائدنا وعقائدنا ليظهر صلة ذلك بباقي مظاهر حياتنا القومية، ولا صلته بتاريخنا القريب أو البعيد، ولا أعرف مصريا فسر لنا صورة كتاب من كتابنا وجاهد ليرد أفكاره إلى مصادرها ويظهر حقيقة هذه المصادر. لا أعرف مصريا بذل أي مجهود جدي ليعلم المصريين تاريخ مصر.
وقفت على الجزأين الثاني والثالث من التاريخ الذي وضعه الشيخ محمد رشيد رضا عن المرحوم الشيخ محمد عبده. والشيخ رشيد إن لم يكن مصريا فهو متمصر. وفي هذين الجزأين ما كتب المرحوم من المقالات وما كتب عنه حين وفاته من المراثي، ولكن الجزء الأول؛ الجزء الذي يحوي صورة الشيخ محمد عبده حية ناطقة متصلة بحياة العصر الذي عاش فيه متأثرة بهذا العصر مؤثرة فيه مفسرة له متفسرة به، هذا الجزء وهذه الصورة التي يريدها الناس من المؤرخ بقيا في صدره إلى الآن، وقد مضى على عزمه على إظهارهما عقد من السنين.
وقعت كذلك على بعض أجزاء مما كتب عن حياة المرحوم مصطفى كامل باشا. ولا شك في أن مصطفى كامل من الأشخاص الذين يفسرون جهة من جهات حياة هذه الأمة، ويتفسرون بها في العصر الذي ظهر فيه، ومع هذا كان كل ما في الأجزاء التي أذكر أني رأيتها جملة من الخرافات لا تفسر حياة الكاتب، ولا تبين صلتها بعصرها وتفسيرها له وتفسرها به بشكل من الأشكال.
ولا أذكر أن أحدا فكر في استفسار كتابنا بعد هذا، اللهم إلا بعض مقالات في الصحف تظهر عن كل كاتب أيام حياته أو على أثر وفاته. هذا على أن كتابنا أمثال قاسم أمين وفتحي زغلول وعلي يوسف وغير هؤلاء وأولئك، قد كان لهم في حياة الأمة أثر غير قليل، كما أنهم كانوا مظاهر خاصة لحياة الأمة. وإذا كان هؤلاء لا يزالون على مقربة منا وقد عاشوا بيننا، وربما وجدوا فيمن بعدنا من يعنى بمعرفتهم، فإن من هم أقدم منهم من الكتاب أمثال الجبرتي وابن إياس لم يجدوا من يعنى بدرسهم ودرس ما كتبوا على اعتبار أنهم مظاهر اجتماعية للأجيال التي عاشوا فيها.
كذلك لم يعن أحد بدرس ما سوى الكتاب من مظاهر حياة الأمة في الماضي وآثارها، بل كلنا نعيش للحاضر وفي الحاضر، نعيش وحدات مستقلة متأثرة بضرورات الحياة، غير محسة بمعنى الاجتماع، ولا بما يستلزمه العيش المشترك. فإذا مر بنا هذا الإحساس كان أقصى ما يستثيره عندنا رغبات وآمال تطير مع الهواء، ولا تجد لها مستقرا، ثم لا تبقى لها بعد ذلك باقية.
والحقيقة أن طرق باب الإصلاح يستلزم قبل كل شيء الإحاطة بحال الأمة، والأمة لا تتكون من اللحظة الحاضرة، بل إن للماضي في شركة حياتنا قسما أكبر مما للحاضر. الماضي هو حياتنا كلها، هو الأب الذي أنشأ اللحظة الحاضرة، وسلطان أبوته سلطان فعال قاس شديد المحال. وإنما يكون الإصلاح بالاستعانة بما في هذا الماضي من حسنات، ومساعدة هذه الحسنات لتسري إلى المستقبل وتنمو فيه، وبمحاربة ما فيه من مفاسد محاربة استئصال وإبادة ... أما مجرد إرسال الرغبات تلو الرغبات، والتعلق بحبال الوهم، فحلم ينقضي مع صاحبه ولا يترك أثرا بعده. والتألم على فوات أمل لم يتبعه عمل تألم الطفل على ما خيل له في حلمه أنه حصله، فلما استيقظ لم يفد شيئا. وحاشا أمة تريد البقاء أن تتعلق بوهم هذا مآله. وإنما عليها أن تعمل للوقوف على ماضيها لتستطيع إصلاح مستقبلها.
وربما كان أحق الناس بالتغلغل في خبايا الزمن واستطلاع حقائق التاريخ جماعة الأدباء والعلماء، ولكن والحال أن أدباءنا ناسون هذا الواجب تائهون في خيالهم وشعرهم وعلماءنا واقفون عند ما خطت أقلام السلف وما ينقل إليهم من أوروبا، فليس من سبيل إلا أن يتولى ما أهملوا قوم قد تساعدهم إرادتهم على التقدم بما يستطيعون من فائدة لسواهم. ولا يكلف إنسان في الحياة إلا وسعه.
لهذا رأيت أن أبحث من جوانب حياة قاسم أمين حياته ككاتب ومفكر اجتماعي بحثا تحليليا أظهر فيه صلة رجل قام بحركة فكرية كبيرة في مصر بمجموع حياة الأمة، ومقدار تأثره بهذا المجموع وتأثيره فيه، وأبين الأصول التي يمكن أن ترجع إليها الأفكار التي قام بها قاسم أمين، والتي كانت من الظواهر الاجتماعية المحسوسة التي ظهرت في العصر الأخير في مصر.
قاسم أمين (2)
من أجل درس رجل من الرجال؛ فيلسوفا كان أو كاتبا أو شاعرا، يجب قبل كل شيء تعرف الوسط الذي عاش فيه والحال النفسية الخاصة به؛ حتى يعلم تأثير هذه البيئة المعينة على هاته النفس المعينة، فإذا تم ذلك تفسر الفيلسوف أو الكاتب أو الشاعر إلى حد كبير.
لهذا نرى للوصول إلى تفهم أسلوب قاسم أمين وأفكاره أن نحلل حال الوسط الذي عاش فيه، والأوساط الأخرى التي قد تكون أثرت عليه في حياته، ثم نبحث من بعد ذلك حاله النفسية الخاصة به، فإذا تهيأ لنا من ذلك ما أردنا كان لنا أن نحلله ككاتب، وأن ننظر في كتبه من جهة أسلوبها، ومن جهة الأفكار التي وضعت فيها. حينذاك يكون قاسم قد ظهر لنا ككاتب ومفكر ظهورا تاما، ونكون في حل من الحكم على قيمة كتبه وما لها في الوجود من حق البقاء. (1) الأوساط التي أحاطت بقاسم
ولد قاسم أمين في مصر، وأقام بها كل حياته إلا سنين قلائل قضاها في فرنسا، على أن هذه السنين القلائل كانت ذات أثر كبير عليه؛ ولذلك يجدر بنا أن نحلل الوسط المصري وأن لا نغفل الوسط الفرنسي. أما سياحاته الأخرى في بلاد الترك والشام، فلم تترك عنده أثرا خاصا، ولم تكن أكثر من موضع ملاحظة السائح المار في ربوع تلك البلاد. ويجدر بنا للوصول إلى نتيجة ما من بحثنا الوسط المصري أن نعنى به من جهتين، وبتعبير آخر: أن ندرس منه نوعين: أولهما الوسط الطبيعي، والثاني الوسط الاجتماعي للعصر الذي عاش فيه قاسم. ذلك بأن الوسط الطبيعي ذو أثر كبير في الناس الذين يعيشون فيه، وبالأخص فيما يتعلق بخلقهم. والوسط الاجتماعي هو صاحب الأثر الأكبر في تشكيل أفكارهم. (1-1) الوسط الطبيعي
بينا ترى مصر البرزخ الذي يصل بين الغرب والشرق إذا طبيعتها الجغرافية تضعها في عزلة عن العالم بشكل غريب؛ فالصحاري تحيط بها شرقا وغربا وجنوبا، والبحر المتوسط يحجبها عن بلاد الشمال. ووسط هذه العزلة المنقطعة ينساب نهرها المبارك الغدوات الميمون الروحات، يظل واديه طقس متشابه دائم الابتسام، وسماء صافية لا تتلبد بجهام، وجو معتدل وشمس دائمة وصفو وسكينة. تجوب الوادي من أقصاه إلى أقصاه فلا تقابلك عقبة تحتاج مجهودا لإزالتها، ولا تثور عليك من ثائرات الطبيعة ريح أو زوبعة أو مطر، بل تراك تسير بين جبلين يقتربان حينا فيحدان الأفق دون مرمى نظرك، ويبتعدان أحيانا فلا ترى دون الأفق مما يجلل أرض الوادي إلا النبت النامي والأشجار اليانعة وأسراب الطير السانحة والبارحة.
وسط هذه المزارع الواسعة ترى الدواب في سكينة أشبه شيء بسكينة الخلد، وأكثرها من تلك الدواب الهادئة المطمئنة إلى عيش السكون. فالثيران واقفة وسط مزارع البرسيم أيام الشتاء لا تتحرك من مكانها، والحمر مدلاة رءوسها الفارغة لا تهتم بأكثر من أن تنال علفها القريب منها. وقل أن تجد سوى هذين النوعين من أنواع الحيوان إلا ما قام الزينة أصحابه.
بل إن الحيوانات المستوحشة مما يوجد في البلاد هي على قلتها حيوانات ضعيفة مستسلمة؛ فتلك الذئاب الضئيلة الضعيفة لا ترى إلا نادرا، ولا يسمع أحد أنها شنت الغارة يوما على مخلوق مما يعيش قريبا منها. وهاتيك الثعالب المستميتة لا يعلم عنها إلا اعتداؤها أحيانا على بعض منازل الدجاج. وهذا أشد الحيوانات مما يوجد في مصر حركة وافتراسا. وليس هناك سواهما إلا ما هو دونهما بمراحل في الضآلة والضعف والاستسلام؛ حيوانات كلها لا تهيج طائرا ولا تبعث إلى موجود هزة الخوف.
لذلك كان كل شيء مما ترى تظهر عليه هدأة السكون؛ سكون يخيل لك معه أن هذه الأشياء تائهة في أحلام مبهمة وخيالات بعيدة. ليس ثمت ما يكدر على شيء منها صفو أحلامه، ليس ثمت ما يمنع الصرصار من أن يستمر في صفيره، ولا ما يقطع على الضفدع نقيقه ثمانية أشهر في السنة؛ ليس ثمت ما يزعج الحمر عن مرابطها من قيظ محرق أو قر مخيف؛ ليس ثمت ثلج يترك الأشجار مدة الشتاء عابسة قائمة؛ ليس ثمت تلك الاختلافات التي تجيء بها الطبيعة في بعض البلاد فتغير وجهها ما بين فصل وفصل، وتغير لذلك معالم كل الموجودات التي عليها؛ وليس ثمت تلك الحواجز الطبيعية التي تستثير في كل مخلوق حب الاستطلاع، أو تستدعي منه صرف المجهود للتغلب عليها.
وليس هذا السكون الذي ترى سكون الصحراء البلقع المقفرة، بل إن ذلك الوادي المفرد في عزلته هو مستقر النضرة والنعيم ؛ فنهره الفياض يجود عليه كل عام بماء الحياة، ويجعل من أرضه روضة يانعة كلها الخصب والثروة.
ولقد بلغ من ذلك حتى ذهب الأقدمون إلى أن النهر يستمد ماءه الغني من ينابيع الجنان، وأن الوادي قطعة من رياض الجنة. وتفننوا في تصوير ذلك ما شاء لهم الخيال المتدفق الذي يتغنى بكل موجود على ضفاف النهر.
وعلى الرغم من هذه الثروة التي يجود بها النهر على واديه ترى حكم الطبيعة المتشابهة الساكنة على كل ما في الوادي حكما قاسيا يخضع كل شيء لشدته؛ فإنك تمر وسط الحدائق والمزارع والمروج بقرى كلها من اللبن متضائلة تائهة في سكون الوادي كأنها بأكواخها الترابية اللون آثار بالية مما خلف الماضي، أو هي أوجرة وأوكار لتلك الحيوانات الضئيلة المستسلمة، فإذا ما دخلت أحدها صدق الواقع ظنك فوجدت نفسك في غرف مظلمة لا يجد النور إليها سبيلا إلا كرها، ثم إذا أضاءها أصحابها ليطلعوك على ما فيها جاءوك بمصباح قذر قليل النور، فرأيت على شعاعه جدرانها السوداء العارية، وأرضا ربما غطاها فرش من الحصير أو القش. وهناك عند أحد الأركان معلقة جريدة من سعف النخل تحمل كل ما في الدار من فرش ودثر وما لأصحابها من ملابس وأردية. وإن أنت عثرت في بعض القرى بمنزل ذي نوافذ، وفي نوافذه زجاج، كان ذلك دليل ما عند أهله من سعة ويسار غير عاديين. على أن هذا اليسار لا يحمل أحدهم ليدخل من مواد الترف إلى داره ما يثور على الطبيعة القانعة المستسلمة.
وفي هذا الوسط الخالد إلى السكينة يجد الضيف النازل رحبا وسعة، ولا يمر بخاطر موجود ممن في الوادي أن يحسب فيه منافسا أو مضايقا.
رزق الوادي يسعه ويسع غيره معه. وكل ما يطلب إليه أن لا يبالغ في الأذى، وأن لا يزعج موجودا عما هو فيه من أحلامه وسكينته. للتمساح إذا دخل في النهر أن يعيش مما يصل إليه من رزق؛ له أن يأكل ما ضعف عنه من الأسماك، ولكن عليه إلى جانب ذلك أن لا يثير في البر أو في الجو الفساد .
عليه أن يترك القوارب تخطر فوق مياه النيل كما تشاء.
عليه أن لا يخرج إلى حيث الناس والدواب فيقلقها عن مرافقها. فإن هو لم يفعل ذلك استعدى كل من في الوادي الآلهة، واستعانوا عليه بما قد يبعث أذاه إلى نفوسهم من الحركة والهياج ضده. والآلهة - وأكبرها الطبيعة - ضمينة أن تخرج هذا الضيف الذي لا يلائمها من ملكوتها ملكوت الحياة المطمئنة الساكنة.
فقد جاء في التاريخ أن النيل قذف أكثر من مرة بالتماسيح إلى شاطئه، ونزل عنها وتركها وسط الرمال في جو لا يلائمها، فذهبت ضحية مقامها في وسط غير وسطها.
وجاء أن بعض السباع عدا على البلاد، فخانه الوسط الطبيعي ولم يجد لنجاته سبيلا إلا الرحيل، وكل ما بقي من الضيفان من خضع للجو المحيط به، ونزل عن كثير من أخلاقه، ورضي بالعيش الذي يكرهه عليه ما حوله من المجاورات ... أو على الأقل من تصنع هذا الرضا والخضوع.
وهذا الوسط هو الذي أحاط بمن نزل وادي النيل من قرون القرون، وهو الذي خلق الموجودات والناس ممن عاشوا فيه، ولم يؤثر فيه الناس ولا الموجودات إلا أقل الأثر.
فماذا عسى تكون الخلائق التي أوجدها؟ وماذا عسى يكون أثره فيهم؟ (1-2) الوسط الاجتماعي
لسكان وادي النيل مميزات خاصة امتازوا بها منذ القدم؛ مميزات في أنظمتهم الجسمية، ومثلها في أنظمتهم الأخلاقية والعقلية، وكلها خلق ذلك الوسط الطبيعي الذي يعيشون فيه. فكما أن طقس بلادهم طقس هادئ دائم السكينة قليل الغير؛ كذلك تلمح في وجوههم أثر السكينة الهادئة المطمئنة، وتلاحظ في أخلاقهم الاستسلام والعيش في الحاضر، وترى في تفكيرهم خلودا للماضي وعدم ميل للتغيير. هم يعيشون على نحو ما عاش آباؤهم، خلا أماني تجول برأسهم قد يتغنون بها أحيانا إذا ساعدهم الوقت على التغني، كما يتغنى الطائر ما دام الصيف وما أسعده الدفء، فإذا جاء الشتاء أسكته.
كذلك إذا تغيرت الظروف انكمش المصريون ونسوا أغنياتهم، ورجعوا إلى عيشهم الأول مكتفين من الحياة بحرث الأرض وبإنتاج مواد الرزق وما تستلزم المعيشة.
وهذا هو سبب ما نرى في التاريخ من تقلب الولاة والحكام الأجانب على هذه الديار، من غير أن يدفع أهلها لمناوأة حاكم ملكهم دافع، بل لقد بقيت الأسرار الفرعونية تتوالى واحدة بعد أخرى وليس من بينها أحد من سكان الوادي الصميمين. وهؤلاء السكان أبعد ما يكونون عن التفكير في إسقاط أسرة أو الطمع في الاستيلاء على العرش، ويبقى الحاكم متربعا في دسته آخذا بيده النهي والأمر؛ حتى يجيء سواه من جنسه أو من جنس آخر فيستعين عليه بالقوة أو بالدهاء حتى يسقطه ويأخذ الحكم مكانه. والمصريون ينظرون لذلك كله بعين مطمئنة، وقلب إن جالت به بعض الوساوس، فإنها لا تخرج إلى أكثر من الهمس الذي يزول يوم ينكشف النزاع بين المتجادلين. وأي منهما غلب كان صاحب الحكم وصاحب الحق على عرش وادي النيل وصاحب الرعاية على سكانه.
وعجيبة قوة الوسط الطبيعي للوادي في إخضاع من يقيم فيه لسلطتها، فلا يلبث الحاكم القديم أن يتدرك إلى ملابسة الناس من أهل الوادي ومخالطتهم، والعيش بينهم، حتى تداخله وتداخل أبناءه الأخلاق الخاصة التي امتازت بها الطبيعة. فهو سرعان ما يميل إلى الاستسلام للطمأنينة والأخذ في طريق الحياة الساكنة القانعة من العيش بما تنبت الأرض وبما يرزق الله؛ لهذا لم نر أسرة من الأسر بعد إذ غلبت على أمرها كونت لنفسها حزبا تناوش به من بزها عرشها سعيا وراء استرجاع ذلك العرش، اللهم إلا في ظروف نادرة ولوقت قصير.
ولقد كان من أثر هذه العوامل الرئيسية أن زادت في ذلك الاستسلام الطبيعي الموجود في النفس المصرية، فاصطبغ كل ما دخل إليها من الأخلاق والعقائد بصبغته، وأصبحت قواعد الأديان التي توالت على أرض مصر مرتكزة على أساس الجبرية والإيمان، كما امتازت الأخلاق المصرية بالسكون إلى حكم القضاء. ولم يكن من صالح الحكام المتعاقبين تغيير شيء من ذلك كله، فانغرست تلك الصفات وتأصلت ووصلت إلى حد الجمود.
لذلك كله كان واجب المصلحين في هذه الديار أشق وأتعس ما يتصور.
كان قاسم أمين والوسط الذي عاش فيه تحكمه كل هذه الصفات، ولكن كان إلى جانبه حركة اجتماعية جديدة قامت على أثر الحركات المتوالية التي تعاقبت على مصر في القرن الأخير.
حركة حرة قامت على أساس فكرة الإصلاح متأثرة بما حصل في البلاد في سنتي 1876 و1882، وبما عقب ذلك من أوجه الإصلاح الاقتصادي والنهضة الشابة العلمية التي أخذتها بيدها حكومة ذلك الوقت. وأعان هذه الحركة الإصلاحية الحرة على البقاء والتقدم المركز الخاص الذي وجدت فيه مصر بعد سنة 1883، والذي أدى لوجود حكم البلاد في يدين متنافستين تنافسا سمح بازدياد الحرية الفردية، وترك للأمة أن تبدي على الملأ ما كان يجول بخاطرها من الأماني، متأثرة في ذلك بما ورد إليها من نظريات الغرب الذي كان قد بدأ يهتم لها اهتماما خاصا لما خلقه لها قنال السويس من المركز الخاص.
لكن هذه الحركة الجديدة كانت قاصرة على أن تمتد إلى جوف البلاد، بل كانت لا تزال متركزة في العاصمة ولا يصل منها إلى بعض المدن إلا صدى لا يؤديها بشكل مضبوط، ولا يترك منها في نفوس أهل تلك المدن إلا أثرا ضعيفا هو أشبه شيء بما يتركه الحلم في وهم الحالم بعد يقظته، كما أنها كانت لا تزال مترددة لم تختط لنفسها طريقا معينا، ولا هي تجددت بحدود خاصة إلا في نفوس بعض الرؤساء القائمين بها.
ولما كانت متركزة في العاصمة كانت كل ملاحظاتها وكل أطماعها وكل الأغراض التي ترمي إليها مأخوذة من نوع حياة العاصمة، وموجهة إلى إصلاح هذا النوع من الحياة. ومن شأن العواصم أن تعزو كل ما تراه بين جدرانها من الخير والشر، وما تتوهم في ربوع البلاد من بر وفقر إلى عمل الحكومة وإلى نظامها؛ لذلك كانت حركات العواصم متطلعة أغلب الأحيان إلى الناحية السياسية. وفي حركة العاصمة المصرية في سنة 1882 شيء من هذا المعنى، لكن ما قدمنا من صفات أوجدتها الظروف الطبيعية والسياسية في الشعب المصري كان من شأنه أن يضعف عزم كل مصلح يريد الدعوة للانقلاب السياسي، ويدعوه للتفكير في البدء بالإصلاح الاجتماعي . هذا فضلا عن أن قوى خارجة كانت تحول بين السياسي وبين نجاح الدعوة للانقلاب؛ لهذا كانت الحركة الحرة التي نشأت عند نشأة قاسم أمين مضطرة إلى أن تهتم بالإصلاح الاجتماعي قبل كل شيء.
ولما كانت هذه الحركات ترمي إلى شيء من التجديد في طرق العمل والتفكير والاعتقاد، كانت المعارضة القائمة في وجهها غاية في الشدة؛ فلم يكن قوامها إلا المركز الممتاز الذي كان للقائمين بها. ولولا مثابرة هؤلاء الرؤساء وما لقوا من التعضيد من بعض الجهات التي كانت تهتم بأن تبقى الحركات الإصلاحية اجتماعية كلها لماتت تلك الحركات في مهدها.
وكان من الحركات الإصلاحية الأخرى التي قامت إلى جانب هذه الأولى حركات ذات وجهة سياسية، اعتمدت في انتشارها على سغب الرأي العام لمثل المبادئ التي كانت تنادي بها، وقد لقيت هذه الحركات نجاحا وانتشارا كبيرا في العاصمة، لكنها اندفعت إلى مقاومة تيار حركة الإصلاح الاجتماعي في بعض ما كانت ترمي إليه مقاومة ذات قيمة.
ولقد ساعد تلك المقاومة أن هذه الأحزاب كانت تناصر المبادئ الجامدة التي توارثتها الأمة وتحبذها، على حين كان أهم ما ترمي إليه حركة الإصلاح الاجتماعي زحزحة الأمة عن مركزها الجامد، وإدخال نوع من التفكير الحر إلى نفسها كي تستعين به على التحلل من بعض العادات والأنظمة؛ أي إن هذه الحركة كانت احتجاجا ناطقا على هذا الجمود وصيحة عالية في وجهه. •••
وكان مما وجه إليه بعض المصلحين نظرهم بوجه خاص ما كانت عليه الأمة - ولا تزال - من الوقوف في الدين عند تفاسير قديمة رأى أولئك المصلحون أنها لا توافق روح العصر الذي يعيشون فيه من جهة، وليست ضربة لازب ولا ضرورة من ضرورات الدين من جهة أخرى؛ فرأوا من الواجب الأخذ بغير هذه الآراء والتحلل من قيودها، ونبذ ما ترتب عليها من المفاسد التي تراكمت بعضها فوق بعض مع الزمن، والتي أصبحت في اعتبارهم علة من العلل التي أصابت الدين وهو منها بريء. وكان على رأس هذه الحركة الشيخ محمد عبده.
ولا شك أن هذا الباب من أبواب الإصلاح كان يومئذ الأساس لكل ما سواه؛ لأن الفكرة الدينية كانت وحدها المتسلطة على عقائد الناس وأخلاقهم وأنظمتهم ومعاملاتهم تسلطا مطلقا لا يفكر أحد في أية وسيلة للتحلل منه ولو إلى أضعف الحدود. ومن أجل ذلك سمح المصلحون الدينيون لأنفسهم أن يجوسوا خلال كل أنواع الإصلاح؛ فكانوا يتقدمون بالرأي في الحال الاقتصادية وفي الحال الأخلاقية وفي الحال الاجتماعية، ولم تكن إلا الحال السياسية هي التي أغلق بابها دونهم؛ لأنها لم تكن في يد الأمة، كما أن أصحابها لم يكونوا ليتهاونوا في أمرها أو ليدعوا لغيرهم أن يبدي فيها رأيا.
ولقد وجه رئيس الحركة الإصلاحية المرحوم الشيخ محمد عبده همه الأول إلى تصفية الدين مما يعتقده الناس من الترهات التي ألصقت به، وكان مثله في ذلك مثل لوثر وكلفن وغيرهما من المصلحين الذين قاموا بالحركة الدينية في أوروبا في القرن السادس عشر؛ أي إنه جعل العقل مقياس الدين، فكل ما لم يتفق مع العقل من تفاسير السابقين هو يعتبره دخيلا لا يستحق البقاء، ويجب أن يقوم مجتهد يحل غيره محله. وكان أكبر همه من ذلك موجها لما يختص بالعقائد؛ لذلك تراه أصدق ما يكون حملة على مسائل الأولياء والنذور وأمثال هذه الطقوس مما هو دخيل على الإيمان بالإله في رأيه، أما ما كان متعلقا بالأنظمة الاجتماعية والاقتصادية، فلم يكن صاحب نشاط فيه وإن كان صاحب رأي. ورأيه إنما كان أغلب الأحيان أثرا من آثار مركزه؛ فقد كان يصدره كفتاوى فيما تطلب منه الحكومة الفتوى فيه، وفيما يعرض عليه من غير الحكومة.
ولقد كان لهذه الحركة التي قام بها الشيخ محمد عبده في وقته من القوة ما لم يكن سهل الاحتمال عند الأمة لولا الظروف الخاصة التي كان فيها الشيخ المفتي؛ فقد كان صاحب الإفتاء في البلاد، كما أنه كان باطلاعه الواسع وبحسن فهمه للظروف المحيطة به وبتوفيقه ما بين العلم الشرقي والعلم الغربي صاحب مكانة لم تتهيأ لغيره من المصلحين؛ مكانة سمحت له أن ينفث روحه في الصحافة ويؤثر بذلك في الرأي العام.
لكن المصريين كانوا مع ذلك أنصار القديم إلا الأقلين منهم؛ كانوا أنصار الطمأنينة للحياة والسكون للماضي والاستسلام للحاضر وعدم الميل لجديد، بل إن كثيرين من الأقلية لم يناصروا الشيخ محمد عبده ومدرسته إلا لغرض في نفوسهم؛ فقد كانوا يرون أن هذه المدرسة تتصل بالسلطة الحاكمة وتقدر بذلك على إفادتهم فائدة مادية؛ لهذا ما لبث الشيخ محمد عبده أن وافاه الأجل المحتوم حتى ابتدأ عقد مدرسته ينفرط، وإن بقيت آثاره في نفوس جماعة الذين لم ينقطعوا للعلم الديني. وبهذه الآثار استطاعوا أن يجعلوا الأمة تسيغ من مبادئهم الحديثة ما لم يكن في وسعها أن تسيغه من قبل.
لكن هذه الهوادة في قبول الأفكار لم تجئ إلا بعد زمن طويل وفي ظروف غير التي كان فيها قاسم؛ لم تجئ إلا بعد قيام نهضة غير مستمدة من الدين، كان قاسم من السابقين إليها والذين لم يتمتعوا بثمارها.
وفي هذا الوسط الاجتماعي ظهرت أفكار قاسم، فاضطرت أن تأخذ صبغته إلى حد كبير، لولا نزعات كانت ترجع إلى ما أفاده الكاتب من فرنسا وإلى حاله النفسية الخاصة. وقويت هذه النزعات عنده في الكتب التي وضع آخرا: المرأة الجديدة والكلمات. ولو أنه عاش بعد ذلك طويلا لزادت قوة، ولكانت من أقوى العوامل في مساعدة الروح الشابة الحاضرة، روح التجديد. (1-3) الوسط الفرنسي
قضى قاسم أمين سني دراسته العالية في فرنسا، وككل شاب يتاح له المقام في إحدى ممالك أوروبا زمنا غير قصير تأثر قاسم بما رأى في تلك البلاد، وتأثر أكثر من سواه، وكان تأثره بنوع خاص من جهتي الإحساس والتفكير، وترك ذلك في حياته الخاصة وفي مظاهره العامة أثرا غير قليل؛ لذلك يجدر بنا أن نستظهر قدر الطاقة نوع الوسط ومميزاته حتى يتسنى لنا تتبع قاسم ككاتب ومفكر.
ولسنا ندعي إمكان الإحاطة بمميزات الوسط الفرنسي في هذه الكلمة القصيرة؛ فإن مثل هذا الدرس تحوجه مؤلفات طويلة، لكنا إنما نريد أن نضع أمام النظر الجهات الخاصة منه التي تأخذ بذهن الشاب الشرقي الذي يقصد إلى تلك البلاد ليفيد منها العلم والنظر ، وربما وصلنا إلى ما يساعدنا على تحليل أسلوب قاسم وكتبه وأفكاره وعقيدته.
تقابل الناظر في فرنسا طبيعة جديدة جميلة لم يعرفها في مصر، ولم يتذوقها إلا من طريق الخيال؛ تقابله جبال وغابات وغياض وحدائق يأخذ جمالها بالنظر ويسترعي اللب والفؤاد، وتقابله كذلك مبان فخمة بديعة النظام فيها غير المعنى التاريخي الذي ألفناه في مبانينا التي وجدت على التاريخ قبل أن يوجد التاريخ معنى الاتساق والتوازن. وفي كثير من هذه المباني يجد التماثيل والنقوش والصور، وكلها مثل الجمال على مختلف أنواعه، فلا يلبث أن يرى ذلك كله حتى تأخذه نشوة تدعوه إلى تكرار النظر إليه والاستزادة منه؛ فهو يذهب المرة تلو المرة إلى قصر اللوفر الفخيم يشاهد فيه أبدع الصور وأدق التماثيل مما خلف اليونان والرومان والهولنديون والإيطاليون وأهل الأمم ذات المدنية والحضارة، ويتردد إلى غاب بولونيا يشاهد فيها أبهى مناظر الطبيعة من بحيرات وأشجار، وأرق مظاهر المدنية من جياد مطهمة وسيارات بديعة تحمل الحي زاد نفسه جمالا بدقة ذوقه في نوع لباسه وكيفية ابتسامه، وما يشف عن رقة طبعه، ويعود بعد ذلك مارا بقصور الإليزيه وبميدان الكونكورد وبحدائق التويلري، وبما في ذلك من مختلف صور الجمال الصامت والناطق، ثم هو يخرج أيام الآحاد إلى الضواحي فتقابله الجبال الصغيرة والأنهار والغياض، فإذا تغلغل في أحشاء فرنسا إلى الأوفرن سحرته عن نفسه ببديع جمالها تلك الجبال المنيعة الرفيعة، تجلل هاماتها الثلوج وتغطي سفوحها الأشجار وتنساب في أخاديدها المياه دائمة الخرير، ويتوجها كل مساء مغرب الشمس الباهر.
وهو في حل ما دام في فرنسا من أن يرى جديدا من هذه المناظر الطبيعة والمدنية متى شاء، أمامه غير قصر اللوفر متاحف لا يحصيها العد، وغير حدائق التويلري وغاب بولونيا حدائق وغابات لا تنتهي، وغير الأوفرن جهات الرفييرا والتيرول وسواهما. وكل هذه المتاحف والحدائق والغابات والنواحي تحوي من الجمال ما يدعو إليه ويحبب فيه؛ كلها الشعر الناطق بآي الحكمة والبهاء والرواء.
تسترعي هذه الأشياء كلها نظر النازل فرنسا ، وتفتح أمامه عالما جديدا لم يجل قط من قبل في تصوره، وتدعوه بذلك للاستزادة ما استطاع مما حولها، فيقصد مسارح التمثيل يرى فيها أثر الفكر الإنساني مجسما متنوعا كما يرى التفنن في حسن الذوق حين يجيل بصره في صالات التياترو المزدحمة أثناء هدنات ما بين الفصول بالمتفرجين. ويذهب إلى ملاعب الموسيقى فتأخذ بسمعه نغمات جديدة مملوءة بالحياة والقوة، مختلفة جد الاختلاف عن نغمات موسيقانا المستسلمة الشاكية. قد لا تطربه هذه النغمات بادئ الأمر، ولكنه يرى فيها معنى خاصا غير الذي ألفه في الموسيقى الشرقية، يراها أغلب الأحيان موسيقى عصبية يهزها الفرح أو يخرجها عن طوقها الحزن، فإذا انبعث عنها الوجد والشكوى لم تدم على ذلك إلا ريثما تصور المدنف الواله وسط الحركة الشديدة؛ حركة المدنية الحاضرة.
ثم يرى فيما حول ذلك كله المتاجر والمصانع كلها النشاط والحركة، ويحس في كل مخلوق مما على أرض هاته البلاد أنه يحب الحياة حبا حقيقيا، ويرى فيها مواضع للفائدة واللذة يمكنه الوصول إليها متى أراد. ولن يكون ذلك بالاستسلام ولا بالطمأنينة للحاضر، ولكن بالجد والعمل؛ فكل يجد ويعمل يريد أن يسخر كل ما على الطبيعة لفائدته ولذته. هذه هي النواحي الظاهرة التي تأخذ بنظر النازل فرنسا.
فإذا هو تعمق في تعرف شئون الفرنسويين إلى أكثر من المنظر الظاهر؛ إذا هو بحث أنواع حياتهم ومبلغ إحساسهم وأوجه التفكير عندهم مستعينا في تفسير ذلك كله بما رأى، تبدت له صور وإحساسات وأفكار وأنظمة أكثر أخذا باللب، وأوقع في النفس مما رأى قبل ذلك. تبدت الأسرة وليست هي مجرد ذلك القطيع الإنساني لا يجمعه أكثر من الروابط الطبيعية؛ روابط الأبوة والبنوة تحت إمرة الأب، ولكنها شركة إنسانية أساسها تبادل الإحساس الخالص والزيادة في سعادة الفرد من طريق الاجتماع وخلق الأبناء، والقيام عليهم ليكونوا في مستقبلهم رجالا أحرارا أو سيدات يعرفن معنى الحرية ويقدسن الواجب.
وتبدت له إحساسات دقيقة رقيقة قوية عنها صدرت تلك الموسيقى العصبية الحرة، وهاته النقوش والصور البديعة المملوءة حياة ونظاما ومعنى، وتلك الروايات المملوءة بالشعر والفكر؛ وعنها تصدر كل جلائل الأعمال التي يرى في تلك البلاد.
وبدا له إلى جانب هذه الإحساسات وآخذا بيدها فكر دقيق مصقول هو مصدر فلسفة طويلة عريضة لم تترك نقطة من نقط الأخلاق أو العقائد أو الأديان إلا حققتها وحللتها، ووصلت فيها إلى مختلف النتائج.
وليست هذه الفلسفة فلسفة استسلام وتواكل، بل هي الأخرى فلسفة قوية مبناها احترام الجنس الإنساني وكل ما ينتج، لا تعرف تقديس الماضي ولا الخضوع له، بل هي تأخذ كل ذرة من ذراته فتحللها وتبحث عن مصدرها وأصلها وطرق نموها والنتائج التي انبنت عليها، ثم تبحث عن قيمتها وحقها من البقاء، فإن لم ترها متفقة مع العقل أو رأتها عقيمة النتيجة طرحتها جانبا.
لذلك لم تذر الاعتقادات دون النقد المر، ولم تترك الديانات ولا أساسها إلا بعد إذ هدمت منها جانبا غير قليل. وقد سارت في هذا الطريق أزمانا طويلة حتى كانت مسألة عدم التدين في العصر الذي نزل فيه قاسم أرض فرنسا مسألة مفروغا منها، بعدما استنفدت من الكتب الفلسفية ومن كتب الشعر والأدب آلاف الصحائف.
وكان من أثر هذه الفلسفة اللادينية أن بثت في الشعور العام فكرة جديدة عن الأخلاق، وعن المعاملات، وعن طرائق النظر عامة، فصارت فرنسا المفكرة تعمل لبناء عمرانها الاجتماعي على أساس من العقل والعلم البحت؛ وصارت فرنسا المتصلة بهذه الأولى - أقصد بذلك شعب المدن - بعيدة عن أن تدين بالأفكار القديمة أفكار الزهد والتقشف، بل آمنت بالأفكار الاقتصادية المنادية بوجوب السعادة في هذه الحياة الدنيا.
ولقد كانت هذه الطوائف جميعا قائمة بهذه المبادئ بنفس الحدة والقوة التي قام بها أهل العصور السالفة لنصرة الدين، فكأن هذه الأفكار العلمية البحتة كانت ترمي لتأخذ صبغة إيمان جديد يحل محل الإيمان القديم، ويطالب أنصاره بتعزيزه بمبلغ ما عزز الدينيون إيمانهم الأول.
لكنما كانت هذه المبادئ الجديدة لا تزال في تشعبها لم تتركز ولم تصل إلى حد الإيمان فعلا. كان كل صاحب رأي يجاهد لإعلاء أمره جهاد صاحب الدعوة، لكن أصحاب الدعوات المختلفة كانوا جميعا من التحمس بحيث لم يصل أحد منهم ليبلغ بدعوته من النفوس ما يجعلها دينا جديدا يحل محل الدين الذي هدمه فولتير ورينان وتين ومن عاصر كلا منهم من الفلاسفة.
هذه الحركة الفكرية القوية في ذلك الشعب الحي وسط تلك الطبيعة الناطقة المتحركة، وهذه المظاهر الفنية من نقوش وتماثيل وروايات وموسيقى، وتلك العواطف الشديدة التي تحرك النفوس - ذلك كله هو أول ما يأخذ بنظر الأجنبي المقيم في فرنسا، وذلك كله هو أساس مدنية الغرب.
في هذا الوسط أقام قاسم أمين زمنا من حياته وتأثر به أكبر الأثر، تأثر به إلى حد تدثرت معه صفات وملكات مما يستلزم الوسط المصري المستسلم الساكن، وظهر هذا الأثر في حالته النفسية، وفي أخلاقه، وفي كتبه وعقائده إلى حد كبير. (2) الرجل
لم تتح لي معرفة قاسم أمين على قرب عهدنا به، وكل ما كنت أعرفه عنه مظاهره في الحياة ككاتب وكقاض، على أن هذه المظاهر كفت لتحل الرجل من نفسي مكانا جمع بين الإجلال والمحبة، فلما وافته منيته في سنة 1908 شيعته إلى مقر وفاته وفي القلب لوعة حزن وأسى وحسرة.
لكن إنعام النظر في صورة الرجل والتدقيق في ما كتب وفي ما ذكره عنه من عرفوه، ومقارنة ذلك كله بعضه ببعض تحيي في النفس منه صورة مضبوطة تجعله أمام المخيلة حيا جالسا في هدأته العصبية الحزينة تؤثر فيه الحوادث جميعها دقيقها وجليلها من جهات العواطف والإحساس أولا، ومن جهة الفكر المنطقي البحت بعد ذلك، وتستدعي منه ملاحظات عصبية هي الأخرى، ولكنها بعيدة عن ذلك التهيج الذي يلزم في أحيان كثيرة جماعة الكتاب العواطفيين. فإذا هو توترت أعصابه أمام تكرر المشاهد والمناظر، وأمام جمود المحيطين به دون التأثر بما يراه هو ويلاحظه، ترك الناس إلى وحدته آملا أن يجد فيها من الطمأنينة والسكون ما يرد إليه هدأته، وكذلك تبقى هاته الحال العصبية تتناوبه حتى تدفعه ليكتب أجمل ما في كتابيه «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، وليحفظ في أوراقه الخاصة بعض كلمات بديعة أظهرتها الظروف بعد وفاته .
وكانت هذه الحال العصبية المحتوية نفسها مرتبة حياته الخاصة، كما كانت مصدر أعماله جميعا. كانت منبع سعادته ولذته وأمله، وسبب آلامه ومتاعبه، ومصدر كتاباته وأفكاره، وأساس أحكامه وقضائه، فكأنما كانت أعصابه أوتارا تتأثر بملامسة الحوادث تأثرا سريعا ينقل إلى نفسه الإحساسات المختلفة، وينقل إلى الخارج مظاهر هذه الإحساسات على النظام الذي تعطيها إياه قوة ملاحظته الحادة الدقيقة.
عاش قاسم أمين حياة لم يتخللها حادث غير عادي يجعل لها صبغة غير مألوفة. دخل المدارس في مصر ثم سافر مع إرسالية الحكومة إلى فرنسا، فلما عاد منها اشتغل في وظائف قضائية انتهت به إلى منصب مستشار في محكمة الاستئناف الأهلية، وبقي في هذا المنصب حتى آخر حياته.
لكنه مع ذلك لم يكن الشخص العادي في أي طور من هذه الأطوار؛ فلقد امتاز في فرنسا بحدة في الذهن لفتت إليه أساتذته. وإني لأذكر الساعة يوما كنت فيه مع الأستاذ «لرنود» أحد أساتذة كلية الحقوق في باريس، ومال بنا الحديث إلى المصريين فذكر لي قاسم بشيء من الإعجاب ملأني كمصري غبطة، وكمعجب بقاسم سرورا، أن شاركني في إحساسي عالم كبير، كما أنه امتاز في القضاء بحسن ذوق غير متعارف، وبدقة في التقدير أكسبته ثقة زملائه وعطفهم. كذلك لم يشاركه في حياة مصر العامة مشارك؛ لم يقم معه قائم بمبدأ جديد بتلك الثقة بالنفس وهذه القوة في العقيدة. وهذا الامتياز في درجات الحياة التي مر بها راجع إلى حالته النفسية؛ إلى تلك الحال العصبية الحساسة.
فلم تكن تقابله مسألة مهما تكن من البساطة إلا تأثر بها وارتسمت في مخيلته، واستدعت منه النظر والفكر واهتزت نفسه لها؛ فتلك امرأة محجوبة تسير في شارع الدواوين مبرقعة كما يسير آلاف غيرها، ولكن يظهر من هيئتها أنها من عائلة كبيرة، فنرى عيون قاسم الواسعة تحدق بها، لماذا؟ لأن إحساساته تأثرت، ونفسه تغيرت، أن رآها «تمشي خطوات مرتبة يهتز معها جسمها مائجا كما تفعل الراقصة على المسرح، وتخفض جفونها بحركة بطيئة وترفعها كذلك، وترسل إلى المارة نظرات دعابة ورخاوة واستسلام يجعل مجموعها تحريضا مهيجا لحواسهم». هذا هو أثر حي أمامه من آثار الحجاب الذي يحار به، وهذه هي الصورة التي يدعي خصومه أنها مثال ذلك النظام الذي وضعته العادة محافظة على العفة. أفلا يرى الناس هاته المرأة أمامهم تكذب كل ما يزعمون؟
وتلك بعض الحوادث في عمل القضاة لا تتفق مع وجدانه وضميره؛ حوادث يأتيها بعض زملائه لسبب قد يعرفه وقد لا يعرفه؛ قضايا يحكمون فيها أحكاما لا تتفق مع المألوف، فإذا كان لا يستطيع أن يعين هذه القضايا، فإنه يعجز عن أن يسكت نفسه دون أن تصيح: «أعرف قضاة حكموا بالظلم ليشتهروا بين الناس بالعدل.»
ويتوفى صاحب اللواء وتمر جنازته في الشوارع، ويشهدها قاسم ويرى تلك الجموع الحاشدة التي تسير فيها جامعة مختلف طبقات الأمة وأهالي بلادها المختلفة، مظهرة اتحادا في الشعور، فتهتز أعصابه وتمتلئ بالأمل نفسه المحزونة، ويرى أن «الإحساس الجديد، هذا المولود الحديث الذي خرج من أحشاء الأمة، من دمها وأعصابها، هو الأمل الذي يبتسم في وجوهنا البائسة، هو الشعاع الذي يرسل حرارته إلى قلوبنا الجامدة الباردة، هو المستقبل».
وكانت هذه الهزات العصبية تترك في نفسه صورا مضبوطة من الحوادث أو المظاهر التي أنتجتها؛ فالمرأة التي رأى في شارع الدواوين «طويلة القامة ممتلئة الجسم عمرها بين العشرين والثلاثين في وسطها حزام جلد مشدود على خصر رفيع ... وعلى وجهها قطعة من الموسلين الرقيق أقل عرضا من الوجه تحجب فاها وذقنها حجابا لطيفا شفافا ... وتترك الحواجب والجبهة والشعر والرأس إلى منتصف الشعر مكشوفة».
وقد رأى مدة وجوده في فرنسا طفلا عمره عشر سنين كان يتفرج بجانبه على فرقة من العساكر الفرنسوية وهي عائدة من حرب التونكين، «فلما مر أمامه حامل العلم وقف هذا الغلام باحترام، ورفع قبعته وحيا العلم وصار يتابعه بنظره حتى غاب عنه». أمام هذه الصورة المضبوطة من جاره وحركاته أحس قاسم «أن الوطن تجسم لهذا الطفل في العلم الذي مر أمامه، وأثار فيه جميع الإحساسات التي بعثها فيه ما تربى عليه من حبه حتى خاله رجلا كاملا»، وصور غير هاتين كثيرة يمر بها من يقرأ ما كتب قاسم؛ صور حية ناطقة بما تحوي منبئة باهتزاز روح واضعها وتأثره.
وكان من أثر هذه الحال العصبية الخاصة عنده أن كان على الرغم من دقة ملاحظته، ومتانة تفكيره رجل عواطف يحس بالحياة أولا ويحللها ثانيا. لم تكن الحياة وما فيها من مظاهر وموجودات موضوعا خارجا عنه؛ فهو يحلله وينظر فيه بالهدأة التي يشرح بها الطبيب جثة أمامه يريد أن يعرف ما تحوي، ولكنها كانت روضة يريد أن يسعد بما فيها، ويود لو يشاركه في هذه السعادة أمثاله؛ لذلك تراه دائم التغني بمعاني الحب وآثار الجمال، داعيا الناس بشوق وشدة يريد منهم أن يسيروا معه، ويشاركوه في المتاع بذلك الجمال، وأن يسعدوا أنفسهم بالحب ليكون له بسعادتهم سعادة مضاعفة؛ ولذلك تراه شديد المقت لكل ما يحول دون هذا المتاع من ظلم أو جهل أو فساد. وهو يمقته بنفس تلك الهزة العصبية التي توجهه في جميع أفكاره وإحساساته، هو لا يريد لبني آدم ممن حوله أن يعيشوا عيش النبات يشبون ويذبلون ويفنون من غير أن يكون لهم في ذلك من حظ، ولكنه يريد منهم ولهم عيشا إنسانيا ممتلئا، عيشا تهزه العواطف وتملأه الأعمال، عيشا يسمح لهم بورود مناهل السعادة، ويجعل لمجموعهم وللأفراد الممتازين منهم محلا للخلود الشريف.
وظاهر من ذلك أن قاسم لم يكن من مذهب الساخرين من الحياة، وأنه كان يرى لها قيمة كبرى ويظنها مجالا للسعادة والنعيم؛ هو لم يكن يقول لنفسه: ما دام الموت هو الغاية العظمى والنتيجة الأخيرة لهذا الوجود المملوء بالمتاعب والآلام، فخير الطرق إليه أسرعها وأقلها متاعب وآلاما. ولكنه كان ينظر إلى الموت بعين الخائف الوجل، ويخيل إلي أنه كان يتمنى لو يصدق الظن ويحشر مع أهل الجنة وينجو بذلك من الفناء المخوف الأسود الذي يقول بعضهم إنه ينتظرنا ساعة الموت. ولقد عبر هو نفسه عن هذا الإحساس بكلمة بالغة في الدقة والإبداع، قال: «أتعس البرية إنسان ضاع إيمانه يدس الموت بسمه في حياته فيفسد عليها لذتها، وينغص عليه شهوتها.» تلك كلمة تعبر عن أثر الخوف من موت يقطع كل أمل في البقاء، تعبر عن إحساس نفس تحب الحياة وترجو البقاء فيها، وترى أن فيما يحيطنا من أنواع الجمال وفيما يختلج صدورنا من مختلف العواطف، وفي ذلك العالم المملوء بما يبهر العين ويأخذ بالقلب ويستدعي الملاحظة، ويشحذ الفكر وينبه الإحساس، وبالجملة ما يبعث إلى النفس السعادة وإلى الذهن النشاط - ترى في ذلك ما يجعل الحياة حقيقة لذيذة تستحق أن يتمسك بها وأن يسعى لها.
وكل ما كان يؤلم نفس قاسم تلك العقبات التي يجد في سبيل الوصول إلى هذه الحقيقة اللذيذة والاستمتاع بها كلها، ويهزه ذلك الألم فيبعثه إلى النظر والسعي في إزالة هذه العقبات التعسة، ولكن ما في طوقه من ذلك قليل.
فإذا هو شعر بضعفه أمام المجموع وأمام العادة، وبعجزه أمام طبيعة الحياة، عاوده الغضب حتى يكاد يخرجه عن طوقه، ثم يستطيع لكثير ما درب نفسه أن يسكن ثائرة نفسه أو على الأقل أن يخفيها عمن سواه. وإنك لتشعر في كثير من كلماته التي خلف بعد وفاته بأثر هذه الثورة العصبية المغضبة. اسمعه مثلا حين يقول: «إذا رأيت الرأي العام يرمي أحد رجال الحكومة بالخيانة ساخطا عليه شديد الرغبة في سقوطه، فاعلم أنه غالبا رجل طاهر وعامل نافع، وإذا رأيت الرأي العام معاديا لكاتب وأعد له خصوما يتسابقون إلى نقض أفكاره وهدم مذهبه، وعلى الخصوص إذا رأيتهم ذهبوا في مطاعنهم إلى السب والقذف فتحقق أنه طعن الباطل طعنة مميتة ونصر عليه الحق. ما هو الرأي العام؟ أليس هو في كثير من الأحوال هذا الجمهور الأبله عدو التغيير، خادم الباطل ومعين الظلم؟» فمن هو هذا الكاتب الذي عاداه الرأي العام؟ أليس هو قاسم نفسه! ولم كل هذا الغضب؟ لأن الحالة العصبية لا تسمح لنفس صاحبها أن لا يتأثر بالحوادث، وكل ما استطاع قاسم أن يكتم هذا الغضب في نفسه فلا يظهر عليه سواه، بل إنك تراه يعيد الكرة في جهاده، وكتابته هي هي لم تخرجها ثورة نفسه عن حدها الأول.
وكذلك عاش قاسم مناديا للسعادة طالبا إياها، يحدوه الأمل في الوصول إليها من طريق عواطفه مرة، ويتوقعها أخرى من طريق الصداقة والجماعة، ولكنه طول حياته «يجد السآمة غالبا في الاجتماعات ولا يشعر بها في الوحدة، يشتاق إلى الناس، فإذا اختلط بهم رأى وسمع ما يزهده فيهم، فيفر منهم ويرجع ملتجئا إلى نفسه فيجد فيها الراحة والسكون». وبكلمة أخرى بقي دائما وكل سعادته في الحياة منتزعة من أحلامه بالسعادة.
ومات وهو لا يزال في دور جهاده، مات تاركا من بعده أثرا خالدا هو عمله الذي كان لذته الأخيرة الباقية، بعد إذ خذلته واحدة بعد أخرى كل ما سواه من اللذات.
ذكرى قاسم أمين1
لعل ذكرى الكتاب والمفكرين أجدر من كل ذكرى سواها بالحياة والخلود؛ ذلك أن الكتاب هم كلمة الحق، وكلمة الحق هي روح الحياة الخالدة، بينا عدوان القوة إنما هو رسول الموت المبيد. ذلك شعور تمتلئ به كل نفس ويقره كل إنسان؛ ولذلك ينزوي رجال السيف في أركان التاريخ أشبه الأشياء بالأشباح المخيفة، وكل أثرهم أنهم كانوا في وجود الإنسانية غمامة سوداء انهمرت على سطح الأرض دما وموتا. على حين ترى رجال القلم من شعراء وكتاب وفلاسفة ومفكرين هم الشموس السواطع التي تضيء طريق الإنسانية في سيرها إلى الكمال.
ما نابليون إلى جانب هوجو؟ وما مولتكي إلى جانب جيتى؟ وما ولنجتون إلى جانب شكسبير؟ ما أولئك إلا الأجساد البائدة إلى جانب الأرواح الخالدة. أولم يقل نابليون إن فخره بالقانون المدني يعدل أضعافا مضاعفة فخره بيينا وأوسترلتز؟ وهلا ترى كل حرب تنتهي تاركة وراءها الخراب والويل ملقية عبء الإصلاح والتنظيم على عاتق العلماء والكتاب والمفكرين؟
فالاحتفال بذكرى رجال الفكر والقلم هو أجمل عمل إنساني يدل على الاعتراف بالجميل لرجال نسوا مصلحتهم الفردية حرصا على مصلحة الجماعة.
وقاسم أمين كان من رجال الفكر والقلم الذين نصروا كلمة الحق، فمن حقه أن تحيا ذكراه وأن يعرف الناس جميعا أفكاره ونزعاته. •••
نشأ قاسم أمين في وقت كانت البلاد فيه تحت أثر الهمود الذي أصابها عقب الحركات العنيفة التي كانت ميدانا لها أيام الخديو إسماعيل وفي أوائل حكم الخديو توفيق. وفي هذا الوقت كان هم الجميع أن يسكنوا إلى الطمأنينة وأن يخلدوا إلى الراحة؛ لذلك كانت تحل المصائب بالبلاد فتقفل المدارس ويضيق نطاق التفكير وتؤخذ مقاليد الحكم من أيدي الآهلين ويستقبل الناس ذلك بالاستسلام والسكون، وكانوا يظنون أن هذه الحالة لا بد ستنتهي بطبيعة الظروف كما انتهت حالات غيرها من قبلها، وما كانوا يدور بخلدهم أن الأفكار الاستعمارية كانت تتطور لتأخذ شكلا جديدا هو الاستعمار على أساس تمدين الأمم التي يعتبرها المستعمرون في نظرهم قليلة المدنية.
وظلت الحال كذلك وقاسم يشتغل في ميادين العمل الحكومي، ويدل على مواهب نادرة، ولكن من غير أن يظهر في ميدان الحياة العامة حتى ظهر كتاب الدوق داركور في سنة 1893 عن المصريين. ويرمي هذا الكتاب إلى وصف المصريين بالتأخر في مدنيتهم وفي تربيتهم وفي تفكيرهم، وينعي عليهم حبسهم النساء وتركهم إياهن بعيدات عن العلم، ويضع أساسا لذلك كله العقيدة الإسلامية التي يدينون بها، ويرى بالتالي ضرورة تمدين نصف المتوحشين هؤلاء على أساس آخر. هنالك أخذت قاسم النخوة وهزته وطنيته أن يدافع عن قومه. وليست حرب الأقلام بأقل مرارة وقسوة من حرب السيوف؛ فبأقلام كتابها تنصر الأمم مدنياتها، وبأقلامهم ترفع احترام كل فرد منهم لذاته، وبأقلامهم تكسب أنصارا يقفون إلى جانبها عند الحاجة، وآثار الأقلام هي الخالدة وآثار السيوف الدمار والبوار. فوضع قاسم في سنة 1894 كتابه «المصريون»، فند به مزاعم الدوق داركور وأظهر فيه فضائل مواطنيه من غير أن ينسى الاعتراف ببعض عيوبهم التي أرجعها لا إلى عقيدتهم كما يزعم داركور وجماعة من الكتاب معه، ولكن إلى توالي الحكومات الفاسدة عليهم، ونشر هذا الكتاب بالفرنسية ليطلع عليه من يقرأ كتاب داركور فيجد فيه الفضائل المصرية من ذكاء وكرم وقوة وبأس في الحروب مؤيدة بالوقائع والأسماء، وعندئذ ينقلب الأثر السيئ الذي تركه كتاب الكاتب الفرنسي إلى أثر حسن برد الكاتب المصري المجيد.
كان قاسم رجلا عصبيا حساسا سريع التأثر شديده، قوي العاطفة ثابتها، لا يسهل أن تتركه إذا ملكته؛ لذلك لم يطو أوراقه بعد أن نشر هذا الكتاب ولم يعتبر نفسه قد انتهى من القيام بالواجب عليه، بل شعر من يومئذ أن واجبه تضاعف. صحيح أن دوق داركور غالى في مطاعنه على المصريين، وصحيح أنه أخطأ تمام الخطأ في رد سبب التأخر إلى عقيدتهم الدينية، وصحيح أنه اختلق عليهم معايب هم برآء منها، لكن هناك في بعض جهات الحياة الاجتماعية نقصا؛ فالحياة المصرية يومئذ لم تكن الحياة الإنسانية الكاملة في نظر قاسم. فما هو موضع الضعف الذي يتغذى منه ذلك النقص؟ موضع الضعف هو لا شك فقد الحرية، فقد الحرية عند الرجل والمرأة. والحرية كما قال قاسم هي قاعدة ترقي النوع الإنساني ومعراجه إلى السعادة، لكن فقد الحرية عند المرأة كان أشد خطرا وأفعل أثرا. فلنجاهد أولا إذن لتحرير المرأة.
هذه هي الفكرة التي دعت قاسم لتأليف كتاب تحرير المرأة. ويظهر أنه تردد كثيرا قبل أن ينشره؛ تردد مخافة الرأي العام الذي كان محافظا متأخرا يومئذ. وكم ثبط هذا التردد من عزائم، وكم قتل من أفكار عند شبابنا في الماضي! ولا يزال أثره قويا اليوم، بل كم كان قاسم يكون لولاه أكثر إنتاجا وأغزر مادة. وظل في تردده وقتا ليس بالقصير، لكن الفكرة انقلبت عنده من مجرد رأي يقال إلى عقيدة ثابتة وإيمان قوي. والرجل المؤمن لا يقف دون الدفاع عن معتقده وإن عظمت الحوائل. وهذه الكلمة التي نشرها في أول كتابه تدل على مبلغ إيمانه بفكرته، قال: «هذه الحقيقة التي أنشرها اليوم شغلت فكري مدة طويلة كنت في خلالها أقلبها وأمتحنها وأحللها، حتى إذا تجردت عن كل ما كان يختلط بها من الخطأ استولت على مكان عظيم من موضع الفكر مني، وصارت تشغلني بورودها وتنبهني إلى مزاياها، وتذكرني بالحاجة إليها، فرأيت أن لا مناص من إبرازها من مكان الفكر إلى فضاء الدعوة والذكر.» وعلى أثر ذلك نشر كتابه داعيا فيه إلى تحرير المرأة من رق الجهل ومن رق الحجاب.
وقد تطورت فكرة قاسم أمين نوعا من الفترة التي مرت بين نشره كتابه الأول ردا على الدوق داركور وكتابه الثاني عن تحرير المرأة. وهذا التطور طبيعي؛ لأن موقفه الأول كان غير موقفه الثاني: موقفه الأول كان موقف دفاع عن قومه، وموقفه الثاني كان موقف إرشاد لقومه؛ لذلك تراه وقد كان في الحالين في صف الأحرار لا في صف المحافظين أكثر مناصرة في كتابه الثاني لمذهب الأحرار وأكثر إعلاء لشأن الحرية.
تردد قاسم طويلا ثم دفعه إيمانه فأظهر كتابه، وهنا ظهر هذا الرأي العام المحافظ الجامد في محافظته، وانبرى للرد عليه كثيرون لم يقرأوا الكتاب، انبروا وهم لا يقلون في الحقيقة اعتقادا بالنقص من قاسم أمين، لكنهم كانوا «يخشون الخروج من وكرهم لتصيد الخيرات الغامضة المبعثرة في ظلام المستقبل». ليكن هذا الوكر فاسد الهواء، ليكن مملوءا بالمكروبات القتالة، ليكن بحيث تنهمر عليهم من جوانبه الأفاعي والعقارب، لكنهم يخشون الخروج؛ لأنهم يخافون أن يجدوا في الخارج سباعا وفيلة وهم أجبن وأضعف من أن يتصوروا مقابلة الخطر، ولو لم يكن هناك خطر.
تعرض هؤلاء للرد على قاسم في تحرير المرأة، فأظهر كتابه المرأة الجديدة في سنة 1900 ردا عليهم وتأييدا لرأيه. وبعد هذا الكتاب لم تظهر له مؤلفات حتى ظهرت في عالم الطبع كلماته التي نشرت بعد وفاته.
هذه الكتب الأربعة وبعض الخطب هي كل ما تركه قاسم للجمهور، ومما يوجب أكبر الأسف أن تنوء نفس قوية عبقرية كنفس قاسم بحمل الرأي المحافظ، وأن يختزل الموت حياته فلا تظهر من آثارها الكتابية والفكرية إلا هذه الصحائف المعدودة. •••
في هذه الكتب الأربعة - إلى جانب ما فيها من الأفكار - صور كثيرة للمشاهد وللحوادث العامة والخاصة، وهذه الصور مرسومة بدقة مدهشة حتى يكاد الإنسان يلمسها بيده في كثير من الأحيان، وأنت تراها مرصودة بعضها تلو بعض كلما أريد التدليل على رأي من الآراء أو نظرية من النظريات؛ ذلك بأن قاسم كان أميل إلى الاستقراء منه إلى الاستنتاج، كانت تأخذ بنظره الجزئيات فيبحث عن نظائرها، ويجاهد ليكون لنفسه رأيا كليا من مجموع هذه الجزئيات، وكان لذلك يحب دائما أن يحلل هذه الجزئيات، وأن يقف على دقائقها حتى لا تدعوه الملاحظة السطحية إلى الخطأ. على أنه لم يكن ميالا إلى الأخذ بهذه النتائج التي يرتبها على الجزئيات وإلى ترتيبها والاستنتاج منها هي الأخرى والاستمرار في ذلك لإقامة بناء مذهب فلسفي عام شأن الأشخاص الذين تتغلب عندهم موهبة الفكر المجرد على المواهب الأخرى، مواهب الإحساس والعاطفة والتشكك، بل كان يعتقد «أن عقل الإنسان المحدود لا يسع غير المحدود، وأن علمه القليل لا يصل إلى إدراك المجهول الذي لا نهاية له؛ ولذلك ترى هذا الإنسان متى ترك دائرة معلوماته الحسية دخل في الظلام وسار كالأعمى يتخبط يمينا وشمالا لا فرق في ذلك بين الغبي الجاهل والذكي العالم». هذه هي كلمة قاسم، وهي تدل على أنه لم يكن من عشاق النظريات البحتة، كما كان يرى «أن المطلق ليس له وجود ذاتي، وأن الذوات الجميلة التي نحبها ونقدسها؛ كالخير والحق والعدل، لا يمكن أن توجد في الخارج إلا مختلطة بنقيضاتها».
على أن ذلك الاقتصار على الاستقراء في التفكير لم يكن ليبعده عن النظر في الوجود العام، أو ليصده عن الإمعان في بدائع الكون، بل إنك لتجد له في هذا الباب كلمات أدق ما يكون، كلمات صادرة من أعماق قلبه يستجمع لإصدارها إلى جانب فكره الاستقرائي عاطفته القوية وإحساسه الشديد. وهل أبدع من هذه الكلمة في التعبير عن دخيلة نفس صاحبها: «لا بد أن تكون الغاية النهائية للتربية الأدبية هي العفو عن الخطيئة، العفو عن أكبر خطيئة، العفو عن كل خطيئة.
هل المخطئ مسئول أو غير مسئول؟ وما هي درجة مسئوليته؟ مسألة عظيمة يجب على من يريد الحكم على غيره أن يحلها، لكن حلها يكاد يكون محالا؛ إذ لا يستطيع أحد أن يلم بجميع العوامل التي تتركب منها الذات الإنسانية بوجهيها الأدبي والمادي. والقليل الذي يعلمه من ذلك يبين أن سلطة الإرادة على النفس محدودة، وخاضعة لمؤثرات كثيرة شديدة تتنازعها وتقارعها وتضعف قوتها على نسبة مجهولة، ومقدار لا يصل إلى تقديره عقلنا. وكل تاريخ الإنسان في الماضي يدل على أنه إن لم يكن متولدا عن الحيوان المفترس مباشرة، فهو مشابه له في شرهه وأطماعه وشهواته؛ خلق عليل النفس كما هو مريض الجسم، خلق على أن تكون صحته الجسمية والعقلية مصادفة سعيدة وعارضا مؤقتا.
فالخطيئة هي الشيء المعتاد الذي لا محل للاستغراب منه، هي الحال الطبيعية الملازمة لغريزة الإنسان، هي الميراث الذي تركه آدم وحواء لأولادهما التعساء من يوم أن اقتربا من الشجرة المحرمة وذاقا ثمرتها التي يخيل إلي أنها كانت ألذ من كل ما أبيح لهما. من ذلك اليوم البعيد لوثت الخطيئة طبيعتها، وانتقلت منهما إلى ذريتهما جيلا بعد جيل، ذلك هو الحمل الثقيل الذي تئن تحته أرواحنا الملتهبة شوقا إلى الفضيلة العاجزة عن الحصول على اليسير منها إلا بمقاساة أصعب المجهودات، حتى هذا النزر القليل لا سبيل إلى بلوغه إلا بتمرين طويل يتخلله حتما سقوط متكرر في الخطيئة يكون منه الدرس المفيد لإتقانه في المستقبل.
وأخيرا فإن العفو هو الوسيلة الوحيدة التي ربما تنفع لإصلاح المذنب؛ فقلما توجد طبيعة مهما كانت يابسة لا يمكن أن تلين إذا هي عولجت» ...
هذه الكلمة ومثيلاتها مما يوجد في كتب قاسم يدل على أنه كان يقف بتفكيراته عند الملاحظة والتجربة والاستقراء أكثر مما تدفعه إلى التفاؤل. صاحبها أكثر ميلا للوحدة والانزواء ليجد الفرصة التي يفكر فيها فيما رأى من الحوادث، وليستسلم إلى تيارات عواطفه وإحساساته المتأثرة بهذه الحوادث؛ لأنه ليس من وصل بالعاطفة إلى ملأ الوجود الأعلى.
والنفوس العصبية التي تتأثر بالعاطفة تدفع بصاحبها إلى التشاؤم، أولئك الذين صاغوا لأنفسهم قوالب من التفكير وقفوا عندها وألبسوا عواطفهم ومشاعرهم ثوبها، فلا تحيلهم الحوادث مهما عصفت، ولا تهز أوتار أفئدتهم المشاهد مهما اشتدت، ليس ماكينة تعمل ما دامت تجد الوقود الذي يملأ جوفها، ولكنه روح إنسانية راقية متصلة بأجزاء العالم المختلفة تتأثر بما يصيب هذه الأجزاء من مختلف الآثار. وهذه النزعات هي ما كان يشاهد في قاسم وما تدل عليه كتاباته، وهي ظاهرة في تقدمة كتابه المرأة الجديدة إلى صديقه سعد زغلول، حيث يقول: «فيك وجدت قلبا يحب وعقلا يفكر وإرادة تعمل، أنت الذي مثلت لي المودة في أكمل أشكالها فأدركت أن الحياة ليست كلها شقاء، وأن فيها ساعات حلوة لمن يعرف قيمتها.» فهذا الاعتقاد بأن معظم ما في الحياة شقاء، وهذا الميل الذي يدفعه إلى أن يجد السآمة في المجتمعات ولا يشعر بها في الوحدة، وهذا الألم الذي يشعر به للنقص الذي يجده حوله، وإحساسه العصبي العميق؛ هذا كله كان نتيجة سببها تحكم العاطفة في نفس قاسم في كل ما يتعلق بمسائل الوجود العام.
ولا عجب فقد كان قاسم ممن يعتقدون بأن العواطف هي التي تسير أعمالنا في الحياة، وأن العناية بها أثناء الطفولة وتربيتها تربية عالية هي التي ترفع الشخص من المستوى الوضيع الذي لا يهتم فيه إلا بمصالح الجسد، ليعرف للروح مصالحها، ويهتم بغذائها ويجاهد لرفعها، وليفهم ضرورة اتصالها بالأرواح الأخرى لفائدة الجماعة، ولفائدة الوطن، ولفائدة الإنسانية. وكان يقول بأن السبب في التأخر والانحطاط الذي كان يشاهد يومئذ في بعض بلاد الشرق ليس راجعا فقط إلى توالي الكوارث والمصائب على هذه البلاد، قال: «وإنما السبب الحقيقي لفقد الشعور هو إهمال تربية العواطف عندنا في زمن الطفولة، وتبع ذلك أن أعصابنا أصبحت لا تتأثر إلا بالإحساسات المادية التي تقع عليها مباشرة، وصارت غير قابلة للتأثر بالمعاني النفسية. رأيت مدة وجودي في فرنسا طفلا عمره عشر سنين كان يتفرج بجانبي على فرقة من العساكر الفرنساوية وهي عائدة من حرب التونكين، فلما مر أمامه حامل العلم وقف هذا الغلام باحترام ورفع قبعته، وحيا العلم وصار يتابعه بنظراته حتى غاب عنه، فأحسست أن الوطن تجسم لهذا الطفل في العلم الذي مر أمامه وأثار عنده جميع الإحساسات التي بعثها فيه ما تربى عليه من حبه حتى خلته رجلا كاملا. أما الرجال والنساء الذين كانوا يشهدون هذا المنظر، فقد وصلت بهم قوة الشعور إلى أنهم صاروا يعملون أعمال الأطفال، فكان الكثير من النساء يقبل العساكر ودموع الفرح تسيل على خدودهن، وأغلب الرجال كانوا يرقصون ويغنون ويلقون بقبعاتهم في الطريق. فبمثل هذه المناظر وما يدور فيها وعنها من الأحاديث أمام الأطفال ينغرس الشعور الوطني في نفوسهم ويزهر ويثمر. هكذا الحال في تربية الفضائل الأخرى.»
فهذه الحكاية البسيطة مكتوبة بتلك اللغة الرشيقة تبين بوضوح وجلاء طريقة تفكير قاسم، وتحكم العاطفة فيه، وتأثير إحساسه الشديد عليه، وعدم ذهابه في البحث عن مصادر الخلق للتفتيش في أعمال عظماء الرجال وكبار القادة. بل كفى أن يرى هذه الحادثة التي تمر أمامنا مثيلاتها كل يوم فلا نلتفت لها ولا نهتم بها لتثير نفسه الحساسة؛ ولتستفز عواطفه وتستوقف عندها تفكيره فيتذكر إلى جانبها مثيلاتها مما مر به ويبني على ذلك حكمه في النهاية. وإن من قرأ كتبه ليجد فيها جميعا هذه النزعة الميالة إلى البساطة الطبيعية الدالة على عظمة النفس عظمة صحيحة لا تكلف فيها ولا ادعاء.
وفضلا عما تدل عليه هذه الحكاية البسيطة من طريق تفكير قاسم، فإنها تدل أيضا على أسلوبه في الكتابة، هذا الأسلوب البسيط السيال الخالي من التكلف والتعمل، البعيد عن تصيد الألفاظ من أعماق أقدم القواميس ورصها بعضها إلى جانب بعض، كأنها رجم الأحجار يقذف بها كاتبها على القارئ حتى لا يلتفت إلى خلو العبارة التي أمامه من المعنى، وكذلك كان شأن قاسم في كتابته دائما؛ كان يضع الصورة أو المعنى بنفسه على أبسط الأشكال، بحيث تكاد تفني الألفاظ دونه، بل تطالبك هذه الألفاظ بأن لا تلتفت إليها هي بالذات، بل بالصورة الجميلة أو بالخيال البديع أو بالمعنى الدقيق الذي تحمله إليك. على أنها دائما ألفاظ رقيقة منتقاة موزونة تشعر أثناء قراءتها كأنك سابح فوق موجات الموسيقى الشعرية، فإذا فرغت منها طاب لك أن تستعيدها مرة ومرتين وثلاثا؛ لأنك تجد فيها غذاء حقيقيا لنفسك المتشوقة للاختلاط بنفس أخرى عظيمة عندها عزيزة عليها، راقية تميل به إلى التأثر مع الإنسانية كلها، وكأن هذه الفترة من حياته التي قضاها بين أظهر الفرنساويين من أهل الثورة الكبرى قوت عنده هذه النزعة الديمقراطية؛ حتى جعلته يرى في كل ما سواها افتياتا على حقوق الإنسان، بل جعلته حين رده على الدوق داركور يذكر ذلك بصراحة ووضوح؛ قال ما ترجمته:
يظهر أن المسيو داركو ينعي علينا عدم وجود الفوارق الاجتماعية عندنا، ويعيبنا لأنا ليس من طوائفنا الأشراف بالمولد أو بغير المولد، وكل السكان الذين يقيمون في بلد إسلامي هم متساوون أمام القانون بلا تفرقة بين أجناسهم ودياناتهم، ولم يعرف الإسلام امتيازات الميلاد أو الثروة، وفي هذا هو قد تقدم بأكثر ألف سنة أشد الأنظمة السياسية الثورية، وذلك ليس عيبا فيما أعتقد؛ فليس من العدل أو الفائدة في شيء أن تخلق مصادفة الميلاد مركزا ممتازا، وليس كون الشخص باشا كافيا ليكون ابنه كذلك، بل ليعمل هذا الابن وليجد حتى يستحق بنفسه هذا الشرف أو ما يزيد عليه، ثم إنه لنائله.
فهذه النزعة الديمقراطية في نفس قاسم هي التي كانت تدفعه ليشعر مع الناس جميعا، هو لم يكن يعرف المظاهر الكاذبة والألقاب الفارغة، لم يكن يهتم بالرجل المترف العائش في النعيم لترفه ونعيمه، ولكنه كان يهتم من كل إنسان رجلا كان أو امرأة بقوة خلقه وبشرف نفسه، كان يكره الضعة والصغار والجبن النفسي، لا فرق أن يكون مصدرها القائد العظيم أو الفلاح الحقير، ولا فرق أن تظهر في المواقف الكبيرة أو في الحالات التافهة. وكان يكره ذلك بميله الفطري المتأثر بعاطفته الإنسانية العالية.
وهذه الحكاية الصغيرة من مشاهدات قاسم تدل دلالة بينة على ما تقدم. قال:
قبيل الغروب وقف بنا وابور النيل الذي كان يحملنا بجانب غيط مزروع، وكان يشتغل فيه رجلان لمح أحدهما ثعبانا غليظا قصيرا ففر وهو يصيح: (ثعبان ثعبان ثعبان.) أما الآخر فتقدم إليه حاملا فأسه وضربه بها عدة ضربات حتى قضى عليه، ثم تركه في مكانه وأخذ سلاحه وعاد إلى عمله، ولم يتكلم في أثناء ذلك بكلمة، وحينئذ تحرك زميله ومشى محترسا على أطراف قدميه شاخصا إلى الحيوان، واقترب منه بطيئا بطيئا ولما وصل إليه لمسه بطرف الفأس التي كانت في يده وقلبه مرة ثم مرة أخرى حتى إذا تحقق أنه مات صاح: (يا ابن الكلب!) وطعنه بالفأس طعنة قوية. ولما رأى الثعبان لا يتحرك أمسكه من ذنبه، وصعد به إلى الجسر وكان في هذه الساعة عامرا بالمارة فاستوقف الأطفال والنساء والرجال، وصار يقص الواقعة عليهم قائلا: (هجم علينا فقتلناه.) وفي آخر الرواية يلقي الثعبان على هذا الجمع فيفرقهم، وتصيح النساء ويهرب الأطفال، فيضحك هذا البطل الباسل من هذا الجبن، وما زال كذلك حتى جاء الظلام فانصرفوا جميعا وهو في مقدمتهم حاملا فريسته. أليس هذا هو الحال دائما في جميع مظاهر الحياة الدنيا؛ ترفع من رجال العمل عن حب الظهور، وجرأة من رجال القول على اغتصاب أعمال غيرهم والتبجح بها!
ورقة قاسم في الشعور والإحساس، وهذا الأسلوب البسيط الجميل في ألفاظه وفي تنسيقه، وهذا البعد عن الكلام الحوشي الغريب، وهذه الدقة في نقل الصور النفسية والخارجية، تظهر أيضا وبشكل أوضح في كلمته الآتية عن جنازة المرحوم مصطفى كامل:
11 فبراير سنة 1908 يوم الاحتفال بجنازة مصطفى كامل، هي المرة الثانية التي رأيت فيها قلب مصر يخفق؛ المرة الأولى كانت يوم تنفيذ حكم دنشواي: رأيت عند كل شخص تقابلت معه قلبا مجروحا وزورا مخنوقا، ودهشة عصبية بادية في الأيدي وفي الأصوات، كان الحزن على جميع الوجوه؛ حزن ساكن مستسلم للقوة مختلط بشيء من الدهشة والذهول، ترى الناس يتكلمون بصوت خافت وعبارات متقطعة وهيئة بائسة، منظرهم يشبه منظر قوم مجتمعين في دار ميت، كأنما كانت أرواح المشنوقين تطوف في كل مكان من المدينة.
ولكن هذا الاتحاد في الشعور بقي مكتوما في النفوس لم يجد سبيلا يخرج منه، فلم يبرز بروزا واضحا حتى يراه كل إنسان.
أما يوم الاحتفال بجنازة صاحب «اللواء»، فقد ظهر ذلك الشعور ساطعا في قوة جماله، وانفجر بفرقعة هائلة سمع دويها في العاصمة، ووصل صدى دويها إلى جميع أنحاء القطر.
هذا الإحساس الجديد، هذا المولود الجديد الذي خرج من أحشاء الأمة، من دمها وأعصابها، هو الأمل الذي يبتسم في وجوهنا البائسة، هو الشعاع الذي يرسل حرارته إلى قلوبنا الجامدة الباردة، هو المستقبل.
ليتك عشت يا قاسم حتى كنت ترصد بلغتك الجميلة المتأثرة، وبإحساسك الدقيق، صور الحركات القوية المنبعثة من أعماق نفس هذه الأمة، والتي كنت تتوق أن تراها فترصد للخلف آيات ما يفعل أهل هذا الجيل، ولكن المنية فاجأت قاسما وهو لا يزال في ريعان القوة فتركنا تاركا لنا من تفكيره وكتابته أبدع الأثر، ممليا علينا أن: «اللذة التي تجعل للحياة قيمة ليست حيازة الذهب ولا شرف النسب ولا علو المنصب، ولا شيء من الأشياء التي يجري وراءها الناس عادة، ولكن أن يكون الإنسان قوة عاملة ذات أثر خالد في العالم.»
توماس وودرو ولسن
أسلم توماس وودرو ولسن روحه أول من أمس، فودع هذا العالم المضطرب الذي جاهد ليكون فيه نبراس هداية للناس، ينقلهم من ظلم الحرب إلى ربوع السلام، فإذا الناس كما كانوا قبل الحرب لا يزال يغريهم منظر الدم بالدم، ولا يزالون يفرحون بكلمة الهدى ساعة ليندفعوا في تيار الضلال دهرا.
مات الدكتور ولسن رئيس الولايات المتحدة السابق، ومن ذا الذي لا يعرف الدكتور ولسن! ومن ذا الذي لم يردد اسم الدكتور ولسن! بل من ذا الذي لم ير هذا الضياء العظيم الذي نشره روح ذلك الرجل الكبير، ومن ذا الذي لم يحدق بهذا الضياء ذاهلا معجبا به مأخوذا عن نفسه، فملك عليه الإعجاب كل حسه حتى نسي ضعة الناس وحقارتهم وتعلقهم بتافه شئونهم وعبادتهم دنيء شهواتهم، وخيل إليه أنهم يستطيعون أن يعتنقوا طفرة مبادئ هذا الرسول الجديد، وأن يرتفعوا عن الدنايا، وأن يتخطوا هذا العالم الأفن الذي يعيشون فيه إلى عالم جديد هو عالم المحبة والصفاء والسلام.
كلنا نعرف الدكتور ولسن، وكلنا نذكر الساعات التي حدقنا فيها بمبادئه الأربعة عشر ذاهلين مأخوذين، وكلنا لم ننس ما بني على هذه المبادئ من كبار الأماني، التي لا تزال تهز العالم إلى اليوم هزا، وهل هذا الصراع العنيف القائم بين الشرق والغرب، وبين الاستعمار وتقرير المصير، وبين الاستعباد والحرية، وبين الظلام والنور؛ هل هذا الصراع العنيف الذي بدأ من يوم وضعت الحرب الكبرى أوزارها، والذي سيستمر قائما إلى أن ينتصر النور وأن يعلو الحق - إلا أثرا من هذه المبادئ الكبرى التي يحسبها بعضهم اليوم أحلام واهم، وما هي بأحلام واهم، وإنما هي القوة التي تكونت على القرون شيئا فشيئا، واشتركت في تكوينها الآلام والآمال العامة، والنزعات والأوهام الفردية، وتفكير المفكرين وشعر الشعراء، وكل ما في النفس الإنسانية من قوة وحس وشهوة، ثم اختار القدر هذا الرئيس ولسن ليكون ترجمانها والمعبر عنها.
لم تكن مبادئ ولسن أحلام واهم؛ فقد قالها ثم سرعان ما آمن الناس بها؛ ذلك بأنها كانت جوابا لما يتردد في نفوسهم من نزعات وفكر وآمال وأمان مضطربة، آمنوا بها ثم لم ينفذوها ثم أنكروها ثم قالوا: إنما تلك أحلام واهم. وكذلك كانت من قبل كل فكرة، تبدأ تأخذ بالنظر، ثم ينكرها الناس ويقفون في وجهها، ثم يغلون في الاندفاع وراءها، ثم هم يقدرونها حق قدرها وينظمون حياتهم على هذا القدر الصحيح.
فإذا كان ولسن قد مات فإن فكرته باقية وهي لا شك ستنتصر، وسيكون انتصارها فوزا كبيرا للحق وللخير وللسعادة. •••
ولد توماس وودرو ولسن في 28 ديسمبر سنة 1856، وكان جده جيمس ولسن من أهل الصتر بإرلندة، وقد هاجر إلى أمريكا سنة 1807، وفي السنة التي بعدها تزوج من فتاة إرلندية مثله، واحترف الصحافة ومات محترما بين أهل بلده الذين كانوا يدعونه القاضي ولسن. وقد أخلف عدة أولاد تزوج أصغرهم واسمه يوسف رابل ولسن من فتاة أيقوسية الأصل تدعى جانت وودرو، ومن هذا الزواج ولد توماس الذي ورث اسم أبويه، فصار توماس وودرو ولسن.
وقد ورث توماس من أبويه ما يمتاز به الإرلنديون من الظرف والإيقوسيون من البلاغة وجمال الخطاب. وكان ميله للتحرير واضحا من أول نشأته، فاشترك وهو في الحادية والعشرين من سنه مع جماعة من أصحابه الطلبة بجامعة برنستن في إصدار مجلة انفرد هو بإدارتها بعد عام من صدورها، وفي هذه المجلة ظهر ميله للتحرير السياسي.
وقد تأثرت حياته منذ نعومة أظفاره بما مرت به بلاده من المحن السياسية؛ فقد ظلت حرب الانفصال بين جنوب أمريكا وشمالها قائمة من سنة 1861 إلى سنة 1865، وانتهت بانتصار الشمال وببقاء الوحدة الأمريكية بفضل ما أبداه إبراهام لنكن رئيس الولايات المتحدة من حزم ونفاذ بصيرة. وكان توماس متأثرا بهذه الأحداث في طفولته، فلما آن له أن يقرأ وأن يفكر اتجهت قراءته للناحية السياسية كما رأيت، وظل بعد إذ أصدر مجلته يتابع أبحاثه ثلاث سنوات وضع بعدها كتابا عنوانه (الحكومة - مبادئ السياسة التاريخية والعملية)، وقد جاء في هذا الكتاب فكرة من أفكار ولسن السياسية عن الحكومة، كانت هي الفكرة الأساسية التي سار عليها، والتي ظهرت من بعد ذلك في مبادئه العامة التي أراد - كما قال في غير خطبة من خطبه - أن يلقي بها من فوق رأس الحكومات مباشرة إلى الشعوب.
وهذه الفكرة الأساسية التي ظهرت في كتاب ولسن عن الحكومة هي:
ليس حتما أن تقوم الحكومة على القوة القاهرة، بل يجب أن تقوم على أساس آخر. ولقد أصبحت الاستبدادات الحزبية بادرة غير مطمئنة، وصارت الشعوب على غير ما كانت عليه من الانحلال أيام الاقطاعات، ومن الانحناء أيام الملكيات القديمة، فهي الآن مجاميع بلغت في قوة الإقرار وقوة الاعتراض مبلغا عظيما. وقوة الأغلبيات هي من مستحدثات الجمعيات الحديثة، وفن الرجل السياسي يجب أن يتجه اليوم لإيقاظ هذه القوة الجديدة ودفعها وقيادتها.
وفي أثناء أبحاثه احترف المحاماة فلم ينجح فيها؛ لأنه كان في شغل بالقضايا العامة عن القضايا الخاصة، فلما صادف كتابه عن الحكومة النجاح دعته جامعة «برنستن» التي تخرج منها ليدرس بها، فدرس التشريع والسياسة من سنة 1890 إلى سنة 1910، وكان رئيسا لهذه الجامعة من سنة 1902 إلى أن تركها حين انتخب حاكما لولاية نيوجرسي من سنة 1911 إلى سنة 1913.
علت مكانته وهو في جامعة برنستن، وعرفت له أفكار خاصة عن حكومة الولايات المتحدة، فطمح إلى رياسة الجمهورية، ولما يترك رياسة الجامعة؛ فقد ألقى سنة 1907 عدة محاضرات عن (الحكومة النيابية في أمريكا)، نشرها سنة 1908 قبيل انتخابات رياسة الجمهورية التي نجح فيها المستر تافت. وقد أوضح في هذه المحاضرات أفكاره التي أذاعها من قبل في كتاب نشره أيام شبابه عن حكومة بلاده، وكانت أظهر فكرة له في هذه المحاضرات أن الدساتير السياسية ليست نظما أبدية حتى يمكن تعريفها وتحديدها على طريقة رياضية، بل هي كائنات حية قابلة للتطور. والدساتير في رأيه هي ما يريد الساسة أن تكون. وكان نشر محاضراته دافعا لازدياد اهتمام الناس به، ولكنه لم يظهر ما يجول بخاطره من ميل للدخول في ميدان الانتخابات لرياسة الجمهورية، وإن كان قد قدر استطاعته الفوز فيها لما كان عليه المستر تافت من ضعف السلطان، والمستر روزفلت من عدم المهارة السياسية على قوة سلطانه، والمستر بريان من سوء الحظ لسابق فشله مرتين في الانتخابات. فلما كانت سنة 1910، وكان قد اختلف مع مجلس إدارة جامعة برنستن، وكانت انتخابات الرياسة لا تقع إلا في سنة 1912، عرض نفسه سنة 1910 لانتخابات ولاية نيوجرسي وكانت خالية، فنجح وأبدى خلال حكمه لهذه الولاية ما اشتهر معه بالحزم والمقدرة على الإصلاح. وفي سنة 1912 تقدم لانتخابات رياسة الجمهورية وكتب له الفوز فيها وتسلمها في سنة 1913، وتجدد انتخابه للمرة الثانية في سنة 1916، وظل في رياسته إلى سنة 1921.
وقد افتتح عهد رياسته الأولى بخطاب دل على ما يجول بخاطره، وما ظهرت آثاره في مبادئه التي أعلنها أثناء الحرب، إذ جاء في هذا الخطاب ما يأتي:
نشعر ونحن نتقدم إلى هذا العصر الجديد، عصر الحق والإطلاق من كل معاني الرق، بشعور يهتز له فؤادنا حتى لكأنما جاء إلينا من عند الله، شعور يتألف فيه العدل الرحمة، ويجعلك ترى قاضيك وأخاك بعين واحدة.
إنا نعلم أن الواجب الذي ألقي علينا ليس واجبا سياسيا فحسب، بل هو واجب سيبتلينا إلى غور وجودنا، وسيظهر مقدرتنا على فهم عصرنا وحاجات شعبنا واستطاعتنا أن نكون لسانه وترجمانه، وسيبين عما إذا احتوت جوانحنا القلب الذي يفهم والإرادة القوية التي تعرف كيف تختار أسمى وسائل العمل. فاليوم ليس يوم نصر ولكنه يوم توجه، وليس السلطان اليوم لقوة حزب، ولكن السلطان لقوى الإنسانية . وأفئدة الناس في انتظار عملنا، وآمالهم تود لو تعرف ما سنقوم به، فمن ذا يستطيع أن يفخر بأنه جدير بمثل هذه الرسالة الكبرى، ثم من ذا يستطيع أن يرفض التقدم للتجربة! وإني أدعو كل الأشراف وكل الوطنيين وكل من يتجه نظرهم للمستقبل إلى جانبي. ولن أرفض بعون الله ما يتقدمون لي به من نصيحة ومعونة.
وفي أثناء رياسة الدكتور ولسن الأولى نشبت الحرب، فظلت أمريكا على الحياد إلى سنة 1917، وظل الدكتور ولسن ينظر إلى هذه المجازر بعين الأسف لما تلاقي الإنسانية من ويلات بسبب أطماعها الوضيعة، وكان لا شك يبقى في حياده لولا ما كان من إقدام غواصات ألمانيا على نسف المراكب الأمريكية. حينذاك دخلت الولايات المتحدة الحرب، فكان دخولها بدء انقلاب كفة الميزان، وسبب انتصار الحلفاء.
وقد سافر الدكتور ولسن بعد عقد الهدنة إلى أوروبا، وأراد أن يكون لسان أمته وترجمانها في مؤتمر الصلح، لكنه مع الأسف لم يستطع أن ينفذ مبادئه، وضعف عن أن يترك أوروبا في مصائبها؛ لأن أمريكا كانت دائنة كل دول الحلفاء، ومصلحتها تقتضي بقاء تحالفهن، فلما عاد إلى أمريكا أراد أن يصادق مجلس الشيوخ على معاهدة فرساي فلم ينجح، وبذلك انهار أمل من أكبر آماله، بل انهار أمله الأكبر، ولم تفلح دعوته الناس وانتهى به الحال أن أصيب بإصابة كانت مقدمة الأمراض والعلل التي جاءت على حياته. على أن فشل ولسن في حمل بلاده على قبول المعاهدة التي عقدها لا يحط شيئا من قدره، وسيبقى في التاريخ علما من هداة الإنسانية العظام، وسيبقى اسمه في التاريخ حيا ما بقي التاريخ.
أحمد لطفي السيد
علم الأخلاق - لأرسطوطاليس
من نحو سبع سنوات، بينما جو العالم يبرق بنار الحرب ويرعد جلس الأستاذ لطفي السيد إلى مكتبه ينقل كتب أرسطوطاليس إلى العربية، وقد أثار عمله هذا دهشة كثيرين جعلوا يتساءلون: كيف ارتضى مدير «الجريدة» أن يهجر ميدان السياسة إلى صحراء الفلسفة، وأن يغمض عينيه عن الحاضر الممتلئ بجلائل الأحداث ليأوي إلى كهوف الماضي يفتش فيما عما يتسلى به ويلذ له؟ وتخطى بعضهم حدود التساؤل إلى النقد: ما بال هذا الكاتب الكبير المشهود له بالفضل من أصدقائه وخصومه جميعا يهدر وقته فيما لا يعود على أمته وبلاده بفائدة؟ وهل ترى ترجمته لأرسطو أكثر من أن تكون لذة لنفسه، وزينة عند أصحاب المكاتب الذين لا يقرأون مما يقتنون سطرا؟
بلغ هذا النقد وذلك التساؤل مسامع لطفي السيد، كما ذهب إليه قوم يصدونه عن المضي في عمل حسبوه عقيما، لكنه استخف بأحلام الناقدين، ووجد من انضم إليه في استخفافه، فمضى في عمله ولا يزال حتى اليوم ماضيا فيه. وأشهد أني ما رأيته أكثر اغتباطا بمجهود ولا أوفر طمأنينة لكد منه باغتباطه وطمأنينته لهذا الجهد الشاق الذي يعالجه أرسطو. وإنك لتلمس غبطته بينة بارزة في الجزأين اللذين نشرهما ترجمة لكتاب الأخلاق، وفي التصدير الذي قدم به هذا الكتاب.
وليست هذه الغبطة والطمأنينة مقصورة على الأستاذ وحده، بل شاركه أصدقاؤه وتلاميذه فيها؛ فقد رأوه اليوم كما كانوا يريدون أن يروه دائما: بعيدا عن مضطرب الحياة اليومية وشهواتها، بعيدا عن السواد وحكمه السريع التقلب، جالسا حيث وجب له أن يجلس: بين أرسطو وبارتلمي سانتيليير، وبين عامة المؤلفين الذين يتحدثون إليه كلما أراد أن يستمع إليهم. وليس أخلق به من سلوك هذا الدرب من دروب الحياة؛ فهو في سكينته العبوس أسمى ألوان الحياة وأثمنها، وهي يحمل مجده في طياته غير خاضع لحكم الحاضر ولا هياب حكم المستقبل.
وليس هذا وحده مصدر طمأنينة الأستاذ وغبطة أصدقائه، بل إن لهذا الضرب من ضروب الحياة فضل الخصب في الإنتاج النافع. وقد يعجز سواد أدعياء الفهم والحكم عن إدراك هذا الفضل، وقد ينكرون لعجزهم مجد هذا الإنتاج، وقد يزيدهم إنكارا بهرهم بما تزينه شهوات الساعة من وهم المجد، وقد يحسبون هذا الالتجاء إلى كهوف الماضي عجزا عن النضال لمجد الحاضر، وكثيرا ما يؤثر حكم هذا السواد من الأدعياء على اتجاه حياة الرجال الذين يعيشون للحاضر وحده، ويلذهم بريق مجده؛ لكن أكبرهم الرجل ذي الهمة أن يغالب حكم شهوته على عقله فيغلبها، كما أن أكبرهم الرجل الفاضل أن يغلب في نفسه الخير على الشر، وإن يك وجه الخير متجهما عبوسا ووجه الشر باسما جذابا. وقد وسع لطفي السيد أن يتخلى لغيره عن المتاع بمجد الشهوة، وعكف على العمل الصالح المطمئن البعيد عن كل ضجة وجلبة.
على أنه لم يرض أن يمر في تصديره من غير أن يدفع ما قيل من أن عمله عقيم «ولا يعتبر إلا ضياعا للوقت»، فبين أن الرجوع إلى «المعلم الأول» هو فيما يرجح: «الطريق القريب والأمين والخالي من العقبات إلى تمكين الفلسفة من بيئاتنا العلمية لتنتج في الذكاء المصري وصحة الحكم على الأشياء»؛ لأن «الفلسفة العربية قد انتشرت في مصر وفي جميع الأقطار الإسلامية. والفلسفة العربية هي في مجموعها فلسفة أرسطوطاليس».
وقد نتفق مع الأستاذ في هذا الحكم تمام الاتفاق. على أنا لا نرى وجه الضرورة في بيانه؛ فإن أدعياء الفهم ممن صدر عنهم ذلك النقد السليم لن يعالجوا مراجعة أرسطو وتعاليمه، والذين يعالجونه في غير حاجة إلى هذا البيان، فهم يقدرون أرسطو ويقدرون لطفي السيد. أم إن الأستاذ يرى ممكنا أن ترجع هذه الحجة ضالا إلى حظيرة الهدى، إن كان بين الضالين من فتنتهم النهضة الحديثة فآثروا فلسفة العصر الحاضر على الفلسفة القديمة.
إن يك ذلك رأيه فليسمح لنا بمخالفته، فإن الذين فتنوا بفلسفة العصر الحاضر فتنة صحيحة يدركون التضامن في التفكير بين مختلف العصور، ويعلمون أن أدب العصر الحاضر وفلسفته يمتان لليونان بأقرب الصلة، ولا يفوتهم أن الإحاطة التامة بالشيء لا تكون إلا بعد استقصاء مصادره وأصوله. وما دامت غاية الفلسفة الوقوف على حقائق الأشياء والكشف عن أسرارها، فمن ألزم أدواتها الرجوع إلى مصادر العلم والنظر لتحقيق سلسلة النسب وضبط مرامي الفكر، فهم إذن في غير حاجة إلى التنبيه إلى فضل فلسفة أرسطوطاليس؛ لأن حاجتهم إليها ضرورية وليست حاجة كمال ولذة.
أما الذين فتنوا من فلسفة العصر الحاضر بأدب هذه الفلسفة وزخرفها، وكانوا لذلك عشاق أنصاف الحقائق وخيالاتها، فلن يقنعهم رد على نقدهم؛ لأنهم يريدون الفكرة السهلة في ثوب فياض من ألفاظ خلابة، وأن تكون هذه الفكرة مرنة ليتسنى لها أن تصادف أهواء أفئدتهم جميعا، وليست فلسفة أرسطوطاليس وتعاليمه هي الجواب لما يسأل هؤلاء المفتونون عنه.
على أنا لا نعتقد أن هذا الذي دفع به الأستاذ لطفي السيد قول ناقديه هو ما دفعه إلى معالجة عمله الشاق الجليل من ترجمة أرسطوطاليس. إنما دفعه إليه ميله له وحرصه عليه؛ لذلك اغتبط به وجعل منه أسمى أمله، فلم يضن عليه بوقت ولا بجهد. ولو أن الأستاذ كان حرا طول حياته في اختيار العمل الذي خلق له لكان قد عالج أرسطوطاليس وترجمته قبل سبع سنوات، ولكن لنا أن نعتب اليوم عليه أنه وقف عند الترجمة من غير تعليق. وما نقول ذلك رجما بالغيب؛ فقد عالج لطفي ترجمة العقد الاجتماعي لروسو بدء شبابه، ثم منعته ظروف عن إتمامه. وقضي عليه بعد ذلك أن يلبس دروع الجندية حين صار مديرا للجريدة. وفي خنادق الصحافة قضى سبع سنين تباعا لم ينقطع خلالها حنينه الدائم لحياة العلم والفكر. ومع ما أحيط به أيام جنديته من تقدير المقدرين وإعجاب المعجبين، فما أشك في أن نفسه كان يغصها الألم حتى لتكاد تشرق به لولا عزاؤها بأداء الواجب للوطن. ولم يكن الإعجاب ولا كان المجد الأجوف ليمنع عنه ألم الحرمان من أحب الملذات إلى نفسه، فلما كانت الحرب وأكره مترجم الأخلاق فيمن أكره على السكوت أسرع ينهل مما حرم منه، ويؤدي ما يسرته الحياة لأدائه كواجب عليه لنفسه وللحياة.
وإنما كان لطفي السيد حين إدارته للجريدة كالشجرة القوية في واحة تحيطها الصحراء، ولا بد أن تعطي المحيطين بها ثمرا غير ثمرها فتطعم عليها أثمار شجرة أخرى. تنتج هذه الأثمار أجود مما تنتجها أشجارها الأصلية الضعيفة، ولكن على حساب ثمرها الطبيعي؛ فإذا آن للفرع المطعوم أن يزول عادت الشجرة تعطي كل ما فيها من حياة وقوة لثمرها. كذلك عاد لطفي السيد ينتج من ثمر العلم والفكر ما طاب له، فكان من ذلك ترجمته لأرسطو وتقديمه للقراء كتاب الأخلاق.
وليس أرسطوطاليس جديدا عند قراء العربية؛ فقد نقلت كتبه إليها أيام العباسيين كما انقطع له ابن رشد في الأندلس. وليس هذا مقام الكلام عنه ولا عن ترجمته، فكل المطلعين على فلسفة العرب أو فلسفة أوروبا يعرفون أرسطو، وكل قراء العربية يعرفون لطفي السيد. ولو أن رجلا كان له أن يتكلم في إفاضة ودقة عن المعلم الأول، فهذا الرجل هو مترجمه، لكنا مع ذلك لا نستطيع غير القول بأن كتاب الأخلاق، وهو أول الكتب التي نشرها الأستاذ لطفي السيد من سلسلة تواليف أرسطو، لا بد مثير في حركة مصر العقلية والعلمية ثورة كبرى، فإن اللغة التي ترجم بها تجعله أقرب إلى القراء، ونظرياته التي أخذت عنها الفلسفات العربية والغربية جميعا كفيلة بأن تبعث في الفكرة الفلسفية السامية حياة جديدة. وما أشد حاجتنا إلى هذا البعث في عصرنا الحاضر، وقد جف معين الفكر المتعمق في بحث الحقائق الذاهب إلى غور الأشياء.
لقد طال بالناس الوقوف من الأشياء على قشورها، وقد صار الباحث المدقق غريبا بين أهل هذا الجيل المندفع وراء العاجلة الراغب عن الحق والحسن والجميل. فهل يكون مثل الأستاذ لطفي السيد في المثابرة والجد وراء إظهار الحقيقة التي عرفها الإغريق للناس خليقا بأن يعيد إليهم الرغبة في الحق والحكمة؟
هذا ما نرجو. ولو صدق رجاؤنا لكان ما تقدم به الأستاذ من عمل أحبه وحرص عليه بشيرا بخصب عظيم في مستقبل الشرق الفكري. والخصب الفكري هو أساس العظمة والمجد والسعادة.
محمد فريد وجدي
دائرة معارف القرن العشرين
السيد فريد وجدي كاتب قديم معروف، كانت ولا تزال له جريدة الدستور تصدر أحيانا وتمتنع عن الصدور أخرى، وله مؤلفات غير قليلة يدور أكثرها حول الروحانيات. وهو من بين المسلمين الذين يقولون بأن كل علم وكل اختراع وكل فكرة قديمة أو حديثة لها أصلها في الإسلام، وله على ذلك أدلة تراها في كتبه وأبحاثه الكثيرة التي تدل بكثرتها واتساعها على أنه لا يضيع وقته في غير البحث والعمل لتأييد رأيه وفكرته.
وهو كذلك من بين المولعين بجمع معلومات بني الإنسان من يوم كان لبني الإنسان معلومات إلى وقتنا هذا. وشغفه بذلك وإصراره عليه قديم، وقد تمكن من جمع هذه المعلومات وترتيبها وتبويبها حتى إذا اطمأن لكمالها أصدرها للناس دائرة معارف ليكون للقارئ منها (قاموس عام مطول للغة العربية والعلوم النقلية والعقلية والكونية، بجميع أصولها وفروعها، ففيه النحو والصرف والبلاغة والمسائل الدينية، وتاريخ الطرق والمذاهب والتفسير والحديث والأصول والتاريخ العام والخاص وتراجم مشهوري الشرق والغرب والجغرافية الطبيعية والسياسية والكيمياء والفلك والفلسفة والعلوم الاجتماعية والاقتصادية والروحية والطب والعلاج، وقانون الصحة والفوائد المنزلية، وخواص العقاقير والأقرباذين والإحصاءات وسائر ما يهم الإنسان في جميع المطالب).
هذه العلوم والفنون والمذاهب والأبحاث وسائر ما يهم الإنسان في جميع المطالب كانت من زمن مضى طي كتاب وضعه السيد فريد وجدي وأسماه (كنز العلوم واللغة)، وقد لقي هذا الكتاب - فيما يقول المؤلف في مقدمة دائرة معارفه - (غاية ما يتاح لمثله من الإقبال والتقدير، سواء من جانب الأمة أو من جانب الهيئات الرسمية ... فكانت هذه الشهادة المزدوجة أحسن مكافأة للمؤلف بعد جهاده الطويل وسهره المتواصل).
لكن (كنز العلوم واللغة) إنما حصر (معلومات البشر كلها في دائرة واحدة يلم بها المطالع إلماما إجماليا فيستفيد منها لعقله وروحه وجسده على قدر ما تسمح له الحال). وقد ذكر المؤلف حين آنس من وقته فراغا (حاجة الأمة إلى دائرة معارف أغزر مادة، وأجمع فوائد، فإن الذي كان يكفيه بالأمس أن يقرأ مادة من المواد العلمية خلاصة موجزة أصبح لا يقنعه إلا بحث مستفيض». ورأى أنه جمع ما فاته جمعه في «كنز العلوم واللغة»، فأجمع على وضع دائرة معارف تناسب الحاجة العصرية و(عولنا على أن نتوسع في اللغة توسعا لا يدع حاجة في النفس، وأن نتبسط في القسم العلمي تبسطا يبلغ بالطالب غاية ما يرمي إليه، جاعلين نصب أعيننا أن يكون الكتاب جامعا بين الحاجة العقلية والحاجة المعيشية. فكما يحرص عليه العالم ليسبح منه في نظريات العلوم ، يحرص عليه الرجل العادي ليبحث فيه عن مسكنات آلامه، وصحة أهله وعياله، ووجوه السير في أعماله، وأمور دينه، وكل ما يحتاج إليه في معاملاته). ولقد لقي عمله هذا من تقدير الأمة وإعجابها ما دفعه لإعادة طبع كتابه. وهذه الطبعة الثانية التي حدثك المؤلف عن غايته منها وعما تحتويه وعن كيفية وضعه إياها، وتطورها من كنز العلوم واللغة إلى دائرة المعارف التي نفدت، والتي أعيد طبعها، هي موضع نظرنا اليوم. •••
تقع هذه الطبعة الثانية في عشر مجلدات، كل مجلد منها ثمانمائة صفحة عدا السابع فصحفه 960، والعاشر فصحفه 1056، فمجموع صفحاتها جميعا 8416. وهي مطبوعة بمطبعة دار معارف القرن العشرين على ملازم (ثمانيات) بحرف بنط «20». وكلها من تأليف السيد محمد فريد وجدي، فهو لم يكتف فيها بوضع قواعد البحث ونظامه والإشراف على أبحاث سواه، بل تفرد بها فلم يستعن بأحد، ولم يشرك مع مجهوده مجهود غيره؛ هو الذي بحث ونقب، وهو الذي نظم ورتب. وبحسبك هذا لتعرف مشقة العمل وعظم المجهود. فأنت إذا رجعت إلى التعريف الذي وضعه تحت عنوان الكتاب، ورأيت ما بين دفتي هذه المجلدات من: قاموس عام مطول للغة العربية والعلوم النقلية والعقلية والكونية بجميع أصولها وفروعها ... إلخ، ازددت عرفانا لما اقتضاه هذا المجهود من وقت وصبر ومثابرة.
فلو أن هذه الآلاف من الصحف كانت كلها في فن أو علم واحد لكان ما تقتضيه من مجهود أقل مما تقتضي «هذه العلوم النقلية والعقلية بجميع أصولها وفروعها»؛ ذلك بأن اتحاد اتجاه الذهن، وإمعانه في الغوص على نوع خاص من المعاني يلذه ويشحذه ويزيده دقة في التصور، وفي التفريق بين الألوان البادية التشابه لذي النظر السطحي ولغير المتعمق. فأما هذا الانتقال من علم إلى علم ومن فن إلى فن فعسير كل العسر. يحدث في الذهن وقوفا كلما شاء أن يتحول إلى اتجاه جديد، وليس هذا الشأن مقصورا على التفكير وحده، بل إنك لتشعر به ولو كان عملك مقصورا على مجرد النقل والترجمة؛ فأنت إذا ألفت لغة مؤلف واتجاه فكره تيسرت لك العبارات التي تؤدى بها مقاصده وأغراضه، فإذا انتقلت إلى غيره في نفس العلم أو الفن شعرت بقلمك يقف حتى يسيغ ذهنك اللغة، وطريقة التفكير الجديدة التي انتقلت إليها. ما بالك لو كان الانتقال إلى علم أو فن جديد له أساليبه وله مصطلحاته في اللغة وله قواعده التي تجمع في ألفاظ معدودة أبحاثا مستفيضة! إنك في هذه الحال بحاجة إلى هدنة تستعيد إلى ذاكرتك فيها ما سبق لك الإلمام به من العلم أو الفن الجديد، وأنت كذلك بحاجة إلى عدة لغوية تصلح ثوبا لهذا العلم أو الفن.
بهذا المجهود قصد السيد فريد وجدي إلى (أن يكون الكتاب جامعا بين الحاجة العقلية والحاجة المعيشية. فكما يحرص عليه العالم ليسبح منه في نظريات العلوم، يحرص عليه الرجل العادي ليبحث فيه عن مسكنات آلامه وصحة أهله وعياله ... إلخ). وما نشك في أن عددا كبيرا من القراء يجد في مراجعة هذا الكتاب فائدة له غير قليلة. فأنت إذا رجعت في الكتاب إلى كلمة من الكلمات رأيت تفسيرها اللغوي، ثم انتقلت في أحيان كثيرة إلى بحث طويل عما ينطوي تحت هذه الكلمة من تاريخ أو فلسفة أو كلام. خذ مثلا لفظ «مصر» لقد كتب المؤلف عنها في مجلده التاسع 226 صفحة (من صفحة 15 إلى صفحة 241)، جمع فيها تاريخ مصر القديم والحديث، وتكلم عن تقسيم البلاد، وعن التعليم فيها وعن قوانينها النظامية وعن دينها العام. ثم خذ كلمة «إله» تجد بحثها في الجزء الأول من صفحة 481 إلى 562، وتجد المؤلف يبدأ الكلام عن «الله» بقوله: «العقيدة بوجود الخالق فطرة فطرت عليها النفس الإنسانية، أو هي في مرتبة العلوم الضرورية التي تحصل للإنسان كثمرة من ثمرات مواهبه العقلية.» ثم يجيء بكلمات لكبار الفلاسفة عن الله ثم عن إثبات وجوده. وفي هذه الكلمات والبراهين والمناقشات شيء غير قليل يتمتع به الذهن. وقد ترى في هذه المادة غير البحث في الإله وأدلة وجوده فلتات عن العلم والمادة وغيرهما. ثم ينقلك المؤلف إلى (رأيه الخاص في المسألة) وعقيدته بالله. عقيدة في درجة المحسوس بلا دليل ، وعجبه أن يؤدي الدليل إلى عقيدة، وبحثه في المذهب المادي والمذهب الروحي. ثم راجع كلمة «موت» في الجزء التاسع نراها قد استغرقت منه 26 صفحة بينها خمس صفحات رسالة لابن مسكويه في علاج الخوف من الموت، وفيها ثماني عشرة صفحة عما يجب للمسلم بعد الوفاة من جنازة وصلاة ودفن.
وأنت كلما رجعت في دائرة المعارف هذه إلى شيء من الشؤون الروحية، فأنت واجد دائما بحثا كما أنت واجد رأيا خاصا للمؤلف، ومنته إلى نتيجة معينة. كذلك كلما رجعت إلى شاعر من شعراء العرب أو كاتب من كتابهم المعروفين أو مؤلف من مؤلفيهم في الفقه والكلام فأنت واجد شيئا من تاريخ هذا الشاعر أو الكاتب أو الفقيه، وغير قليل من شعره وما كتب. وللمدن والبلاد العربية حظ عظيم من عناية المؤلف. فالأندلس وبغداد ومكة كانت مواضع بحثه، وإن كان لمكة من هذه العناية القسط الأوفر، وكانت بغداد لم تحظ منه بأكثر من صفحة واحدة.
وقد يسرك أن تشعر حين مراجعاتك في دائرة معارف القرن العشرين أن كتاب اللغة العربية - حتى هذا العصر الأخير - قد عرضوا لأكثر المسائل وأعوصها، فلا يكاد يخلو بحث من رأي لهم فيها، فالمغناطيس كتب فيه الرشيدي في مادته الطبية، وعرض فيما عرض للآراء الحادثة عن المغناطيسية من أيام المسمرية «المسمرزم» وقبلها. والبناء - بناء البيوت - كتب عنه الدكتور محمد أفندي كمال. وتاريخ مصر القديمة رجع فيه المؤلف إلى كتاب سليم أفندي سليمان عن «مختصر تاريخ الأمة القبطية». هذا سوى الأقدمين من المؤلفين أمثال ابن خلدون وابن خلكان وابن مسكويه وعبد اللطيف البغدادي، وغيرهم ممن كانوا عمدة المؤلف في مراجعاته الفلسفية والروحية والأدبية والتاريخية.
إلى جانب عناية السيد فريد وجدي بهذه الأبحاث التي «يسبح منها العالم في نظريات العلوم»، ترى عناية لا تقل عنها لما يحتاج إليه الرجل العادي «من مسكنات آلامه، وصحة أهله وعياله، ووجوه السير في أعماله، وأمور دينه، وكل ما يحتاج إليه في معاملاته». فكما وقفت منه على جنازة الميت والصلاة عليه ودفنه، لم يفت المؤلف أن يضع تحت نظرك مواد القانون المصري عن البيع والإيجار وسائر المعاملات، كما لم يفته أن يذكر الفوائد المنزلية والصحية والطبية لكل نبات، ولكل مادة حين الكلام عنها. ولم ينس أن يذكر الدواء الذي يعالج به كل مرض. ولم يترك الكلام المفصل في أمور الدين. ولم يهمل ذكر شيء وقع له واعتقد أن هذا الرجل العادي بحاجة إلى معرفته. •••
والآن فأي حظ من التوفيق أصاب السيد فريد وجدي في سبيل غايته؟ وهل أنتجت مجهوداته النتيجة التي ترتجى من دائرة معارف توضع في القرن العشرين؟
يذكر السيد فريد وجدي في عنوان دائرة معارف أنها «قاموس عام مطول للغة العربية والعلوم النقلية والعقلية والكونية بجميع أصولها وفروعها»، ويشير في مقدمته إلى أنها من «كنز العلوم واللغة» كقاموس لاروس الكبير من قاموسه الصغير. ويكفي هذا التعريف لتشعر بأن القيام بتحقيق ما اشتمل عليه يستحيل تمام الاستحالة على شخص واحد. فإن وضع قاموس عام مطول للغة العربية وحدها وتحرى سد هذا القاموس لحاجات العصر الحاضر اللغوية يستغرق من الوقت والمجهود ما استغرقه عمل الأستاذ فريد وجدي في دائرة معارفه. وكل علم نقلي أو عقلي أو كوني بجميع أصوله وفروعه يستغرق من المجهود أكثر مما استغرقته دائرة المعارف هذه. وهذا هو السبب في أن علماء ذوي اطلاع ونشاط وذكاء قد قضوا حياتهم في البحث والتنقيب في تحقيق أصول علم من العلوم ورد كل الفروع إلى هذه الأصول، ثم تركوا الحياة ولم تنته كل مهمتهم؛ لذلك يجب - مهما تحمد للسيد فريد وجدي مجهوده - أن تتوقع فيه هذا النقص العظيم، ويجب ألا تطلب إليه ما تطلبه إلى دائرة معارف وضعت على الطريقة العلمية الصحيحة، وأريد منها أن تحقق الغاية التي وضعت لتحقيقها.
دائرة المعارف التي توضع على الطريقة العلمية الصحيحة لا يقوم بوضعها رجل واحد؛ بل يشترك جماعة من بادئ الرأي في وضع الخطة التي تنهج فيها، فإذا تم وضع هذه الخطة استعانوا بكل عالم وبكل أخصائي في العلم أو الفن الذي انقطع له، وطلبوا إليه أن يوافيهم برأيه على الخطة التي وضعوا. كذلك فعل دالمبير وأصحابه في الانسيكلوبيديا الفرنسوية في القرن الثامن عشر، وكذلك فعل لاروس في قاموسه الكبير، وكذلك يفعل العلماء حتى في المطولات المقصورة على علم واحد. فأنت إذا رجعت إلى دالوز في الحقوق وإلى أشباه دالوز في العلوم الأخرى وجدته معتمدا في مادته على عدد كبير من فحول العلماء. وحكمة ذلك أن القصد من دائرة المعارف أن تجمع من كل علم ومن كل فن خلاصته وآخر الآراء فيه والمعلومات عنه، حتى إذا رجع إليها من ليس له بهذا العلم أو الفن اتصال وثيق وقف منها على كل ما يريد أن يقف عليه، ثم كان مطمئنا إلى أنه يأخذ منها أوثق المعلومات والآراء وأدقها؛ حتى لو أنه كانت له بهذه الآراء حاجة علمية لم يخش أن يضله فسادها أو قصرها.
ووضع دائرة معارف على هذا الوجه أمر لا يتيسر لشخص واحد؛ ولذلك لم يتيسر للأستاذ فريد وجدي برغم المجهود الكبير الذي بذله والذي يستحق من أجله الحمد والثناء. فلو أنه أتيح له أن يضع لنفسه خطة ونهجا في وضع كتابه، ولو أن خطته ونهجه كانا على ما يريد العلم الحديث لهما، ثم لو أنه أنفق أضعاف ما أنفق من وقت وعمل، ما تيسر له مع ذلك أن يرضي أطماع العلم في دائرة معارفه، ولاقتصر عمله أكثر الأمر وفي أكثر المواد على جمع معلومات لا يستطيع الحكم على مبلغها من الدقة، ولا يستطيع أن يرضي بها عالما ولا أن يفيد بها غير عالم.
هذا لو أنه وضع لدائرة معارفه خطة ونهجا. ودوائر المعارف جميعا تقوم في هذا العصر الأخير على أساس من النهج العلمي الذي اطمأن إليه الكتاب والعلماء والفلاسفة، والذي يقتضي ملاحظة الوقائع ومقارنتها وترتيبها واستنباط القوانين من متشابهها ومتناقضها جميعا. ونحن نرانا في «دائرة معارف القرن العشرين» بعيدين عن هذا النهج العلمي كل البعد. ولعلك تذهب إلى الظن بأن مرجع هذا البعد أن واضع هذه الدائرة روحاني لا يعترف بالعلم الحديث ولا بآثاره. ولسنا نجيبك بأن العلماء الذين يعنون بالروحانيات في هذه الفترة الأخيرة يريدون إقامتها على أساس من هذا النهج العلمي؛ وإنهم لذلك يلاحظون المظاهر الروحية ويسجلونها ويقارنون بينها ويجمعون بين ما تآلف منها، ويقصدون من ذلك إلى وضع قوانين ثابتة لما يريدون تسميته العلم الروحي. وإنما نقول: إن السيد فريد وجدي لم يضع لدائرته نهجا على أية صورة من الصور. فأنت إذا أردت الرجوع إليها لا تعرف ما ستلاقي. فقد تجد بحثا لغويا مستفيضا يبدأ به عبارته فيرد الكلمة إلى أصولها ويبين أوجه استعمالها، وقد لا تجد من هذا البحث اللغوي كلمة. وقد تجد بحثا تاريخيا، وقد لا تجد. وقد ترى نظريات فلسفية عن كلمة تافهة علاقتها بالفلسفة، وقد لا تجد ذكر الاسم من أسماء الفلاسفة على جلال قدره وعظيم خطره.
أشرنا إلى أن مكة وبغداد ورد ذكرهما في الدائرة، وإلى أن مكة قد أفرد لها ما يزيد على ثلاثين صفحة، وإلى أن بغداد لم تحظ بصفحة كاملة. هذا وبغداد كانت عاصمة الإسلام زمنا طويلا. فيها ازدهرت مدنية العرب، ومنها امتد ملكهم وانتشر في العالم سلطانهم العقلي والعلمي. وإلى أمراء المؤمنين الذين اتخذوها عاصمة ملكهم، وإلى العلماء والفقهاء والشعراء والكتاب والحاذقين من الصناع والفنانين يرجع حظ عظيم من الحضارة، التي كانت - ولا تزال ولن تزال - مجد المسلمين.
هذه الإطالة في الكلام عن مكة والتقصير في التكلم عن بغداد وعدم الإشارة عند ذكر بغداد إلى ما يمكنك أن تعثر عليه خاصا بها في أجزاء الدائرة الأخرى ليس إلا مثلا من أمثلة كثيرة تجدها في كل مناحي بحث المؤلف. هذا إلى أن المعلومات التي يذكرها فيما يطيل فيها من مباحثه التاريخية لا تدعو لطمأنينة الذي ألم بشيء من العلم. فلئن كان قد أفرد للفظ مصر 226 صفحة، فإن ما ورد في هذا القدر من المعارف يقف في أحيان كثيرة عند المعلومات الأولية التي يتلقاها التلاميذ المبتدئون، كما يورد أحيانا أخرى معلومات تفصيلية لا يحتاج إليها الباحثون عن المعارف العامة في دائرة معارف؛ فما أوردوه عن تاريخ مصر القديم ملخصا من كتاب سليم أفندي سليمان (تاريخ الأمة القبطية) موجز لا جديد فيه من علم أو فكرة. ولا يزيدك علما عما عرفته في المدرسة الابتدائية. وإلى جانب هذا ترى تفاصيل كثيرة مأخوذة عن الإحصاء السنوي العام الذي تصدره الحكومة المصرية والإحصاء الرسمي والدين العمومي، وقد يكون خير ما في هذه الصحف الست والعشرين والمائتين مذكرة عرابي باشا عن الثورة العرابية. لكن إيراد هذه المذكرة عند الكلام على «مصر» إيراد لها في غير موضعها. وقد كان لها مكانها عند الكلام عن «عرابي». ولعل المؤلف يوافقنا على هذا، وبخاصة بعدما أفرد للفظ «بونابرت» فصلا ذكر فيه خطاب أكابر مصر إليه منفردا عما أورده عن نابليون. لكن المؤلف لم يكن يستطيع - وهو يقوم بهذا العمل وحده - أن يحقق الثورة العرابية تحقيقا تاريخيا صحيحا.
وكما كان ما ذكره المؤلف عن تاريخ مصر القديم موجزا ضعيفا، كان ذكره للآثار المصرية ولآلهة مصر القديمة أشد إيجازا وضعفا. فقد ذكر عبارة موجزة عن أبيس. أما إيزيس وأوزوريس وسائر الآلهة فلم نوفق إلى الوقوف على أثرهم أو خبرهم. وأما الآثار المصرية فإن ما كتب عنها في أي كتاب أوروبي وفي أي دائرة معارف أوروبية أدق وأشبع مما كتبه السيد فريد وجدي عن بعضها.
وكأن عناية المؤلف بالتاريخ القديم مقصورة على الفلسفة اليونانية. وهي في هذه أيضا ليست عناية علمية بحال. فأما تاريخ أشور وبابل وقرطاجة فما ذكر عنه قليل إلى حد لا يفيد القارئ منه شيئا. وقد حاولت أن أعثر على شيء خاص بسميراميس الملكة الإلهة ذات التاريخ المجيد في حكم آشور، فلم أجد شيئا خاصا بها، ولم يكن لها ذكر إلا ورود اسمها في كلمة موجزة إيجازا غريبا عن مملكة آشور برغم ما كان لهذه الملكة من تاريخ مجيد وحضارة كبيرة.
لكن هذا الإهمال للتاريخ القديم والآلهة مصر والإغريق وآشور لم يمتد إلى أرباب الأديان الباقية إلى اليوم. فقد تكلم المؤلف عن بوذا. ولعله تكلم عن كونفشيوس. ومع ما أظهره من العناية في هذا الباب الذي يهتم هو له بنوع خاص، فقد كان حديث بوذا قصيرا وكان ينقصه شيء غير قليل من التحقيق، وهو بعد موجز إيجازا لا يروي غلة الباحث العالم، ولا يفيد المتعلم الفائدة العلمية التي يجب أن يجدها. •••
مثل هذا الإيجاز المخل والإسهاب الممل وعدم الأخذ بنهج معين وعدم الاعتماد على قواعد علمية وعلى معلومات ثابتة شائع في أكثر أجزاء «دائرة معارف القرن العشرين». فمع ما يبدي المؤلف من عناية خاصة بالفلسفة لم يذكر شيئا عن جماعة كبيرة من أعاظم الفلاسفة ذوي المبادئ التي قامت ولا تزال قائمة، ولا تزال مرجع الفلسفة. فقد أردنا الوقوف على ما كتبه الفيلسوف الألماني الكبير «كانت» فلم نجد لاسمه ذكرا. ورجعنا نبحث عن الفيلسوف الفرنسي «كومت» صاحب الفلسفة الواقعية، فلم يكن أحسن من زميله حظا. وفيما نقرأ ما كتبه عن كلمة «فلسفة» عثرنا على اسمي هذين الفيلسوفين وعلى ذكرهما عرضا في تاريخ الفلسفة الحديثة، مع الاعتراف بجلالهما وعظيم قدرهما.
والعجب أن أسماء الفلاسفة التي نزلت إلى إدراك الجمهور العادي أن كان أصحابها بين الفلسفة والأدب لم تلق من المؤلف ما يجب لها من عناية ولا من تحقيق. فجان جاك روسو معروف في دائرة معارف السيد فريد وجدي بما هو معروف به عند السواد. هو معروف بكتاب العقد الاجتماعي وبما كان لهذا الكتاب من أثر في الثورة الفرنسية. أما آراؤه في الرجعة إلى الطبيعة وفي الديانة الطبيعية، فقد تجد عنها شيئا فيما ترجمه المؤلف تحت لفظ «تربية» مثلا. لكنك لا تجده واردا عند الكلام على روسو كأن روسو لم تكن له به صلة.
ولعل الأدب الغربي أقل الأشياء ذكرا في دائرة معارف القرن العشرين. فأكابر شعراء الإنكليز: شكسبير وملتن وبيرون لا يهتدى لأسمائهم في ألوف صحفها. وشعراء الفرنسيين وكتابهم ممن طبقت شهرتهم الآفاق أمثال هوجو وشاتو بريان لم يحظوا إلا بأسطر معدودات.
يجب أن نعترف إلى جانب ذلك بأن شعراء العرب وأدباءهم يشغلون مئات الصحف من الدائرة؛ ويكفيك مثلا أن تذكر أن عبد الغني النابلسي قد استغرق شعره ثلاثين صفحة؛ لكنك مع ذلك لا ترى عن عبد الغني النابلسي هذا ما يدلك على شيء من أمره. فمن هو؟ وما مقامه بين شعراء أهل زمانه؟ وما خلاصة رأيه الشعري، هذا ما يجب أن تلتمسه بين السطور التماسا. وهذا الإبهام تجده في كثير من أبحاث المؤلف.
هذا قليل من كثير مما عثرنا عليه أثناء مراجعتنا القصيرة من ملاحظات. •••
الاضطراب بين الإهمال والإسهاب والإيجاز يرجع إلى أسباب ليس انفراد السيد فريد وجدي بالبحث أهمها، إنما أهمها أن ليس للمؤلف نهج ولا خطة؛ ولو كانت ثمة خطة واتبعت لما كانت هذه العيوب واضحة إلى الحد الذي أشرنا إليه؛ ونحسب أن هذا يرجع إلى نوع تربية السيد فريد وجدي العلمية. فهو كثير الاطلاع والمراجعة، لكنه في اطلاعه ومراجعته لا يصدر عن أساس ذاتي خاص؛ لذلك ترى تأليفه متميزا بجمع المعلومات من غير اختيار ومن غير ترتيب. فهو حيث عثر على مقال أو فصل في صحيفة أو في مجلة أو في كتاب استعان - فيما يظهر لنا - بالمقص وأخذ هذا المقال أو الفصل فوضعه في حرف الهجاء الذي يتبعه وفي اللفظ الذي يخصه، وهذا ما يتضح لك حين تراه نقل مقال محمد أفندي كمال عن بناء البيوت من جريدة العلم. وحين تراه نقل مقالا مطولا من مجلة المقتطف عن افتتاح خزان أسوان، مع أن افتتاح خزان أسوان وما ألقي فيه من خطب وما كان فيه من مدعوين لا يجوز بحال أن يدخل في نطاق دائرة معارف. وحين تراه نقل المغناطيس عن مادة الرشيدي الطبية. فإذا هو لم يعثر في مطالعاته العادية على شيء لم يكلف نفسه مؤنة البحث وأهمل الموضوع الإهمال كله، أو اكتفى بالإشارة إليه في عبارة موجزة كقوله تعريفا وشرحا وتفسيرا للرياضيات: العلوم الرياضية هي الحساب والهندسة والجبر وما يتفرع منها. ولو أن للسيد فريد وجدي أساسا ذاتيا من التربية العلمية لما رضي لنفسه هذا النحو من التأليف، بل لو أن له أساسا ذاتيا من التربية العلمية لتردد كثيرا قبل أن يضع دائرة معارف. وربما أدى به التردد إلى الإحجام عن عمل لا يستطيعه إلا عدد عظيم من العلماء.
ولئن كان قد جمع في الصحف العشرة الآلاف كثيرا من المعلومات التي قد تفيد من يرجع إليها إذا هو أخذها على أنها مراجع يجب تحقيقها قبل الاعتماد عليها، وكان له بذلك فضل يشكر عليه، فإن كثيرين ممن لا يعينهم وقتهم أو علمهم على هذا التحقيق قد يضلون في هذه المعلومات، وقد يتخذونها عمدة وحجة ويبنون عليها آراء ونتائج لا يسهل أن تتفق والعلم.
لذلك نود لو أن الأستاذ فريد وجدي كان قد وجه همه إلى ترجمة دائرة معارف كدائرة معارف الإسلام مثلا، ولو أنه فعل ذلك لكان قد حصر موضوعه وأفاد كثيرا من فضل العلماء الذين وضعوا هذا المؤلف النفيس، ويسر لمن يريد الاطلاع سبيل العلم الناضج الصحيح الذي هضمه أصحابه وتمثلوه وجعلوا منه نتائج مبنية على أسباب ومقدمات، لا مجموعة معلومات لم تهضم فقاءها من اطلع عليها، فخرجت مضطربة لا يطمئن إليها إلا من لا وسيلة له إلى غيرها.
على أنا آخر الأمر لا نستطيع أن ننكر على السيد فريد وجدي أنه بذل مجهودا كبيرا لإقامة بناء فخيم. وإذا لم يكن قد صادفه ما يرجوه له محبو العلم الصحيح من توفيق فليس ذلك ذنبه. وإذا كان قد أجهد نفسه فنظم الأنقاض كل لون إلى لونه وكل شبيه إلى شبيهه من غير أن يتمكن من تنسيقها، لما ينقصه من روح النظام، فقد يكون لسواه أن يخرج من مجهوده هذا خيرا للناس، وأن يعترف لصاحب دائرة معارف القرن العشرين بفضل السعي للخير وللإحسان.
الدكتور طه حسين (1)
صحف مختارة من الشعر التمثيلي عند اليونان
ما أقل ما يظهر في عالم الأدب من الكتب القيمة المؤلفة أو المترجمة، وما أشدنا في مصر إلى هذه الكتب القيمة احتياجا. وإذا كان لنا أن نعود باللائمة لهذا الفقر على أحد فأكثر الناس استحقاقا للوم أولئك الذين عهد إليهم في العصور الأخيرة بواجب القيام بإيفاء علوم الأمة حقها من العلم والأدب، فقصروها على علوم الصناعات والحرف، وتركوا روحها بذلك فجة وعقلها راكدا، فلم تستثر حمية مؤلف ولا همة كاتب.
على أن ما عنيت به الجامعة المصرية في السنين القريبة من العمل لنقل العلم والأدب إلى مصر قد بدأ يخرج ثمره وزهره. ولأول مرة تقدم أحد أبناء الجامعة البررة إلى الشعب المصري بكتاب غير رسائل الامتحان، فأخرج الدكتور طه حسين صحائفه المختارة من الشعر التمثيلي عند اليونان، ونشرها على الناس.
ليس بنا من حاجة للكلام عن الدكتور طه ولا لبيان طريقته في التأليف. فقد عرف القراء رسالته في ذكري أبي العلاء ومسلكه في تحليل نفسية الشاعر ورده مختلف آرائه وأفكاره وأساليبه إلى الوسط الزماني والوسط المكاني الذي عاش فيه. وهذه هي بعينها الطريقة التي اتبعها في رسالته عن ابن خلدون التي قدمها لجامعة باريس لجواز دكتوراه الأدب. وهي الطريقة العلمية التي تبعث للنفس صورة صحيحة من شخص الشاعر أو الكاتب أو الفيلسوف الذي يراد تحليله. ذلك بأن الفرد لا وجود له بذاته، وإنما وجوده بالوسط الذي يعيش فيه. فتفهم ومعرفة البيئة الطبيعية والبيئة الاجتماعية والحالة التاريخية وما كان على أثر ذلك من عقائد وعوائد وأفكار وعواطف واتجاهات ذلك كله، وذلك وحده هو الذي يسمح لنا بفهم أي كاتب أو شاعر أو فيلسوف وأي رجل آخر له صلة بالمجموع فتأثر به وأثر فيه.
كذلك يعرف القراء أسلوب الدكتور طه حسين. يعرفونه من تعاليم الرجل حيث نشأ في الأزهر، ثم انتقل إلى الجامعة المصرية، وإلى أوربا، فجمع في لفظه بين المتانة والدقة. ويعرفونه من طريقة تفكيره التي هي داخلية دائما لا تؤثر فيها مظاهر الطبيعة ولا أحداثها؛ مما يضيف إلى متانة الأسلوب ودقته سكينة وعمقا وهدوءا تمنع عليه سبيل الاندفاع التخيلي، وتقف به دون الارتفاع إلى شواهق الوجدان. ولعل التطورات التي يمكن ملاحظتها على هذا الأسلوب بالغة في إقناعنا بأن أسلوب صديقنا يسير دائما في سبيل السلاسة الجزلة والسهولة المتينة من غير احتياج لتدفق ولا انقباض.
هذه الطريقة هي التي سار عليها في المقدمة الصغيرة الثانية التي وضعها في صدر كتابه الذي وضعنا اسمه عنوانا لهذا المقال، وفي الكلمتين الممتعتين عن إيسكولوس وسوفوكليس. وهذا الأسلوب هو أسلوبه فيما ألف منه وفي أكثر ما عرب.
والكتاب موجز بديع يعطي فكرة عامة عن اليونان وعن شعرها التمثيلي. وناهيك باليونان وبأثينا القديمة. فهما مصدر المدنية الأوروبية الحديثة والوحي المباشر لأبدع ما خطت أقلام شعراء العصور الأخيرة الخالدين. فشاكسبير وراسين وكورني وكثيرون جدا غيرهم من كبار كتاب (التمثيل) مدينون مباشرة لأثينا ولرومة. ويكفينا هذا لنقطع بأن كل ما يكتب عن اليونان يستحق قراءته والإمعان فيه.
لكن مختارات الدكتور ليست أي شيء من كل ما يكتب عن اليونان. بل لها ميزة خاصة تجعل قراءتها أكبر فائدة وأكثر إمتاعا، وتضعها في الصف الأول بين ما يقرأ لفهم الروح اليونانية والحياة التي غذتها هذه الروح؛ ذلك بأنها صادرة من رجل تخصص لدراسة الأدب والفلسفة، وما إليهما من مظاهر الحياة العقلية اليونانية. وتخصص لهذه الدراسة لأنه أعجب باليونان، فشربت نفسه مشاربهم، وألهمت روحه بديع معانيهم، وأوصله التحليل العلمي إلى تعرف الأسباب التي ألهمت العقل اليوناني ما أفاض به على عصره وبلاده، ثم على كافة العصور والبلاد التي أخذت من المدنية بطرف أو ضربت فيها بسهم ونصيب.
وضع الدكتور طه مقدمة عن الحياة اليونانية، وعن الشعر التمثيلي عند اليونان. فشبه الجزيرة التي تكاد تكون قاحلة والتي جمعت إليها أشتات الأجناس المختلفة من اليونان طبعت أهل مدينتها الكبرى - أثينا - بطابع خاص هو حب العمل لاستثمار أرض قليلة الثمر، وشدة التضامن لدفع شر المغير. وقد عاشت هذه الدولة في ظل الملوك حينا. ثم في ظل الأرستقراطية لقرب نظامها من النظام الملكي واتصالها به. ثم دنت من النظام الجمهوري قليلا قليلا حتى جاء سولون، فأخذت الديمقراطية تظهر وتعلن وجودها وقدرتها على الحياة. وفي قليل من الزمن ظهر أن الديمقراطية نافعة مغنية، وبلغ من ذلك أن أنقذت اليونان من غزوات الفرس، فزعزعت عرش هؤلاء وخفضت كلمتهم وأدالت دولتهم. وكان ذلك سببا في أن ظهرت أثينا بين أمم اليونان، وكبرت مكانتها واعترف لها بالفضل على كل المدائن الأخرى.
وكانت حياة اليونان الأولين حياة دينية تعددت فيها آلهتهم، وارتفع فيها الماضون من أبطالهم إلى مركز الألوهية أو ما يقرب منه. وكانوا يقيمون أعيادا سنوية للآلهة، وبنوع خاص لديونوزوس إله الخمر ولدمتير إلهة الخصب. وكان الشعب يجد من الحفل بهذه الأعياد والآلهة ما يسمح له بالإفراط في الأكل والشراب والسكر والسرور إلى حد نسيان هموم الحياة وشقائها. وفي هذه الحفلات كان يلقن الشعراء والقصصيون طائفة من الناس أبياتا ملؤها الحزن يجيبون بها هذا الشاعر حين يلقي شعره يبسط فيه ألم الآلهة أو لذته. وكان هذا أول مظهر من مظاهر التمثيل.
ثم ارتقى التمثيل بعد ذلك وانتقل من مجرد وصف آلام الآلهة وملذاتهم إلى وصف حياة الأبطال، وأعمالهم إلى استعادة مناظر التاريخ. ووضعت الآلهة بعيدا ترقب أكثر مما تعمل.
وكان أول من خطا بالشعر التمثيلي الخطوة الأولى ذات الأثر إيسكولوس. كان من أسرة أرستقراطية، وولد في قرية مقدسة تدعى إيلوزيس يحج الناس إليها من كل وجه لتكريم دمتير آلهة الطبيعة الحية الخصبة. وشهد حرب اليونان وفارس في وقعة مارتون وشغف بالشعر الغنائي، فضرب فيه بسهم، ثم كلف بالتمثيل، وتقدم إلى المسابقة فيه ولما يتجاوز السادسة والعشرين من عمره، وانتصر في مسابقاته حتى غلبه سوفوكليس في آخر أيامه.
وكان اتجاه إيسكلولوس تمثيل إرادتنا الإنسانية في تصلبها وقوتها وعنادها واندفاعها، ثم إذا الإرادة الكبرى إرادة القضاء الهادئة المطمئنة تحول دون ما أردنا، وتذهب بكل تصلبنا وعنادنا هباء، وتنفذ هي قدرها من غير جهد ولا عناء.
وهنا يذكر لنا الدكتور طه حسين فضائل إيسكولوس الفنية، وكيف عبر عن فكرته القائدة المتحكمة في رواياته المختلفة، وكيف نجح في ذلك أكبر النجاح.
أما سوفوكليس فقد ولد في كولونا ونشأ فيها نشأة قروية خشنة بعض الخشونة، ثم انتقل إلى المدينة فتأثر بما فيها من لين العيش ونعومته؛ وكان لهذين الأثرين في حياته كشاعر ما سهل عليه الجمع بين القوة والرقة، والشدة المتناهية، والإنصات لصوت العقل . ولقد فاق إيسكولوس وبزه في آخر حياته غير مرة بقوة عبقريته الشابة المتلائمة مع عصر كان إيسكولوس - وقد صار شيخا - قد فرغ منه. وزاد هذه العبقرية أن العصر الذي كان فيه سوفوكليس هو العصر الذي ارتقى فيه العقل اليوناني والشعور اليوناني إلى حد أصبح فيه كل إنسان محسا بوجوده وبشخصيته على طريقة شديدة يود معها لو أكره كل شيء على أن يعترف بهذه الشخصية ويشعر بذلك الوجود.
لسنا ندعي إقامة المقارنة بين الشاعرين الكبيرين في هذه الكلمة. ومن شاء الوقوف عليها فليرجع إلى الصحف المختارة ويرى تطور العصر والموازنة بين مختلف ما كتب كل منهما. وإنما نريد أن نشير إلى أن شعرهما جميعا بلغ من السمو والعظمة والقوة والمتانة ما يجعلنا نعتقد أن السبب في عظمة شكسبير وراسين وكرني راجع، فضلا عن عبقريتهم الطبيعية، إلى عظمة ذلك الوحي اليوناني والروماني الذي كان يمدهم. وليس في مقدور عصورنا الحاضرة عصور التحليل الدقيق وفحص الخلايا وتعرف الجزئيات والبحث وراء النتائج بعد استقصاء المسببات. أقول: ليس في مقدور عصورنا التي هجرت البساطة الطبيعية العظيمة، وارتكست - فضلا عن ذلك - فيما هي فيه من ترف مفسد مذل أن ترقى مراقي إيسكولوس وسوفوكليس ومن نسجوا نسجهم واستمدوا الوحي منهم. وهل نرى اليوم مثل أنتيجونا قتل أخواها كل واحد منهما صاحبه، وكانا في رياسة جيشين متحاربين، فأمر ملك طيبة المظفرة في هذه الحرب بأن يدفن المدافع عن طيبة، وأن يحرم الثاني من شرف الدفن ومن الطقوس، وأن يبقى بالعراء نهبا لكواسر الطير وعوادي الوحوش. فآلت أنتيجونا على نفسها إلا ما دفنت أخاها وأقامت له كل الفرائض رغم ما أمر الملك، ورغم عناية الحراس القائمين بالحراسة. فلما استدعاها كريون إليه وقفت في وجهه وقفة جديرة بهلينا القديمة، ولم تحفل بالموت وإن جزعت على شبابها تفارقه في غضارته ونضرته، وتفارق معه الطبيعة الحلوة في أجمل أوقاتها وأبهاها. وإذا كان مثل أنتيجونا غير معروف اليوم، فإن ما وضعه سوفوكليس في فمها من الألفاظ جدير بعبقرية سوفوكليس وبعظمة أثينا. اسمع مثلا كلمات أنتيجونا حين ترد على كريون لما تشدد في سؤالها عن مخالفة أمره ودفن أخيها قالت: ذلك لأنه لم يصدر عن الإلهة ذوس ولا عن مواطن آلهة الجحيم ولا عن غيرهم من الآلهة الذين يشرعون للناس قوانينهم. وما أرى أن أوامرك قد بلغت من القوة حتى تجعل القوانين التي تصدر عن رجل أحق بالطاعة والإذعان من القوانين التي تصدر عن الآلهة الخالدين. تلك القواانين التي لم تكتب والتي ليس إلى محوها من سبيل.
لم توجد هذه القوانين منذ اليوم، ولا منذ أمس! هي خالدة أبدية وليس من يستطيع أن يعلم متى وجدت. ألم يكن من الحق علي إذن أن أذعن لأمر الآلهة من غير أن أخشى أحدا من الناس. كنت أعلم أني مائتة. وهل يمكن أن أجهل ذلك حتى لو لم تنطق به؟ ولئن كان موتي سابقا لأوانه فما أرى في ذلك إلا خيرا.
ومن ذا الذي يعيش من الآلام في مثل الهوة التي أعيش فيها، ثم لا يرى الموت سعادة وخيرا. فأنت ترى أني لا أعد هذه الآخرة كأنها عقوبة؛ فلقد كنت أتعرض لما هو أشد لنفسي إيذاء لو أني تركت بالعراء أخا حملته الأحشاء التي حملتني.
ذلك وحده هو الذي كان يجعلني أشعر بهذا اليأس والقنوط. أما ما دونه فما كان ليحزنني أو يؤثر في. فإذا قضيت بعد ذلك على ما فعلت بأنه نتيجة جنون فمثل هذا القضاء لا يصدر إلا عن أحمق مأفون. •••
فإلى هذه العصور القديمة إذن يجب أن نرجع لنفيض على أنفسنا المتمدينة المدنسة بأطماع المادة شيئا من هذا الروح القوي الكبير، الذي يعرف أن فوق المتاع والشرف واللذة المادية شيئا أعلى من هذه اللذات الوضيعة. سيالا روحيا ينقذنا لحظات من تفكيراتنا الحيوانية الشرهة. أجل! إليها يجب أن نطلب السر ومعنى الحياة علنا نتجه - ولو قليلا - صوب ما تملي به العواطف السامية الخالدة من أداء واجب النفس، ولو كان في أدائه تلف الجسد.
لهذا فالخدمة التي قدمها الدكتور طه حسين للأدب العربي وللنفوس المتمدينة - بنشره صحائفه المختارة - خدمة جليلة. ولقد كان بودنا لو كان تحليله للنفس اليونانية أطول وأغزر مما كان. فتاريخ الإنسانية متضامن كله، وصلة ما بين الحاضر والماضي هي الضمين بمعرفة السبيل الحقة التي نسلكها في المستقبل.
ولا نظن صديقنا يحجم بعد نشره هذا الجزء عن الاستمرار في تاريخ اليونان بحثا واستجلاء وعرضا على قراء العربية. فإن ما أضاء به في هذا الجزء على عصر إيسكولوس وسفوكليس ليجعل النفوس كلها أشد ما تكون اشتياقا لترى على نور بحث الأستاذ وترجمته سائر عصور اليونان في مختلف نواحي حياتها.
طه حسين (2)
رد على نقد حول كتاب جان جاك روسو
أخي طه!
تحية واحتراما. أكتب لك عما تبرعت به من نقد الجزء الثاني من كتاب جان جاك روسو، حياته وكتبه. ولست أقصد بما أكتب إلا مناقشة صديق لصديق. وستجدها مناقشة خالية من كل ما تتهم به نفسك من عنف أو شدة.
أخذت على هذا الجزء الثاني من كتابي عن روسو أنه مطبوع طبعا رديئا على ورق غير لائق بكتب العلم والأدب، وأن به أغلاطا مطبعية كثيرة، وأخذت علي أني في إهمال الطبع وعدم اختيار الورق، وعدم العناية بالتصحيح أزدري الجمهور، وأني لا أحفل باللغة كما ينبغي، وأني لم أضع لكتابي فهرسا ولم أبوبه، وجعلت لهذا النقد أكثر من أربعة أنهر في «السياسة». ثم أثنيت على الكتاب بأن موضوعه جان جاك روسو، وبأن كاتبه هيكل. وجعلت لهذا الثناء نصف نهر من أنهر السياسة.
ولست أخفيك أني أشعر بأن نصف النهر هذا فيه من المعنى ما «يخجل تواضع» روسو لو أنه كان حيا، وما «يخجل تواضعي» أنا اليوم. واعذرني إذا استعرت في هذا المقام عبارة سعد زغلول. لكني أود أن أسألك عما إذا كان القارئ - البعيد عني وعن روسو - يشعر بمثل شعوري بعد أن يفرغ من قراءتك، وقد عرف أن الكتاب مطبوع طبعا سيئا على ورق رديء، وأن به خطأ مطبعيا وإهمالا لضبط بعض الألفاظ من الجهة اللغوية، وأنه مع ذلك كتاب دسم مفيد، لكن سوء طبعه وورقه يصد عن قراءته؟ فما الذي يمكن لهذا القارئ أن يقف عليه من أمر الكتاب. ما هو هذا الغذاء الأدبي والعقلي الذي لا يستطيع أن يصل إليه والذي كان حقا عليك أن تدله عليه؟ ألا تظن أنه - ولم يستدل على شيء منه - يشعر بأنك لم تقرأ الكتاب، بل اكتفيت بتقليب صفحاته، واقتصرت بعد ذلك على الكتابة عن الشكل والصورة الظاهرة من غير أن تكلف نفسك عناء الوقوف على موضوع الكتاب لترى إن كان سوء شكله يستحق احتمال القراء عناء مطالعته، ولتقدر مباحث الكاتب فتحكم له أو عليه.
ثم هب يا صديقي أن قارئك كان رجلا صالحا من أهل الأزهر الذين تعودوا قراءة الكتب مطبوعة على الورق الأصفر أو النباتي ولا تزيد على الكتاب الذي تفضلت بنقده بهاء ولا رواء. وهب أن قارئك كان من الذين يولعون باستقصاء ما في الكتب مهما يحملهم هذا الاستقصاء من عناء، وهب أنه كان من الذين لا يحفلون بالظواهر، ولا يعنون كثيرا باللباس، ولا يفهمون قيم الناس بأرديتهم، ويحسبون التأنق لهوا، فماذا يكون حكم هذا القارئ على ما كتبت حين يراك اقتصرت على نقد الطبع والورق. وهلا تخشى أن يقول لك إن وضع صحيفة في آخر الكتاب لبيان الخطأ والصواب كانت تكفي لرد نقدك الألفاظ. وإنه كان أحوج إلى العلم بشيء من موضوع الكتاب.
أما نقدك غياب الفهرس والتبويب فكنت أود أن أشاركك رأيك فيه لولا أن هذا الجزء الثاني من كتاب جان جاك في غير حاجة إلى فهرس أو تبويب. فهو يلخص رواية هلويز الجديدة وكتاب التربية وينقدهما. وليس فيه شيء آخر. فهل كان يكفيك أن يكتب بدل 9 و10 و11 - هلويز الجديدة، وإميل، وصوفيا، كما فعل فاجيه ولمتر وغيرهما من الذين كتبوا عن روسو؛ وهل تحسب أن الفارق كبير في نظر العلم والأدب إلى حد لا يصبح معه نقدك مشوبا بشيء غير قليل من الإسراف الذي ذكرت أنك لا ترضاه.
وتقول: لو أنك كنت غنيا لقمت بطبع الكتاب في صورة تليق بروسو وبهيكل. وإني أشكر لك حسن ظنك ورقيق شعورك.
وربما رأيت أنت كتابي على غير ما رأيته لو أنني كنت غنيا. على أني لا أقول لك ذلك عن ثقة. فإن بي عيبا آخر قد يحول دون إتقان الطبع وأظنك تعرفه؛ فإني تتحكم في صفتان ليس أضر منهما على تجارة الحياة وتبادل المنافع. هاتان الصفتان هما الأنفة والحياء. وقد أسرف الحظ فيما خلعه علي من كل منهما إلى حد انقلب معه ما يجده الناس في كل منهما من فضل عيبا عندي ونقصا. وليس لي من سبيل إلى محاربة هذا الإسراف في الصفتين إلا أن يستطيع الإنسان محاربة طبعه.
هاتان الصفتان تحولان بيني وبين الناس وتجارتهم. وأشهد أني ما اغتبطت يوما لهذا العجز. كما أشهد أني ما حزنت له يوما. فهو يحميني من شرور كثيرة، ويدع المجال أمامي فسيحا لأحظى من نعيم الحياة بما تيسره المقادير من غير أن أخشى مداخلة الناس في أمري لتكدير صفو نفسي. ثم هو في نفس الوقت يمنع علي الاستفادة من معاملة الناس والاستعانة بذوي الأخصاء منهم في طبع كتبي وتصحيحها، وتوزيعها واسترداد نفقاتها لطبع كتب أخرى، كما يمنع علي الاستفادة من معاملتهم في غير هذه من شئون الحياة، ويضطرني إلى القناعة من علاقاتي بالناس بما ييسر لي أقل حظ من النعيم أطمع فيه. فأنت تراني أشد ما أكون غبطة ما دمت جالسا إلى مكتبي متصلا بالناس في غير حاجة إلى معاملتهم والاتجار معهم؛ وتراني أشد ما أكون حياء وحيرة ما اتصلت بالناس في تجارة. وهذا يا صديقي هو السر فيما رأيت من سوء ورق كتابي وطبعه. وهذا هو السر فيما تتهمني به خطأ من ازدراء الناس. ولو أنصفت لقلت: إنه عكوف النفس على ذاتها وقناعتها بالرضا الداخلي الذي لا يعنى كثيرا بحكم الناس؛ لأن حكمهم لا يصل إليه. وإن وصل فلا يعلق عليه.
وقد لا يسوؤك في هذا المقام أن أخبرك أني حين قرأت نقدك ابتسمت أن رأيتك تأثرت فيه بصداقتك إياي أكثر مما تأثرت بموضوعك. فإنك قد عالجت إخفاء ما تبعثه المودة في نفسك من محبة صادقة، فنم حرصك على التعرض لشكل الكتاب دون موضوعه، مع إظهارك الإعجاب بالموضوع عرضا، على أنك كنت تود أن يكون ما يظهر للناس من صاحبك بالغا ما يستطاع بلوغه من الكمال.
لكنك يا صديقي تعلم ما انطوت عليه نفسي، وتعلم أني لا أكتب إلا ما يكون متاعا لي ولذة؛ فإذا نشرته بعد ذلك فإني لا أستطيع المحافظة عليه، وأخشى أن يضيع، وقد أحتاج إليه يوما لأتلذذ بمجهوداتي الماضية في الساعات المجدبة من حياة الحاضر. وهذا هو ما دعاني لتقسيم ما كتبت عن روسو إلى ثلاثة أجزاء، فكنت كلما فرغت من قسم من بحثي وهجمت على مشاغل الحاضر. وخشيت أن أوخذ بها إلى حد نسيان ما كتبت قدمته للطبع لكي لا يضيع. وهذه غاية يكفي لبلوغها أن يطبع بأقل نفقة ممكنة ومن غير عناء كبير.
على أني أعدك يا صديقي إن أراد الحظ لي أن أظهر للناس كتبا أخرى بأن أجاهد لأحرص على رضاك، وإذا أنا وجدت من عناية الأقدار ما يسمح لي بإتمام الجزء الثالث من كتاب روسو - وهذا ما لا أعدك به - فلن أكتفي بما اكتفيت به في الجزأين الأولين، ولن أتركه بغير فهرس أو تبويب، ولن أطبعه إلا على ورق يعجبك، ولن أتركه بغير بيان لما فيه من خطأ مطبعي، ومن زلات القلم حين الكتابة.
لكني مع ذلك كنت أرجو أن لا يقف نقدك عند الغضب لي مني، وإظهار هذا الغضب في ثورة صريحة؛ وكنت أود أن تتناول موضوع الكتاب وأن تبين لقارئك في شيء من التفصيل ما تراه من وجوه حسنه وقبحه وكماله ونقصه. فقد يمكن ملافاة ما كان من نقص في الطبع والورق عند إعادة طبع الكتاب، سواء أعدت أنت الطبع أو أعدته أنا أو أعاده غيرنا. لكن ملافاة نقص الموضوع لا تكون إلا إذا دل النقاد المؤلف على مواقع الخطأ في البحث ومواضع التواء الدليل. وأصدقك القول: إني أحوج إلى هذا النقد مني إلى نقد الشكل والصورة؛ فنقد الشكل والصورة أعرفهما وأعرف أسبابهما من غير حاجة إلى أن يدل عليهما أحد، كما أعرف وسائل علاجهما. وهذه الوسائل على ما تعلم يسيرة لمن أراد الإصلاح. فأما النقص في الموضوع، وأما التواء الدليل فيحتاج إصلاحهما إلى تنبيه خاص من أمثالك الأصدقاء المخلصين ذوي الفضل والعلم. فهل لك أن تكلف نفسك هذا العناء فتنفعني وتنفع الناس، ويكون الشكر لك مضاعفا.
وما أحسبك حين تعرض لهذا النقد مضيعا وقتك سدى. فإن في رواية الهاويز تحليلا نفسيا شائقا ومباحث فلسفية غير تافهة. وكتاب التربية هو خير ما كتب روسو. وأحسبني حين لخصتهما ونقلتهما لم أترك شيئا جوهريا مما جاء فيهما أو ورد عليهما، وإن كنت قد أوجزت في التلخيص والنقد فذلك لأوفر على القارئ وقته؛ ولأحول بينه وبين الملال ولأعصم نفسي من زلة ادعاء العلم بما لا أعلم.
وقبل أن أختم هذه الكلمة أرجو أن أعيد أمامك كلمة مما سطرته في مقدمة الجزء الأول؛ لتكون متسامحا معي بمقدار ما يسمح به قدري لمجهودي. قلت في تلك المقدمة: «لا أدعي استطاعة القيام بهذا البحث على وجه كامل؛ لأنني لم أتخصص له وإنما هويته، فأخذ مني وقتا ومجهودا كانا من خير الأوقات والمجهودات التي أنفقت في حياتي، فلم أشعر معهما بألم أو بملال، بل كنت أتنقل إلى تذوق أنواع من اللذة، وأشعر في أعماق روحي بدسم ما يصل إليها أثناءهما من الغذاء. ولكني على كل حال لم أتخصص. والبحث الكامل لا يأتي إلا بالانقطاع والمزاولة والإمعان وطول التفكير في الساعات والأيام والأشهر المختلفة، وعند مراجعة المؤلف ومن كتب عنه من الكتاب الكثيرين جدا. وإذا كنت قد قرأت كتبا كثيرة فهي على كل حال قليلة إلى جانب ما كتب أو أخذ عن روسو.»
هذا ومع شكري لك على حسن عنايتك بكتابي، أرجو أن تتفضل بقبول فائق الاحترام.
حديث الشمس
تذاكر الناس شأن أمية بن أبي الصلت عند النبي
صلى الله عليه وسلم
فقال: أمية آمن شعره وكفر قلبه. وبينا أبو بكر الهذلي بين يدي عكرمة يوما إذ قال له: أفرأيت من يبلغنا عن النبي
صلى الله عليه وسلم ، أنه قال لأمية: آمن شعره وكفر قلبه. فقال عكرمة: هو حق. فما الذي أنكرتم من ذلك؟ قال أبو بكر: أنكرنا قوله:
والشمس تطلع كل آخر ليلة
حمراء مطلع لونها متورد
تأبى فلا تبدو لنا في رسلها
إلا معذبة وإلا تجلد
فما شأن الشمس تجلد؟ قال عكرمة: والذي نفسي بيده ما طلعت قط حتى ينخسها سبعون ألف ملك يقولون لها: اطلعي، فتقول: أأطلع على قوم يعبدونني من دون الله، فيأتيها شيطان حتى يستقبل الضياء يريد أن يصدها عن الطلوع فتطلع على قرنيه فيحرقه الله تحتها. وما غربت قط إلا خرت لله ساجدة فيأتيها شيطان يريد أن يصدها عن السجود، فتغرب على قرنيه فيحرقه الله تحتها. وذلك قول النبي
صلى الله عليه وسلم : «تطلع بين قرني شيطان وتغرب بين قرني شيطان.» (الأغاني جزء 3 ص 184 طبعة ساسي)
كذلك كان شأن الشمس أيام عكرمة: لا تطلع إلا كرها يدفعها جيش عرم من الملائكة. وما كان تقاعدها صلفا معاذ الله أو تيها. بل زيادة في الخشوع وغضبا على الضالين الذين يقرون لها بالألوهية. ومهما يكن عدد هؤلاء قليلا إلى جانب المؤمنين من بني آدم وإلى جانب الطير والوحش تسبح بحمد الله وتقدس له، وإلى جانب الخليقة الخاضعة الخاشعة، فإنهم يغيرون من نفس معبودتهم حتى تنزع إلى العصيان لولا سبعون ألف منخاس تتناول جسدها حتى يدمى ويصل إلى حد إيلامها. هناك تبدو حمراء متوردة اللون آسفة. ولا تلبث أن تبدو حتى يقابلها من أعداء الله مريد يريد أن يحجب ضياءها، ويقف بقرنيه دون مسيرها، فتصب عليه نارها ويحرقه الله تحتها. وتستمر سيرتها مضيئة ناصعة تعم الأرض بنورها وتأخذ إليها ألباب المعجبين بها. فإذا تمت دورتها وجاء وقت مغيبها عاودها الأسف على ما رأت فتخر لله ساجدة منيبة. هنالك يجيء شيطان ثان يريد أن يصدها عن السجود فيحترق دون ما يريد، وكذلك يتم أمر الله.
أما اليوم فقد انقضت تلك المعارك مما بين الملائكة والشمس والشياطين. وصارت الشمس غير ذات إرادة، وإنما تسير في نظام الكواكب الأخرى. أصبحت لا تطلع ولا تغيب، وإنما تدور الأرض حولها في حركة آلية لا تملك إرادة أيا تكون تحويلا لها ولا تبديلا. وأصبح توردها غير متعلق بمناخيس الملائكة الذين يجلدونها. وإنما هو نتيجة تكسر الأشعة في أثير الهواء. ولعل السر الخفي في حدوث ذلك الانقلاب الهائل في نظام الكون أن عبادة الشمس انقضت من زمان، فلم يبق من سبب لغضب الشمس وتقاعدها عن الطلوع، ولم يبق محل لنخس الملائكة إياها. ولما كان من أثر ذلك أن تركت الشمس نفسها تسير كما توجهها الظروف، وكانت كل ملكة لا تستعمل تندثر بالزمان، انحطت قوة الإرادة من نفس الشمس، وتلاشت رويدا رويدا حتى انعدمت، وبقي ذلك الكوكب العظيم بلا إرادة يسير في موكب الكواكب الأخرى من غير رأي ولا تدبر.
قد يرد على هذا التفسير المعقول اعتراض يجدر بنا أن نرده. ذلك أنه إذا كان دور الملائكة في نخس الشمس قد انقضى بانقضاء عبادتها، وكان سجودها قد انتهى كذلك، فإن الشياطين التي كانت تقف في وجهها صباح مساء لا يزالون بين أظهر الخليقة. فما الذي يصدهم عن مناوشتها ومناوأتها كما كانوا يفعلون من قبل؟ وإذا كانوا لا يزالون يقومون بدورهم فإن معارضتهم تكفل استمرار تنبه إرادة الشمس لإحراقهم كلما تصدوا لها. ويكون ذلك معناه بقاء هذه الإرادة التي لا يبعد أن تستعملها صاحبتها اليوم أو غدا إذا أحوجت الظروف كما كانت تستعملها من قبل.
ولو ذكر المعترض أن تعرض الشياطين للشمس من مطلعها ومغيبها، إنما كان لصدها عن ذكر الله والسجود له، وقد انعدمت هاتان الخلتان منها بانعدام سببهما لرد على نفسه بنفسه. كذلك فإن إحراق شياطين من عتاة الشياطين كل يوم - نقول: عتاتهم؛ لأنه لن يغرر بنفسه منهم للقيام بمثل تلك المهمة ضعيف أو عاجز - من شأنه أن يوقع في قلوبهم الرعب والفزع.
إذن فهم لا يقدمون على تضحية لا طائل تحتها ولا نتيجة لها، وهي فوق هذا وذاك قد انعدم سببها؛ لذلك تركت الشمس حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم. كوكب يدور في موكب الكواكب من غير إرادة لا يطلع بين قرني شيطان ولا يغيب عن قرني شيطان.
ولعل أبا بكر الهذلي كان قد نسي عباد الشمس فلم يصله علم ما كانت تقاسي بسببهم إلا عن طريق عكرمة. ولا شك أنه بقي مدة جهله محروما من التمتع بتصور الحركة العظيمة التي كانت تقوم في الجو ساعة سحب الشمس من وجارها في أبحر الظلمات والنور. لكنه على كل حال تمتع بهاته الخيالات بعد ما جاءه من العلم. أما نحن فقد أفقدنا العلم هذه التصورات، وأضاع علينا المتاع بها وبما تحويه من جمال.
على أنه خلق لنا عنها عزاء لا ندري إن كان حقا. ذلك هو اقتناعنا بأننا صرنا نعلم.
مصطفى صادق الرافعي
تاريخ آداب العرب
طلبت الجامعة المصرية للكتاب والأدباء في مصر أن يضعوا تاريخا لأدب اللغة العربية؛ ليكون كتابا لطلابها، فكان من السابقين لإجابتها حضرة مصطفى صادق الرافعي. وقد ظهر أخيرا الجزء الأول من كتابه. وهو جزء ضخم كبير القطع يقع في أربعمائة وأربعين صفحة. وقد بقي أمام المؤلف أربعة أجزاء «من غرار هذا الجزء وحجمه». فنحن لذلك إنما نحكم الآن على قسم من خمسة أقسام من التاريخ العام الذي أخذ المؤلف نفسه بوضعه. على أننا سنبدي آراء تشمل هذا الجزء وما بعده فيما يختص ببعض المسائل كأسلوب الكاتب وطريقة تقسيم الكتاب وسيره في عمله. وآراء أخرى تختص بهذا الجزء وحده؛ لأنها تقتصر على النظر في محتوياته.
المؤلفون اليوم في مصر وفي البلاد العربية على العموم قليلون. والمواضيع التي يطرقونها محصورة؛ لذلك ترى كل واحد منهم متى أخذ يكتب في موضوع أراد أن يستوعب في كتابه كل ما جاء في هذا الموضوع أو يمسه، ويكسب من ذلك أن يخرج الكتاب كبير الحجم يسر مؤلفه ويعجب الناظر إليه. وقليل جدا من يحصر كتابته في الموضوع الذي يبحثه إلا متى اضطرته الحاجة للمساس بغيره. وهم في ذلك معذورون؛ لأن هذه الطريقة الدقيقة التي تضطر الكاتب لأن يحدد عمله في الوقت عينه يتعمق ما استطاع في دائرة كتابه إنما تجيء نتيجة لازمة لكثرة البحاث والكتاب؛ مما يضطرهم لتقسيم العمل فيما بينهم، ويجعل كل واحد ملزما أن يخرج للناس جديدا من الأفكار أو الأشكال أو المعلومات حتى يجدوا في قراءته لذة أو فائدة. أما في البلاد الفقيرة فكل بضاعة رائجة؛ لأن المطلوب دائما أكثر من المعروض؛ لهذا أرى واجبا أن ننظر لكتابنا من غير تشدد، وأن لا نطالبهم فيما يعملون باتباع طريقة دقيقة. فإذا جاء الكاتب الذي يعرف طريقة التأليف، ويفهم أن المطلوب ليس هو وضع أخبار ومعلومات بعضها فوق بعض؛ كنا مدينين له بالشكر الكبير.
وأظهر الكتب دلالة على ما أقول ما كتب عندنا عن أدب العرب، فإنك قل أن تجد في هذا الباب على أنه مطروق كتابا انتهج صاحبه فيه طريقة تأخذ بنفس القارئ جدتها أو جودتها. والغريب أنهم حين يريدون الكتابة في تاريخ الأدب، أي: حين يريدون أن ينقلوا للقارئ ابن القرن العشرين نفس أهل القرون الأولى، تراهم انتقلوا هم أنفسهم بين أهل هذه العصور المتقدمة، وانتحلوا لأنفسهم طريقة أولئك في الفهم والفكر والتعبير، ثم بقوا هناك من غير أن يترجموا لنا عن صور نفس أهل هذه العصور؛ لذلك كانت كتبهم قليلة الفائدة؛ لأن الواجب المهم على الكاتب ليس أن يسرد الوقائع أو أخبار الرجال أو آراءهم العامة المعروفة. بل أن يبين لقارئه النقط النافعة الظاهرة فيما يريد أن يكتب عنه. فإذا فرغ القارئ من الكتاب خرج منه بفكرة معينة مضبوطة تدل على نفس الكاتب، ومبلغ تقديره للحوادث. وإلا فما معنى أن يكتب كاتبون مختلفون فضلا عن عدد كبير من الكتاب في علم واحد أو مسألة واحدة أو تاريخ خبر مخصوص، إذا كان القصد نقله عن كتاب قديم أو رواية موجودة. أليس الأحسن - إن صح ذلك - أن نرجع للكاتب القديم نفسه أو أن نراجع الرواية.
وعذر بعض هؤلاء الكتاب أن اللغة العربية هي لغة الماضي والحاضر والمستقبل؛ لذلك فخير من يكتب بها هو من يضاهي المتقدمين من الكتاب في ألفاظه وتعابيره. وكأنهم ما علموا أن الألفاظ والتعابير تتغير من زمان إلى زمان ومن مكان لآخر. وأنقل هنا كلمات مصطفى صادق الرافعي في هذا الموضوع قال (ص49): «الإنسان ملهم بفطرته أصول الحياة، وليست اللغة بأكثر من أن تكون بعض أدواتها التي تعين عليها؛ ولذا تراها في كل أمة على مقدار ما تبلغ من الحياة الاجتماعية قوة وضعفا.» وقال (ص55): «اللغة بنت الاجتماع، وهي ألفاظ ملك السامع في الحقيقة لا ملك المتكلم.» وهذه الفكرة غاية في الدقة والإمعان. فإذا كان ذلك فلم يبتعد الكتاب بمراحل عما يتصوره قارئوهم أو سامعوهم؟ ولم هم يذهبون في تحريرهم كأنما يريدون تعليق كتبهم على أطلال العرب؟
لنا اليوم لغة كتابية متعارفة بيننا نكتب بها في جرائدنا وفي رسائلنا وفي مذكراتنا، فلم ننساها مرة واحدة ساعة نريد أن نكتب كتابا في علم ما، وخصوصا في تاريخ أدب العرب؟ أحسب ذلك راجعا لتقدير الذين يتناولون هذا النوع من الكتابة أنهم هم أنفسهم أدباء، فيجب أن تسمو كتاباتهم عن هذه الكتابة المعروفة اليوم خيفة أن لا يكون لهم فضل. هم يظنون أن القارئ يحني رأسه اعترافا بعلو مركزهم حين يسمعهم يجيئون بالألفاظ غير المعروفة ولا المتداولة، بالرغم مما يكون في تركيبهم من التعقيد اللفظي والمعنوي وفي أساليبهم من الركاكة. وهذا الظن من جانبهم يكفي ليفهم الكثيرين قدرهم بمجرد قراءتهم.
ليس الأديب بالشخص العارف لعويص الألفاظ ومتروكها، ولكنه الشخص الذي يستطيع أن يلبس المعاني الجميلة أو الأفكار الدقيقة أو الصور أو النغمات - أو أي شيء مما يقع تحت الحس أو يجول في النفس - لباسا يظهر من خلاله جمالها وإبداعها. وكلما سهلت ألفاظه كانت أعذب سماعا وأقرب للقلب وأحب للنفس.
يخيل لي أن الكاتب الذي ينتزع نفسه من الوسط الذي يعيش فيه، وينتحل في أسلوبه وخيالاته وأفكاره صورا ليست له ولا لقومه، شخص شارد عن الجماعة التي يقيم بينها خارج عليها منكر نفسه وأصحابه. وإلا فما ذا الذي يدعو كاتبا عاش في مصر وبين المصريين ليستمطر الغيث أو يعشق البادية ما لم يكن منكرا مصر ومقامه فيها. (1) أسلوب كتاب الرافعي
وإني آسف أن أقول: إن كتاب تاريخ آداب العرب فيه شيء من هذا الرجوع إلى أطلال سكان شبه الجزيرة الآسيوية. ويكفي دليلا على ذلك أن أنقل للقارئ السطور الأخيرة من كتابه. قال (ص 437): «هذا مجمل من أمر الرواية والرواة، ولولا أني حبست من نفس المقال، وعدلت بالقلم عن انتجاع الغيث إلى التلال لأمضيت البحث لطيته. وتركت الخاطر على سجيته. ولكنها قصبة من جناح قد طار. وأثارة من علم صار من الإهمال إلى ما صار. وإن هو إلا بساط كان منشودا فطوي وحديث قيل ثم روي.»
أريد أن أطابق بين مثل هذه الأسطر - والقارئ يقع على مثلها من حين لآخر في عرض الكتاب - وبين اعتبار اللغة ملك السامع فأعجز دون ذلك. ويزيد عجزي حين أريد أن أطبق عليها قوله (ص159): «الألفاظ في كل لغة من اللغات إنما هي أدوات الحياة الذهنية الخاصة بالنفس، كما أن مدلولاتها أدوات الحياة المادية الخاصة بالحواس.»
وإني لا أحسب المؤلف رجلا يمكنه أن يسير في كتابته على القواعد التي يضعها هو. وإنما أحسب السبب في وقوعه أحيانا في النسيان شديد إعجابه بالعرب ولغتهم وأقوالهم وأعمالهم. ومفهوم أن الإنسان يجتهد في أن يتحدى كل ما يعجب به إلا حين يرى هذا التحدي غير صالح. وفي هذه الحالة الأخيرة قد يغلب عليه النسيان. ذلك شأن الرافعي في بعض ما كتب، أي إنه نسيان منه لقواعده.
لذلك نراه في غير هذه الأسطر يكتب بلغة معتادة وبأسلوب معتاد، أي إنه لا يمتاز فيهما بشيء خاص، ولا تظهر له فيهما صفة معينة. بل ترى مادة الحياة قليلة في هذا الأسلوب المتشابه. والسبب في ذلك أن الرافعي لا يدعو لشيء معين فيكون أسلوبه خطابيا. وليست عنده روح النقد الدقيق لتظهر في كتابته، ولا هو متمسك بتقليد الأقدمين فتكون له صبغتهم.
ثم هو في الوقت عينه غير دقيق في انتقاء الألفاظ وترتيبها، بل يجيء أحيانا بجمل تكون من الغموض بحيث تستلزم وقتا طويلا لفهمها، وهي لا تحتوى ما يستدعي ذلك من خبر غريب أو معنى عميق، مثال ذلك ما جاء في صفحة 9، قال: «إن تاريخ الآداب ليس فنا من الفنون العملية التي يحذو فيها الناس بعضهم حذو بعض، ويأخذ الآخر منها مأخذ الأول، وتتساوق فيها الأمم على وضع واحد؛ لأنها لا تتغير على الجملة في تعرف مادتها وتصرف أداتها حتى يتعين علينا أن نجعل آداب لغتنا جميلة على آداب اللغات الأعجمية، يفصل على أزيائها وإن ضاقت به وخرج بارز الهيئة مجموع الأطراف متداخل الأعضاء، وكأنه مشدود الوثاق أو مأخوذ بالخناق.» ولو أنه اكتفى بقليل وقال: «إن تاريخ الآداب يختلف من لغة للغة، وليس من الضروري أن ننهج في الكتابة عن آداب لغتنا منهج الإفرنج (أو الأعاجم إن شاء) حين يكتبون عن آداب لغتهم.» لكان أظهر في المعنى وأقصر في اللفظ، ولوفر على القارئ وقته، وعلى نفسه البحث عن تشبيهات هي على خلوها من الجمال لا تؤدي معنى في هذا المكان.
أمثال هذه الجملة التي نقلنا كثير في الكتاب. ولا ندري لعل اعتبارنا للبلاغة يختلف اختلافا كليا عن اعتبار المؤلف، فإنا نراه يجيء أحيانا بسجعات أو تشبيهات يخيل إلينا أنها لا تتفق والبلاغة بحال. فقوله مثلا في (ص18): «ثم إن موارد هذا التاريخ لم يتولها الكاتب بالذهن الشفاف. ولم يعتبرها بالفطنة النفاذة حتى يكون نبيها كالعراف.» قول قاصر جد القصور من جهة الفصاحة في انتقاء اللفظ، ومن جهة البلاغة في حسن سبك التعبير. كذلك قوله في (صفحة 13): «إنا استفدنا تحقيق معنى اللغات بما يقطع الريب ويمتلخ عرق الشبهة فيما أيقنا به.» أفلا كان الأجمل به أن يتنازل عن «يمتلخ عرق الشبهة»، ولا جمال فيه ولا ضرورة له. ومثل هذا يجده الإنسان في مواضع متعددة من الكتاب.
وهناك كلمة جميلة المعنى لا تسمح لي نفسي أن أغتفر للكاتب إلباسها ثوبا غير جميل من اللفظ. تلك قوله (ص10): «من ذلك تجد الأمة التي لا حوادث لها ليس لها تاريخ.» ولو أنه قال: (لا تاريخ لها) لأعطى الجملة رونقا يزينها.
على أن أسلوب الكتاب وإن لم يكن أسلوبا مثلا في مجموعه وتنقصه غالبا طلاوة اللفظ ودقة التعبير، فإنه يصعد أحيانا حتى يكاد يكون بليغا. انظر إلى قوله (ص165): «فهي (اللغة) في الكفاية سواء يوم كانت لغة الطبيعة البدوية الخشنة لا تلقيها إلا على ألسنة البدو الذين هم الجزء المتكلم من هذه الطبيعة الصامتة، ويوم صارت لغة الحياة المنبسطة تصرفها الألسنة والأقلام في مناحي العلوم والآداب والصناعات التي قام بها التمدن الإسلامي.» وأنت تجد قطعا جميلة كذلك في الفصل الذي كتبه عن أصل اللغات.
وأظن أن السبب في اختيار المؤلف أحيانا لألفاظ غليظة لا جمال فيها ما عنده من الاعتقاد بأن اللغة العربية والخشونة صنوان، وأن الرجل متى سكن المدن ذهبت فصاحته «وبدأت سليقته تتحضر، فكأنما انصدع مفصل العربية من لسانه.» (ص251). وهذه الفكرة الغريبة إن صحت عند العرب فلا أستطيع أن أفهم كيف يمكن أن تصح بين المصريين الذين هم متحضرون بطبيعة بلادهم. أم أن الرافعي يجاهد لينسلخ عن طبيعة مصر؛ ليبقى بذلك عربيا فصيحا. أخشى إن صح هذا أن يقصر دون الأعراب ودون الحضر.
أسلوب البادية تتفق معه الخشونة أحيانا. هذا صحيح. ولكن ليس معنى هذا أن العربي يتكلف الخشونة ليكون فصيحا، وإنما معناه أنها تجيئه بطبيعة الوسط الذي يعيش فيه. أما أسلوب أهل الحضر فإن الخشونة لا تلائمه وهو ينبو بطبيعته عنها؛ لذلك كان الكاتب من أهل الحضر الذي يكلف نفسه الخروج على طبع بلاده يجد نفسه منظورا من قومه وكأنه غريب عنهم وإن أخطأ بعضهم أحيانا في فهم هذه النظرة فظنها نظرة الإعجاب. ولا شيء أدل على ذلك من أن ما يكتب يبقى قراؤه قليلين محصورين في دائرة ضيقة. ويكون شأن المعجبين به شأن ريفي يرى البالون لأول مرة.
ثم إن بعض الكتاب يحب أن يواري عجزه عن بلوغ درجة البلاغة، فيتوارى وراء الألفاظ الغليظة السميكة، ويتخذ لنفسه منها ستارا. وما أظن رجلا تسمو به ملكة القول أو توحي إليه الموجودات بروح الشعر أو تجعله الأفكار يسير بخطى متتالية الأسباب المنطقية واحدا بعد الآخر في حاجة أن يثقل نفسه بكلمات تحتاج إلى الشرح والتفسير؛ مما يدل على عدم دقتها وصلاحها للمعنى المراد منها.
نشرت إحدى المجلات المصرية مقدمة كتاب الرافعي لأول ظهوره، وعدتها آية من آيات البلاغة. وإني لشديد الأسف أن لا أجد فيها هذه البلاغة وأن أراها ألفاظا متراكمة فوق ألفاظ، وصورا عتيقة تتلو تشابيه ضعيفة المعنى. وإنما أعطاها في نظرهم هذا الثوب من البلاغة أنها سميكة الألفاظ صعبة الفهم لمن يحب أن يكون دقيق الفهم. وإلى القارئ بعض عبارات منها: «هذا التاريخ علم قد كثرت عليه الأيدي واضطربت فيه الأقلام. واستبقت إليه العزائم حتى عثرت بها عجلة الرأي ولجاجة الإقدام. وقد أخصب في الأوهام. حتى نفشت في واديه كل جرباء وامتزج أمره بالأحلام ... إلخ إلخ.» فأي بلاغة في هذه الجملة التي لا تعطي معنى ذا قيمة يحتاج ضخامة التركيب إلى حد تصبح الكلمات فيه لا معنى لها.
أسلوب الكاتب مرآته. فالكاتب السهل الأسلوب السيال الألفاظ هو الكاتب السهل موارد الفكر. والشخص الذي يعتمد في بلاغته على غموض المعاني فلا ينتقي الألفاظ الدقيقة لمعانيها الموضوعة لها، إنما يدل بذلك على عدم وضوح أفكاره أمام نفسه. (2) طريقة أبي السامي في التأليف
ويدل على ذلك ما اتخذه أبو السامي - وتلك هي الكنية التي اختارها الرافعي لنفسه ووضعها على غلاف كتابه - في طريقة وضع كتابه وتأليفه. فإنك تجده جاء ما بين طرفيه بأخبار ومعلومات وضعها بعضها إلى جانب بعض، بحيث يكون من كبير التجاوز أن نسمي هذا الوضع ترتيبا. وبالرغم من أنك تقرأ على غلاف الكتاب أنه «تاريخ آداب العرب»، فإنك تمر به من أوله إلى آخره ولا تكاد تقف على كلمة واحدة عن آداب العرب وتاريخها. تجد فيه كل شيء عن العرب إلا ما يخص أدبهم. وكأن أبا السامي خشي أن لا يجد عنده من مواد التأليف ما يكفي ليظهر كتابه في خمس أجزاء من «غرار الجزء الأول وحجمه»، فنفد منه الجزء الأول قبل أن يكتب كلمة واحدة في موضوعه، بل لقد كتب عن أشياء لا تتعلق قليلا ولا كثيرا بأدب العرب ولا بتاريخه. ويكفي الإنسان أن يراجع فهرست الكتاب ليعلم أن ما فيه لا يفيد مريد الوقوف على الآداب العربية شيئا مطلقا.
ولقد حسبت حين رأيت ذلك أنه وضع للفظ الأدب معنى خاصا به. وقوى هذا الظن عندي أن التعاريف التي جاء بها عن الأدب تشمل تحتها علوما متعددة. فهذه الكلمة تشمل - على حساب ابن الأنباري - «ثمانية علوم: النحو واللغة والتصريف والعروض والقوافي وصنعة الشعر، وأخبار العرب وأنسابهم. أما الزمخشري فجعل علوم الأدب اثني عشر.» والرافعي نفسه يعتقد «أن كتب الأدب هي على الحقيقة كتب العلوم التي مرت.» وبما أنه كان يكتب عن تاريخ الأدب، فقد حسب نفسه مكلفا بطرق أبواب كل هذه العلوم، وإيراد ما جاء عن العرب فيها.
ولو أنه سمى هذا الجزء من كتابه تاريخ اللغة العربية، لكان أدق في انتقاء عنوانه وأبعد عن أن يخدع القارئ، الذي يحسب نفسه سيجد في المجلد الضخم الذي يرى شيئا عن أدب العرب، فإذا هو يراه خلوا منه على الإطلاق، حاويا لمواضيع بعيدة في الغالب عنه، تتعلق بالنحو والصرف والفقه، ولا صلة بينها وبين الأدب. هذا خلاف قسم عظيم وضعه عن الرواية والرواة، يخيل للقارئ أنه يجد فيه شيئا عن الأدب، فإذا هو متعلق باللغة وبالفقه، ولا يفيد المطلع عليه عن أدب العرب شيئا.
هذه المواضيع التي كتب فيها الرافعي مفيدة في ذاتها، وتستحق البحث، وأن يتعمق فيها ويفتش عن دقائقها. لكن ذلك شيء وتاريخ أدب العرب شيء آخر. لا بأس لو أن الكاتب جاء بكل ما جاء به عن هذه العلوم في مقدمته للكتاب. لكنه لم يفعل. فلك أن تأخذ كل الجزء الذي ظهر دليلا على أن المؤلف ليست عنده فكرة من أدب أية أمة من الأمم.
خلط أبو السامي بين اللغة في ذاتها وبين أدب اللغة؛ فصار حين وضع كتابه كالذي أراد أن يكتب عن الآلات البخارية، فأطال في البحث عن الحديد وأصله وكيفية تكونه في طبقات الأرض، وكيف أمكن استخراجه، وكيف وصل الناس إلى الانتفاع به، وكيف تناقلوه. فهل هناك إنسان يفهم أبسط الفهم في الآلات البخارية يستطيع حين يقرأ هذا البحث أن يقول إنه موضوع عن الآلات البخارية؟ كذلك لا يستطيع إنسان يقرأ كتاب الرافعي أن يقول إنه مكتوب عن تاريخ أدب العرب.
هذا، وإذا نحن انتقلنا من هذه النقطة إلى غيرها، واعتبرنا الكتاب في ذاته بالنظر إلى المواد المجموعة فيه فماذا نرى؟
عنى الرافعي نفسه وبحث كثيرا في كتب العرب، وأراد أن يخرج من بحثه بنتيجة يفخر بأنها شيء جديد. أما المعلومات التي في الكتاب فكثيرة ومنها المفيد. لكن النتيجة العامة لا تفيد إلا الأقلين، وفي مواضيع ليست بذات أهمية كبيرة.
من الفصول الطيبة في ذاتها وإن لم يكن لها مساس بأدب اللغة الفصل الذي كتبه عن أصل اللغات. فقد أبان فيه عن فهم للأمور ووقوف على ملاحظات الكتاب والعلماء إلى حد يلذ القارئ ويفيده. وإذا كان هو نفسه يعترف بأن ما كتبه ظني أكثر منه علمي؛ فذلك لا ينقص من قيمته ولا من حسن تقديرنا له. فقوله مثلا (ص48): «من ثم قيل: إن الإنسان يستعمل الصوت للدلالة بعد أن استكمل علم الإشارة؛ ولذلك بقي الصوت محتاجا إليها احتياجا وراثيا، ثم ارتقى الإنسان في استعمال الأصوات بارتقاء حاجاته، وساعده على ذلك مرونة أوتار الصوت فيه، وبتجدد هذه الحاجات كثرت مخارج الأصوات، واتسع الإنسان في تصريف ألفاظه؛ فتهيأ له من المخارج ما لم يتهيأ لسائر الحيوان، يدل على عدم تقيده بآراء المتقدمين تقيدا يبلغ حد التعصب.»
لكن القسم الأكبر من هذه الفصول غير مستوفى بحثه؛ لذلك يغلب على ظني أن المؤلف اعتبر جزأه الأول مقدمة لتاريخ الأدب، وظن أن وقوف القارئ على كل هذه المعلومات ضروري ليتمكن من حسن تفهم أدب العرب. ومع بعد هذه الفكرة عن الحقيقة فقد كان ممكنا اغتفارها لصاحبها، لو أنه عرف أن يلبس ما كتب صفة المقدمة؛ حتى لا يضل القارئ ويبلغ به الملال أن يعدل عن قراءة الكتاب. لكن والحال هي هذه فإنا لا نستطيع دون الحكم على الكاتب بأنه سار على طريقة فاسدة، وعلى الكتاب بأنه لم يصل إلى شيء مما أراده منه صاحبه.
أهم الصفات لزوما في مقدمة كتاب من الكتب أن تدل على روح الكاتب، وكيفية تقديره للأشياء التي يريد أن يكتب عنها. وليس من ذلك شيء في كل ما كتبه الرافعي. فإنه كما سبق القول ليس صاحب أسلوب؛ حتى تتتابع فيه الفكرة فيتسنى للقارئ أن يخرج منه بنظرة عامة، ولكنه مجرد جمع لقواعد وأسماء وحوادث لا تظهر الصلة بينها. وإذا نحن بالغنا في التساهل واعتبرنا الجزء الأول مقدمة، فإنه لا يفي بهذا الغرض؛ لأنه لا يقوم بذاته ولا يؤدي فكرة مما أراد المؤلف.
والغريب أن روح النقد ضعيفة للغاية في كل الكتاب. وسبب ذلك فيما أعتقد أن أبا السامي اعتبر نفسه عربيا مكلفا بإقامة تمثال للعرب، لا مؤرخا يأخذ الوقائع ويزنها ويرتبها ليصل من ذلك لوضع تاريخ مفيد. فكلما جاء ذكرهم رأيته أرسل قلمه بالمديح من غير حساب، حتى ليخيل للإنسان أن عرب أبي السامي جماعة من الملائكة هبطوا إلى الأرض، ولبسوا أجساما إنسانية، ثم أقاموا بين الناس ليكونوا مثال الكمال البشري ... قال الرافعي (ص35): العرب «هم جيل تدلت عليه الشمس منذ القدم في هذه الجزيرة التي كأنها قطعة اختزلت من السماء مع الإنسان الأول، فلا يزال أهلها أبعد الناس منزعا في الحرية الطبيعية، وأشدهم منافسة في مغالبة الهمم، كأنما ذلك فيهم ميراث الطبيعة الأولى، فهم منه ينبتون وعليه يموتون. سكان الفيافي وتربية العراء ينبسطون مع الشمس، ويعيشون مع الظل، ويطيرون في مهب الهواء. بل أولاد السماء ما شئت من أنوف حمية. وقلوب أبية. وطباع سيالة (؟) وأذهان حداد ونفوس منكرة. وقد أصبحت بقاياهم الضاربة في بوادي العربية (أي بلاد العرب) ومصر وسورية لهذا العهد موضع العجب لأهل البحث من علماء الطبائع (من هم؟) حتى أجمعوا على أنه لا بد لهذا الجنس في جميع السلائل البشرية، من حيث الصفات التي تتباين فيها أجناس البشر خلقا، وحتى صرح بعضهم بأن هذه السلالة تستمر على سائر الأجيال بالنظر إلى هيئة القحف وسعة الدماغ وكثرة تلافيفه (؟) وبناء الأعصاب وشكل الألياف العضلية والنسيج، وقوام القلب ونظام نبضاته، فضلا عما هي عليه من ملاحة السحنة، وتناسب الأعضاء، وحسن التقاطيع، ووضوح الملامح، وفضلا عما في طباعها من الكرم والأنفة والأريحية وعزة النفس والشجاعة ... لا جرم كانوا أهل هذه اللغة المعجزة.»
يخيل للإنسان حين يقرأ هذا أن كاتبه أعرابي جاء من الصحراء يستجدي أحد أمراء العرب لا مؤرخ ينظر للناس والحوادث بعين الناقد الدقيق. ولكن لا غرابة؛ فإن الرافعي مولع بقول الشعر، ومرجعه في كل معلوماته كتب العرب وأسفارهم. فلا شك في أنه يأخذ عنهم من أخلاقهم مدح الآخرين، والتغني بأخبارهم والذهاب في الفخر إلى غايات تظهر سمجة لمن لا يفهم طباعهم.
على أن ذلك ليس من شأنه أن يبعث للنفس ثقة بما كتبه الرافعي. فمدار الثقة أن لا يترك المؤرخ نفسه لشهواته وأهوائه يرسل القول على عواهنه، ولكن أن يتقدم للقارئ دائما بالبرهان، بين يديه أدلته معتمدا عليها مظهرا أن كل حركة من حركات نفسه يظهرها قلمه، إنما دعا إليها أمر معين يستدعيها. هنالك يجد القارئ نفسه مدفوعا ليعتقد صحة ما يقرأ ويؤمن به.
على أن كتاب الرافعي وإن خلا من حسن الطريقة وطلاوة التعبير، وخرج عن الموضوع الذي كتب له فإن فيه مجموعا من المعلومات والأخبار والحوادث، وبعض آراء طيبة تستحق أن يقرأها من يريد أن يقف على بعض مسائل خاصة عن لغة العرب، والاختلاف اللغوي بين القبائل، وأصل الحديث وروايته، واتخاذ الرواية طريقا لتدوين الشعر، إلى غير هذا من المعلومات التي لا تعدم من يحب الاطلاع عليها. أما من يريد أن يقف على تاريخ أدب العرب، فلا يتعب نفسه ولا يضع وقته بالبحث في الجزء الذي ظهر من كتاب أبي السامي. ولنا شديد الأمل أن تكون الأجزاء التي ستظهر أشد مساسا بالموضوع الذي يكتبها صاحبها من أجله وأحسن عبارة وأدق وضعا.
جرجي زيدان
تاريخ آداب اللغة العربية
تفضل حضرة الكاتب المؤرخ جرجي أفندي زيدان، فبعث إلي بكتابه «تاريخ آداب اللغة العربية» على غير سابق معرفة بيننا. وتفضل فأرسل لي كلمة يسرني جدا أن تكون أول تخاطب بيني وبينه؛ لذلك لم يسعني حين وصلني الكتاب إلا أن أتفرغ لقراءته بإمعان. فلما فرغت منه حسبت من الواجب علي أن أكتب عن الأثر الذي تركته قراءته في نفسي اعترافا بفضل صاحبه، وتبيينا للقراء عن مبلغ تقديري لقيمة ما يحويه.
جرجي أفندي زيدان من أكبر كتاب التاريخ في مصر. بل لا أبالغ إذا قلت: إنه هو الرجل الوحيد المتفرغ في الوقت الحاضر لكتابة التاريخ. وتحت يدي قائمة كتبه تحوي من الكتب والروايات التاريخية أكثر من خمسة وعشرين كتابا تقع في أكثر من ثلاثين جزءا. هذا غير كتبه في الموضوعات الأخرى. وإذن فقبل أن يفتح الإنسان كتابه هو واثق من أنه سيقرأ كتابة مؤرخ درس التاريخ وعرف ما هو.
ولتاريخه في آداب اللغة العربية من الفضل أنه جاء بعد تجربة طويلة، وحنكة وخبرة بالطرق في أساليب التأليف وكيفية ترتيبه. لذلك ننتظر منه دقة كثيرة في الوضع. وإذا حاسبناه على شيء حاسبناه بالدقة عينها؛ فلا نتجاوز معه كما نتجاوز مع من لم يطرق كتابة التاريخ إلا حديثا، ولا نتهاون في عدم التحقيق أو السهو أو نحو ذلك.
وإنما ندقق كذلك لعلمنا أنه يقابل انتقادنا بصدر رحب، ويجيبنا إذا دعت الحال عن أسباب ما قد نرى مما يستحق النقد - يسمع كلامنا ويجيبنا بهذه الروية والسكينة التي هي من طبع العالم البحاثة، ولا يفعل فعل غيره من الذين يطرقون باب الكتابة أو التأليف جديدا، يستفزهم الغضب كلما أظهر ناقد خطأهم في شيء كأنهم يحسبون أن ما جاءوا به هو الكمال.
كتب جرجي أفندي زيدان أكثر من خمسة وعشرين كتابا في التاريخ كما قدمناه، ويظهر حين قراءتها أن غرض المؤلف منها نشر التاريخ وتعميمه؛ ليعرف الناس الحوادث التي وقعت في الماضي، ولتكون عندهم فكرة عامة من العالم بأسره أو من أمة بعينها. أريد أن أقول إن جرجي أفندي زيدان لا يقصد من مؤلفاته التاريخية إلى تأييد فكرة له في طريق سير العالم كما يفعل بعض الفلاسفة من كتاب التاريخ، ولكنه يريد نشر المعرفة، وذلك ما يسميه الإفرنج
Vulgarisation .
هذا فيما أعتقد هو الغرض الذي يرمي إليه صاحب (تاريخ آداب اللغة العربية). ويقوي اعتقادي هذه طريقة المؤلف في التأليف وأسلوبه في الكتابة. فإنك تراه واضح الأسلوب تماما، يكتب للناس بلغتهم المتعارفة التي يتفاهمون بها في جرائدهم ورسائلهم، لا بتلك اللغة المخصوصة التي يتخذها جماعة من الكتاب درعا لهم يقيهم عند غموض الفكرة أو فساد التعابير التي يجيئون بها. ويكتب من غير عناء ولا تكلف، بل يرسل قلمه حرا إلى أقصى درجات الحرية؛ لذلك يجيء أحيانا بتعابير لو استعادها الكاتب أمام نظره لرآها غير صالحة في الكتابة. كما أنه يجيء أحيانا أخرى بتعابير غريبة خاصة له. كقوله مثلا في مواضع متعددة من كتابه «إلى هذه الغاية» يريد بذلك أن يقول: (إلى الآن)، ومثل ذلك تعبيران أو ثلاثة يجدها القارئ ثم يعتادها باعتياده لغة المؤلف.
وبهذا الأسلوب البسيط يعبر عن كل ما يريد، ويفهم القارئ بكل دقة الفكرة التي تجول في نفسه. ثم هو لا يلجأ في كتابته إلى اللغة الخطابية إلا نادرا. بل تراه يذهب في قصصه التاريخي الذي يريد أن يقصه بكل سهولة وبساطة. يعبر عما في ضميره كما هو في ضميره لا يجتهد في تفخيمه ولا تجميله، ويحكي القصة التي وقعت كما وقعت من غير حاجة لإلحاق كل عمل منها بالصفات والمترادفات التي يضعها بعض الكتاب في كل المواضع، ولو مع عدم لزومها.
إذن فهو إنما يريد من كتابته أن تؤدي فكرته (من حيث ترتيبها وسبكها في عبارة سهلة سالمة من الركاكة والتعقيد)، كما يقول في مقدمة الجزء الثاني من كتابه. ويرى ذلك شرطا لازما لمن يريدون بكتابتهم خدمة المصلحة العامة، أما من يكتبون (في شؤون خصوصية) أو (يكون مرماهم من التأليف بيان قدرتهم على الإنشاء والغوص على المعاني العويصة والألفاظ الغريبة، فهؤلاء وأمثالهم يكتبون لأنفسهم أو لطبقة خاصة لغرض خاص، ولهم منزلة وفضل، ولكن في غير الخدمة العامة).
هذا هو أسلوب جرجي أفندي زيدان، وهذا هو رأيه في الكتابة. وهو لا شك محق في اعتبار جماعة الذين يكتبون اللغة القديمة (أصحاب فضل ولكن في غير الخدمة العامة).
إذا اتفقنا مع جرجي أفندي زيدان على هذه النقطة، وجب علينا بعد ذلك أن نتعداها لما بعدها. وهي التساؤل عن الأسلوب الجيد أي شيء هو؟ ها عدد من الكتاب يكتبون باللغة العربية المصرية، ويفهمهم الناس جميعا، ويؤدون أفكارهم بعبارة خالية من الركاكة والتعقيد. فأيهم أجمل أسلوبا وأمتن عبارة؟
ليس من الممكن وضع قاعدة لقياس جمال الأساليب ومتانتها، فكل نوع من الأدب ولكل كاتب ذي قيمة أسلوب خاص في كتابته. وقوة الأسلوب وجماله يحس بهما الإنسان، ويعرف أسبابهما في شيء خاص أو رجل خاص. لكنه لا يستطيع أن يستنبط من تجاربه - على ما أعتقد - قاعدة معينة مطردة. فإذا قلت: إني أعتبر أحسن الأساليب الأسلوب السيال الدقيق الذي يحوي روح الكاتب، ويجذب إليه القارئ، ويكون بذلك واسطة لطيفة في التعارف بينهما تعارفا يجعل الثاني يفهم الأول بإشارة خفية أو يصعد معه إلى سماوات الشعر، أو يرى بعينه الأشياء التي يكتب عنها - إذا قلت ذلك لم أكن جئت في تعريفي بكل الأساليب.
على كل حال يرى القارئ أني أعلق الأهمية الكبيرة على الكاتب، أريد أن يظهر هو بشخصه في كتابته. وإنما يكون ذلك بأن يبدع فيها شيئا جديدا في اللفظ أو في المعنى يميزه عن غيره ويجتذب إليه قارئه. حينذاك يكون صاحب أسلوب متين وكاتبا مقتدرا.
هذا النوع من الكتاب قليل الوجود في مصر. ذلك بأن أكثر كتابنا لا يفكرون، بل هم ينقلون أفكارا قديمة يضعونها بعضها جنب بعض، وينقلونها أغلب الأحيان بالكلمات التي قالها بها أصحابها. فكل ما لهم من الفضل في كتابتهم هو اختيار وترتيب هذه الأفكار والألفاظ. أما الكاتب المنطقي الذي يبدأ من مبدأ معين في نفسه، ويستمر يرتب بعد ذلك نتائج هذا المبدأ واحدة بعد الأخرى، كما هي مرتبة في رأسه ليصل أخيرا إلى النتيجة المطلوبة ، والشاعر الذي يستمد الخيال من المناظر والحوادث والأشياء التي حوله، والقصصي الذي يرى الناس وأحوالهم وينقل منها صحيفة تطابق الأثر الذي تركته هذه الأشياء في نفسه - على العموم الكاتب الذي يريد أن يخاطب الناس بما يرى هو، يكاد يكون غير موجود في مصر.
جرجي أفندي زيدان من الكتاب الذين يتوخون في كتابتهم أن ينقلوا للقراء فكرتهم (بألفاظ خالية من الركاكة والتعقيد)، وتلك إحدى فضائل الكتابة عنده. غير أنه يرى التعمق في الأفكار أو التعمق في الألفاظ خروجا على قاعدة الكتابة للمصلحة العامة. أي إنه يرى أن الكتابة للمصلحة العامة يجب أن تكون من البساطة، بحيث تكون في متناول كل الأفهام. وبما أن مستوى كل الأفهام هو دائما غير راق فهو - إما مريدا أو بميله الطبيعي - يجعل كتابته دائما قريبة من هذا المستوى.
قلنا: إن لجرجي أفندي زيدان أكثر من خمسة وعشرين كتابا في التاريخ تقع في أكثر من ثلاثين مجلدا، وقلنا: إن الظاهر أن مراده نشر المعرفة، فهو يكتب بما يعتقده أسلوب النشر. وبما أن الذين سبقوه لذلك قليلون جدا، وبما أنه يريد مخاطبة المجموع، فهو معذور إن بقي أسلوبه غير ذلك الأسلوب العذب الجذاب الذي تمتاز به اللغة السهلة، ما دامت فيه صفة الوضوح التي تمكن كل الناس من فهم ما يريد.
ويظهر غرضه أيضا في طريقة تأليفه. فهو في الغالب يجيء بالأفكار والحوادث العامة؛ ليخرج قارئه منه بفكرة عامة في تاريخ الأمة التي قرأ ما كتبه جرجي أفندي زيدان عنها. وهو لا يقف عند الحوادث الصغيرة يريد أن يستفسرها عن معنى الحوادث الكبيرة؛ لأنه - على الأقل فيما يظهر من كتاباته - يرى ذلك غير ضروري لعامة القراء. فإذا أنت جئت على كتاب من كتبه لم تصل إلى العلم بدقائق ما كتب عنه، ولكنك تكون قد عرفت الأفكار العامة التي تفسر الحوادث العامة التي شرحها لك.
وربما ساق جرجي أفندي غرضه أحيانا لأن يكون ناصحا أو أخلاقيا. فتراه في كلامه يمدح الفضائل بطريقة تحبب فيها، وإن يك من طرف خفي ؛ مما يدل على حسن اقتداره. لكن ذلك من شأنه أن يجعله أحيانا يقع في أغلاط تاريخية كان من السهل تجنبها. •••
لما تكلم المؤلف عن تاريخ آداب العرب قسمها باعتبار الأزمان التي وقعت فيها. فزمن الجاهلية ثم زمن الراشدين ثم الأمويين ثم العباسيين ... إلخ. وهذا التقسيم حسن يؤدي إلى الغرض الذي يرمي إليه المؤلف من تعميم معرفة هذا التاريخ أحسن من أي تقسيم آخر؛ ذلك لأن الذي يطلب الاطلاع على نوع معين من أنواع الأدب وكيفية تقلبه على مختلف عصور التاريخ، في الغالب يريد أن يتعمق في هذا الباب قدر المستطاع، وذلك كما بينا ليس هو غرض جرجي أفندي زيدان.
متابعة له في هذا التقسيم نرى أن نسير في نظرنا إلى الكتاب متتبعين هذه العصور المختلفة من تاريخ الأمة العربية واللغة العربية: (1) عصر الجاهلية
والآن نبدي نقدنا على ما يستحق النقد في كتاب جرجي أفندي زيدان عن عصر الجاهلية. ونبدأ فننقد الصورة التي وضع بها معارفه التمهيدية. فإن الذي يقرأها يكاد يتصور أن عرب الجاهلية، على أنهم قوم بدو رحل، قد بلغوا من العظمة في العلم والأخلاق والسياسة ما يناهض أرقى الأمم في القرن العشرين. وذلك أمر لا يسهل تصديقه، خصوصا وأن المؤلف لم يتقدم لتأييده بحجة قاطعة، بل بنى رأيه على استنتاجات ظنية أخذها عن مقدمات يمكن تفسيرها بشكل مختلف عن تفسيره هو إياها كل الاختلاف، وإلى القارئ مثلا من ذلك. قال المؤلف عن ارتقاء الجاهليين في السياسة والعمران: «على أنك إذا نظرت في لغتهم تبين لك أن أصحابها من أرقى الأمم سياسيا واجتماعيا، وإن عرفناهم بدوا رحالة - واللغة دليل أخلاق الأمة ومرآة آدابها وسائر أحوالها - ومن المقرر أن اللغة لا تتولد فيها كلمة إلا للتعبير عن معنى حدث في أذهان أصحابها. فإذا وجدنا في لغة من اللغات اسما لنوع من اللباس نحكم قطعيا أن أصحابها عرفوه أو لبسوه، أو نوعا من الأطعمة عرفنا أنهم أكلوه. واللغة العربية من أغنى لغات الأرض بالألفاظ العمرانية والسياسية. إن فيها عشرات من الألفاظ لضروب الجماعات من الناس على اختلاف أغراض اجتماعهم، وعشرات منها عن فرق الجند، وفيها للتعلم والورق عشرات من الأسماء والألقاب، ولكل منها معنى خاص.»
ولست أدري كيف يفسر بذلك رقي العرب الجاهليين في السياسة والعمران. العرب الجاهليون بطبيعة حياتهم البدوية ينقسمون إلى قبائل كبرى وصغرى، ومن شأن ذلك أن يستدعي اختلافا في تسمية كل نوع من هذه القبائل، خصوصا وأن التعداد المضبوط الذي نعرفه نحن لم يكن معروفا عندهم. كما أن اختلاف القبائل كان يجعل كل قبيلة تجيء باسم مخصوص لشيء له اسم آخر في قبيلة أخرى، فإذا ما تقاربت القبيلتان استعارت كل واحدة منهما كلمة جارتها وخصصتها لمعنى. وهذه هي الأسباب أيضا في تعدد أسماء فرق الجند، أضف إلى ذلك ما في طبائع العرب من الغزو. كما أني لا أظن المؤلف يقول إن ما عند العرب من أسماء فرق الجند يزيد على ما عند الأمم الراقية اليوم.
ومثل هذا الخطأ فيما يتعلق برقي العرب الجاهليين السياسي والاجتماعي، وقع للمؤلف فيما يتعلق برقيهم الأخلاقي. وأضرب لذلك مثلا ما جاء في صلب الكتاب عن مبلغهم من الأنفة والعفة. فقد ذكر المؤلف أن العفة كانت عندهم كل شيء. وضرب لذلك مثلا ما ثار من الحروب دفاعا عن المرأة وعرضها، كأنما اعتبر أن العرب الجاهليين يتكونون فقط من رؤساء القبائل. ثم استشهد للتدليل على ذلك ولذكر الفرق العظيم بين عفة هؤلاء المتقدمين وتهتك المتأخرين بقول عنترة:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي
حتى يواري جارتي مأواها
وقارنه بقول أبي نواس:
كان الشباب مطية الجهل
ومحسن الضحكات والهزل
والباعثي والناس قد رقدوا
حتى أتيت حليلة البعل
ولست أدري كيف يقيم المؤلف المقارنة بين عنترة وأبي نواس، أي بين شاعر حماسي غزلي وشاعر متهتك. فقد كان من السهل مقارنة عنترة بغيره من أمثاله الحماسيين أو الغزليين. كما أن في الجاهلية التي منها عنترة جماعة من كبار الشعراء هم مثل الفسوق في أشعارهم. وأقرب ما يحضر لذهن أي إنسان قول امرئ القيس، وهو أقدم من عنترة وأعرق في الجاهلية:
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع
فألهيتها عن ذي تمائم محول
والبيت الذي بعده أبلغ في التهتك كما هو مشهور.
أو قوله:
سموت إليها بعد ما نام أهلها
سمو حباب الماء حالا على حال
فأصبحت معشوقا وأصبح بعلها
عليه القتام كاسف الظن والبال
أو قول المنخل اليشكري:
ولقد دخلت على الفتاة
الخدر في اليوم المطير
فدفعتها فتدافعت
مشي القطاة إلى الغدير
أو بعض أبيات قصيدة النابغة التي فيها:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
فتناولته واتقتنا باليد
أو غير ذلك مما لا يحصره العد. وإنما كان الكلام عن العفة أكثر في أيام الجاهلية؛ لأن انقسام العرب إلى قبائل جعلهم يحتفظون بالأنساب لحفظ العصبية؛ ولذلك ترى مؤرخيهم يردون نسب كل من يترجمونه إلى أصل قبيلته. كما أن المفاخرة بالانتساب إلى جد معين كعدنان أو سواه جعلت العفة عندهم من أمهات الفضائل. لكن اعتبار جماعة أو أمة لشيء أنه فضيلة ليس معناه قمع الطبيعة البشرية.
كذلك أخطأ المؤلف في تقدير عالي حكمتهم. فقوله مثلا عن أشعار زهير المعروفة:
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم
والأشعار التي بعده. قوله عنها: (لا تقل شيئا عن أحكام - ولعله يريد حكم - أكابر الفلاسفة) فيه من المغالاة الظاهرة ما يعجب الإنسان له. وإني مع إعجابي بهذه الأشعار لا أري فيها ما يجعلها من نوع الفلسفة.
مثل هذا الخطأ تجده في اعتباراته التمهيدية كما تجده في غيرها. والسبب أن المؤلف فيما يظهر شديد الإعجاب بعرب الجاهلية، فهو لا يرى إلا الوجه الحسن من تاريخهم، أو هو يريد أن يجدهم كما وجدهم غيره من كتابنا «مثال الكمال البشري». أو أنه ربما يسير في الكلام عنهم على قاعدة «اذكروا محاسن موتاكم».
كيف يكون ذلك من رأي جرجي أفندي زيدان؟ كيف يعتبرهم آلهة لا تتطرق الشهوات الإنسانية إلى نفوسهم، حيث يقول في كلامه عن نساء العرب في الجاهلية: «فاجتماع الرجال والنساء للمحادثة والمذاكرة على هذه الصورة بلا ريبة ولا سوء ظن لم يبلغ إليه الناس إلا في الأمم الراقية وفي أرقى جمعياتهم»؟ تصور ذلك وطبقه على حال العرب البدو الرحل. كم كان هؤلاء الناس ملهمين كل الفضائل والصفات العالية! كم كانوا عليه من العفة والطهارة! أو لو كان بينهم امرؤ القيس والكثيرون من أمثاله؟ أفلا يضر شيئا. ألا لا أظن الناس كانوا في زمن من الأزمان من العصمة بالمكان الذي يريد أن يحملنا جماعة الكتاب على تصوره للعرب. بل كانوا جميعا - العرب وغير العرب - يسعون إلى جهات الخير والشر. وليس الرقي دائما تابعا لما نعتبره نحن في مصر الفضيلة؛ بل أظن كثيرا من أهم فضائلنا - نحن المصريين - من معطلات الرقي. العرب كغيرهم، أمة عاشت في زمن مخصوص مدفوعة كغيرها من الأمم لإرضاء حاجاتها المادية وغير المادية إما بطرق حسنة وإما بطرق خسيسة. وليس أهون على من يريد الوقوف على ذلك من أن يقرأ أخبارهم كما جاء في كتبهم. والأغاني والأمالي وغيرهما بين أيدينا مثل حي على ما كان هناك.
أما أن يحسب كاتب أن تمثيل العرب في صورة من الكمال يحمل القراء على تحري مثلهم - أي أن يكون المؤرخ في الوقت عينه كاتبا أخلاقيا - فذلك وهم في تصوره وخطأ وتجن على التاريخ؛ هو وهم لأن المرء إنما يتأثر بالوسط الذي يعيش هو فيه أولا وقبل كل شيء. فإذا كان ثمت تأثير لمثل هذه الكتابة فهو ثانوي وبسيط، ولا يستحق أن يغير من أجله معنى الحوادث.
المؤرخ مطالب قبل كل شيء بأن يثبت حقيقة الوقائع والأشياء التي يتكلم عنها. فإذا لم يتمكن من إثباتها كانت غير تاريخية بالمعنى العلمي. وسواء كان في إثباتها إظهار لفضيلة أو بيان لرذيلة فليس ذلك ليجعل المؤرخ يغير من حقيقتها شيئا، وإلا خرج عن أن يكون مؤرخا.
التاريخ لا يكتب اليوم ليرى الناس صالح أعمال سلفهم فيتبعوه وسيئها فيتركوه كما كان يخبرنا المؤرخون القدماء. فقد أثبتت التجارب أن الناس يسيرون في طريق مرسوم لهم بالحوادث والأشياء المحيطة بهم. وليس يكفي أن يريدوا تغيير هذا الطريق ليتغير. كما أن التجربة أيضا دلت على أن السارق لا يكفيه أن يسمع أن السرقة عار أو أنها تؤدي إلى السجن ليرجع عنها. •••
لماذا إذن يكتب التاريخ؟ لماذا نكتب آداب العرب أو ندون علومهم؟ لماذا نضيع أعمارنا ونهب أنفسنا للبحث عن آثارهم؟ ... للسبب الذي من أجله يكتب الإفرنج آداب اليونان أو الرومان! وما هو ذلك السبب؟ ... الكثيرون منا وأكثر الذين تصدوا لهذا الموضوع يقولون: إنهم يكتبون أدب العرب حبا في العلم والحقيقة، وحتى يعرف أبناء العرب تاريخ أجدادهم ومجد هؤلاء الذين ملأوا الدنيا بفتوحاتهم وبأشعارهم! ثم ما دام الغربيون يكتبون آداب لغتهم وآداب لغات الأمم القديمة المدنية، بل ما دام منهم من يتصدى لآداب اللغات الشرقية، فمن العار أن نبقى - نحن الشرقيين - من غير أن نتحرك بأنفسنا لهذا العمل، بل من غير أن نقضي أعمارنا فيه! من العار أن نترك غيرنا يبحث عن نفائس لغتنا من غير أن نبدي نحن أكبر الهمة في ذلك! من العار ...! هذا ما يقوله الواحد منا في نفسه. وخوف العار هو الذي يدفع الأكثرين منا للعمل. فإذا تحركنا وبحثنا عن الحقيقة التي نريد ووجدناها ودفعنا العار بذلك عن أنفسنا لم نعرف ماذا نعمل بها وكيف نستفيد منها. وكأنا لا نعلم أن السعي وراء الحقيقة التي لا ننتفع منها بأكثر من أن نعرفها أمر لا قيمة له. وإذا كان كتاب التاريخ إنما يكتبونه ليوقفونا على أخبار الماضين من غير نظر إلى ما بعد ذلك فما أضيع تعبهم! إنما يكتب العلماء ويبحثون وينقبون عن الحقائق الماضية من أجل نفع الحاضر والمستقبل. أي: لتتبين لهم سلسلة حياة أمة من الأمم أو سلسلة حياة الإنسانية فيستطيعون أن يصفوا لها طريقها الممكن اتباعه في الحاضر للوصول إلى أكبر قسم من السعادة لأعظم عدد من الناس؛ وليكونوا على علم بما سيكون في المستقبل؛ حتى لا يكون عملهم الحاضر سببا في سوء ينال الأجيال المقبلة.
قضى الإنسان حياته شاغلا نفسه بالتفكير في مستقبله. وبما أن الأشياء الغامضة هي أكثر ما يلفت الذهن كانت نظرية ما بعد الموت هي الشاغل الأكبر لأهل العصور الأولى. فقدروا لحياتهم في القبور وجعلوا نصب أعينهم مثال الجنة والنار، وأشكال العذاب والثواب لكل واحد من الناس. ولا يزال - ولن يزال - من كبار المفكرين والفلاسفة من يشتغلون بالبحث عن مصير الإنسان. لكن الكثيرين منهم يرون في الحياة غاية الحياة؛ لذلك قام منهم من يوجه أكثر نظره لحاضر الأمم ومستقبلها. وإنما يصلون لذلك بملاحظة الحاضر وإثبات صورته، ثم النظر في التاريخ إلى أصوله. بذلك يمكن تقدير الطريق الذي تسير هذه الأمم فيه - وهذا هو الغرض من الأبحاث التاريخية.
هل يريد كتابنا ذلك حين يكتبون عن أدب العرب؟ هذا هو الذي كنا نريدهم أن يصنعوا. ولكنهم مع أكبر الأسف لم يصنعوه.
جرجي أفندي زيدان كان أحرى الناس على سعة معارفه التاريخية بأن يختط هذه الطريقة ويرمي لهذا الغرض. وأول المطلوب من المؤرخ الذي يرمي لهذا الغرض أن يتحرى في التاريخ الذي يكتب كل دقيقة وجليلة، وأن يفسر الحوادث بالدقة والضبط. وقد رأينا أن صاحب تاريخ آداب العرب لم يقم بذلك على الوجه الأكمل.
بل إن ما وقع فيه من الخطأ من هذا القبيل يتعدى المعارف التمهيدية إلى تاريخ أدب العرب، أي إلى موضوع الكتاب ذاته. مثال ذلك أن المؤلف جعل الجاهليين أبعد الناس عن المبالغة في تعبيراتهم، وإنما هم يصفون الطبيعة على ما هي عليه. ومع أني أقتصر على ما جاء في صلب كتابه من الأشعار أجد كثيرا منها يرد على نظريته هذه بقوة أعتقدها لا تدافع. فإذا كان هو يعتبر رثاء جليلة لكليب زوجها حين قتله جساس أخوها «بعيدا عن أن يوهم القارئ أن السماء انطبقت على الأرض، وأن الشمس كسفت ... إلخ»، فإن في أبيات المهلهل يرثي كليبا أيضا.
كليب لا خير في الدنيا ومن فيها
إن أنت خليتها فيمن يخليها
نعى النعاة كليبا لي فقلت لهم
مادت بنا الأرض أو مادت رواسيها
ليت السماء على من تحتها وقعت
وحالت الأرض فانجابت بمن فيها
في هذه الأبيات ما يبين عن معنى أقوى من كسوف الشمس، بل أقوى من انطباق السماء على الأرض مع أنها آية في التعبير عما في نفس الشاعر من الحزن والغضب ... وكم من المبالغة يجد القارئ في قول عامر بن الطفيل:
وما الأرض إلا قيس عيلان كلها
لهم ساحتاها سهلها وحزونها
وقد نال آفاق السموات مجدنا
لنا الصحو من آفاقها وغيومها
وكم من المبالغة أيضا في أشعار عنترة الحماسية وفي أوصاف امرئ القيس للخيل. بل أي شاعر عربي لم يصل إلى أسمى درجات المبالغة؟!
يكاد الإنسان حين يرى ذلك كله يقول: إن جرجي أفندي زيدان لم يدخل إلى روح العرب لكي يستطيع أن ينشرها أمام نظره ويفتش عليها ويعرف دقائقها، ويتمكن بذلك من الوقوف على السبب في ترتيب الوقائع والأشعار والأخبار في هذه الأمة بشكل مخصوص. ولكن الإنسان يتردد كيف ينكر عليه ذلك مع ما ألف في تاريخهم ولغتهم وآدابهم وأخبارهم كل ذلك الذي ألف. غير أنا نأسف أن نجد كل هذا الذي اعتبرناه خطأ في فهم العرب، كما أنا نأسف أيضا أن نجد ألفاظا غامضة لا يستطيع الإنسان أن يفهم منها رأي المؤلف عن العرب. فمثلا قوله على الكهانة: إن الكاهن كان إذا استفسر عن رؤيا «تمتم وتظاهر باستطلاع الغيب» معناه أن هؤلاء الكهان كانوا لا يعتقدون بحقيقة ما يقولون. مع أنا نجد مثلا عن نبوءة جماعة من العرب كورقة بن نوفل في كتاب جرجي أفندي نفسه. كما أن أخبار الكهان الواردة في تواريخ العرب تدل على أن هؤلاء الناس كانوا يعتقدون بصحة حرفتهم. فهلا كان المؤلف أعطانا الأسباب التي استنتجها من بحثه لتدل على مجرد «تظاهر» هؤلاء الناس.
ولما انتقل المؤلف من الكلام عن الاعتبارات العامة والمظاهر الأدبية للعرب الجاهليين إلى الكلام عن كل شاعر على حدة، جعل يكتفي بإيراد أشياء قليلة عن أخبار هؤلاء الشعراء وحياتهم؛ لذلك لم يكن في كتابه متسع لنقدهم! وهو إنما يخبرنا عن الصفة العامة الظاهرة في شعر كل منهم. فواحدهم وصاف للخيل والنوق، والثاني يجمع الحكم في أشعاره المتينة، والثالث معروف بحسن الديباجة ومتانة التركيب . وعندنا أن من الواجب تحليل الشاعر أكثر من هذا، وإظهار صفاته بتطويل بعض الشيء. وإلا كان الذي اطلع ولو قليلا على أشعار العرب وأخبارهم لا يستفيد من قراءة هذه التراجم شيئا مطلقا.
أطلنا الكلام عن الجاهلية ونقد كتاب جرجي أفندي زيدان فيما كتبه عنها. والسبب في ذلك أنه هو أيضا أطال القسم الذي أفرده لها؛ إطالة بحق لأن هذا القسم من أدب العرب هو الأساس لما بعده. والمؤلف أراد أن يوقفنا على حقيقة هذا الأساس. وقد قدمنا رأينا للقارئ، ونظن الآن مناسبا أن ننتقل لعصر الراشدين. (2) عصر الراشدين
كان الجاهليون قوم بدو يسيرون حيث المرعى أو المغنم؛ لذلك لم يكن ببلاد العرب إلا مدن قلائل. وكانت الديانة الغالبة عند جميع العرب يومئذ هي الوثنية. والوثنية بقية دين قديم. والأديان جميعا كلما قدمت دخلها التمثيل أحيانا بالكواكب وأخرى بالحيوانات وثالثة بالأصنام إلى غير ذلك من أنواعه الكثيرة. والأمثلة على ذلك متعددة عند القدماء من المصريين واليونان والعرب وعند أمم كثيرة اليوم. وفي فرنسا بلد اسمه (لورد) يحج إليه الكاثوليكيون من كل جانب، ويعتقدون في قبر (سيدة لورد) قدرة إلهية كبيرة تشفي المريض، وترد إلى المجنون صوابه.
هذا التمثيل ذهب به العرب بعيدا فانتهى إلى أن صارت أصنامهم آلهة، وأن صاروا يعتقدون فيها القوة والجبروت. لكن مثل هذا التمثيل عندهم إذا جاز على العامة فإن كثيرين ممن يفكرون يرون ما فيه من العته. على ذلك كان بعض العرب ممن تقدم الإسلام كأمية بن أبي الصلت وغيره ينصرفون عن الدين العام ويفكرون لأنفسهم.
لكن هؤلاء الناس كانوا يقتصرون على اختطاط طريق حياتهم هم، ولا يقومون بالدعوة إلى معتقداتهم. وسبب ذلك في الغالب شيء من عدم الاهتمام بالمجموع أو من عدم الثقة المطلقة بالعقيدة التي وصلوا إليها.
تكونت الفكرة عند العرب بفساد المعتقدات السائدة قليلا قليلا، وتأثرت آدابهم بهذا التغيير. فصرت ترى في القسم الأخير من عصر الجاهلية جماعة غير قليلين من الشعراء والخطباء يبدون ما في نفوسهم من الشك في عبادة الأصنام. كما أن كثيرا من العادات السائدة يومئذ كانت من الوحشية بحيث تستفز النفس. كوأد البنات مثلا، وكأخلاق شتى فشت بين العرب مع أنها تنافي الفضيلة أو تنافي طبيعة بلادهم.
وسط هذه الحال من الأخلاق والعادات العامة، وبين هاته الشكوك التي أبداها جماعة المتكلمين، وجوابا لانتظار الناس لمصلح يهديهم ولنبي قد حان حينه وأدرك (العرب) أوانه ... بين ذلك كله، ووسط هذه الأمة السامية الأصل قام النبي
صلى الله عليه وسلم
داعيا لعقيدة جديدة ومصلحا كبيرا.
كان من أثر قيام النبي بالدعوة وإجابة الناس إياه أن اجتمعت كلمة القبائل، ثم جعلوا يسيرون في الأرض ينشرون الدين ويغزون ويفتحون البلاد. وكان من أثر ذلك على الأدب أن راجت سوق الخطابة، وسبقت الشعر الذي كان الكل إلا قليلا في آداب العرب الجاهليين. والسبب في أن سبقت الخطابة الشعر هو كما يقول جرجي أفندي زيدان: «حاجة المسلمين إليها في الفتوح والغزوات والعرب لا يزالون على بداوتهم تتأثر نفوسهم من التصورات الشعرية، سواء سبكت في قالب الخطابة أو في الشعر ... فكما كان الشاعر في الجاهلية يقدم على الخطيب لفرط حاجتهم إلى الشعر في تقييد مآثرهم وتفخيم شأنهم، والتهويل على عدوهم، والتهيب من فرسانهم، أصبح الخطيب في الإسلام مقدما على الشاعر لفرط حاجتهم إلى الخطابة في استنهاض الهمم، وجمع الأحزاب، وإرهاب الأعداء.» (ص193 ج1).
وهناك لذلك سبب آخر مرجعه الفرق بين الحياتين: حياة الارتحال التي كان عليها الجاهليون، وحياة الغزو الذي شغل به المسلمون. فإن في حياة البدوي الساري على ناقته تهزه بلطف فوق ظهرها ويبعث النسيم والفضاء بخيالاته إلى أقصى غايات التصور، وتعرض عليه صور الأشياء وذكرى من تركهم وهو يهتز في سكينة فوق مركبه ما يدفعه للتغني والحداء والتوقيع، أو بكلمة أخرى ما يدفعه لقول الشعر يذكر فيه كل ما مر بخياله. في حين أن حياة الحرب حين تقف الجموع متأهبة للقتال، ويتوقع الناس الموت لحظة والنصر أخرى، وتتدافع في نفوسهم الإحساسات، أو حين يكونون في مأزق حرج يريدون الخروج منه. هذه الحياة تخلق من طبعها رئيسا يصيح في مرؤسيه بالأمر أحيانا وبالاستفزاز أخرى، أي إنها تخلق الخطابة.
لا شك أيضا في أن ورود القرآن بالنثر وقوله:
والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون . لا شك في أن ذلك ليس من شأنه أن يحرض على قول الشعر. والناس في تلك الفترة الأولى من الإسلام كانوا يحرصون كل الحرص على اتباع الكتاب شأن كل أمة عند ظهور مذهب جديد. كما أن الخلفاء كانوا يصرفونهم عن قول الشعر.
هذه النقطة كلها استظهرها جرجي أفندي زيدان في كتابه، واستظهرها في بعض الأحيان بالدقة وضرب الأمثال. ثم ذكر السبب الذي من أجله لم يترجم شعراء هذا العصر في هذا الباب من الكتاب، وذلك أنه ترجمهم (مع شعراء الجاهلية؛ لأنهم نشأوا وتطبعوا بطباع أهلها).
لكنه لم يترجم الخطباء، ولم يذكر السبب في سكوته على ذلك؛ إذ كل ما ذكره لنا عن علي بن أبي طالب - وهو بلا شك من الأدباء الخطباء ذوي القيمة - كلمة بسيطة على الهامش إن صح هذا التعبير، حين تكلم عن الخطابة والخطباء، هي أن خطبه تعد بالمئات، وأنها مجموعة في كتاب (نهج البلاغة). لكنه لم يذكر لنا شيئا عن الصفة المميزة للخطيب في خطبه ولا عن الروح السارية فيها.
وأهم من ذلك سكوته المطلق عن القرآن والحديث كأنهما لا يدخلان في تاريخ أدب اللغة العربية، بينما يدخل الطب والكهانة. وأحسب أن لنا من الحق أن نسأل عن سبب هذا السكوت. لم لم يذكر المؤلف شيئا عن التاريخ الأدبي للقرآن وصلته بالأدب الجاهلي والفرق بينهما؟ القرآن كتاب كريم ذو شأن عظيم، لا في أمر الدين الإسلامي فقط، بل كذلك في أمر آداب الأمة العربية وسياستها وكل جهات حياتها؛ لذلك كنا نود أن يوقفنا كاتب (تاريخ آداب اللغة العربية) على الأصول الأدبية التي استمد منها هذا الكتاب وجوده.
ولقد وضعت نفسي موضع المؤلف، وسألتها عن سبب هذا السكوت فلم أجد جوابا صريحا أقتنع به ... وأخيرا قلت: لعله رأى أن في كلامه عن القرآن والحديث وأصولهما وقيمتهما الأدبية ما يمس بعض العقائد. فليس مما يتصور أن المؤلف لم يجد في ذلك ما يستحق الكلام عنه. أم لعله اعتبر هذه الفترة القصيرة التي جاء فيها النبي والخلفاء الراشدون فترة عرضية في حياة الأمة العربية، ثم كان ما أشار إليه من رجوع العرب في عهد الأمويين إلى الروح الجاهلية. يجعل النظر إلى هذه الفترة كالنظر إلى حادثة طارئة في حياة أمة من الأمم. وليس من الضروري عند تدوين التاريخ التطويل في ذكر الحوادث الطارئة؟ أم ماذا؟
أما إذا كان السبب مراعاة العقائد العامة، فإن ذكر تاريخ القرآن والحديث لا يمس هذه العقائد في شيء. ذلك بأن كل مسلم يعلم أن القرآن جاء بلغة العرب مراعيا في نزوله عوائد العرب وعقائدهم السابقة. فما جاء في تحريم الخمر أو تحريم الربا أو غير ذلك من الآيات، إنما جاء متعاقبا ولم ينزل مرة واحدة؛ لكيلا يتحرج به الناس، وهو دين يسر لا دين عسر؛ لذلك كان ما يريده المسلم المحب لدينه اليوم أن يقف على مبلغ التغيير الذي أحدثه الكتاب في العقائد والعوائد التي كانت موجودة قبله. وبما أن المقام مقام الكلام عن الأدب فكل مسلم لا شك يريد أن يعرف الصلة الأدبية أو الفرق الأدبي بين القرآن وما قبله.
قدمنا ما ذكره جرجي أفندي زيدان عمن حرموا على أنفسهم عبادة الأوثان وشرب الخمر ونحو ذلك قبل أن يجيء به الإسلام. ونعلم أنهم قالوا في ذلك أشعارا وخطبا. فهلا كان من واجب الكتاب في أدب اللغة أن يبينوا لنا الصلة بين هذه الأشعار وبين آيات القرآن التي نزلت في هذه المعاني حتى نقف على حقيقة سلسلة الحياة النفسية التي هي أساس الحياة الأدبية عند العرب. كذلك كنا نريد أن نعرف الصلة بين طريقة رواية الأخبار والحوادث عند العرب وروايتها في القرآن. وكنا نريد أن نعرف إن كانت سورة يوسف التي هي آية الإبداع في القصص أول ما جاء من نوعها أو أنها سبقت بغيرها من صورتها. كنا نريد أن نحيط علما بهذه الأشياء التي أهملها جرجي أفندي زيدان على أهميتها، وعلى أنها من لب تاريخ الأدب وصلبه. وهي في الوقت عينه لا تمس العقائد العامة بشيء.
أما إن كان المؤلف قد ترك هذا القسم لأنه اعتبر هذه الفترة حادثة استثنائية في تاريخ الأمة العربية، وأن العرب رجعوا مع الإسلام والأمويين إلى عاداتهم وأخلاقهم وآدابهم الأولى إلا بعض ما حرم صريحا، فإن ذلك يكون من المغالاة والمبالغة الزائدة التي يرفضها جرجي أفندي نفسه حيث يقول: إن الإسلام أحدث انقلابا سياسيا واجتماعيا ودينيا، وإنه أدخل إلى آداب العرب تغييرات بنسخ بعض ما كان، واستحداث سواه على ما يوافق العوائد والعقائد والأخلاق التي جاء بها.
لا شك أن تكوين الأمم الذي يتم على الأجيال والقرون لا يمكن في سنين معدودة قلبه رأسا على عقب. ولا شك أن الإسلام لم يغير العرب مرة واحدة عما كانوا عليه بما نسخ من المعتقدات والعوائد، ولكنه من غير شك أيضا أحدث هزة عظيمة في أعصاب هذه الأمة كانت سبب ما تلاه من التغيير؛ لذلك كان من الواجب على من يريدون درس العرب أيام الأمويين والعباسيين أن يرجع إلى التغييرات التي أحدثها الإسلام؛ ليقف على أصل مهم من أصول تاريخ هؤلاء الأمويين والعباسيين.
ولذلك نرانا منقادين بهذا التعليل البسيط لنرى النقص في «تاريخ آداب اللغة العربية»، فيما يتعلق بتاريخ الأدب في عصر النبي والخلفاء الراشدين.
بل كنا نود أن يفرد المؤلف كلمة عن النبي وحياته من جهتها الأدبية والمصادر التي استقى منها، وكيف وصل ليكون أسلوبه كما كان. ولئن كان هذا الباب قد طرق من قبل من الجهات السياسية والاجتماعية والأخلاقية بشكل ما، فإن جهته الأدبية لا تزال بكرا. ولهذا كنا ننتظر من جرجي أفندي زيدان أن يضع لنا في تاريخ آداب اللغة العربية كلمة تاريخية صحيحة عن أظهر رجل في الحياة العربية من كل جهاتها .
هذا هو النقص المهم في هذا الباب من أبواب الكتاب، وأخشى أن يكون نقصا جوهريا. وحبذا لو تداركه المؤلف إذا طبع كتابه طبعة ثانية، فيكون قد سد فراغا تاريخيا ذا قيمة.
ومهما يكن غرض جرجي أفندي زيدان من كتبه نشر معرفة التاريخ لا التدقيق في نقطة، ومهما يكن هو ينظر للأشياء دائما من جانب الفكرة العامة، فإنا نعجب كيف فاته أن يكتب هذه الكلمة التي ننبه إليها.
سوى ذلك فإنه لم يذكر لنا عن حقيقة روح هذا العصر شيئا أكثر من أن العرب اشتغلوا بالفتوحات، وأن القرآن كان دليلهم في الفكر والكتابة، مع أن الفتن الداخلية كانت يومئذ لا تحصى، وكان لها قادة من الخطباء والشعراء والكتاب. وردة العرب بعد موت النبي وخروجهم على عثمان وقتله، وانقسام علي ومعاوية على الأمر، كل ذلك يمس الأدب العربي عن قرب، ويمسه في مواضع كثيرة.
على أنا نرجع فنقول: إن الكمال محال. كما أنه ربما كانت في نفس المؤلف فكرة لم نقف عليها يفسر بها هذا الذي نعده نقصا في كتابه. وإنما دعانا للتدقيق في هذا الموضع من مواقع النقد اعتدادنا بهذا القسم من آداب العرب وتقديرنا لأهميته.
محمد السباعي
ذكرنا في كلمتنا إلى القارئ أن كتاب النقد سيتناول السباعي، وكنا نظن ما كتبناه عنه في «الجريدة» قد يعني القراء. لكنا ألفيناه لا يزيد على تقدير السباعي كمترجم لا كمؤلف. فاكتفينا بهذه الإشارة.
الكتاب الثاني
شئون مصرية
آثار وادي الملوك (1)
من القاهرة إلى الأقصر
دعيت الصحافة المصرية أخيرا لزيارة قبر الملك توت-عنخ-آمون. دعيت لتوقف المصريين على آثار جد من أجدادهم، باقية لا تزال، في أرض مصر بين مقابر الملوك الفراعنة. لكنها دعت بعدما أذاعت صحف لندرة، بل صحف العالم، التفاصيل التاريخية والفنية عن قبر هذا الملك المصري. وبعدما نشرت الجرائد والمجلات الأجنبية صورا مختلفة صورت بين أطلال طيبة الأزلية الخالدة. ثم تخطت النيل، وتخطت البحار قبل أن تقع عليها عين واحد من أبناء أصحاب مقابر طيبة.
وفيما بين افتتاح باب قبر الملك المصري، ودعوة رجال الصحافة المصرية - في هذه الفترة التي تجاوبت فيها صحف العالم بخبر هذا الاكتشاف، وكتبت عنه الفصول الطوال ، لم تعن الحكومة المصرية ولم تعن جهات حفظ الآثار المصرية، بإطلاع الأمة المصرية على أية معلومات عن هذا الأثر المصري تدلهم على قيمته. وتكشف لهم عن شيء من حقيقته. فلما وصلت الجرائد من إنكلترا مترعة بالأخبار عنه تكرمت وزارة الأشغال المصرية فأصدرت بلاغا تافها مبهما لا تقف منه على شيء ولا تعرف له معنى محدودا. •••
دعيت الصحافة المصرية أخيرا لزيارة قبر الملك توت-عنخ-آمون، فأذكرتني هذه الدعوة - لذلك الأثر المصري - تلك الآثار العزيزة العظيمة انتقلت على ظهور البحار إلى إنكلترا وغير إنكلترا من مختلف بلاد العالم، وكان أحرى بها أن تبقى على ثرى الوطن. وأذكرتني الرحلات الطويلة كنت أمضي فيها بياض النهار وقطعا من الليل وجل مقصدي أن أشهد تلك الموميات الناطقة في صمت الموت بجلال القدم، وتلك التماثيل المهيبة بضخامتها وعظمها، وتلك النقوش الممتلئة برموز الحياة قبل الموت والحياة بعده. وأذكرتني! نعم أذكرتني بتمثال إيزيس الصغير قائما في بلوره بين التماثيل الضخمة في الصالة المصرية من صالات المتحف البريطاني محدثا ما حوله من التماثيل الضخمة بحكمهم على الكون والكون في أحلام خلقه، متسخطا على الذين كشفوا عن الموميات ليجعلوها موضع لهوهم وكأنما الأموات متاع العيون ... أذكرتني هذا وأذكرتني سواه فنسيت ما نحن منهمكون فيه من أعمال الحياة، وما نحن مرتطمون فيه من الشهوات السياسية، فآثرت أن أسافر بنفسي إلى مقابر الملوك والملكات من أجدادنا الأقدمين. •••
شقة السفر من مصر إلى الأقصر طويلة. ومهما تعزيت بمشهد الوادي عن جانبيك يشقه القطار، فتتابع صوره أمام نظرك كأنها صور متحركة، فإن هذه الصور بالغة آخر الأمر من التشابه ما لا ترى بعده منها محلا لاستزادة. لكنك واجد في اختلاف ساعات النهار الشمس قبيل المغيب، فأبشر بمغرب شمس قد يبلغ بك من الإعجاب وصنوف الجو ما يبعد عنك السآمة. فإذا أنت رأيت السحب تجاور حد العبادة، فيذهلك عن الوادي وصوره المتحركة ، والزمن وساعاته المتتابعة، ونفسك وما قد بدأت تشعر به من ملال وتعب، ويمسك خيالك محدقا بالمغرب البديع الذي أمسى يذرك رويدا رويدا فتعلقت به نفسك، وانجذب إليه قلبك، ووقف عنده كل وجودك حتى تراه قد غاب واختفى، وأنت لا تدري متى غاب ولا متى اختفى.
كان ذلك شأني بين طهطا وسوهاج. تدركت الشمس إلى المغيب، وقد ارتكز عندها مثلث من السحب ملأ الغرب وتشرذمت حوافيه. وكنت تحسبه أدكن اللون قاتما فلا تكاد ترى مخرجا للودق من خلاله. فلما تدلت الشمس طوقت حوافيه القريبة منها بسوار من ذهب. ثم ولت إلى مغيبها فلم تك إلا دقائق بعد ذلك حتى سكبت في السماء وراءها لهبا داميا ودما ملتهبا، وصرت ترى الذي كان قتاما داكنا قد استحال إلى لهب اشتعلت به السماء، فغطت النيران مثلث السحاب الذي ملأ الجو. وتشهد فحمة القتام بعد اشتعالها، وكأنك نيرون يشهد روما في احتراقها. لكن نيرون كان يشهد جريمته فيوقع على القيثارة أنغاما يسلي بها نفسه عن وخز ضميره. أما من شهد ذلك المنظر الفذ من صنع يد القدر فكان لا يستشعر سعير اللهب المحرق، بل كان يحس فيما يرى ببرد وسلام يهبط على البسيطة. يشعر في حنايا فؤاده بترداد حنين الإعجاب والشكر على أن شاركت روحه الصغيرة في كل تلك المعاني التي لا تؤديها هينمة ولا ترنم، وإنما تؤديها نغمة سماوية من نغم موسيقى الموصلي أو بتهوفن.
وخبا اللهب وتبينت قطعة السحاب التي حجبت المغرب، وقد امتدت خلالها من الشمال إلى الجنوب تعاريج متوازية من الأحمر القاني متتابعة فوق جبال ليبيا إلى منتصف السماء، حيث يمتد من أثر الشمس المولية مسرعة ظل ضاف متورد كأنه بقايا قبلة وداعها لهذا العالم الذي ظلت تشهده أعيننا من ساعة إضاءته في شروقها، وها تشتمله كسف الليل بعد إذ تركته مدبرة. وظلت هذه التعاريج المتوازية البديعة النظام تغالب الليل ويغالبها، وتفني فيه رويدا رويدا حتى كل بصري، وصرت لا أرى منها شيئا، ولا أرى إلا الليل قد كسا الوجود، ولا أدري متى كسا أمواج النار والذهب.
وانطلق القطار في طريقه إلى الأقصر وأنا مأخوذ بهذا المنظر الذي لم يبرح خيالي ولن يبرحه. وكلما عدت إلى نفسي جاهدت أريد أن أستعيد ذكرى مغارب الشمس البديعة التي تضارع ما شهدت من سويعة مضت لأقارنها به، فيغلب هذا المشهد جهادي وأعاود التحديق في مخيلتي بالقرص النازل وبأطواق الذهب تحف بأطراف السحب، وبالنار الملتهبة تشعل الفضاء، وبنيرون يشهد روما جللها اللهب، وبهذه التعاريج البديعة من خالص العسجد.
وبلغت الأقصر، وكان الليل قد انتصف أو كاد. فآويت إلى الفندق وقد هجد الناس جميعا فيه فلا تسمع لهم هسيسا. آويت إليه وقد زال أكثر ما بي من النصب؛ لأني كنت مشغولا عن التفكير فيه.
واستيقظت حوالي الساعة الثامنة من صباح يوم الجمعة، فأخذت أهبتي لمشاهدة بيبان الملوك وما حولها من آثار طيبة الخالدة.
آثار وادي الملوك (2)
في بيبان الملوك
تقوم الأقصر - أو القصور - اليوم على شاطئ النيل الأيمن في المكان الذي كانت قائمة فيه من قبل طيبة الأحياء. وبين مبانيها المتفاوتة في الفخامة الفخيمة والحقارة الفقيرة، ترتفع تلك البرابي الدارسة التي بقيت برغم بلاها عظيمة ضخمة مهيبة تتضاءل إلى جانبها أكبر القصور وأفخمها وأضخمها - برابي الأقصر وخونسو وآمون وما إليها. هذه البرابي أو المعابد أو القصور الضخمة الفخيمة، هي التي أتاحت للمدينة الحاضرة أن تسمى باسم الأقصر أو القصور.
بلغ بي القطار الأقصر حوالي منتصف الليل فآويت إلى فندق ونتربالاس. فلما كان الصباح أخذت أهبتي قاصدا وادي الملوك لزيارة القبر الجديد، قبر توت-عنخ-آمون. وإذ كان القارب يعبر بنا النيل إلى شاطئه الأيسر، حيث تقوم المقابر بين الجبال عند آخر الوادي، مر بنا زورق بخاري يقل عظمة «السلطانة ملك»، وحاشيتها، وكن قاصدات مثلنا زيارة كنوز القبر الجديد، وكن منتقلات مثلنا من طيبة الأحياء حيث ضجة الحياة وجلبتها إلى طيبة الأموات حيث سكينة الخلد ومستقر السلام، وكن قد رضين - مثلما رضينا - أن ينسين هذه الفترة القصيرة التي نسميها الحاضر، ونجعل منها موضع كل عناية وكل اهتمام لتصل النفوس ما بين الماضي البعيد الذاهب في أعماق القدم إلى حدود الأزل، وبين هذا الحاضر الذي يجري غير وان يريد أن يشق أمام عيوننا غيابات المستقبل، ثم ينتهي بنا من هذه الغيابات إلى ما انتهى عنده رمسيس وآمنحوتب وتوت-عنخ-آمون وغيرهم ممن ذل لهم الدهر يوما، فملكوا ناصيته ثم ألفوا أيديهم خلاء، وأيقنوا أن ليس للدهر ناصية تملك.
وتخطينا النهر وركبنا عربة عريضة العجلات يسمونها (السنكار)، فاجتازت بنا المزارع تظللها أشجار لا يزال ورقها الأخضر يانعا لم تعد عليه عاديات الخريف، ولا عصفت به ريح الشتاء الفتاكة بورق الشجر. وهل تعرف الأقصر ريح الشتاء؟ ألم يكونوا يعبدون الشمس في طيبة؛ لأن الشمس في طيبة إله محسن. واليوم وقد عبد الناس ربهم، فإنهم لا يجدون من آيات خلقه آية تبلغ في العظم والكرم والإحسان ما تبلغه الشمس في طيبة.
وسارت بنا العربة بعد ذلك في طريق قد بين صخور عابسة محددة الوجه تظلها سماء دائمة الزرقة، لا تمر بها سحابة ولا يغشى صفاءها غشاء. وجاوزنا في مسيرنا بربة القرنة وتابعنا مسيرنا حتى قاربنا وادي الملوك.
الجبال قائمة عن يمينك وعن شمالك. جبال جرداء لم يسقها غيث فلم يعرف النبت إليها سبيلا. والسماء من فوقها زرقاء صافية، والسكون مخيم شامل فلا تسمع هسيسا. وأنت بين ذلك ذرة من ذرات الوجود متنقلة في الحيز تنقلها على الزمن ثائرة بين الكائنات العظيمة المطمئنة منتظرة يوما تخمد فيه ثورتها، فترجع لتطمئن في أحضان الوجود.
مثل هذه الأفكار كانت تدور بنفسي وأنا فوق السنكار تتسرب بي في طريق الجبل، وقد خلفت ورائي الزرع الناضر الخاضع لقوانين الموت والحياة، المتجدد على الزمن كلما تجدد الزمن، وحشرت بين الجبال العابسة وقد علت فوق قوانين الموت والحياة، فتتالت عليها عصور الزمن وهي على الزمن باقية خالدة.
ثم وصلنا بيبان الملوك فإذا حمر وعربات وسناكير قد سبقت إليها. وإذا زوار متفرجون قد جاءوا يرون الكنوز التي اكتشفها كورنارفون، وهي في خيال بعضهم كنوز الذهب والجوهر يستبدلها من شاء بما شاء من صنوف المتاع، وفي خيال الأقلين كنوز تاريخية أثرية، يرتكب من يستبدلها بالذهب والجوهر جريمة لا يغتفرها العقل ولا يغفرها التاريخ.
يقع مدخل بيبان الملوك في منتهى ذلك الطريق الذي قد بين صخور الجبل. فإذا جزته انفرج أمام نظرك وادي الملوك. أو بالأحرى ظهرت أمامك مقابر الملوك. فليس ذلك الوادي إلا منبطحا صخريا وسط سلسلة ليبيا تقوم الجبال حوله من كل جانب، ولا تعمره أية صورة من صور الحياة والتجدد التي تراها في الوديان. وإنما تعمره موميات ذوي الملك والسلطان الذين حكموا على التاريخ والتاريخ حدث قاصر لم يبلغ بعد رشاده، فكان حكمهم أبهى وأنضر وأبقى أثرا وأخلد ذكرا من حكم المدنية الأثيمة التي يئن العالم تحت سلطانها من سنين. تعمر تلك الموميات هذا الوادي في قصور شقت تحت الجبل، ونقشت جدران غرفها بطلاسم الهيروغليفية وبمختلف صور آلهة ذلك العصر وبطقوس عبادة آبائنا الأقدمين. شقت تلك القصور ونقشت جدرانها من أربعة آلاف سنة، فإذا رأيتها اليوم أدهشتك منها ألوان زاهية حية لا تجد فيما تعرف من الألوان اليوم لها نظيرا. فإذا سألت عن هاته الطلاسم وأولئك الآلهة وتلك الطقوس ما شأنها على الجدران، وما هذه الصحائف الكثيرة من كتاب الأموات لا يخلو منها جدار؟ لفت العليم نظرك إلى ما تراه على جدران معابدنا من آي الكتب المقدسة، وزادك أن أولئك القدماء كانوا يؤمنون بأن الروح لا تفارق الجسد فراقا أخيرا ما لم يتم بلى الجسد، وما لم تنحل ذراته فتتبعثر بين غيرها من الذر وينعدم كيانها. أما ما بقي الجسد حافظا كيانه فإن الروح تعود إليه إذا هو عولج عند الدفن بصورة خاصة من الطقوس، فمر فوق القارب المقدس بالبحيرة المقدسة عند آخر معابد إله الشمس آمون، ثم انتقل بين هياكل الآلهة ومن حوله تراتيل كتاب الأموات حتى يبلغ مقره الأخير. وفي هذا المقر الأخير تسجل على الحجر الصلد تلك الطقوس التي وجب أداؤها، حتى إذا عادت الروح للجسد عادت مطمئنة، ثم زادت طمأنينة إذا هي ألفت حوله كل مظاهر الملك ومجالي الأبهة التي كانت له في حياته، ووجدت عرشه وعربته ولباسه وطعامه، وما إلى ذلك مما كان له قبل الموت من صور المتاع.
وهذا هو السر في أنهم كانوا يحنطون الجسد حتى لا ينحل ويتم بلاؤه، وفي أنهم كانوا يملأون الجدران بنقوش كتاب الأموات، وبطقوس العبادة، وبمختلف صور الآلهة تقدم لهم فروض الطاعة وأنواع القرابين، وبصورة القارب المقدس على البحيرة المقدسة عند معبد آمون إله الشمس حتى تطمئن الروح إلى أن الجسد مر إلى مقره برضا الآلهة وفي طمأنينة منهم إليه. وهو السر في أنهم كانوا يضعون في الغرف المجاورة للملك عنجريبه وكراسيه وعرباته ومأكولاته، وكل أنواع المتاع التي كانت في الحياة له. إنهم كانوا يريدون له الخلد ملكا عزيزا كريما، حتى إذا بعث يوم النشور بعث ملكا عزيزا كريما.
أرأيت الآن معنى عناية ملوك مصر الأقدمين بأن يكون لهم بعد الحياة قصور تضارع القصور التي كانت لهم في الحياة أو تزيد عليها عظمة وقداسة. إنهم كانوا يطمعون أن يبقوا خالدين ملوكا وأن يبعثوا ملوكا. وها نحن أولاء نرى نصف مطمعهم تحقق أو كاد. لقد خلدوا إلى اليوم ملوكا تخشع أمامهم قلوبنا، وتنحني أمامهم رؤوسنا، ولم يزد الموت ملك رمسيس الحبيس بين زجاج صناديق المتحف إلا جلالا. ولو أنا - معشر الأحياء - قد بلغنا من العلم أن نفهم المعاني المرتسمة على صفحات وجوه مومياء الملوك الأموات، لعلمنا أن رمسيس يعيد اليوم ما كان يقوله من قبل يدفع به المصريين الأحياء ليستعيدوا لمصر من المجد والعظمة ما كان لها أيام ملكه. ولكنهم لا يسمعون.
هذه العناية هي التي أوحت إلى توت-عنخ- آمون أن ينقر في الجبل قبره، وأن يحضر في غرفه صور متاعه؛ حتى إذا أتى عليه الموت كان قد أعد لنفسه وسائل الخلد وحياة لا تبلى.
والكنوز التي شهدنا في أول غرفة من غرف قبر توت-عنخ-آمون هي بعض صور ذلك المتاع الملكي، وضعت إلى جانب تمثاليه الحارسين لموميائه من أن تعبث بطمأنينتها يد الزمن. وقريبا ستعبث بتلك الطمأنينة يد أبناء هذا الزمن.
آثار وادي الملوك (3)
قبر توت-عنخ-آمون
جاوزنا مدخل بيبان الملوك، فتجلى أمامنا الوادي الصامت القفر من كل مظاهر الحياة، العامر بكل معاني المجد والعظمة، وبكل آثار الموت والخلود. وقامت أمام النظر أبواب قصور موميات الفراعنة نقروها في جوف الجبل ملجأ من الفناء، وحصنا من البلى، ومستقرا يعبرون فيه فوق ظهر الزمن إلى الدار الآخرة ملوكا أعزة وفراعنة حاكمين. وهم قد ظلوا في هذا الوادي القفر ملوكا على سائر ساكني وديان طيبة الأموات من أربعين قرنا خلت. وكانوا قبل ذلك ملوكا لسكان طيبة الأحياء؛ إذ قضى كل منهم في ملكه سنين لا تتجاوز العشر أو العشرات.
جاوزنا مدخل بيبان الملوك، وكان باب رمسيس التاسع عن شمالنا. وباب رمسيس السادس عن يميننا. وبين البابين فجوة تؤدي إلى باب القصر الجديد أو القبر الجديد. القبر الذي نقر من ثلاثة آلاف سنة؛ قبر توت-عنخ-آمون. فهبطنا إلى بابه حتى كنا عند الغرفة التي كشفت عنها يد المنقبين. فإذا نور الكهرباء يضيء ظلمة ذلك الرمس العريق في القدم. وهناك وقعت العين على ما يبهرها: غرفة ملأى بآثار فرعون، بعروش الملك ومتكآته وسرره وعصيه وعرباته، فجعلت تتنقل من واحد إلى الآخر ولا تكاد تستقر عنده. لا تكاد تجتمع فيها صورة منه. ووقفت النفس حيرى ذاهلة أمام هذه المشاهد العجيبة. لبثت هذه الآثار في هذا الرمس ثلاثين قرنا أو يزيد ... واهتز القلب بذكرى أولئك الجدود الذين كانوا زينة الدهر وموضع فخر بني مصر. والذين لا يزالون على الدهر موضع إعجاب بني الدهر. وجاهد الذهن يريد أن يقف مما رأت العين وتأثرت به النفس واهتز له القلب عند فكرة فكان أكثر منها جميعا بهرا وحيرة واهتزازا. •••
رأينا الأشياء التي حشرت مع الملك ليبعث بينها. رأينا تمثالي الملك وعروشه وكرسيه وعرباته وباقات الورد استبقاها الحنوط حية على القرون. رأينا هذه الآثار ووقفنا أمامها زمنا سمح للناظر أن يرى، وللنفس أن تستجم، وللقلب أن يطمئن، وللذهن أن يستقر. لكنها جميعا اتجهت بكل ما فيها من قوة الأبصار والحس والشعور والاستجمام إلى هذا التراث المجيد من آثار مصر القديمة. ثم غادرناها وقد ارتكزت صورها في غور وجودنا، فأصبحت قسما منا نحس ونشعر ونفكر وله على حسنا وشعورنا وتفكيرنا أثر لن يزول.
غادرنا هذه الآثار إلى الدير البحري. ثم عدنا أدراجنا إلى الأقصر. وبلغنا الفندق وقد نال منا التعب وهدنا ما أنفقنا من جهد. لكن هذه الآثار الباقية ما بقينا والباقية بعدنا إلى أجيال وأجيال مقبلة لم تغادر تصورنا، ولم ينلها في تخيلنا أي جهد أو كلال. بل ازدادت وضوحا وازدادت قوة وازدادت استئثارا بنا، فصرت لا تسمع بين أهل الفندق ممن زاروها إلا تحدثا عنها، وممن لم يزوروها إلا تساؤلا ودهشة ورغبة في مشاهدتها.
استأثرت آثار باب توت-عنخ-آمون بخيالنا وبتصورنا، فلما خلا كل إلى نفسه، وسعد بالوحدة الحلوة الطيبة، وتأهب للراحة وللنوم عاودته بكل قوتها وبكل حياتها، وارتسمت أمامه ناطقة متكلمة. •••
تلك آثار أجدادنا - نحن المصريين. تلك آثار الفراعنة. وهي كانت مخبوءة في جوف الصحراء، في ذلك الصخر القاسي اتخذه صاحبها درعا من الفناء. فكشف عنها رجل ليس له بالفراعنة صلة، رجل جاء في أرض الفراعنة مستشفيا، ثم أوحى له القدر أن يعمل لكشفها. فكشف عنها بعد لأي ونصب ولغوب، وعاونه رجل مثله ليس بينه وبين الفراعنة إلا صلة الإعجاب بهم والتنقيب عنهم، وقام بالعمل أبناء الأقصر وما حولها من شبان ورجال تداولوا العمل بإرشاده وبإشرافه وعلى نفقته. لكنها آثار أجدادنا نحن، فنحن وحدنا أصاحبها، وله الفضل عن كشفها، وله منا الشكر والمنة. وله على التاريخ الاسم الباقي ما بقي اسم الفراعنة، وما بقي اسم توت-عنخ-آمون.
تلك آثار أجدادنا الفراعنة الذين عاشوا من أربعين قرنا مضت. أليس عجيبا أن تضاهي تماثيل الملك المصري تماثيل الإغريق وتماثيل روما وتتفوق عليها. يعجب الناس من كل الأقطار بتمثال الزهرة إلهة الجمال ويعدونه مثلا نادر المثال. ويعجب الناس بصور ميكلانج وبنقوشه. ويذهب بهم الإعجاب إلى حد البهر وإلى حد الهيام؛ ذلك أنهم لم يروا تماثيل توت-عنخ-آمون، وبأنهم لم يروا تماثيل السباع والبقر والخرتيت في عروشه. ويعجبون بنقوش الرومان والقوط؛ ذلك أنهم لم يروا نقوش صناديق الملك المصري أو عرباته. ولو رأوها لتضاءل إعجابهم بتلك التماثيل والنقوش، ولأخذ بأبصارهم وبقلوبهم وبعقولهم ملك الأسرة الثامنة عشرة المصرية.
أجل. لو رأوها لقالوا عن أجدادنا إنهم أجداد الفن، وعن مصر إنها مهد المدنية. ولو رأوا حنوط الورد واللحم وما تنبت الأرض من بقلها لتضاءلت مدنيتهم أمام ما يرون. لو رأوا خلود هذا الزهر الرقيق السريع إلى الذبول، وبقاء تلك الحنطة الدقيقة المتآكلة، وقرنوا إليها حديدهم الصلب يفنى ويتآكل رغم عنايتهم، وحجارته القاسية تنهار وإن شادوها، إذن لأيقنوا أن هؤلاء المصريين القدماء وصلوا من المدنية إلى قمة نفخ بعدها في الصور، فاضطرب الوجود وتداعت قوائمه، ثم بعث من بعدهم خلق جديد وسار يتطور في سبيل التقدم، وهو لم يبلغ بعد مدنيتهم، وهو لن يبلغها إلا أن تكون مصر على رأس العالم، وإلا أن تكون أم المدنية، وإلا أن تبلغ هي الغاية التي تطمح إليها الإنسانية. والإنسانية لم تصلها. وهي لن تصلها حتى تمسك مصر زمام القيادة، فتتولى السير بالعالم في سبيل الرقي والسعادة.
كلا! لم تكن مصر القديمة مهد المدنية، بل كانت قمتها وغايتها. وهذا التاريخ الذي يروونه وهذه الأساطير التي يتناقلونها ليست إلا أثرا من آثار كبرياء الشباب الفارغة. أما آثار العقل الناضج، آثار المدنية الصحيحة، آثار الرقي الإنساني الصاعد بالروح إلى ملكوت الملائكة بله الآلهة، فذلك ما لم تبلغه الإنسانية، وما لن تبلغه، حتى تكون مصر في الطليعة، وحتى يدين الناس لها بالسبق والقيادة إلى غاية الكمال.
وليس ما يطالعنا به توت-عنخ-آمون من صور الحضارة دليلا على أن هؤلاء الأجداد العظام كانوا يحضرون للمدنية المادية السخيفة، التي يرزح العالم اليوم تحت أرزائها، وإنما هو دليل على أن الإنسانية بلغت في عصره كل القوة والعزة والمنعة والشباب، ووصلت إلى غاية ما ترجوه الإنسانية. ثم اضمحلت من بعده، وتدركت إلى الهرم وإلى الفناء . ثم بعثت فاضطربت في حمأة الطفولة وتلوثت في أدرانها، وهي قد خرجت منها من زمن، وهي اليوم تعاني آلام شهوات الشباب المبتدئ. وليس من يدري متى تطمئن إلى شيء من الحكمة. ومتى تعاودها نعمة العقل.
هذا ما تنطق به آثار باب توت-عنخ-آمون البالغة في الإبداع حد الإعجاز. وهذا ما تنادي به معها آثار طيبة الأموات مما وقعت عليه عين الإنسانية. وهذا ما تشهد به الآثار المصرية القديمة ما بقي منها في مصر وما عبر منها البحار إلى الدول الأخرى. فإن كان لا يزال في نفسك من ذلك ريب، فاقصد معي إلى الكرنك وإلى بربة الأقصر، واقرن ما ترى هناك إلى مثله من آثار روما، تر أمامك واضحا هيبة القدم وجلال العظم عند المصريين بالغين حدا تتضاءل معه الآثار الرومانية والآثار الإغريقية، حتى لتكاد تنسى. وهل جلال أعظم من جلال الكرنك؟ وهل أثر باق للحضارة الكاملة غير آثار المصريين القدماء.
في حضرة الفراعنة
طيبة الأحياء
بين جبال ليبياء، وعلى نحو فرسخين من شاطئ النيل الأيسر، تقع طيبة الأموات، وفيها معابد الدار الآخرة. وفيها لحود الرعية، وأجداث الأمراء، ومقابر الملوك.
وعلى الشاطئ الأيمن تقوم الأقصر حيث كانت تقوم طيبة الأحياء. وفيها بربة الأقصر. وفيها الأطلال الدوارس التي تتحدث إلى الأجيال المتعاقبة لمستقبل بعيد عن أجيال نائية في ماض سحيق - فيها معابد الكرنك الكبرى. •••
معابد الكرنك: هياكل النيل التي ظلت آلاف السنين تتعانق ومياه النيل. معابد خونسو، وأوزوريس، وآمون، وسيتوس، وطريق آباء الهول، والبحيرة المقدسة. أطلال طيبة الأزلية الباقية. قدس أقداس مصر القديمة. عظمة الماضي ومجد التاريخ. المدنية البائدة الخالدة. الإنسانية في كمالها الأسمى. آثار أجدادنا العظام. آثار المصريين الذين حكموا وسادوا؛ حكموا بالعقل والعلم، وسادوا بالمحبة والحلم. تلك هي الآثار الدارسة القديمة المبعثرة فوق ثرى الوادي على مقبرة من الأقصر إلى الجانب الأيمن من النيل. تلك هي الأحجار الناطقة في صمتها بمعاني العظمة، المحدثة ببلادها عن ألوف السنين التي مرت بها من يوم شادها أجدادنا هياكل لعبادتهم، ومستقرا لعلم آلهتهم ، وذكرا لأشخاصهم التي سبقت التاريخ من غير أن يدور في وهمها أن سيبقى ذكرها زينة التاريخ ما بقي التاريخ ...!
معذرة! ... لقد كنت أريد أن أصف معابد الكرنك، وأن أذكر طرفا من تاريخها، وأن أتحدث عن بنائها، وعن ضخامتها وعن رفعتها. وكنت أريد أن أقرنها إلى ما رأيت من آثار الرومان في روما. وفي مدن فرنسا: في نيم. وآرل. وأفنيون. وروياء. فلم تكد أسماء معابد الكرنك تمر أمام خيالي، حتى امتلأ بعظمتها وبقداستها خيالي، وحتى تضاءل ما رأيت من آثار اليونان والرومان. وحتى أصبحت الفورم، والكابتول، بعض تلك الآثار الصغيرة التي لا تحصى والتي تقابلك حيث ذهبت من ديار الآثار في مصر. وهل ترى في الوجود أثرا لا يصغر ويتضاءل ويفنى إذا ذكرت عظمة معابد الكرنك، وبينها معبد آمون.
قرون جاءت على آثار روما، وعلى آثار أثينا، وللقدم هيبته، ولجراح الماضي في تلك الآثار قداستها، وللفن عظمته، وللإبداع الفني في تلك الآثار احترامه. وأنت - ابن اليوم - لن تستطيع مهما فاخرت بعلم عصرك وفنه ودقته إلا أن تقف أمام تلك الآثار التي جاءت عليها القرون معجبا خاضعا ... فإذا وقفت بين أطلال الكرنك لم يكفك الإعجاب، ولا الخضوع، ولا التقديس؛ لأنك ترى آثارا تفوق آثار مدنيتك الحاضرة عظما وقوة وإبداعا ودقة.
لست أغلو. ولكني لا أستطيع أن آتي على الوصف الذي يبعث إلى نفسك الإجلال والبهر اللذين ملآ نفسي حينما كنت بين هذه الآثار، واللذين تركا في نفسي أثرا سيبقى إلى أن تزول من بين الأحياء نفسي، ولو لم يتح لي القدر أن أعود إلى طيبة المقدسة مرة أخرى.
كلا. لست أستطيع أن أصف لك هذا المشهد؛ لأنه ليس مكونا من أحجار ولا من صور وتماثيل. ولكنه مكون من ماض عريق في القدم والعظمة، عريق في الجلال والهيبة، عريق في الإبداع والدقة، عريق في كل ما تريد الإنسانية اليوم أن تصل إليه من قوة وعزة وجاه وسعادة. وفيما تنفق في سبيله الجهود الكبار. ثم هي تراه أمامها سرابا قد لا يتحقق على القرون . •••
معابد الكرنك. هياكل آمون وسيتوس وتتموزس وفتاح، وفي مقدمتها طريق آباء الهول، وعلى أبوابها درجات الطول والعرض، لتعرف أين أنت من كرة الأرض. وبينها معابد آلهة الخير والشر تطالعها الشمس ظهيرة كل يوم؛ لتطلعها على آثار الناس وحسناتهم. ومن خلالها تماثيل رمسيس وتحتمس وآل فرعون. وفي غايتها البحيرة المقدسة.
ألست ترى هذا الجمع من كهنة آمون قادمين على شاطئ النيل إله الخير والخصب، وهم ينظرون إلى مياهه الهادئة في موجها نظرة اعتراف بالجميل وتقديس وإجلال؟ ألا تراهم يريدون أن يسلكوا سبيلهم إلى معبد إله الشمس آمون؛ ليرتلوا لمبعث النور والدفء آيات الثناء والحمد. هاهم أولاء انعطفوا في طريق آباء الهول بين تماثيل السباع ركبت عليها رؤوس كباش الغنم، وازدان صدرها بتمثال آمون، فجمعت بين القوة والعظمة والحنان والرقة والقداسة والهيبة. وتتالت كثيرة متتابعة تزيد الجمع بكثرتها خشوعا وبنظام تتابعها رهبة ومهابة. وقام أمام الجمع مدخل المعبد الضخم الرفيع لا تدرك شرفته نظرة الخاشع السائر في هذا المشهد الرهيب. هاهم أولاء تخطوا المدخل، فأحاطت بهم نصب الآلهة وتماثيل الملوك ومن حولها العمد الرفيعة الشاهقة. فلما نادى رئيس الكهنة باسم آمون خروا جميعا سجدا.
كان هذا الجمع يتخطى هذه المشاهد بملابسه الكهنوتية، وقلبه ممتلئ قداسة وإجلالا وإكبارا. أما أنت فتمر في طريق آباء الهول وترى مدخل معبد آمون، وتتخطى إلى داخله، فترى هامات الكباش طائرة عن أجساد السباع. وترى تماثيل آمون القائمة على صدورها أبلاها مر القرون، وترى معبد آمون تحطمت نصبه، وتداعت تماثيله، وتطايرت رؤوس عمده. ثم لا يكون قلبك الذي امتلأ بالقداسة والإجلال والإكبار أقل خشوعا من قلوب هذا الجمع بملابسه الكهنوتية.
وتتخطى بين هذه الآثار مسلات رفيعة وعمد لا تمل العين التحديق بها، ونصب فوقها تماثيل بالغة في الأحكام، وجدران ترى الطير والوحش قد زينت سطحها، وذلك كله وما هو حوله من مثله ومما هو أعظم منه وأبدع فوق متسع من الفلاة، لا يجيء عليه الناظر في مدى نظرته، ولا يتخطى واحده إلى ما بعده من غير أسف على تخطيه.
كيف كانت تنحت تلك التماثيل العظيمة؟ وكيف كانت ترفع فوق تلك النصب؟ وكيف كانت تقام تلك العمد؟ وكيف كانت تصل إلى قممها شرفاتها البديعة النقش؟ وكيف كانت تحمل فوق تلك الشرفات الأحجار الضخمة التي تصل العمد بعضها ببعض؟! أي فن وأي علم وأي مقدرة كانت تقوم بذلك كله؟ وأين من هذا الفن والعلم والمقدرة فننا وعلمنا ومقدرتنا؟ وهل لنا أن نباهي أهل تلك العصور البائدة؟! •••
معابد خونسو. وفتاح. وآمون. آيات المجد والعظمة. آثار الكرنك الخالدة. كلا. لن يحيط بك وصف الواصف إلا إذا وقف عليك من حياته سنين طوالا.
أما أنا فيكفيني ما شهدت. هو يكفيني فخرا بالماضي، ولوعة للحاضر، وأملا للمستقبل.
أبيس
مهداة لسر أناتول فرانس
ذهبت مع أصحاب إلى المتحف المصري أشهد للمرة العاشرة نفائس قبر توت-عنخ- آمون، واثقا من الكشف فيها عن دقائق جديدة من آثار الفن القديم. وفيما نحن متأهبون للخروج لقينا صديق مغرم بتاريخ أسلافه الأولين، فلا يكاد ينقضي أسبوع دون ذهابه إلى المتحف: يتحدث فيما يقول، إلى أجيال وأجيال حشرت بعد بعثها في هذا القبر غير اللائق بها. ويأمل أن يطهرها هذا العذاب من إثم قد يكون لصق بها حين حياتها، ويرجو أن لا يطول أمد تفكيرها، وأن تنقل إلى أقداس تليق بجلالها ... فاستوقفنا برهة ثم دعانا لنصحبه في تحية أوجب على نفسه أداءها، كلما حضر، إلى معبود آبائه العجل أبيس. فلما كنا في حضرة التمثال المقدس وقف برهة صامتا، ودلت حركة شفاهه على أنه كان يتلو بعض صلوات لا شك فرعونية. فأثارت حركته دهشة شاب كان معنا فتح عينيه واسعتين وحملق بتمثال العجل وبنجيه، ثم أدار نظره فينا فألفانا في شغل بما حول العجل من تماثيل. ولاحظ المصلي دهشة الشاب فالتفت نحونا بعدما أتم صلواته وقال: لعلكم تعجبون لما أصنع. أما أنا فلا أرى محلا لعجب. لقد كان أبيس رمز الخير والبركة. فكانت عبادة آبائنا له دليلا على أنهم يقدسون من الحياة خيرها وبركتها. ومن أجدر بالتقديس والعبادة ممن يدر الخير والبركة على الناس؟ «وما أخالكم تذكرون قصة أبيس وعبادته عند آبائنا. فقد كانوا يجعلون لهذا الحيوان المخصب خير صفات الآلهة ...»
وهنا اتجه إلى صاحبنا الشاب ومضى في حديثه: ولا تحسب يا صديقي أنهم كانوا يعبدون كل عجل رأوه أو أن كل عجل كان عندهم أبيسا. ولو أنهم فعلوا هذا لطعن في عملهم الجم ومدينتهم الفاضلة. فالعبادة لا تجوز إلا للكامل حيث تجتمع صفات الفضل طرا. وكل عجل معرض لأكثر من واحدة من نقائص الناس. والرجل الكامل جدير بإعجاب الناس به. والعجل الكامل جدير بأن يكون رمز هذا المعنى الذي تجب عبادته: معنى خير الحياة وبركتها؛ لذلك كان للعجل الإله عند آبائنا ما يميزه على العجول جميعا، فهو لم يكن يولد كما يولد كل عجل من كل بقرة اقترب منها ثور. بل كان أجل من ذلك نسبا وأقدس أصلا. كانت نار سماوية تهبط فتنفخ في بقرة عذراء من روح القدس، فتذر الإله في حنايا ضلوعها حتى إذا ولدته وجب أن لا تلد بعده أبدا. ... وليطمئن آباؤنا إلى أن روح القدس وحدها هي التي لامست البقرة العذراء، وجب أن تكون لابنها صفات كل أبيس سبقه. وأبيس يجب أن يشتمله السواد، عدا غرة مثلثة في جبينه وأخرى في صورة الهلال على جنبه الأيمن. ويجب أن تكون تحت لسانه عقدة كالجعران شكلا، وأن يكون شعر ذنبه ذا لونين؛ وأن تجتمع له إجمالا وتفصيلا ما فرضه العباد على آلهم من صفات. ... فإذا نحى الموت أبيسا عند قدس زريبته وأذن مؤذن بميلاد أبيس جديد ذهب رهط من كبار رجال الدين، فاستوثقوا من كمال صفات الإله الوليد، ثم أقاموا حيث ولد زريبة تطالع مشرق الشمس؛ ليمضي فيها مدة رضاعه أربعة أشهر. ومتى انقضى هذا الزمن وكان هلال جديد وضع العجل في مقصورة مذهبة فوق قارب كبير، ونقل إلى مدينة «نيلوبوليس» حيث يستقر أربعين يوما. ولا يقترب من الإله في فترة هذا المقام غير النساء، يجئن إليه من كل الأنحاء راجيات خصب أرحامهن، فيتجردن في حضرته على صور وأوضاع يأباها عرفنا وعرفهن في الحياء. وبعد هذه الأيام الأربعين يقفل معبد العجل دونهن، وينقل أبيس إلى مقره الأخير بمنفيس في مقام بالغ غاية الفخامة، وتبقى أمه معه في زريبة متصلة بقدسه يخلع عليهم بعض شرفه الديني. ولا تقربه من البقر إلا واحدة مرة في كل عام لتكون لربوبيته متاعا ولذة، ويقضي على هذه البقرة السعيدة في يوم سعدها، أن ليس يليق بالإله أن يكون له نسل كنسل الثيران جميعا.
عند هذا الموضع من حديث صاحبنا جاء قوم وقفوا إلى جانبنا أمام تمثال العجل المقدس. فآثرنا الخروج من المتحف، وألقينا نظرة على ما حولنا من تماثيل وألواح من الحجر والصخر، ورفعنا أبصارنا إلى الطابق الأعلى لتتصل نفوسنا بموميات آبائنا الخالدين. ثم خرجنا وكانت الشمس المنحدرة إلى المغرب ترسل أشعتها الرفيقة على الفضاء المنبطح أمام المتحف، فتبعث إليه من حياة الحاضر ما يوقظ النفس بعد ساعات نسيت فيها الحاضر بين الماضي وغياباته. وتخطينا الباب الحديدي الكبير، وسرنا ميممين فندق سميراميس، وأتم صاحبنا حديثه فقال: وكانت غاية حياة أبيس القديس خمسة وعشرين سنة. فإذا لم ينفق بالموت قبل انتهائها أغرقه رجال الدين في بئر لا يعرفها سواهم أعدت لإغراق كل أبيس يخالف التقاليد ويتشبث بالحياة. ثم أذاعوا في الناس أن الإله قضى على نفسه منتحرا. فأما إن هو لم يتخط التقاليد ومات قبل الخامسة والعشرين فقد حق له أن يدفن بما يجب لإله مثله من مظاهر العظمة والألم. فيحلق المصريون جميعا رءوسهم ويلبسون ثياب الحزن، ويشيعون جثمانه المقدس إلى «سيرابيس»، ويظلون مرتدين سوادهم حتى يجيء أبيس جديد يخلفه في قدسه.
كذلك قال صاحبنا، وكانت لهجته تشهد بتبجيله للعجل المقدس، وبمشاركته آباءه الأقدمين في إحاطتهم معبودهم بمجالي الربوبية. وهنا أبدى الشاب من الضجر ما دل على تحفزه للقول. ثم قال: ليس من ينكر على مصر الفراعنة براعتها في العلم والفن. وكل كشف جديد عن آثار هذه المدنية الخالية يزيد العالم إيمانا بعظمتها وقوتها، ويدل على مبلغ ما كان لأسلافنا من نشاط تصغر أمامه كل مظاهر النشاط في مدنية اليوم. وهذا الذي رأيت اليوم لأول مرة من آثار توت-عنخ-آمون يفرق في بهائه ودقته كل ما ذكر عنه، وينهض حجة على أن الحقيقة في بساطتها قد تبلغ من الجمال حدا تصبح معه المبالغة في وصفها هراء وسخفا. ... ولقد أذكر يوما اجتزت فيه الصحراء من ناحية البدرشين مع صحب يشبهونكم في الظرف والرقة قاصدين صقارة؛ فقطعنا على ظهر الدواب فراسخ وأميالا تحيط بنا المزارع والرمال، وتظللنا سماء صفو منذ القدم، لم تخضع لحكم الضرورة الذي تخضع له العوالم كلها، وتقابلنا أحجار وتماثيل طبع الزمن على صحائفها آثارا من البلى تزيدها حياة وتجعل من صمتها حديث العصور الخالية. وقد استوقفنا من هذه التماثيل كثير يحدث عن ذوق القوم للفن وعبادتهم للجمال. وإني أشهد ما تأثرت لمنظر تأثري حين بلغنا من طريقنا موضعا رأينا فيه تمثال رمسيس الكبير ملقى على جانب الطريق وقد جل عن أن يختلط بتراب الأرض فنام فوق مخادع من الحجر ووضع تاجه إلى جانبه. عند هذا التمثال وقفت طويلا وسمعت في أعماق نفسي صوتا يخاطب صورة الملك العظيم بهذه العبارة: «ترى في أي ميدان من ميادين منف الخالدة الأثر كنت تقوم أيها التمثال الفخيم؟ وعلى أية مدنية فرعونية كانت تطل عيناك الحجريتان؟ وكيف كان الناس من أهل تلك العصور ينظرون إليك وإلى تاجك الملقى الآن عن هامتك الملوكية؟ وكان يومئذ فوقها عزيزا. أكانوا ينظرون بعين الطلعة التي ننظر بها نحن؟ أم كانت عيون إعجاب وإجلال وخضوع وعبادة؟ وصاحبك الخالد رمسيس، صاحبك الذي لن يعدو الدهر على ذكراه كما عدا عليك، فدك عرشك وحطم سيقانك وطرحك على ظهرك، وألقى بتاجك في الأرض؛ صاحبك صاحب الروح الكبيرة؛ صاحبك ابن الشمس ومحبوب آمون وعطارد والآلهة؛ صاحبك المظفر الراكب عربة الحرب يطارد بها عدوه الهزيم؛ صاحبك مليك مصر العزيزة بأمر الآلهة وعيونهم؛ أين روحه الآن لترفرف على مصرنا، فتنفخ فيها روح قوة ومجد وعزة؟» ... هذا الخطاب النفسي لتمثال رمسيس، وإعجابي الخالص بآثار طيبة، يظهرانكم على ما أشعر به نحو آبائنا الفراعنة أصحاب المجد الخالد. لكني أعجب حتى لا أكاد أصدق أن شعبا ذلك مبلغه من العظمة والرقي يؤمن بأوهام كالتي تروى عن أبيس وعن غير أبيس من الآلهة، ويسلك في عبادته طقوسا يراها أكثر الناس اليوم سذاجة بالغة في السخف حد الهوس.
أتم الشاب حديثه فأجابه صاحبنا: أنت مخطئ يا صديقي الشاب. وأنت مجدف أيضا. فإن أبيسا لم يكن عجلا كالعجول. بل كان كما ذكرت نفحة من روح القدس. وكانت له معجزات تنفي كل شك في ربوبيته أيام كانوا يعبدونه. فقد حفظ التاريخ أن آباءنا كانوا يقيمون في كل عام عيدا لميلاده بمنفيس يجمعون فيه كل لذائذ الحياة سبعة أيام تباعا. وكانوا يبدأون عيدهم بأن يقذفوا في مكان معين من النيل وعاء من ذهب أو من فضة. فكانت التماسيح تمسك مدى هذه الأيام السبعة عن أن تؤذي أحدا. فإذا كان اليوم الثامن عادت إلى افتراسها. فهل ترى هذه الحيوانات المائية الضخمة كانت تغير طبعها لولا سلطان العجل. ولا تقل إن إمساكها ربما كان سببه فرضها الصوم على نفسها أياما خاصة من السنة. فقد كان عيد الميلاد يتغير كلما تغير العجل. أي كل خمس وعشرين سنة أو أقل من ذلك. ... ومعجزات أبيس كثيرة. فقد ذهب العالم الفلكي «أيدوكس» لزيارته يوما فاقترب العجل منه ولحس أسفل ردائه. وفسر رجال الدين هذا المظهر بأن أيدوكس سيكون ذا مجد قصير الأجل. وكذلك كان. ورفض أبيس أن يتناول الطعام من يد جرمانيكوس فدل بذلك على خاتمة هذا الأمير السيئة. وكذلك كان. ... فهل ترى من حقك بعد ذلك يا صديقي أن تجدف في حق إله ذلك سلطانه وتلك مقدرته؟
فعلت ثغر الشاب ابتسامة وهز أكتافه وقال: عجل يعبد! ثم يقال إن إنكار عبادته على أنها سخف وهوس تجديف غير لائق بالآلهة! أليس ذلك مضحكا يا سيدي؟
تولى الجواب عن صاحبنا أخ لنا لا يزيد علينا في السن، لكن شيبا انتشر في رأسه يذكر هو أن الخوف سببه جعل مظهره أكثر هيبة ووقارا . قال: ألم يقل لك صاحبنا إن أبيس لم يكن عجلا كالعجول أن حملت أمه من طريق قدسي! وأي سخف في أن يحاط جلال عجل بالأوهام الطيبة لكي يتصل ما بينه وبين إيمان السواد. أليست الأوهام التي نحتقرها في الجماعات القوة الكمينة الخالدة التي توجه نشاطها - متى كانت طيبة - إلى الصالح المفيد. وهل كان آباؤنا يعبدون في أبيس العجل الأسود الأغر المثىي لون شعر ذنبه لتكون عبادتهم له سخفا وهوسا. كلا. بل كانوا يعبدون فيه رمز النيل مدر الخير والبركة. كما أنه كان لباس أوزوريس وصورته الحية، وأوزوريس كما تعلمون إله الخير والفضل والسلام. وهذه كلها معان جديرة بالتقديس والعبادة.
قال الشاب: هب يا صاح هذه المعاني جديرة بكل تقديس؛ لأنها أكثر المعاني اتفاقا مع عبادتنا للحياة وفطرة الاحتفاظ بها، فما صلتها بأوزوريس وأبيس؟ ولم لا تخلع عليها القداسة في جمال تجردها من غير أن يلبسها عجل أو غير عجل من سائر الحيوان؟
فأجاب الأشيب: وهل العبادة والتقديس إلا الإعجاب يملك النفس ويبهرها، ويأخذ عليها كل مسلك الشعور والحس؟ أتراك إذا ذهبت إلى حيث يتولد من الكهرباء ما قوته مائة مليون حصان، ورأيت إلى جانب هذا النبع من القوة ما يديره من العدد والماكينات وما تنتجه هذه العدد من ثمرات، أتراك بعد ذلك إلا مأخوذا عن نفسك ذاهلا لعظم ما ترى؟ فإذا قصصت ذلك على غيرك وكانوا يعيشون من ثمر هذه القوة، فهل تراهم إلا يقدسونها ويسبحون بحمد من أجراها. كذلك كان شأن السواد من آبائنا فيما قصة عليهم ذوو الرأي منهم من قصص أوزوريس وإيزيس وأبيس وسائر الآلهة.
قال صاحب أبيس: ما أحسبك قد بعدت عن الحق كثيرا يا أخي. وقد قصصت عليكم من أمر أبيس شيئا. وهاكم حديث أوزوريس لتروا وليرى أخونا الشاب أن عبادة آبائنا لم تكن سخفا وهوسا: ولد أوزوريس من الإله جب (الأرض) والإلهة ناوت (السماء)، حين أدرك هذين الإلهين الهرم فعجزا عن قمع وحشية الناس وشرهم. ولما كبر تزوج من أخته إيزيس وجلس على عرش المصريين، وصار ملكا على الآلهة والناس جميعا. وقد استطاع بفضل الجمال والعلم والصلاح أن يتغلب على شر الناس وأن يردهم إلى السلم، وأن يعلمهم صناعاته. فعرفوا الزرع وطمعوا من جوع، واتخذوا من المعادن أسلحة يفلحون بها الأرض، ويتقون بها عادية الحيوانات المفترسة. وبمعونة الإله توت علمهم الأسماء كلها والفنون وفائدتها. ثم ترك لإيزيس حكم مصر وسار على رأس جيش لهداية أهل الأرض جميعا. لكنه لم يكن بكبير حاجة إلى هذا الجيش؛ فقد سحر الناس بعبارة الإله وكلماته، وبهرهم الرقص، واستولت على ألبابهم الموسيقى. وكذلك تم للخير والفضل حكم العالم.
وكان «ست» إله الشر أخا لأوزوريس. ولما رأى من آيات حكمته أدركته الغيرة فدعاه إلى وليمة أعد فيها صندوقا فاخر الصنع ووعد أضيافه بأنه مهديه لأي منهم طابق الصندوق حجمه. فدخل إليه الأضياف واحدا بعد الآخر حتى إذا كان دور أوزوريس واستوى فيه - وكان قد صنع على حجمه - أسرع شركاء إله الشر فأقفلوا الصندوق وألقوا به في النيل، فدفعه التيار إلى البحر وقذفته الأمواج إلى شاطئ الشام، وبقي عنده إلى جانب شجرة أنماها القدر لتحميه من الأعين إلى أن جاءت به إيزيس إلى مصر بعد حزن وبحث. لكن «ست» عثر به ثانية في إحدى جولاته جوف الليل فمزق جسد أخيه أربعة عشر جزءا ألقى بكل منها في مكان. فعادت إيزيس إلى بحثها واستعادت أجزاء الجسم، واستعانت بأختها وبابنها الإله هورس وبطقوس الدين فردوا إليه حياة شابة خالدة لا يحياها على الأرض، بل في السماء. وكذلك بعث الإله الملك ووعد بالبعث كل من يفعل الخير حين حياته. ... وهذه قصة المعركة بين الآلهة وأوزوريس إله الخير قد وجد من العجل أبيس ممثلا له ولباسا. أو قل: إنهما صورتا روح واحد ورمز لمعنى الخير. فما السخف في أن يعبد الناس هذا الرمز ويقدسوه.
بلغنا من سيرنا ثكنات قصر النيل. فملنا إلى يميننا في طريق الجسر، وهبت علينا نسمات الأصيل المنعشة في هذه الأيام الصحو الجميلة التي تفصل الخريف من الشتاء. ولحق بنا أثناء الطريق شيخ من ظرفاء أصدقائنا قال: إنه يقصد أن يعبر النيل على جسر إسماعيل لرياضة نفسه في حدائق الجزيرة، ولملاقاة أصحاب على موعد معه بجوار الكوبري الأعمى. وكان قد أنصت إلى طرف من الحديث لم يشغل عنه إلا بمنظر شبان من جنود الإنجليز يلعبون كرة القدم في فناء الثكنات، وقد كشف رداء اللعب عن أذرعهم وسيقانهم، وبدت على بعضهم مظاهر جمال القوة والنعمة. ولما ملأ أعينه من هذا المنظر كان أخونا الأشيب قد أتم حديثه. فقال الشيخ: ما لكم تدهشون أن عبد قدماء المصريين عجلا، وقد عبد العرب الأصنام وآمنوا بالهبل الأكبر وبمن دونه حتى بعث الله نبيه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله. وهل أرسل نبي إلا لقوم أولعوا بالحياة حبا، فجعلوا من كل مظهر فيها قدسا، وزين لهم الشيطان عملهم فصدهم عن عبادة الله، فقام النبي بينهم ليهديهم السبيل؛ فمنهم من آمن ومنهم من كفر. ولقد كان فراعنة مصر أشد الناس إلحاحا في الكفر. جاءهم موسى بالهدى والبينات وخر سحرتهم أمامه سجدا فأبى فرعون واستكبر وهم بقتل الرسول، فخرج موسى وقومه من ديارهم وأنجاهم الله بآية منه أن أمر موسى فضرب بعصاه البحر فانفتح أمامه في البحر سرب، وتبعه فرعون وجيشه فابتلعه اليم فكان من المغرقين. ... وهل تظنون أن هؤلاء السكونيين - وألقى من جديد نظرة على اللاعبين - لم يكن يعبد آباؤهم أصناما شرا من أبيس ومن الهبل الأكبر. تلك سنة خلت حين كان العالم في جهله وعمايته.
قال صديقنا الأشيب مبتسما: وهل أتاك يا سيدنا الشيخ نبأ السكسونيين؟ لقد كانوا أيام ربوبية أبيس في الكهوف بين الوحوش. وأيام أبيس كان الكهنة ورجال الدين في مصر يؤمنون بوحدانية الله. فأما آلهة الخير والشر والحرب والسلم، فكانوا رموزا لمعان سامية لا يدركها السواد ما لم يكن لها جسم وكيان. وأظنك ترى مصر الحديثة كمصر القديمة. يوحد رجال الدين ويقدس السواد رموزا لأمانيهم كالعجل القديم.
لكن الشيخ كان قد بلغ جسر إسماعيل، وآن له أن يعبر إلى الكبري الأعمى؛ فألقى علينا السلام مودعا، ورددنا تحيته بأحسن منها.
وكان الذي دعانا إلى الشاي قد لزم الصمت إلى هذه اللحظة. فقال له صديقنا الشاب وكان بآرائه مغرما: ما لك لا تتحفنا برأيك؟
قال الذي دعانا إلى الشاي: علمنا أساتذتنا أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره. فالحكم على أبيس وعبادته وطقوس تلك العبادة يجب له أن نحيط بكيفية إدراك المصريين لهذا العجل إحاطة تامة. وما أحسب واحدا منا هنا يدعي هذه الإحاطة. بل ما أحسب علماء العاديات المصرية أنفسهم - مع كثرة ما بحثوا ونقبوا - على ثقة من أنهم عثروا من النصوص والآثار على ما يكفي ليرسم أمامهم في صورة ناطقة حياة هذه الجمعية التي يعترف الكل اليوم لها بأعظم حظ من الرقي في درجات الحضارة. ولقد قال هؤلاء العلماء أنفسهم بعد الكشف عن قبر توت-عنخ-آمون: إنه واجب تحوير ما كتب حتى اليوم عن العاديات المصرية تحويرا جوهريا وتصحيحه ليقرب من مطابقة الواقع. هذا ولما يعرف كل ما في قبر الملك الشاب من أسرار. ولا يمكن لأحد بعد أن يقطع بأن هذا القبر آخر ما يمكن الكشف عنه من آثار المدنية القديمة العظيمة. ... ولو أنا أتانا اليقين بكشف العلم عن جميع العاديات والآثار المصرية القديمة، وبوقوف العلماء على جميع مخطوطات تلك العصور لما قطع ذلك بأنهم بلغوا غور النفس المصرية من ستة آلاف سنة، ففتحت لهم أبوابها، وساغ لهم تتبع دبيب إحساساتها ومشاعرها، وتقدير أثر الظواهر العالمية على تلك الإحساسات والمشاعر. فإنما يترجم العلماء نصوصا مصرية من اللغة الهيروغليفية القديمة إلى اللغات الحديثة، ويقربون بينها ويستنبطون منها. والمترجم من لغة إلى لغة لا يعكس صورة الأصل، وإنما يعكس صورته هو من خلال هذا الأصل، كما تحيل المرآة اللون إلى الصفرة أو الحمرة على قدر صفاء مائها، وكما تطيل الشخص وتقصره وتعظم بطنه وتعرج سيقانه على قدر استواء سطحها أو تعرجه. هذا ولو كان المكتوب الذي ينقله المترجم معاصرا له. ثم هو بعد تمام الترجمة غير مطمئن إلى أنه أبرز كل ما فهمه في الأصل من معان وصور ومشاعر. ذلك بأن لكل لغة سرا وروحا. فالكلمة الواحدة تصقلها البيئة والعصر فتبعث فيها حياة ذات صور وحدود قد تختلف جد الاختلاف عن مقابلتها في اللغة الأخرى. وقد تختلف جد الاختلاف عن حياتها نفسها في بيئة أخرى أو في عصر آخر. ما بالك والنقل من لغة بائدة من آلاف السنين، والعلماء الناقلون غير واثقين بكم حياة كل لفظ ينقلونه ولا بكيف هذه الحياة. وأهل هذه العصور البائدة يتصورون العوالم والأفلاك غير تصورنا نحن إياها ... وإذا كان المسيحيون قد اختلفوا في تفسير كتب المسيحية فنتج من خلافهم الكثلكة والأرثوذكسية والبروتستانتية وسائر المذاهب؛ وإذا كان المسلمون قد انقسموا فرقا من سنية وشيعة ودروز ومتاولة وغيرهم؛ وإذا كان الفلاسفة الذين يزعمون الأخذ بالواقع تحت الحس والملاحظة قد تشعبت فرقهم، وإذا كان هذا الخلاف كله حاصلا وليس ثمة نقل من لغة إلى لغة، فكيف تستطيع أن تطمئن إلى ما يقال لك: إنه طقوس عبادة أبيس وغيره من آلهة المصريين. وكيف تسلم بأن ربوبية آلهة تلك العصور كانت تزيد على إيمان سواد المسيحيين بالقديسين والقديسات، وسواد المسلمين بالأولياء والصالحين.
وفيما كان صاحب الدعوة إلى الشاي يتم حديثه كانت الشمس قد بدأت تهبط إلى مغيبها. فاقتعد القرص هام أشجار الجزيرة، وألقى على لجة النهر نظرة خطت فيه سطرا من لجين معسجد. وألهب نوافذ المنازل المقابلة بنور انقلب مع انحدار الشمس نارا تشب في مثل هذا الموعد من كل مغرب لتخبو ساعة المغيب. وسرت في الجو طلائع المساء ونذر الليل المخوف الظريف. وسار من سار إلى جانبنا أكثر سكونا ومهابة.
ثم مر أحد باعة اللبن يقود أمامه بقرة صفراء فاقعا لونها تسر الناظرين، ويتبعها عجل أسود تبدو عليه أمارات الحضارة التي يعانيها في أنحاء العاصمة الكبيرة كل يوم لأخذه بالنظام في سيره تجنبا للعجلات المتباينة الأنواع. فلما رآه صديقنا الأشيب استوقف بائع اللبن وسأله عن عمر العجل، فإذا هو خمسة أشهر؛ واستدنى البائع العجل من أمه ليدر ضرعها، وأخذنا العجب لفعلة صديقنا . فنادانا لنحيط بالعجل وأمه ثم قال: لم يولد هذا العجل من ستة آلاف سنة؛ وهو لذلك يجوب طرقات القاهرة التي لم تشهد الفراعنة ولم تنل شرف حكمهم. وأشهد لو أنه ولد من ستة آلاف سنة لكان أبيسا مقدسا. فهذه غرته، وهذا الهلال في جنبه الأيمن، وهذا ذنبه ذو لونين، وله كل مظاهر الجلال؛ فما كان لأحد من رجال الدين أن ينكر قداسته. ولو أنه أوتي من الحظ أن يولد في ذلك العصر القديم أو أن مصر بقيت إلى اليوم في سلطان حضارة الفراعنة وإيمانهم لكان له شأن غير شأنه الذي نرى، ولكان اليوم في مدينة نيوبوليس لا تقع نظراته الساذجة المملوءة حكمة وحذرا على غير العذارى والنسوة المتجردات، ثم لكان له من احترامهن وعبادتهن غير تلك النظرات الشزر التي تناله من مفتونات اليوم فتيات وعجائز. وليدون له في صور وأوضاع تكفل لهن الخصب الذي يرتجين؛ ولتنافسن في ذلك خاضعات لطبعهن البشري. فأبدت كل من محاسنها ما يأخذ بنظر الإله الشاب وينال رعايته، واتجهت إليه نظرات معسولة من صور وأوضاع تكفل لهن الخصب الذي يرتجين، ولتنافس في شفاه شهية عن لؤلؤ رطب يتألف نوره بين حمرتها الملتهبة. ومالت أعناق عالية تبدو من خلال الشعر الأسود المرسل على الأكتاف كما تبدو تباشير الفجر من خلال ظلمة الليل، وامتدت أذرع ناعمة تشتبك أطرافها داعية مستجيبة. وبدت نهود، وماست قدود، وتثنت خصور، وارتجت أرداف، وتحرقت للحركة سيقان، وماج هذا الجمال الثائر في طلب الحياة يحملها على أضلعه. ثم لوقف العجل بذلك في معرض حي لأكمل ما أبدع مصور المرأة مجلوا في أجمل مظهر وأسناه. وما بالك بمعرض متجردات خلعن عذار الحياء وتيارين في أوضاع الخصب الذي تتباهى به الأمم يوم القيامة. ... لكن هذا العجل العزيز لم يؤت حظ القداسة، فلم يولد من ستة آلاف سنة، ولم تبق ربوبية أجداده آية إيمان لهذا الجيل الذي نعيش فيه. وهو بذلك ليس أسوأ من أي مخلوق حظا، فقد يكون من بيننا من آباؤه ملوك ومن لو رأى الحياة من بضع مئات من السنين لكان ملكا. على أن عجلنا أسعد من غيره من العجول. فهو قد حرم القداسة ومعرض المتجردات الحي، لكنه لم يحرم حضارة المدنية وما فيها من لهو أليم وشقاء مستطاب. ثم لعله في شأنه الحاضر أنعم بالا. فهو ينعم بمعاشرة الناس والدواب نهاره، ويتمتع بالوحدة وبمناجاة الطبيعة ليله، وله من حرية الجري والرتع ما لم يكن لجده الأعلى؛ وربما كان له من ذلك ما يعوضه عن مقام أبيس في قصر زريبته، وعن طعامه الفاخر من نظيف البرسيم ونقي التبن والفول، وعن الاحترامات القدسية التي تقيده ولا تفيده. بل لو أن عجلنا هذا كان عجلا فلاحا لما أعوزنا المنطق عن أن نجد له من المزايا على أبيس ما ينفي حقارته إلى جانبه، وما يصدق معه أن كل فرد من المخلوقات أسعد ما يكون ما وجد في نفسه سعادته، وهو أشقى ما يكون ما فاضل بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، وبين النعماء والبأساء ...
فيما كان صديقنا الأشيب يتحدث كان صاحبنا نجي أبيس يمسح العجل ويملقه والسرور يلمع في عينيه. فلما فاض عنه سروره قطع حديث الأشيب وقال لبائع اللبن: بكم تبيعني عجلك هذا؟
وتمت الصفقة ودفع العربون، وكفل بواب سميراميس بائع اللبن الذي رأى الاحتفاظ بالعجل أياما حتى يحل محله «بو» يدر لبن أمه.
قال المشتري وقد التفت نحونا: لأجعلن لهذا العجل عندي قدسا كقدس أجداده. ولأمتعنه من نعيم الحياة ومن احترام الناس بما تمتعوا به.
قال الأشيب: حذار أن تنسى حقه في المتاع ببقرة في كل عام، وإياك أن تتخذ من هذه الأبقار ونسلها تجارة، فيكون ذلك منك تجديفا قد ينالك أوزوريس بعده بضر.
قال صاحب أبيس: أوزوريس إله الخير! فهل تنال آلهة الخير الناس بضر؟! على أني لن أجدف ولن أجعل من صاحبات أبيس تجارة. بل سأنحرها يوم متاعه وسأجعل لحمها وقفا على أحباب أبيس.
سميراميس
تخطينا باب سميراميس إلى البهو الكبير فقابلتنا أضواؤه وبسطه ومناضده منثورة في نظام جمع إلى البهاء والجلال. وتقدمنا الذي دعانا إلى الشاي يتخير لنا مكانا. ووقفت وبجانبي صديقنا الشاب. أما نجي أبيس فتبع الأشيب بضع خطوات كان في خلالها يقلب في الحاضرين نظره. ثم انتظمتنا جميعا مائدة ما كدنا نجلس إليها حتى أقبل علينا صديق حيانا وجلس إلى مائدة تجاورنا مع جماعة من أصدقائه الأوروبيين سيدات وسادة. وجاء الغلام يتلقى أوامرنا. ففيما كان الذي دعانا إلى الشاي يحدثه مال إلي نجي أبيس وسألني: لم دعوا هذا الفندق سميراميس وكان لهم في أسماء آلهة مصر القديمة وملوكها ما يغنيهم عن هذا الاسم الأجنبي؟
فقلت: لعلهم يوم أطلقوا عليه هذا الاسم كانوا يحسبون سميراميس اسما مصريا. فله من الرنين ما لأبيس وإيزيس وأوزوريس وسيرابيس وما إلى أولاء جميعا من الإيس الذي لا نهاية له في الهيروغليفية. وليس يطلب إلى أصحاب الفنادق أن يكونوا نحارير في العلم بأسماء الآلهة الأقدمين. وبحسبهم أن يجمعوا المتشابه في رنته وأن يضيفوه بعضه إلى بعض على أنه مصري ما داموا في مصر. وكأني بك لو وجهت سؤالك إلى مدير هذا الفندق لرأيته مجيبا إياك في لهجة اليقين بأن سميراميس إلهة مصرية أو إله مصري. وربما أطلعك على بعض ما عنده من آثار تؤيد ذلك وتنطق به. وله عذر عن يقينه. فنحن جميعا نميز اللغات بعضها عن بعض بما لكل من رنين، كما نميز الأمم بعضها عن بعض بالألوان والملامح.
فرغ الذي دعانا إلى الشاي من إصدار أوامره. وكان أصحابنا قد أنصتوا لهذا الحديث. فلما أتممت عبارتي قال الأشيب: لو أن أصحاب النزل تحروا يوما أن تكون أسماء نزلهم مصرية لوجب عليهم أن يبحثوا تاريخ بلادنا، ولما كان لهم من وراء بحثهم مغنم. هم إنما يطلقون على فنادقهم أسماء اختصت بها الفنادق في مدن العالم جميعا؛ كي يثير الاسم في نفس قاصدها صورة معينة تحببه إليه وتطمئنه إليها. وهم في ذلك يسيرون سيرة الناس جميعا في التسمية. فكما أن للذكران من الناس أسماء وللإناث أخرى، وكما أن للقطط أسماء وللكلاب أخرى، كذلك للنزل والفنادق أسماء. على أن أسماء النزل لها من المزية أنها عالمية غير قومية ما اختصت بالسائحين الذين يجوبون أقطار الأرض. فبحسب أصحاب هذا الفندق من الشجاعة أنهم خرجوا على الناس في أسماء الفنادق، وأطلقوا عليه اسم سميراميس.
قلت: ولم لا يكون لاسم سميراميس أثر باق على أرض مصر، وقد كانت مصر في ملكها؟
وكان صاحبنا الجالس إلى أصدقائه الأوروبيين سيدات وسادة قد ألقى بسمعه إلينا. وكانت قد بدت عليه علائم الدهشة لهذا الحديث، ولم يخف دهشته عن جلسائه فاستأذنهم كي يسألنا قال: أوليست سميراميس ملكة مصرية أو إلهة مصرية كإيزيس؟
فتبسم الأشيب ضاحكا من قوله وأجابه: لعل أصدقاءنا لا يأبون أن أحدثك بشيء عنها. فهي لم تكن مصرية. لكنها كانت ملكة وإلهة معا. وكان لها من الأثر في الحضارة القديمة ما كان لأكبر الملوك الآلهة المصريين. بل ربما كانت أقوى منهم سلطانا. فقد كانت إلهة الجمال عند الآشوريين. ولعلك لا تنكر يا صديقي ما للجمال على الناس من سلطان. وكانت ثمرة غرام لم يعقده الشرع. فقد عبثت أمها «درسيتو» إلهة البحر بالزهرة إلهة الجمال. فنقمت الزهرة منها عبثها وسلطت عليها شابا أغواها وأولدها طفلة بارعة. فركب «درسيتو» من الهم ما ركبها، ودفعها غضبها إلى أن قتلت الشاب، وتركت الطفلة في الصحاري، وألقت بنفسها في اليم بين الأسماك. ثم حنا على الطفلة جماعة من اليمام أطعمنها إلى أن عثر بها قوم من الرعاة التقطوها ودعوها سميراميس، أي: اليمامة. فشبت فقيرة جميلة حتى تزوجت من «نينوس» كبير ضباط الجيش. وكانت ذات همة دفعت زوجها إلى فتح المدائن والدول. لكن جمال سميراميس سما بها إلى مضجع صاحب عرش آشوريا، فخلعت نينوس عن العرش وصارت للملك زوجا.
هنا بدت على أجمل صديقات جارنا الأوروبيات آيات الإنصات والالتفات. فقد كانت إلى هذا الموضع من الحديث تداعب صاحبها بنظرات معسولة تتجه بها إليه حينا لتلقي بها بعد ذلك على ذراعيها العاريتين وقد جعلت رسغيها على المائدة واعتمدت بخدها على ظاهر يمناها المشتبكة بالأصابع مع اليد اليسرى. ثم تعيد النظرة إلى صاحبها، وكأنما تريد أن ترى في عينيه كيف كان سحره بهذه الأذرع البديعة. واستمر الأشيب في حديثه: على أن سميراميس لم تلبث مع الملك إلا قليلا حتى استكبر الجمال على الملك، فدست على زوجها من قتله، وانفردت بالعرش بعده. فلما استتب لها الأمر شيدت على شاطئ الفرات «بابل» أبهى مدائن العالم في عصرها، وأحاطتها بأسوار وحصون ذات قوة ومنعة. وأنشأت في المدينة أجمل القصور، وغرست فيها الحدائق المعلقة. ثم اتجهت همتها من بعد ذلك للغزو والفتح فأعادت إلى ملكها بلاد ميديا والعرب وأرمينيا والعجم، وكانت كلها قد خلعت النير الذي أخضعها له نينوس، ثم ضمت مصر وليبيا من أفريقيا، وواصلت الغزو في آسيا إلى نهر السند حيث أفل نجمها ولحقتها الهزيمة. وقد خضعت هذه الشعوب جميعا لحكمها مدى اثنتين وأربعين سنة كانت كلها سني نعمة وحضارة. وعلى رأس هذه السنين نازعها ابنها الملك، فنزلت له عنه مختارة، ثم ارتفعت إلى السماء حيث تقيم حتى اليوم بين آلهة الجمال. ... ذلك عهدها. أوليس من حقها وقد سعدت مصر بحكمها أن يكون لاسمها في مصر أثر؟
فرغ الأشيب من حديثه وانقضت فترة شغل صاحب السادة والسيدات الأوروبيات خلالها بعبادة ذراعي صاحبته، وتناول كل منا قطعة من فطير أو حلوى وشرب فنجانه من الشاي. ثم قال نجي أبيس: ألا ترون عجبا أن تكون فترات حكم النساء الأمم زاهرة أبدا تينع فيها الحضارة، وتتجلى فيها أبهى ثمرات الفكر والفن. هذه أيام هاتاسو وكليوباطرة وشجرة الدر كانت في مصر أيام مجد ونعمة. ثم هذا صديقنا قد قص علينا من تاريخ سميراميس ما يجب أن يحفظه التاريخ لسلطان النساء فخر الأبد. ولو أن إنكلترا فاخرت يوما بعهد من عهودها لكان عهد الملكة فكتوريا أبهى عصر مر بها، ثم لوجدت فيمن سبقنها من الملكات أمثال اليصابات من كن للسكسون فخرا وعزا. فكيف ترى يستتب الأمر لهاتيك الملكات وكيف يخضع الرجال لحكمهن؟
قال الذي دعانا إلى الشاي: ولكن لا تنس أن حكم النساء كان ينتهي أبدا بالاضطراب والانحلال إلى أن كان نظام الحكم النيابي، الذي جعل الملك الصالح كالملكة الصالحة بعيدا عن التداخل في شئون الدولة.
قال الأشيب: وأي عجب في هذا كله. إن النساء لا يستوين على عرش أمة إلا بعد أن تبلغ من الحضارة والسؤدد أكبر مبلغ، وبعد أن يهيئ الرجال فيها من أسباب النظام والقوة ما تبعث إليه الملكة التي تخلفهم من عذب روحها وسحر جمالها ما يثير قوى النفس والفكر التي كانت كمينة في النفوس السامية تحت سلطان القسوة. ولعل أشد ما يدعو الرجال للرضا بحكم النساء أنه حكم الجمال. فقل أن كان بين الملكات من لم تكن ذات دل وسحر. وللجمال على الرجال أكبر الأثر. وهذه سميراميس الفتنة الساحرة كانت يوما في غرفة زينتها إذ بلغ سمعها هياج أهل عاصمتها وقصدهم قصرها يحاصرونه ويهاجمونه. فلم تفعل أكثر من أن خرجت إلى شرفة القصر نصف عارية، وقد انتثر شعرها الفاحم حول جسمها الناعم. فلما رآها الثائرون أكبروها وشدت إليها أعينهم وخفتت أصواتهم وأخذهم البهر من كل مكان، ونسوا ما ثاروا له، وانصرفوا وهم أشد أهل الأرض لملكتهم حبا وبها تعلقا ... وظلت صورة إلهة الجمال في شرفة القصر مرتسمة في نفوسهم. ثم فاض عنهم هيامهم، فأقاموا لسميراميس العارية يسترها شعرها تمثالا في بابل يحجون إليه ويجدون فيه ذكر ساعة من أحب ساعات حياتهم إليهم. وهذا الذي صنعوا ينبئ عن عظمة هذا الشعب ورفعة حضارته. فالرجال للجمال أعلى قدرا وأكثر خضوعا كلما كانوا أسمى نفسا وأدق حسا. أولئك يطلبون في الجمال كمال الإنسان مصورا في أحد أفراده. أما الذين تتحرك نفوسهم إلى الأنثى يدفعها بقاء النوع وحده فأولئك إلى البهائم أقرب. ودق الحس وسمو النفس يجعل من أولئك الممتازين أعوانا صادقين للملكة التي تحكمهم. لكن توحش السواد لا يسمو به لدرك هذه المعاني السامية؛ لذلك يعمل الدساسون لإثارة شهوات هذا السواد. وكلما انتطح في الإنسانية كمال الإنسان وحيوانيته كانت الغلبة الأولى للحيوان. ثم يستكن الإنسان الكامل مؤمنا بأن له الغلبة آخر الأمر. وهذا هو سر عدم تعاقب النساء على الحكم برغم ما تمتاز به عصورهن من حضارة بالغة أدواتها من العلم والفن غاية ما يرجو الإنسان من كمال.
كذلك قال الأشيب. وملأ قوله أجمل صديقات جارنا عجبا وتيها، فاعتدل رأسها وانصقلت صفحة جبينها، وأضاء وجهها نور زاد جمالها سحرا، واشتملت نظراتها البهو ومن فيه كأنما هم لسلطان جمالها تبع. على أن عيونها أخذت صديقنا الأشيب بعطف مدل شعر به جليسها، فأطرق إلى الأرض وكأنما بدأت الغيرة يدب إلى نفسه دبيبها. ولم تفت الأشيب هذه البوادر حين التفت بنظراته إلى الجميلة فنمت عيناه عن جيش من المعاني قام بنفسه. لكن صديقنا الشاب لم يمهله في متاعه بهذه العواطف العذبة السائغة، بل اعترضه بقوله: أعجب للرجال كيف يستذلهن النساء. والغريب في أمرهم أنهم يزعمون أن جمال النساء سبب سلطانهن. ولست أذكر في أي كتاب قرأت أن الجمال للرجال ولا نصيب للنساء منه. فذكور الحيوان والطير أجمل من إناثها. أليس الحصان أجمل من الفرس، والثور أجمل من البقرة، والأسد أجمل من اللبؤة، والطاووس الذكر أجمل من الأنثى. وأين لأنثى البلبل صوت البلبل الرخيم. فكيف تبدلت في الناس سنة الطبيعة فكان الجمال من حظ المرأة. ولم لا يكون جمال المرأة في نظر الرجل ضربا من السخف وضعف العقل أملت به على الرجال شهواتهم ثم تعهد النساء بقاء هذا السخف في الرجال باستفزازهن شهواتهم في كل آن.
حولت الجميلة إلى صديقنا الشاب نظرة إشفاق وازدراء. وكان الأشيب مسحورا لا يزال. وقد أراد الذي دعانا إلى الشاي أن يتولى الحديث مع الشاب. لكن الأشيب شعر بما يجب عليه من حماية الجميلة التي عطفت عليه وكل جميلة مثلها، فجمع قواه ووجه إلى الشاب في هدوء وسكينة هذا الحديث: حذار يا صاح لا تندفع. فمن أنبأك أن كل ذكر أجمل من كل أنثى؟ أليس هو نظرك وأنت وثقت به! وهو نظرك كذلك الذي أنبأك بأن الجمال للمرأة لا للرجل؛ فيجب أن تثق به، ولعل الكتاب الذي استخلصت منه حجتك هو بعض كتب شوبنهور، ذلك الفيلسوف الألماني المتطير بالمرأة وبالحياة جميعا. وإنما أملى عليه رأيه في المرأة فرط حبه لصاحبة له وإمعانها في الصد عنه وفي تعذيبه. ولو أنها مدت له حبل الأمل ولم تحرمه، نائلا منها، لكان بالمرأة أكثر رفقا وللحياة أشد حبا، ثم لعرف النعيم والسعادة، ولجعل للزهرة ولسميراميس في قلبه تمثالا يجله ويعبده على غير ما كان يعبد تمثال بوذا البطين الأبله. ولو أن رأي الفيلسوف في جمال الذكر أن من الحيوان كان صحيحا لما جنى ذلك على جمال المرأة ولا حط منه. فقد أهمل الرجل ما جملت به الطبيعة الحيوان من تناسق مظاهر القوة فيه، وعني بتجميل خير ما حبته به الطبيعة إياه من هبة الكلام. فهو بالكلام يشعر ويتغنى ويرجو ويزجر. وهو بالكلام بلبل وطاووس وفهد وأسد. والكلام عنده صورة الحقيقة والخيال جميعا. وجمال المرأة حقيقة وخيال معا. هو شعر وهو موسيقى وهو حس ملموس فيه نعمة الحياة بل الحياة كلها مجتمعة. والرجل بالكلام يتغزل هذا الجمال المشتملة أحشاؤه كمال الإنسان. أما الحيوان فلا يعرف ما الكمال وليس له به عهد؛ ولذلك كان الرجال للجمال أعلى قدرا وأكثر خضوعا كلما كانوا أسمى نفسا وأدق حسا.
فرغ الأشيب من حديثه بعدما زاد الجميلة عليه عطفا. ثم تناول الذي دعا إلى الشاي الحديث من بعده فقال: «عد بنا يا صديقي إلى حديث سميراميس إلهة الجمال عند الآشوريين. فقد ذكرت أنها هجرت نينوس لتكون زوجا للملك. وأنها دست على الملك من قتله لتنفرد بالملك بعده. وأنها برزت للشعب عارية لتبهره. وأن ابنها الذي لا يعرف أحد أباه نازعها الملك آخر أيامها. وليس في كل هذا ما يشهد بعفة الملكة الإلهة. والمستخفات بالعفة من إلهات الجمال لسن أول من عرفت الإنسانية حين أقرت عبادة المرأة. بل سبقهن أبدا من كن ذوات عفة وأمانة، ولم تنحدر الزهرة عند الإغريق إلى تعشق إلهة ورجال عدة اتخذوا من جمالها وجسمها لملذاتهم وشهواتهم متاعا إلا بعد عصر كانت فيه مثال الوفاء. فهل كان للأشوريين قبل سميراميس إلهة قرنت إلى الجمال الوفاء؟»
قال الأشيب: لا تصدق، مضيفنا الكريم، إن الوفاء على ما يفهمه الناس كان يوما بعض فضائل إلهات الجمال . ولئن كانت الأساطير لم تشر إلى صلات زهرة الإغريق بالآلهة والناس قبل خيانتها زوجها هفستوس، فهي قد أشارت إلى ولع سيد الآلهة جوبتير بالزهرة ودلها عليه وانتقامه منها بتزويجها من الإله القبيح الذي لم يكن لها من خيانته بد. وكيف تريد بإلهة الجمال أن تضن بجمالها وفي سجية كل إله أن يهب الناس من مزاياه ما يعينهم على الحياة. وكأني بالأشوريين كانوا أكثر حكمة فلم يقتضوا إلهتهم ما تأباه سجيتها، بل جعلوها ثمرة الهوى ليكون الهوى أول ما تتجمل به من الفضائل.
ازدادت الجميلة إنصاتا للحديث ونمت نظراتها عن الرضا عنه والعطف على قائله. وكأنما دفع ذلك إلى نفس صاحبها ملالا وقلقا زادهما ما كان من انصرافها عنه. فلم يجد لإرضاء غيرته سبيلا إلا أن دعا جلساءه لنزهة على ظهر الماء. وكان الجو رفيقا والنيل أمام الفندق يسيل هادئا مطمئنا. وكان من عدا الجميلة لا يظهر عليهم أنهم يفهمون حديثنا. فأسرعوا إلى تلبية الدعوة ولم تر الجميلة وجها لرفضها. فتركوا مجلسهم بجوارنا بعدما صافحنا مودعا وبعدما زودت الجميلة صديقنا الأشيب بنظرة فيها معنى الأسف، الذي لم يلبث أن تطاير قبل باب الفندق. فقد سمعناها تضحك طربة لنكتة قالها أحد السادة الذين كانوا معها. ولعل هذه النكتة كانت انتقاما منا واستخفافا بأمرنا.
وكان صديقنا الشاب لا يظهر اقتناعا بشيء من حديث الأشيب. وكأنما ذاق من تحكم الجمال فيه مما لم يزل سرا مطويا علينا، ما نقض إيمانه بالمرأة وسلطانها. وكان بالرغم من هذا أطولنا تحديقا بالجميلة إلى حين قيامها. ثم أتبعها بنظراته حتى خرجت. فلما غابت عنه زفر زفرة معناها: ويل لكن، هل إلى خلاص من حكم جمالكن سبيل! ومضت فترة، كنا فيها جميعا صموتا، استعاد الشاب خلالها حكم نفسه ثم قال: ذكرتم أن آباءنا من قدماء المصريين اتخذوا من أبيس للخير والبركة رمزا فجعلوا العجل إلها. فلم لم يتخذ الناس للجمال رمزا من حيوان أو طير يؤلهونه. ولم كانت أفروديت والزهرة وسميراميس وسائر إلهات الجمال نسوة. تالله ما كن ليرقين إلى موضع القداسة لو نظر الرجال إليهن بعين العقل وأخضعوهن لسلطانه.
قال الأشيب: كانت الآلهة جميعا رموزا لمعان هي قوام الحياة. لكن الأقلين منهم كانوا من الطير أو الوحش. أما أكثرهم فكانت لهم أجسام الإنسان ورؤوس الحيوان. وكثيرون كانوا أناسي رؤوسا وأجساما. وقد كان سكان الأولمب في اليونان القديمة رجالا ارتقوا إلى مراتب الألوهية، ثم ارتفعوا آخر حياتهم إلى الجبل المقدس، وأحاطت الأساطير من بعد ذلك مولدهم ومنتهاهم بأبهى الخرافات. على أنك إن استطعت أن تجد للقوة في جسم الأسد رمزا تضع عليه رأس الإنسان لتجمع الحكمة إلى القوة؛ فإنك لن تجد في غير جسم المرأة ورأسها رمزا لأسمى معاني الجمال عند الإنسان.
وهذه الجميلة التي غادرتنا من لحظة والتي نالت من كرم الطبيعة ما لم تحلم سميراميس بأكثر منه لا رمز لها إلا هي. أم ترى أن الذي يقرنه الشعراء إلى جمال المرأة في الظبي أو بقر الوحش، أو غير هذين من الحيوان يمكن أن يكون لجمال المرأة رمزا. تعالت المرأة وجمالها عما يصفون. وهاتيك الإلهات اللاتي عبدن في الماضي واللاتي نزلن من سمائهن في عصرنا هذا الذي أنزل العلم والفن فيه أقدس الأشياء لتكون معنا كن - ولن يزلن - الرمز الأسمى والتمثال الخالد الذي يحتفظ به الرجل في قلبه، ويجد فيه ما يحبب إليه الحياة وخلد الحياة.
ابتسم أصدقاؤنا جميعا لحماسة الأشيب الذي عرفناه أكثرنا هدوءا وسكينة. لكن نظرات الجميلة كانت قد فعلت به فعلها فسحرته عن نفسه، وجعلت منه عابدا متعصبا في عبادته، وقال له نجي أبيس: لكنك يا صديقي لن ترى بين إلهات قدماء المصريين من استخفت بالوفاء، وجعلت من جمالها متاعا للآلهة كافة. ولقد حدثتكم بحديث إيزيس فرأيتم مبلغ وفائها لأخيها وزوجها أوزوريس. قتله أخوه إله الشر تيفون فاستقلت البحر باحثة عن جثته. فلما عثرت بها وعاد تيفون إلى تفريق أجزائها عادت تبحث حتى جمعت الأجزاء الأربعة عشر، ثم حبست نفسها لتعيد إلى إله الخير حياة الخلد. وعملها هذا آية في الوفاء من امرأة، وهو خير مثل لما يجب أن تكون عليه الآلهة. •••
وبدأ الحديث يدور بعد ذلك حول إيزيس. فقال صديقنا الشاب: ألا ترون أن نصنع ما صنعه جيراننا، فنمتطي الماء زمنا نروح فيه عن أنفسنا ونناجي أثناءه إلهة الوفاء والجمال.
ونادى الذي دعانا إلى الشاي غلام الفندق فنقده حسابه. وقمنا إلى نزهتنا فأقلنا قارب وسعنا جميعا. ودار حديثنا حول عبادة إيزيس في مصر وروما واليونان.
خالد أو سبيل اليقين
... ولم يكن في الواحة إلا خالد وأهله، لجأ إليها بعد أن سلخ من عمره سبعين عاما قضى شطرا منها في أعمال الحكومة، وشطرا في المتاجر. أما سنو شبابه فقضاها في القصف والغزل. وكان عيشه في هذه الواحة مثال التقشف والزهد، وكان المحيطون به دائمي الإحساس بشيء من الملال، ولولا كتبه ومكتبته لوقع هو الآخر فيما وقعوا فيه، لكنه اعتزلهم إلا عند الحاجة، وعكف على مكتب له من الخشب الأبيض قديم، يغطيه مشمع أخضر عليه بقع شتى من الحبر، فلا يتركه إلا ليسير تحت أشجار النخيل المنتشرة في الواحة يقرأ آونة ويحدق بالسماء الصافية أخرى.
وكان همه الأكبر من قراءته أن يصل إلى عزاء عن الحياة بعد إذ قضى الحياة ضاحكا من الحياة وما فيها، هازئا بالسرور والألم، ساخرا من الأمل واليأس، معظما للرجل محتقرا للجماعة. وطالما ناوأته الهموم كأنما تريده على التكفير عن ذنب فرط منه لا يعرف ما هو ... ثم تراجعه نفسه القديمة القوية الشابة، فيضحك من نفسه العجوز الخائفة من الموت، المحبة للحياة، الطامعة في العيش المهتمة له وقد كانت تعتبره سخرية وهزوا.
فإذا انقضى النهار ولم يدرك غرضه ولم يتعز عن الحياة تسخط واستشاط، ودخل إلى قومه وكله الغيظ. فإذا دنا منه أحد علا غضبه وتطاير في كل صوب شرره، وأسمع الفضاء المحيط به أنات ألم تقض مضجع من حوله.
وكثيرا ما كان يقول لهم: «غدا أموت ولم أكسب من حياتي شيئا، وتدفنونني وكلكم جذل أن سيرجع إلى حريته، فيترك وحدة الصحراء إلى بهجة المدن، وأبقى أنا هنا وحيدا تحيط بروحي المنفردة أرواح المساء الصامتة، فأكون بينها أشد صمتا ووجلا. وتذهبون أنتم إلى القاهرة وإلى الإسكندرية ترقصون وتطربون، وإذا جن الليل تهيمون. ألا ما أضيع حياتي وما أشد كفرانكم.» فتسكن ثائرته عائشة ابنته ببعض كلمات رقاق ترسل بها كأنها نغمات الكمنجا تسلي العجوز عن بعض همه، فيلمس بيده الناشفة على يد ابنته الشابة اللينة، ويستزيدها ولا هم له إلا أن يسمع رنين صوتها على موجات الهواء. فإذا تخدرت أعصابه بهذه النغمات نادى: «يا باترا» فجاءت الخادمة وهي أرشق ما تكون قواما وأحلى ما تكون نظرة، فوقفت أمامه وبقي هو يحدق بها ويستدنيها منه ... ثم يأخذه بعد ذلك دوار وذهول يستيقظ منه جزعا مناديا ربه، مستغفرا عما سلف، مستعيذا بالآلهة، مستمدا عونهم. ثم يقوم إلى ظل نخلة كبيرة حيث يبقى في شبه الذهول ساعة أو ساعتين.
وكانت عائشة نعم السلوان له في منفاه. وإن الإنسان ليدرك عظيم تضحيتها لأبيها حين يرى إشراق وجهها الطفل الجميل بنور نظراتها المملوءة شبابا وعطفا، وحين ينم قميصها الأبيض الرقيق عن جسمها الخصب وقوامها الممشوق. ويزداد شعورا بعظيم التضحية إذا جلس إليها فسحره حلو حديثها عن نفسه ولعب بفؤاده وعقله. وكم تركت وراءها من ذائب حسرة يوم أعلنت عزمها على اتباع أبيها وهجر المدن ومن فيها. بل لقد تبعها بعض عبادها حتى صدتهم عنها بأن صارحتهم أنها ذاهبة إلى غير عودة، مما بعث إلى نفوسهم اليقين أنهم لن يصلوا إلى يدها. فلما نزلت الواحة ورتبت دارهم فيها اتخذت لباسا للواحة الناسكة أقمصتها البيضاء، فبدت فيها ملكا أرسلته السماء؛ ليبعث الحياة الناضرة إلى جدب الصحراء.
أما «باترا» فكانت فتاة رومية الأصل نشأت في بيت خالد، وماتت أمها في خدمته، فدخل إلى قلبها من حب خالد ومن حب عائشة ما هون على نفسها الانقطاع عن الناس لهما. وكانت في الحادية والعشرين من عمرها لدنة القد، بارزة النهد، عالية العنق ، يونانية الأنف. تنم عيناها الزرقاوان عن رقة وحنان يسبيان. وكان يعينها ويساعد عائشة خادم قديم يبلغ الخمسين؛ ولقد تبعهم لأنه كان موقنا أن لن يجد أسيادا أقل منهم كلفة، كما أنه كان من العجز والكسل على أعظم جانب.
وهؤلاء هم سكان الواحة. ولقد كانوا يحسون فيها بمضاضة العزلة، لولا تشبث خالد بالبقاء بها حتى يموت. ولو أنهم كانوا أكثر عددا لتوزيع الهم عليهم فخف حمله. لكنهم خضعوا أخيرا للقضاء، وخلقوا لأنفسهم عزاء من لا عزاء، وألهمهم حب الحياة جمال الصحراء، أما خالد فظل دائبا على التفكير يريد قبل الموت أن يطمئن إلى ما هو مصيب بعده.
ولم يكن يفاتح في أمره هذا أحدا إلا ما كانت تتبينه عائشة خلال حديثه من شديد لهفه بالإيمان وشوقه إليه. إذ ذاك كانت تجاهد للتخفيف من لوعته ولتقوية ضعفه. لكن مركز الشك عسير يحفه أغلب الأمر الخوف والهلع. والفتاة لا تفهم هذا ولا تستطيع أن تخاف موتا تعجز صورته عن أن تتسرب إلى خيالها الشاب. وما دام خيال الموت بعيدا فالناس لا يرتاعون لما بعد الموت، ولا ينصرفون لشيء انصرافهم لكسب الحاضر وما فيه. وربما أثارت خطوب الحوادث في نفوسهم بعض الضعف أحيانا، ثم سرعان ما ينسون ضعفهم، وسرعان ما تزول آثاره.
وكان من أكبرهم عائشة يومئذ أن تصل لمعرفة دخيلة قلب أبيها. وكم جاهدت تريد أن تقف على الكتب التي كانت تراه دائبا على قراءتها فيحول دون ذلك احتفاظه بها ووضعه إياها في أحرز موضع. وكانت تظن أنها إن وقفت عليها عرفت مسرح أفكاره وأسباب ألمه، فاستطاعت أن تخفف منها وأن تهون على نفسه أمرها.
وأخذها العجب؛ أي سر تحوي هذه الكتب يستطيع أن يفعل هذا الفعل في نفس العجوز الذي كان دائما صديق السرور نصير الفرح؟ أي سم انطبع على صحفها يطير إلى قلبه ويهزه هذا الهز الشنيع. لا بد أن يكون فيها من دواعي القلق شيء جسيم يكدر صفو راحته إلى الحد الذي ترى!
ودفعها عجبها للبحث عنها والحرص على معرفة ما فيها. فرأت أن تستعين في ذلك بباترا التي كانت تلزم خالدا أكثر أوقات يقظته، وتجد من عطفه ما يسمح لها بالتدلل عليه وطلب كل ما تريد من غير أن تخشى رفضا. وعجيب أن هذا المعذب النفس، التائه اللب، الباحث بكل قواه عما وراء الموت، بقي متعلقا بأشياء من اللهو الذي كان فيه من قبل، وبقي لذلك تعلوه القشعريرة حين تلامس يد باترا الناعمة يده الناشفة، ويحتل وجهه الطرب حين يملس على شعرها الذهبي الأملس. وكأنما كان في الوقت ذاته عظيم الخوف من الموت وما بعده، دائم الحيرة فيما بعد الموت. فهو يريد أن يؤمن حتى يكسب ما بعد الحياة، ويريد أن لا يفوته شيء مما في الحياة مخافة أن تكون الحياة آخر متاعه.
ولم تكن باترا تضن على العجوز بعطفها حين تراه في حاجة إليه، كما كانت تزيد في الدل والتمنع كلما رأت الشباب راجعه وملكه. وبين دل باترا وجمالها الفتان وتحت أثر حديث عائشة العذب الساحر من ناحية، وبين ما في كتبه الداعية إلى الزهد المنادية بدناوة الدنيا وباطل زخرفها من الناحية الأخرى، كان الرجل في أعظم الحيرة والوجل.
استعانت عائشة بباترا فأجابت هذه طلبتها وذهبت إلى خالد، فألفته جالسا إلى ظل نخلة يحيط بها الرمل، قد أرسل إليه ريح المساء رطوبة تزيد لذة الجلوس فوقه، مقفلا كتابه محدقا بالفضاء الهائل أمامه. ويطبق جفونه أحيانا كأنما هو في حلم بعيد عميق. فوقفت إلى جانبه من غير أن تبدي حركة تنبهه بها. وظلت محدقة به وظل محدقا بالفضاء زمنا، ثم حانت منه التفاتة فرآها فطوقت ثغره ابتسامة خفيفة وقال: هأنتذي من جديد يا باترا. هأنتذي يا ملكة الأرض. أين كنت كل هذا الزمن يا عزيزتي؟ لم تركتني هكذا منفردا أتطلب ملكا في الفضاء، فيخيل إلي أنه مملوء بالأرواح والشياطين؟ أنت وحدك الملك وأنت إله هذا المكان.
وفيما كان يتكلم جاهد حتى قام بأسرع ما تمكنه قواه الذاهبة، ووقف يملس بيده على شعرها المرسل يتلاعب به الهواء. أما هي فوقفت في قميصها الأبيض لا تبدي حركة ولا تشير بطرف كأنها تمثال مصمت بعثت به السماء؛ ليزين قطوب الواحة الحزينة. فلما رآها كذلك غير من حديثه وجعل يلاطفها ويسألها عما أصابها: ما لك يا باترا؟ ماذا يحزنك؟ ... لم لا تجيبين؟ ... ما لك يا عزيزتي؟ ... خبريني.
لم تجب باترا ولم تتحرك ولم يبد عليها من التغير إلا احمرار وجنتيها ودمعتان جالتا بعينيها ورعشة سريعة نمت عن تأثرها لحال خالد. فلما أعيته الحيلة صاح: حدثيني وإلا فاهجريني.
قال هذا وخر إلى الأرض صعقا كأنه بنيان تداعى فقطعت هي صمتها بالبكاء. ثم انهدت إلى الأرض ووضعت رأسها على ركبتها وجعلت تعول كأنها الطفل. فرجع هو يناجيها ويتودد إليها. وبعد لأي أجابت: إنما أتيت إليك طمعا في أن أنال منك الإذن بمغادرتك. لم يبق في قوس صبري منزع. إن ما أراك عليه من كثرة الفكر وسوء الحال يجعلني أشعر في أعماق قلبي بألم لا أطيق احتماله. وإذا لم يكن في عملي هذا ما يجب علي من الاعتراف بجميلك، فقد أبديت لك عذري عنه فسامحني.
كاد الرجل يجن لما سمع، وفي مآقيه الفانية ترقرقرت دمعة انحدرت على خده، ونم كل وجهه عن ألم عميق. - وكذلك تهجرينني يا باترا بعد إذ ربيتك وأحببتك حب الأب لابنته؟ ... ما أتعسني! هل هذا أجري عما سلف؟! كنت أمام عيني ملكة الوجود وملكة حياتي، وكنت أبدا أحبك وأعزك. أفيكون هذا جزائي منك؟ إن كنت قد صممت على الرحيل فأرجوك الانتظار يوما أو يومين علي أقضي نحبي أسى وأرفع عنك وزر الكفر بالنعمة.
قالت الفتاة: ما إنكارا لجميلك يا سيدي أريد أن أهجرك. لكن نفسي تتألم لأقل ما يصيبك. وقد رأيتك دائم الحزن، مكبا عليه، مسلما نفسك له، أضعاف ما أسلمتها من قبل للمسرة. فكأنك تريد أن تجمع في أقصر وقت أكبر حزن لتكون خالي الدين من هموم العالم وملذاته. وحزن كهذا لا طاقة لفتاة مثلي باحتمال مرآه.
قال خالد: وهل أتيت هذه الساعة لغير شيء إلا أن تخبريني أنك مفارقتنا؟ أحسب أن ثمت سببا آخر. - نعم. وذلك أني أريد أن تكون سعيدا لأقيم معك سعيدة. وأي نفس لا تحب السعادة؟ وأحسب أن في هذه الكتب التي عندك وتخفيها عنا سرا مكنونا هو السم الذي اندس إلى حياتك فأفسدها عليك وعلينا؛ لهذا أريد أن أصل إليها لأطلع سيدتي عائشة عليها. - ما أبلغ خطأكم. هذه كتب لا تنفعكم ولا تضرني. هي ككل الكتب نقرأ ما فيها قطعا للوقت واستعانة على الملال. ولو علمت أنكم تجدون فيها لذة لأعطيتكم إياها. لكنها تزيدكم ملالا وضجرا. وتجعلكم لحياتنا الحاضرة أشد بغضا.
هنا دخلت عائشة وقد سمعت طرف الحديث وعرفت أن باترا قد وصلت للب ما اتفقتا عليه، فرأت أن تشاركها وتتعاون وإياها على انتزاع هذا السلاح الخطر من يد أبيها المسكين. وما كادت تدخل حتى ارتمت إلى أقدامه قائلة: رحمة بنا يا أبت وأسلمنا هذه الكتب! وما دمت تراها لا تنفعنا ولا تضرك فذرنا نشترك معك فيها علنا نجد منها نحن أيضا بعض العزاء عن الوقت وطوله. ورب فتاتين مثل باترا ومثلي تستطيعان بعد ذلك إيصال المسرة إلى نفسك. فاسمح ولك منا أجزل الشكر. - إذا كنتما تلحان إلى هذا الحد فإني مطلعكما عليها جميعا. غير أني لا أرى ما دخل هذه الكتب في سعادتي وفي شقائي. ستجدانها جميعا كتبا قديمة جادت بها خيالات المتكلمين وأبحاث المفكرين في الحياة المستقبلة.
كان الوقت قد أمسى وهبطت كسف الليل تغطي الصحراء وتشتمل الواحة الصغيرة في رداء الظلمة. ففضل خالد أن يقوموا إلى داخل الدار اتقاء طقس الليل وسوء أثره على صحته.
وساروا يتوسط العجوز الفتاتين وهما في اللباس الأبيض ملكان يسريان يحملان على أجنحة من الخيال والوهم هذا الخالد الفاني يريدان نقله من سعير الشك إلى جنة اليقين والشباب. ووجد هو في جوارهما ذكرا حلوا، وسرى إليه من أجسامهما الشابة تيار أنساه شعوره البيضاء وتجاعيد جبينه، وأنساه الكتب والمتكلمين واللاهوت والناسوت ... وبعد لحظة صامتة قضاها ذاهبا في أحلامه قال في بطء وسكون: ما أحلى هواء هذه الساعة. إنه ليبعث للنفس السرور ويشرح الصدر الحزين. إنه شفاء لكل دواعي الشجن. اقتربي مني يا باترا وضعي يدك في يدي. وأنت كذلك يا عائشة. ادنوا مني وحدثاني. ابعثا بنغمات أصواتكما العذبة على أوتار هذا الهواء الرقيق ما يرسل إلى قلبي العجوز بعض ذكرى الشباب الذاهب. ألا تريان في هذا السكون الصامت المحيط بنا، وفي هذه الرمال الفسيحة الممتدة حولنا، وفي عزلتنا الهادئة المنقطعة ما يؤسي قلبي الكليم أدماه الناس بلؤمهم ونفاقهم. ألا ما أحوجني للوحدة والسكون وللطمأنينة والراحة. تكلما يا فتاتي.
وساد بعد كلام خالد صمت ظل زمنا، ثم قالت عائشة: أتذكر يا أبت موت أمي. ما كان أرقها وأحناها. - نعم عائشة أذكره. ولعله بعض السبب في هجرتي المدن والناس. ألا إن نعمة النسيان لأعظم نعمة. لو بقي قلبي فيما كان فيه من هم يوم فارقتني ومد لي مع ذلك في الحياة إلى اليوم لما رأيتما لعيني دمعة ترقأ، ولظل قلبي دائم الخفقان حتى يصيبه الوقوف الأخير. لكن سير الوقت يأسو الألم وتقادم العهد يبرد اللوعة. هما مرهم الجرح وطبه. هما دواء وشفاء. يقذفان بنا إلى المستقبل ويحجبان عن عيوننا الماضي. وفي هذه اللحظة الذاهبة الباقية التي نسميها الحاضر يتركان لنا الذكرى عزاء وتعلة. نعم أذكر موتها يا عائشة. وموتها هو الذي أخرجني من نعمتي وسعادتي وجعلني أهيم بما بعد الموت. ولو أنها صبرت لنموت معا لبقيت فيما كنت فيه من قبل من سعادة وعماية ... ولكنها ماتت وتركتني فريسة للشك واليأس. وهأنذا اليوم أتقلب على أشواكهما وكلي الأمل في أن يأتيني اليقين. ولعلي أجد فيه ما يردها إلي بعد موتي لنستعيد من جديد ذاهب سعادتنا.
بلغوا الدار ودخل العجوز إلى مخدعه وجلس على سريره. وكأن هواء المساء وجهد الحديث قد أشعراه بالحاجة إلى الراحة والسكون، أو هي ذكرى زوجته في العالم الآخر قد أشعرته الحاجة إلى الوحدة. فأهدى الفتاتين التحية وطلب إليهما أن يتركاه، ونادى - كعادته - بالخادم حمزة ليكون على مقربة منه الليل كله. فلما كان الصباح ذهب حمزة فأيقظ سيدته عائشة وقال لها: لقد قضى سيدي ليلة مملوءة بالأحلام. وكثيرا ما سمعته في أحلامه يذكر اسم سيدتي المرحومة أمك. ولما تبدت نجمة الصبح من خلال النافذة انقطعت أحلامه، وبقي ساعة مستغرقا في نوم عميق. ثم هزت جسمه رعشة فتح معها عينيه ونادى باسمك. وبعد فترة كرر النداء. فرأيت أن أدعوك إليه.
قامت عائشة من مضجعها وبها أثر الكرى، وليس عليها سوى قميص النوم، فذهبت إلى غرفة أبيها فإذا به في مرقده وعيناه مطبقتان.
فلما كانت إلى جانبه أمسكت بيده ففتح عينيه وحدق بها ثم بالنافذة ثم قال: عمي صباحا يا عائشة. - نعمت يا أبت وسعدت. كيف قضيت ليلتك؟ - قضيتها على ما أحب. قضيتها مع الخيالات الذاهبة وكأنها تناديني إليها. وكم مر بي طيف أمك، وكلما أردت أن أمسك بها انفلتت من يدي ووقفت بعيدا ثم قالت: «تعال إلينا فدارنا أحسن من داركم.» ولكأنني أحس في نفسي شوقا للحاق بها في عالم لم يبق عندي بعد هذه الليلة خيال شك في وجوده ... وأين باترا؟ - إنها لا تزال نائمة مهدودة بعد إذ أضناها بالأمس همك. - ألا تفتحين هذه النافذة لعل نسيم الصباح يبعث لنا ما ينعش الروح ويجدد القوة الذاهبة. - أخشى أن يكون النسيم باردا فلا يكون أثره عليك على ما تحب ... - ذريني من أثره ومما أحب وما لا أحب. لي بقية ضئيلة في هذه الحياة. أفلا أمتع نفسي منها ولو بنسيم الصباح. افتحي. افتحي.
فتحت عائشة النافذة ووقفت لحظة تحدق في الخارج بالنخيل وبالعشب وبرمال الصحراء بعدهما. وتموج النسيم هادئا يدخل الغرفة وينعش جسمها، ويبعث إلى وجناتها وردها. وأرسل قرص الشمس - وهو لا يزال عند الأفق - أشعته على قميصها ألصقه النسيم بها فأظهر خطوط جسمها. وأنعش النور والنسيم خالدا فجلس وحدق بابنته معجبا بتمثال الشباب أمامه. ولفظ اسمها بصوت خافت فتلفتت متمهلة، ونظرت إليه بعيونها الواسعة الدعجاء. فلما ملأ العجوز منها عينه التي لا تشبع من النظر لكل جميل قال: ألا لا حياة بعد ذهاب الشباب. - وكيف تجد النسيم يا والدي؟
لم يجب العجوز، فذهبت ابنته إليه وجلست إلى جانبه، وجعلت تجاذبه الحديث. وفيما هما كذلك دخلت باترا وعليها قميص لونه لون السماء وعيونها الزرقاء الطفلة وثغرها الباسم عن لؤلؤ أسنانها وخدودها المتوردة وجبينها الوضاح وكل وجودها ينادي: لنرقص جذلا بمطلع النهار والنور.
وجلس الشيخ والفتاتان زمنا كان فيه مطمئن النفس هادئا. لكنه كان مع ذلك مثقل الرأس لا يبرح النوم يساوره، كأنما قضى ليله في نصب ولغوب. فلما رأت عائشة ذلك منه استأذنته، وانسحبت وتبعتها باترا، وعاد خالد إلى مضجعه، وما لبث أن أطبق الكرى أجفانه من جديد.
وذهبت الفتاتان إلى بعض أزهار غرسها حمزة فجمعتا منها باقة نسقتاها. فلما انقضى ضحى النهار رجعتا إلى الدار جذلتين، ثم دلفتا إلى مخدع الشيخ فإذا هو قد استوى على سريره واتخذ من وسادته متكأ، وتلقاهما بابتسامة مطمئنة. فلما قدمتا له باقة الزهر قال: أعجز عن شكركما على ما صنعتما. لقد أبدعتما طبا لشيخ أجهده الزمان. والآن أبسم معكما ومع هذا النرجس الضاحك والورد البهيج. ألا ما أحلى الزهر يبعث النسيم شذاه فيعطر ما حوله من الأرجاء. وإن طيب الزهر ليضاعف في النفس الحياة ويهز بالسرور القلب والفؤاد.
قالت عائشة: لعل ما نلته من سنة قد عوض عليك أرق ليلك يا أبي.
قال خالد: ما أرقت يا ابنتي طول ليلي. وهل يأرق من يصحبه أحبة أهل شبابه؟ على أني كنت بهذه السنة أسعد حظا. والآن فإليك مفتاح صندوق الكتب. اصنعي بها ما شئت. لم يبق لي بها من حاجة. مثل الذين يبتغون الإيمان طي الكتب كالذين يبتغون السعادة عند الناس. إيماننا كسعادتنا في أنفسنا. هما في هذا الماضي الذي يزعمون أنه لن يعود وهو عائد لا محالة. إن الذين يموتون قبلنا ينتظروننا. ولقد جلست طوال هذه السنة إلى أمك وإلى أم باترا. ما أحلاهما في ثياب الآخرة. خلع عليهما شباب ذلك العالم المنير جمالا ليس يعدله جمال. وهل في الآخرة غير الشباب وجماله؟ وهل يفنى الشباب على هذه الأرض إلا ليتجدد هناك. هذا ما رأيته معهما رأي العين. فأما هذه الكتب وما فيها فأوهام من لا يعرف من الحقيقة شيئا.
قال العجوز هذا القول ثم أضاء وجهه نور لألاء بهر الفتاتين. ذلك هو الإيمان الذي دخل إلى قلبه. ومن يومئذ برئ من الاضطراب ومن نوباته، وانتشر في أرجاء نفسه سرور راض مطمئن، وظل ينتظر اليوم الذي يعود فيه إلى شباب الآخرة بعد أن ودع شباب الدنيا موقنا أن قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
وعكف على العبادة، وتوجه بكل قلبه لله ذي الجلال. وفيما هو يوما في صلاته دخلت عليه عائشة فألفته خاشعا تجود عيناه بالدمع. فلما سلم واستغفر التفت إليها فرآها دهشة فقال: لا عليك يا ابنتي. إنها دموع التوبة والمغفرة. وهي أشهى لذائذ الحياة. هي طهر الضمير ولين النفس القاسية. وهي ترياق آثامنا جميعا. معها تسيل الذنوب التي كانت عالقة بنا تؤلمنا وتعذبنا، وتنجاب الظلمات التي كانت تغشي على بصائرنا فتحجب عنا نور الله وحياته، فافرحي يا فتاة لهذه الدموع ولا تحزني.
وسكت الرجل هنيهة وهو في مجلسه على مصلاه. ثم أشرق جبينه واستنار ما حوله، ورأت عائشة كأن ملائكة الرحمة ترفرف عليه بأجنحة من ضياء. ولم تك إلا لحظة حتى مال إلى جنبه الأيمن. فأسرعت ابنته إليه وأعانته حتى استوى على ظهره. وبصرت به فإذا هو قد رفع سبابته اليمنى، وهمست شفاهه بكلمة التوحيد وأغمض عينيه. •••
وبكت عائشة وباترا، ثم أعانهم حمزة على غسله وتكفينه ودفنه. وهو لا يزال إلى اليوم في واحته يزوره الصالحون. فأما الفتاتان فعادتا بعد ذلك إلى القاهرة وإلى الإسكندرية تضحكان وتطربان، وإذا جن الليل تهيمان. وطلقتا الكتب على أمل أن تلهما الإيمان ساعة الموت، فيضيء النور وجههما وتموتان قديستين.
انتقام من الجمود
انعقدت المحكمة لجلسة الجنايات، ونظرت في عدة قضايا صغيرة حكمت في بعضها وأجلت البعض الآخر لاستيفاء التحقيق. ثم جاء دور آخر قضية في الجلسة.
ظهرت إذ ذاك في صندوق المتهمين فتاة في الثامنة عشرة من عمرها، تظهر من فوق برقعها عيون نجل قد قوست فوقها حواجب بديعة، وتجتلي العين من خلال هذا الحجاب الشفاف أنفا حادا وشفاها رقاقا. وانسدلت من رأسها على ذراعيها حبرتها اللامعة - جاءت بخطوات ثابتة فدخلت وراء الحديد وجلست، فحولت نظرها إلى جهة غرفة المداولة حتى تتقي بذلك أنظار الناس التي اتجهت إليها.
سألها القاضي عن اسمها وسنها وعما لو كانت ارتكبت الجريمة المنسوبة إليها من قتل عبد العزيز حسنين. فأجابت عن ذلك إيجابا. وحينئذ أخذت النيابة تسرد الوقائع والأقوال. واستنادا إلى ذلك وإلى اعتراف المتهمة طلبت من المحكمة أن تطبق على الست عائشة أحمد مادة القتل مع سبق الإصرار.
قام المدافع عن عائشة بعد ذلك فجعل يشرح موقفها والظروف التي أحاطت بها، وطلب من المحكمة أن تبرأ موكلته وأن تراعي كل هذه الظروف المخففة، وأضاف: «والرحمة فوق العدل.»
في كل هاته الأثناء كانت الفتاة وراء الحديد ثابتة النظرات، لا يظهر عليها جزع ولا تهزها الأقوال ولا يأخذها التأثر. ومن حين إلى حين كان يبين عليها أنها غائبة عن كل ما يدور في الجلسة فتحدق بالسقف وتستسلم لشيء يهجس في نفسها. وأخيرا سألها القاضي السؤال الذي يلقيه على كل متهم ليستكمل رسميات الدعوى: إن كان عندها أقوال تدافع بها عن نفسها.
وقفت عائشة فألقت فوق أكتافها حبرتها، وحسرت عن وجهها برقعها وقالت: إنني يا سيدي القاضي أريد أن أدافع عن نفسي لا حبا في الحياة والبقاء، فإنني ارتكبت جريمتي التي اعترفت وأعترف بها لأجعلها مقدمة لموتي أنا الأخرى بعد إذ سئمت العيش، واستولى علي التقزز من الناس. ... من سنة مضت عرفت عبد العزيز حسنين؛ لأننا كنا نسكن في بيت واحد، وكان يصادفني كثيرا خارجة من البيت أو داخلة إليه، فيفسح لي الطريق ويبسم لي أحيانا. وبعد أن تعود كل واحد منا رؤية صاحبه كنت أرد له التحيات التي يقدمها لي. ثم جعلنا إذا سرنا في طريق نسير جنبا لجنب ونتحادث كما يتحادث صديقان حقيقة، فإذا ما افترقنا تهادينا التحية وذهب كل منا إلى حيث يريد.
أعجبتني منه يومئذ صراحته في القول مع شديد أدبه واحترامه لمخاطبه. وأدخل إلى نفسي الثقة به أنه كان يصرح لي أحيانا بما يحصل له وما يدور في نفسه. وصرت أنا الأخرى أسر إليه ما لا أطلع عليه أهلي الأقربين.
اتفق مرة أن سافر أبواي إلى الريف وخرج إخوتي في صبيحة الجمعة على أن لا يعودا إلا في المساء، وبقي البيت لا يؤنسني فيه إلا الخادمة المشتغلة بتدبير أمرنا. فقلت: أخرج أنا الأخرى لعلي أجد في الشوارع وفي زجاج الدكاكين ما أصرف فيه قسما من وقتي. ونزلت فإذا عبد العزيز عند الباب واقفا وعليه أثر الحيرة. فلما تهادينا تحيات الصباح وسألته عن أمره أخبرني أنه يريد أن يخرج ولكن لا يعرف إلى أين. وما كاد يعلم أني في الموقف عينه حتى سألني إذا كنت لا أجد غضاضة في أن يصحبني إلى حديقة الجزيرة.
كنا إذ ذاك في أوائل الربيع والأشجار يملأ عطر أزهارها كل الأماكن الخلوية. فأجبته إلى ما طلب ونفسي ملأى بالسرور. كما أن حلاوة حديثه وجمال نفسه جعلاني أصحبه وكلي ابتهاج وبشر.
دخلنا الحديقة وجعلنا نطوف في طرقاتها، وبإحساس لم أفهمه وأحسبه هو الآخر لم يفهمه جعلنا نقصد الأطراف الخالية من جوانبها حتى وصلنا في ركن بعيد إلى شجرة كبيرة امتد ظلها على الحشيش تحتها. ومن خلال سور الحديقة جعلنا نرقب العربات القليلة التي تمر في الشارع، ونحد بصرنا أحيانا فيقع على زجاج النوافذ القائمة على الضفة المقابلة من النهر وقد ألهبه شعاع الشمس نورا.
وندير رأسنا فتتقابل نظراتنا فأحس كأن في عينيه معنى لم أكن أعرفه من قبل أو كأنهما تكنان سحرا، نفذ به إلى قلبي - وكأنه أحس هو الآخر بمثل ما أحسست فلم نتبادل كلمة، بل قمنا ساعة رأينا الشمس تنحدر وراء الأشجار، فرجعنا إلى دارنا وافترقنا عند بابها إذ ذهب هو لبعض أمره.
من ذلك اليوم تغيرت معرفتنا الأولى، ومن ذلك اليوم جاهدت أن لا أراه، وجعل هو الآخر يتجنب ما استطاع مقابلتي.
مر بعد ذلك زمن ولم نتقابل فيه إلا مرة واحدة على السلم ولم نتبادل تحية ولا كلمة.
ثم رأيت أمي تحوم في كلامها معي حول موضوع زواجي بشخص لا أرى ضرورة لتسميته الآن، وكل ما أقوله عنه أني لم أعرفه ولم أره من قبل، ولكن تبين لي من إلحاح أمي أن لأبي مصلحة في هذا الزواج. فعملت جهدي حتى تعرفت بعض أمره فإذا هو شخص أرى عارا أن ينتسب أبنائي له. وصرت كلما ألحت أمي ازددت منه اشمئزازا. فلما رأيت أن قد كاد يقرر أبي أمر زواجي به نهائيا بلغ بي اليأس أقصى حدوده.
حينذاك أخذت بنفسي رغبة شديدة متحكمة أن أرى عبد العزيز بعد ثلاثة أشهر من زمن التهاجر بين شخصينا، وإن لم يغب عن بالي يوما ذكره.
كنت أعلم أنه ساعة الظهر يتناول طعام الغداء في الدار وحده. فصممت على أن أنزل إليه في تلك الساعة أندب له حظي علي أجد في كلمة منه عزاء. وزادني تمسكا بعزمي أني ساعة خرجت من باب مسكننا رأيت خادمه نازلا ليشتري لا شك بعض الشيء مما يخص البيت. لكنني شعرت بقشعريرة لبستني ساعة وقفت على بابهم، ولم أستطع حراكا. فلما عاودني سكوني ترددت في أن أدخل أو أرجع أدراجي. ففيما أنا في ترددي انفتح الباب وظهر أمامي عبد العزيز.
عرتني رعشة من جديد، وتولاني خجل شديد. لكني لم أستطع أن أمنع نفسي عن أن ألقي بكلي بين يديه باكية منتحبة.
فأقفل الباب وأخذني إلى غرفته وأجلسني إلى جانبه، وجعل يلاطفني حتى هدأ روعي فرفعت رأسي أنظر إليه فإذا عيناه هو الآخر مغرورقتان بالدموع، وأردت أن أقوم فإذا هو ممسك بيدي مسكة لا أنسى أثرها ساعة أحسست بها حتى أموت.
قصصت عليه قصتي؛ فجعل يهدئ من نفسي ويقول لي: إن ذلك الشخص الذي يريده أبواي متى تزوج صار شخصا عاقلا. لكني لم أقتنع، ورأيت من عينيه أنه يقول غير ما في قلبه.
تعددت مقابلاتنا بعد ذلك، وكل مرة أبث له ويبث لي من كامن ما في نفسينا حتى جاءت الساعة التي صار زواجي فيها بهذا الشخص أمرا محتوما. هنالك انهدمت صروح نفسي، ورحت لعبد العزيز أكرر له الشكوى ، وأبكي بكاء الطفل؛ فضمني إلى صدره وقال: هل تقبلين يا عائشة أن تكوني زوجا لي؟
وما كاد ينطق بكلمته حتى تركت نفسي بين يديه ولا أدري بأي لسان أشكره. وتركت له من تلك الساعة تصريف عناني.
وكنت أعتقد أن الزواج الرسمي بالمأذون والشهود كل قيمته أنه يذيع أمر الصلة بين شخصين صلة صمما إذاعتها فيما بعد؛ لذلك عددت نفسي من تلك الساعة زوجا لعبد العزيز، وأضفت إلى حبي الأول حبا جديدا، وأسلمته حياتي وحريتي وشرفي، كما اعتقدت أني أخذت منه مقدار ما أعطيته من نفسي. وجاهدت بعد ذلك حتى أنزلت أبوي عن رأيهما، وطلبت إليه أن نعلن صلتنا للناس فنقيم عقد الزواج.
سافر فأخبر أبويه بما يريد. وأراد أن يقنعهما فوقفا في وجهه وأبيا عليه غرضه. فلما رجع إلي وبلغني ذلك قلت له: إنني يا عبد العزيز راضية أن أكون معك في أي عيش ترضاه. أنا زوجك وأنت زوجي؛ فإذا لم يقبل أبواك ذلك فإنا نعلنه بالرغم من كل شيء أو نبقيه حتى يرضيا. ثم تركته بعد ذلك يفكر في أمره.
لكن ما هدده به أبواه من اجتنابه والانفصال عنه أخافه وراعه. ورأيته ابتدأ يتردد في أن نتم هذا العقد. وكلما تعاقبت الأيام ظهر عليه أثر التصميم على ذلك، وإن بان لي من نحوله وتعبه أنه يجاهد نفسه. وفي اليوم الذي تيقنت فيه أني حامل جاءتني منه ورقة يخبرني فيها أنه مع شديد الأسف مضطر لقطع كل علائقه معي.
هنا ضاع رشدي وفقدت صوابي. تلفت حولي فإذا الجمعية بقوانينها تركتني أنوء تحت أحمال العار والألم، في حين يتمتع شريكي بحريته وشرفه. وهذا الموجود الحي الذي أحمله في أحشائي سيخرج يوما على الأرض فلا يعرف الناس له أبا. وحيث سرت يرمقني أمثاله بعين الاحتقار والامتهان.
لم أجرم في كل ما عملت ولم آت ذنبا. ومع براءتي سبب لي عبد العزيز كل هذه المصائب.
حينذاك انقلب كل حب في نفسي له بغضا، وصممت على الانتقام بعزيمة صممت بها من قبل على أن أعيش معه. وبعد هذا التصميم بأسبوع قتلته. وإنما انتقمت في شخصه من جمود الآباء.
ها ما عندي قلته وخففت بذلك عن نفسي أثقالا أحملها. وفي أيديكم يا سيدي القاضي حياتي فاحكموا فيها ...
ثم خلت المحكمة للمداولة وأجلت النطق بالحكم أسبوعا.
تذكارات الطفولة (1)
في الكتاب
ما أنس لا أنس يوم العلقة المليحة. أذكرها اليوم وقد مضت عليها سنون فتعروني هزة الخوف. كنا إذ ذاك يوم السوق، وكان من عادتي أن أحضر لسيدنا نصف بريزة من أبي كل سوق. فلما أصبحنا ذلك اليوم وأردت مقابلة والدي علمت أنه نائم. فألححت وبكيت وصحت وصرخت حتى استيقظ من شدة ما أحدثت من الجلبة. فخرج يسأل عن الأمر؛ فلما علمه غضب مني وأمسك بأذني وضربني كفا، وطردني ولم يعطني حتى ولا قرش السوق. فذهبت إلى الكتاب بعد إذ كفكفت أمي دمعي وأعطتني قطعة من السكر لتسكتني. ولما وصلت نظر سيدنا إلي نظرة الآمل. ولكنما خيب كل ظنونه أني لم أضع يدي في جيبي. فتعلل وسأل عن سبب تأخري. ولما أخبرته استشاط غضبا؛ لأنه كان ناويا - كما علمت فيما بعد - أن يشتري بردعة لحمارته من السوق. وأنذرني إن لم أحفظ لوحي قبل الإفطار أوراني شغلي. وفعلا لم أحفظ لضيق الوقت. فنادى بعلج من أولاد المكتب، فدنا إلي وقرص بيديه رجلي فوق كتفه، وأمسك سيدنا بعصا من جريد وقام على أطراف أظافره ونزل ضربا. - آه! ... أنا في عرضك يا سيدنا. أنا في طولك يا سيدنا. وحياة أبوك يا سيدنا ... لكن ذلك كله لا ينفع. لقد أضعت عليه أمله، ولم يعد قادرا على أن يشتري البردعة. وهذا العلج العنيف ممسك بكل قوته. والأولاد من حولي كلهم ينظرون إلي ولا تدمع لهم عين رحمة بي. ورأسي مطروح على الأرض أقلبه من شدة الألم فينال التراب وجهي. وبقيت كذلك حتى مر رجل بالباب، فدخل وشفع في وقبل سيدنا الشفاعة عن ذنبي.
ذهبت إلى الدار باكيا، وسألني أبي عن سبب بكاي فأخبرته. فلما رجعنا بعد الإفطار رأيت عيون سيدنا لا تزال حمراء من الغيظ، ورأيت الأولاد ينظرون إلي باسمين ابتسامة الشماتة. ما أقسى قلب الإنسان وما أشده سوادا! وجاري العزيز الذي يخرج معي كل يوم لصيد السمك يقول لي: «أكلت المليحة يا عم. علشان ما تبقاش تخطف الزق.» سبب جديد جعلني أستحق في نظره هذا العقاب. ولا بد أن يكون هناك سبب مثله عند كل واحد من الآخرين.
ومضى زمن ونحن جلوس (نحفظ) الماضي. ثم إذا أبي جاء وعليه مظهر الغضب، فخفت أن يكن ذلك لعقاب سيحل بي. لكنه ما كاد يقف حتى قال لسيدنا كلمات جعلته يرتجف. وزاد أبي في القول. فلما رأيت ذلك علمت أنه قد حل بي هوان كبير، وعزت علي نفسي فبكيت. ثم إذا جاري بكى.
وخرج أبي فسمعت هزة في المكتب معناها انتصار الجماعة على الفرد. ونظر الكل إلى الفقيه نظرة حقد وكراهية، وكأنما تذكر كل منهم يوما كان له مثل يومي أو أشد. وأصبحت أنا وقد اعتقدوا انتصاري موضع الاحترام منهم جميعا.
ولما خرجنا ساعة الظهر للغداء التفوا حولي، وجعلوا يظهرون من عطفهم علي، وحنقهم على سيدنا ما أنساني لؤمهم ونظراتهم المملوءة ازدراء وتحقيرا.
هذه روح الجماعات. يعبدون من غلب ما دام فوزه باقيا. فإذا ساء طالعه وفاز عليه غيره التفوا حول الفائز الجديد وقدسوه. وهكذا يبقون ما دام فائزا.
ورجعنا اليوم التالي ورجع سيدنا. وكان معي رغيفان مخبوزان لا تزال رائحتهما من أزكى ما ينعش الأنف. فناداني إليه وعاتبني بلطف، وبلطف تناول مني رغيفا. ولما تركته التف حولي الأولاد يملقونني، وتلهى عنهم الفقيه بتناول الرغيف. ومضى الوقت ولم أحفظ لوحي، فجعل هو يقرؤه أمامي على سبيل تذكيري، وأخيرا قرر أني حافظ كأحسن ما يريد. وقمت منتصرا.
وأنساني لطف اليوم ما كان منه بالأمس، وتوسلت لأبي يوم السوق الذي جاء بعد ذلك، فدفع لي نصف البريزة دفعتها لسيدنا.
تذكارات الطفولة (2)
زيارة المفتش
كنت أيامها تلميذا في السنة الأولى الابتدائية في مدرسة ... وكان ... مفتشا في نظارة المعارف. وكان درجي موضوعا على مقربة من الحائط. وفي الحائط منور مرتفع يطل على حارة وراء المدرسة. وكنا في الحصة الأخيرة وعندنا الشيخ ... معلم القرآن.
البعيد عن العين بعيد عن الخاطر؛ لهذا كثيرا ما نفعني بعد درجي عن كرسي المعلم؛ لأنه أبعدني بذلك بعض الشيء عن عصاه، وخصوصا عن عصا الشيخ ... معلم القرآن والخط والمطالعة. فكم كان يدور على الذين عنده! وكم كانت تنال رقابهم وأيديهم عصاه الرفيعة الشنيعة! بل كم نالتني أنا أيضا وكم استثارت مني أنات وآهات صامتة يكظمها في صدري الخوف من المزيد.
كنا في الحصة الأخيرة وعندنا الشيخ معلم القرآن. وبينما نحن نعد اللحظات الباقية على فكاكنا من أسر الدرس والمدرسة، إذا المفتش دخل يتبعه الناظر وهو يسير وراءه مطأطئ الرأس، فقمنا جميعا ورفعنا أيدينا إلى جباهنا علامة الاحترام والخضوع، وبقينا كذلك وقد ثبتت عيوننا إلى جهة الخواجة المفتش وإلى جهة الناظر.
ولما رأينا ما هو عليه من سوء الحال اضطربت مفاصلنا، وارتعشت أرجلنا وارتعدت فرائصنا. ونظرت إلى المعلم فإذا لونه قد غاض ودمه قد هرب ولا يكاد يمسك نفسه واقفا إلا رغما. وأجال المفتش في الغرفة نظرات مملوءة سطوة وشدة. ثم أمرنا بالجلوس فقعدنا وصففنا أيدينا على صدورنا، ولما كانت يداي ملوثتين بالحبر جاهدت لأسترهما حتى لا يبين شيء منهما.
وبعد برهة سار المفتش بخطى واسعة حتى وصل إلى درجي، ثم صعد فوقه ووضع يده على أرضية المنور واستردها فإذا عليها تراب. هناك وضع أصابعه الملوثة على مقربة من عين الناظر ورمقه بشيء من الاستهانة والاحتقار. وتأهب للخروج فقمنا من جديد وأخذنا التعظيم اللازم. وتبعه الناظر مطأطئا رأسه صغيرا. ورجع الفراش مبشرا المعلم بأن المفتش خرج مباشرة وركب في العربة التي جاءت به وسار. فجاء الشيخ عندي وتخيل المفتش الواقف وما جاء به من التراب، وخيل له أني أنا المسئول عن ذلك فابتدأ يشتمني. وأخيرا طلب إلي أن أريه يدي. فلما رآهما ملوثتين هرول إلى درجه، واستخرج منه العصا التي كان خبأها حال وجود المفتش ونزل علي بها ضربا ينال أكتافي وظهري ورأسي من غير حساب. فلما بلغ بي الألم أشده صحت باكيا منتحبا. وصادف ذلك مرور الناظر فدخل على الصياح، وأخذته الشفقة حين رآني والتلاميذ من حولي في هرج خفي يتغامزون.
ولما وقف الشيخ حين دخول الناظر حركة الضرب، ووقف التلاميذ احتراما، ورفعوا أيديهم إلى جباههم، رفعت أنا الآخر يدي إلى جبيني وأديت كل الرسوم اللازمة بالرغم من دموعي. فجاء إلي الناظر وبحركة لطيفة أخرجني من أمام درجي وملس على أكتافي، وكفكف عبرتي، وطلب إلي أن أكف عن البكاء، ولا أنسى نظرات اللوم والتأنيب التي توجه بها إلى الشيخ. وكأنه أحس معي بمرارة الإهانة على النفس، سواء كان صاحبها طفلا أو رجلا؛ فعز عليه أن أهان.
وسارت الأيام بعد ذلك والمفتشون يتعاقب مجيئهم للمدرسة، ولكن لا يعبأون بالصعود فوق درجي؛ لهذا لم يبق من سبب جدي يحمل الشيخ معلم القرآن على ضربي. وكأنه حين نظر إليه الناظر معنفا شعر بفظاعة جرمه الأول، وربما أراد أن يكفر عنه بالخروج على طبيعته الفظة ومعاملة الأولاد باللطف والحسنى.
في هذه السنة حيث كثرت زيارات المفتشين أذكر أن النتيجة العامة للمدرسة كانت أقل جمالا منها في السنين التي قبلها، واتخذت النظارة هذا سببا لنقل الناظر إلى وظيفة مدرس بمدرسة أخرى مدعية عليه الإهمال، وإن كان هو بعينه الذي شكرته قبل ذلك مرات على حسن النتيجة.
ساعة واحدة
مع جثة محبوب ذاهب
توفيت حسناء في الثامنة عشرة تحت يد الطبيب حينما كان يقاسي معها آلام استخراج الجنين من الرحم. توفيت ولم يعرف المرض إليها سبيلا إلا سويعات من زمان. وقد كانت غريبة عن الديار ليس معها في منزلها إلا أمها وخادمة صغيرة في السن وزوج نصف. وتوفيت مقتبل الليل فلم يعرف أحد من أهل المنازل المجاورة شيئا من أمرها ساعة الوفاة. وكلما استطاعه الزوج أن يجيء بقارئة تقرأ القرآن؛ لتشيع بآيه الطاهرة تلك الروح الشابة في هجرتها إلى السماء.
وقد لزمتها أمها من شهرين تنتظر معها أن يحبوها القدر حفيدا أو حفيدة تمد من أملها في الحياة، وتحقق لها ما تطمع فيه من خلود. وهي كل تلك المدة تعد الأيام والساعات التي تقرب منها هذا الأمل، وترتب في خيالها القبلات التي تلقى بها المولود المحبوب ساعة تنسمه طيب الحياة. وما كانت تحسب الزمان من الغدر والقدر من القسوة؛ ليقضيا على كل أطماعها ويخيبا كل أملها ثم ليقتطفا من بين أحضانها زهرتها اليانعة وملاك حياتها: ابنتها المحبوبة.
ولكنهما كانا أقسى مما تظن. فقد بقيت حسناء ممتعة بكل صحتها إلى يوم حسبت أمها أن أملها قد تحقق. وفي ذلك اليوم فقط - في تلك الساعة الرهيبة الرغيبة - انتفض الزمن في وجهها كاشرا عن نابه، فتلوت فتاتها أمامها ترسل صيحات الرعب والألم. وبادر الطبيب الفتاة فطمأنها فسكتت واستسلمت له ووقفت أمها إلى جانبه تنظر إلى فتاتها وإلى الحفيد المرغوب نظرات خوف ورجاء، وتشجع بألفاظ مضطربة تلك الزهرة المشرفة على الذبول. لكن هذا الإحساس الإنساني بما سيكون جعل الابنة كلما أرادت أمها تركها لمساعدة الطبيب، تمسك بها منادية نداء الطفل المروع: لا تتركيني يا أماه!
ونزل الطبيب كاسف الظن يتعثر في أذياله تاركا الفتاة ووليدها، وقد كان يود لهما الحياة؛ فأبى القدر إلا إيرادهما موارد الحتف. وأسلمت الفتاة الروح قبل أن تدب روح الحياة في جسم الوليد. هنالك شقت الأم جيبها وصاحت: وا بنتاه!! ثم خرت إلى الأرض منهدة وقد جمدت الدمعة في عينها. وجاءت قارئة القرآن وبقيت مع الأم ترتل لها آي الذكر ساعة وتجاهد لعزائها ساعة أخرى. فلما أذن نذير الصباح نزلت القارئة، وتركت الأم وحيدة مع جثة ابنتها الهامدة.
في سكون الليل. في ذلك الصمت المطلق المهوب، وفي هذه الوحدة المخوفة المرعبة، بقيت الأم وحيدة في غرفة الموت وأمامها جثة ابنتها هامدة باردة، وقد ملك عليها اليأس السبيل. وكلما أخرجها الحزن عن طوقها نادت: يا حسناء، وكررت النداء. فيموت صوتها مختنقا في هواء الغرفة المملوء بآي الموت وأعلامه. ثم إذا خانها الصوت رفعت الغطاء عن وجه ابنتها وانحنت فوقه تملأ جوانبه قبلا. ويغلبها الهم بعد ذلك فتخر إلى جانب الجثة وتضمها إليها، كأنما تريد أن ترسل فيها من حياتها ما يعيدها إلى الحياة.
أذن مؤذن الفجر مناديا: الله أكبر. ولطالما حنت الأم المفجوعة إلى سماع هذا النداء يحيي من قلبها المملوء بالإيمان والتقوى ما ينطق لسانها. الله أعظم. الله أعظم. لكنها في هذه المرة وجمت لسماعه، واعتراها أمام صيحات المؤذن ذهول ورعشة ... الله أكبر ... هو هذا الإله الكبير العظيم الذي اختطف ابنتي في أول شبابها وريعان قوتها وما جنت ذنبا ولا أتت إثما ... الله أكبر ... أكذلك ينقل بنو آدم من الحياة إلى الموت غدرا وغيلة؟!. أكذلك تختطف البنت من حضن أمها في ساعة كانت تود البنت أن تكون أما هي الأخرى؟! أين أنت يا عدالة السماء؟ أين أنت يا عدالة الرحمن؟ أين أنت يا حسناء؟ أين أنت يا ابنتي يا حبيبتي؟! ما قيمة الحياة والموت متربص يخطف الناس خطفا؟!
وفي كل هذه الساعات المؤلمة المفجعة لم تنزل من عيون الأم دمعة تهدئ بعض الشيء من حزنها ولوعتها. وكلما خرج بها الحزن عن طوقها أمسكت بيدها يد المائتة، وانحنت فقبلت جبينها وصدغها وثغرها.
وأخيرا، بعد زمن طويل، سويعة مستبشر ودهر محزون، بهت زجاج النافذة وابتدأت أشعة النهار تنسل إلى الغرفة الصامتة؛ فخفت نور المصباح وانتشرت في جو المكان خيوط الضوء، خيوط اليأس والأمل. وتبينت السماء. فلما وقع عليها نظر الأم ردته إلى ابنتها ثم ردته إلى السماء وهمست: ما أقسى الموت! إن هذا حرام، ثم ارتمت إلى الأرض مهدودة، وأسبلت عينها تود لو تختلط روحها بروح ابنتها الذاهبة.
لكنها ما لبثت أن حدقت بنظرها من جديد إلى الوجه الشاحب أذبله الموت، وقد كان من ساعات يتلألأ بنور الحياة. حدقت به حتى لا تترك لحظة من اللحظات الباقية على الفراق الأخير من غير أن تكون مع ابنتها ولابنتها. حدقت بعيون ثابتة جامدة، كأنما امتلأت موتا هي الأخرى. وفي كل هذه الساعات الطويلة لم تنزل من عينها دمعة واحدة.
وأخيرا فتح الباب، ودخلت إحدى قريباتها صارخة نادبة، ثم لم تكن إلا لحظة حتى امتلأ المكان وحتى أفرجت الدموع شيئا من كربة الأم المصابة.
وإلى اليوم لا تزال الأم المملوءة القلب بالإيمان والتقوى جامدة العين ذابلة اللب مشردة الخاطر، تشتملها سحابة من حزن أليم لا تسعده دمعة ولا ينجع فيها عزاء، وكلما أراد أهلها وأصحابها أن يجيئوا لها بمن يرد دينها الذي خرجت منه حين شقت جيبها تتداولها التقوى والذكرى، فتنهزم الأولى أمام الأخرى، وترفض الحزينة ما يريدون.
هل لمثل هذه الأم في الحياة عزاء؟! ...
حديث شباب
كانت الساعة العاشرة صباحا حين فتحت عائشة عينيها بعد نومها الطويل. فرفعت جفنها بالقدر الذي يسمح لها أن ترى النور من خلال ستار النافذة. ثم أمالت رأسها وفتحت ذراعيها متمطية متثائبة حين تميزت خيطا من شعاع الشمس، ينعكس في المرآة وعلى سريرها. وقامت بعد ذلك متكئة على المخدة تنظر بعيون وسنى لكل ما أمامها. وظلت كذلك حتى نبهتها الخادمة بدخولها. فلما علمت أن ستها قد استيقظت بادرت فناولتها رسالة وقالت: سيدي أعطاني الجواب ده علشان ستي.
فأخذت عائشة بيد فاترة وأمرتها أن تفتح أبعد ستار عنها. ثم فضت الرسالة، فإذا هي ممضاة من صديقتها نفيسة، وإذا فيها:
عزيزتي عائشة
من يوم سافرت من مصر ودخلت البيت هنا لم أخرج إلا مرة واحدة رغما عما كنت أؤمل من أن أجد حرية أوسع تسمح لي أن أمرح في الهواء والفضاء؛ ولهذا قد بدأت أمل الريف وسكنى الريف مع ما أجد من وداعة الناس الذين أعيش بينهم والفلاحات اللاتي يترددن علي من وقت لآخر. فكل ما رضي به عمي أن أصحبه مرة إلى جرن قريب منا، وأن نبقى فيه معا حتى منتصف الليل. وهي هاته المرة التي تجعلني أتردد في التصميم على الرجوع لمصر ثانيا، أو أن أبقى هنا أسبوعا آخر، عل المصادفة تحقق أملي وأخرج مرة أخرى ولو إلى هذا الجرن القريب.
ولقد كانت أكبر آمالي في هذه المرة الأولى التي خرجت فيها أن أجدك إلى جانبي؛ لنتمتع معا بما كنت أشاهد. وأما الذي أود أن يكون معي في المرة الثانية، فهو شخص لا أعرفه ولكني أتمثله أمامي في كل ساعة من ساعات وحدتي وخلوتي.
إنني أريد أن أشركك معي في السرور الذي نالني من وراء هذه الفسحة الصغيرة. غير أني آسف لعدم استطاعتي أن أصل مهما جاهدت إلا إلى قليل لا يكاد يذكر مما رأيت. وعلى كل حال فأحسب من واجبي أن أقول لك كل شيء كما اتفقنا ليلة سفري.
خرجنا بعد العشاء فإذا السماء منثورة فيها النجوم ولا بدر بينها، تلبس الجو رداء من الليل والظلمة، وتدعنا نجد الصعوبة في تلمس الطريق، خصوصا أنا التي لم أعتد هذه الأماكن ولا مشت قدماي في هاته السكك من زمان طويل مضى. ولكن عمي لم يجد وقتا أنسب من هذا لنخرج فيه خيفة أن يرانا أحد أو تقع علينا عين إنسان. واتخذ بنا جانبا من الطريق يدل ما فيه من التراب، على أنه غير الجانب الذي يمشي الناس منه ويدقونه بأقدامهم. وسرنا وكأن على رؤوسنا الطير لا ننبس بكلمة ولا نحدث صوتا حتى خرجنا من بين جدران البلد الواطئة التي تزيد بسوادها سواد الليل ولا تنم عن شيء مما في جوفها. ولقد هالني الصمت المطلق الذي بقي محيطا بنا حتى كنا على مقربة من غايتنا. وأحيى الصرصار بصفيره السكون الأخرس.
برغم الظلمة المحيطة بنا تبينت على مقربة شيئا أشد من الليل سوادا، وهو قائم كأنه ينتظرنا. فعرتني لمرآه قشعريرة الخوف، ولم أتمالك أن قطعت سكوتنا بسؤال عمي عنه. فأجابني أننا صرنا عند الجرن، وأن هذا الأسود عرمة من تبن القمح لم يذر بعد. ثم رجع السكون والسكوت إلى ما كانا عليه، وجعلنا نسمع في صمتنا صفير الصرصار ونقيق الضفدع.
ولما وصلنا وجدنا نوارج الدراس مفرقة في نواح مختلفة قد تركها العمال بعد أن انتهى عملها. فاتخذناها مقاعد، وجلس عمي وابن عمي على أحدها، وجلست وفتاة ريفية على آخر، وتفرق الباقون حيث أرادوا. فلما أحسست بها إلى جانبي ووجدتها ساكتة لا تتكلم أردت أن أفاتحها الحديث. ولكن ابن عمي لم يمهلني أن أتى فوقف إلى جانبنا، وسألني إن كنت أريد شيئا فالحديقة قريبة. فإذا كنت أفضلها ذهبنا إليها. فأجبته أني راضية بمكاني مسرورة بجارتي. هنالك شعرت بالفتاة تضم نفسها إلي كأنها لم تجد ما تشكرني به إلا هذا. ووجدني ابن عمي قد سكت فلم يجد جديدا يقوله، وتركنا وانصرف.
رأيت السماء تبهت، وحدقت إلى جهة القرية فإذا الشرق يلمع بشيء من النور، وإذا القمر من فوق أبنيتها يحبو مبطئا وكأنه منهوك متعب. واجتليته فإذا نحوله قد قضى على بعضه. ولكنه مع ذلك أرسل على هذه الأكمات من التبن إلى جانبنا نورا انجلت فيه لمعتها، وملأ الجو من شعاعه بلجة تركته وكله أحلام هادئة. والنسيم العذب يبعث في النفوس من لذته ما يتركها نشوى خادرة.
اعتلى القمر وثبت بين النجوم، وكلما حددت النظر نحوه رنا إلي بعين ساهية، وخيل لي من شدة نحوله أنه سيقع بين أحضاني. ولا أدري لعلي فتحت ذراعي أريد أن أستقبله. فقد أحسست مرة واحدة بالفتاة تطوقني بذراعيها وتجذبني نحوها، ثم ابن عمي يجري نحوي ويمسكني بين يديه كأنما خافا أن أقع من مكاني ... وهل أقدر أن أخبرك عن السرور الذي شعرت به لهذه الضجة بعد أن وصلت إلى أعماق فؤادي نظرات القمر؟ ... وتركوني أحدق لمحبوبي في السماء؛ حتى ظن عمي أن السكة انقطعت من عليها الرجل. حينذاك دخلنا.
ولكني من يومها مشتتة البال أريد بدل محبوب السماء محبوبا على الأرض، محبوبا من بين بني آدم. إنسانا أحبه ويحبني.
من أجل ذلك أخبرتك أني أود أن يكون معي في المرة الثانية شخص لم أعرفه بعد، ولكنني أتمثله أمامي ... أود أن يكون ذلك المحبوب إلى جانبي، فينظر إلينا القمر نظرة مهنئ أو حاسد، لا نظرة مشفق ولا متألم.
هذا ما قدرت أن أكتبه إليك، ولعلي أكون وفيت بالوعد. إلى الملتقى وأهديك ألف قبلة.
نفيسة
قرأت عائشة الرسالة فلما جاءت على آخرها، وضعتها جانبا، وألقت ذراعيها الناعمتين فوق لحافها، ورجعت إلى عالم خيالها الذي كانت فيه بالأمس ساعة نومها، والذي مدت نفيسة برسالتها في أطرافه. وبقيت حتى دخلت الخادمة من جديد لتخبرها أن والدها قد حضر ويريد أن يراها. فقامت ولبست ثياب البيت وذهبت إليه، فأخذها إلى جانبه بعد أن تبادلا تحية الصباح. ثم ملس على شعرها الأسود البديع المرسل على أكتافها وسألها: من عند نفيسة الجواب اللي أخذتيه النهاردة. مش كده - أنا عرفت خطها. خطها كويس. وازيها.
فأخبرته عائشة أنها مسرورة وأنها تسلم عليهم، ثم استأذنته أن تذهب لترد لها على خطابها. ولما انفردت بنفسها أخذت قرطاسا وكتبت:
عزيزتي نفيسة
بلغتني رسالتك وبلغتني رسالة القمر، فهاجت من نفسي كامنا كنت أود أن يبقى في كنه حتى أهبه نفسي وإن لم أقدر بقيت حتى يذهب معي إلى قبري. أما اليوم وقد ظللت أعالج من أثر الفكر ما أضناني وما أحسبه سيبقى حتى يزيدني ضنى ولوعة، فما أحوجني لهذا الشخص الذي لا أعرف، والذي أتخيله أنا الأخرى أمامي. وإني أسأل نفسي اليوم إن كان ذلك الشخص هو الذي سيقدمه لي أبي يوما ما أو هو شخص آخر، فأشعر كأن صوتا يرن في صدري وتسمعه آذاني يقول لي إنه لن يكون محبوبي الذي آمل، بل هو الإنسان الذي يسلبني حريتي وحياتي طوعا أو كرها، فيوقعني هذا الشعور في ألم ما أكبره. وليس في وسعي أن أكتب لك اليوم طويلا، فإذا سمحت أن تعجلي بالرجوع إلي وجدت كل منا في صاحبتها عزاء. وفي انتظار مجيئك القريب أهديك ألف قبلة وألف سلام.
عائشة
وبعد كتابته ذهبت إلى مكتب أبيها، فأخذت منه طابعا ألصقته على الغلاف، وأعطته إلى خادمتها لتضعه في صندوق البريد.
الكتاب الثالث
خواطر في التاريخ والأدب
الأدب واللغة القديم والحديث (1)
الأدب القومي
دارت مناقشات ذات شأن في مسألة القديم والحديث في اللغة، وكان الجدل حادا بين أنصار كل من المذهبين، وكان مداره على الألفاظ والعبارات التي يجب اعتبارها صالحة في الكتابة. فأما أنصار القديم فكان مذهبهم أن اللغة العربية وما وصلت إليه حين مجد العرب وسلطتهم قد وسعت كل الصور والمعاني والآراء، وأن ما يذهب إليه المجددون في اللغة إنما يقوم على أساس من جهلهم إياها أو انصرافهم عنها، وأنهم لو كلفوا أنفسهم مؤونة الحرص على عبارات القدماء وألفاظهم لما ضاقت بهم عن كل معنى يريدونه لابسا أبهى ثوب وأجمله. أما أنصار الحديث فكان مذهبهم أن اللغة قد وقفت عند عصر بعيد، وأن تطور الحياة وتقدمها قد سبق هذا العصر بما لا تلحقه عبارات القدماء وألفاظهم. فمن الحق أن يأخذ الكتاب من اللغة بجديد يحتمل ما بلغته الحياة من تطور وتقدم.
ولم تقف المناقشات عند حد تقرير المبادئ السالفة والدفاع عنها، ولم تقف عند ألفاظ اللغة وعباراتها، بل تعدت إلى أساليب الكتابة وتغلغلت عند ذلك في بيداء التفاصيل. وبلغت أن جعل المتناقشون أساليبهم الخاصة موضع الأخذ والرد. ولعل أحدا لم ينس ما كان بين الأمير الجليل شكيب بك أرسلان والأستاذ المحترم خليل أفندي السكاكيني من حوار وجدل في هذا الباب، وقد يكون هذا الانتقال من المبادئ إلى التفاصيل طبيعيا. فإن الإنسان لا يعنى غاية العناية بالقديم لأنه القديم ولا بالحديث لأنه الحديث ما لم يمس القديم أو الحديث ذاته.
ومعركة القديم والحديث بين كتاب اللغة العربية في هذا معركة قديمة، والجدل في أي الأساليب أصلح للحياة الحاضرة لا يكاد يهدأ حينا حتى يستعر من جديد. وهذه المعركة وهذا الجدل ليسا مقصورين على كتاب العربية وإن كان لهما بينهم طابع خاص مرجعه اختلاف لغة الكتابة عندهم عن لغة الكلام، ومرجعه أكثر من ذلك اتجاه العناية لطريقة التعبير أكثر من اتجاهها لما يجب أن يشتمله ذلك التعبير من الصور والمعاني.
ونحسب أن قصر البحث عند ما يصح استعماله من الألفاظ والعبارات والحكم على صلاح هذه الألفاظ والعبارات للحياة الحاضرة وعدم صلاحها، يكاد يكون بحثا لغويا ضعيف الصلة بالأدب، ويقوم على شيء غير قليل من التحكم. وهو بعد بحث تافهة نتائجه. فإن الأدب لا يقوم على الألفاظ ولا على العبارات التي يستعملها الكتاب بمقدار ما يقوم على الصور والمعاني التي تلهم بها خيالاتهم وتجود بها قرائحهم . فإذا كانت هذه الصور والمعاني وما ينطوي تحتها من وصف وعاطفة وعلم وإلهام من الروعة بما يملك على القارئ لبه وينسيه نفسه، لم تكن الألفاظ ولا العبارات إلا ثانوية عنده، فلم يحفل منها بقديم ولا بحديث، ثم كان حكمه على الكتاب راجعا إلى ما بعثه إلى نفسه من لذائذ، وإلى مشاعره من اهتزازات، وإلى خياله من صور، وإلى ذهنه من تفكيرات. فإذا هو اطمأن إلى حظه من هذا وحمد الشاعر أو الكاتب على ما جناه منه عاد إلى الثوب الذي لبسته تلك الصور والمعاني، فكان له من جماله وروائه ما يزيد إعجابا بصاحبه، أو كان له من اضطرابه ما يبعث إلى نفسه شيئا من الأسف على أن يفوت هذه المعاني السامية بعض ما يجب لها من بهاء الثوب وجلاله.
نفس الكاتب وما تفيض به من تفكير وإلهام هي إذن موضع حكمنا. وهي ما دامت قوية تجتمع لها الصفات التي تجعلها ممثلة لعصر خاص أو لبيئة خاصة، فقد حق لآثارها أن تخلد. فإذا كان فيضها وإلهامها كاسيا مع ذلك أسلوبا مثلا في قوته وصفائه ودقته، فهي في خلودها أكثر بريقا وإشعاعا. وسواء أخذ هذا الأسلوب بالقديم أم أخذ بالحديث في اللغة، فلن يضيره ذلك إلا بمقدار ما يدور حوله من نقد أول ظهوره. ثم يكون حظ ذلك النقد من البقاء أو الإهمال بقدر ما يشتمل عليه من معان وصور.
هذه النفوس القوية التي تمثل عصرا خاصا أو بيئة خاصة والتي نخلد آثارها، هي التي يصدر عنها الأدب القومي. فهوميروس وفرجيل وشكسبير وفولتير وجيت خلدوا برغم تطور الحياة وتقدم الحضارة في العالم؛ لأن نفوسهم مثلت أمة خاصة وعصرا خاصا؛ فانطبعت فيها الصفات الخالدة لأممهم، والتي لا يأتي عليها تقدم أو تطور، كما وقفوا أعلاما في التاريخ يهتدي بهديهم أهل عصورهم كما تهتدي به الأجيال من بعدهم. ولو أن هؤلاء الشعراء والكتاب وقف أمرهم عند اختيار اللفظ والتركيب من غير أن تملأ نفوسهم وأذهانهم ومشاعرهم هذا اللفظ والتركيب قوة، لانحدروا كما انحدر المئات والألوف إلى عالم النسيان. وكم كان بين هؤلاء الذين نسيهم الناس من يدل بأسلوبه وبحسن اختياره لفظه وعباراته! وكم منهم من لقي معجبين به يوم كتب. لكن ما كتب هؤلاء كان أجوف كالطبل - عال رنينه خال جوفه - لذلك ما لبث أن تمزق ظاهره وبدا باطنه وأهمله الناس في ازدراء، ثم أسدلوا عليه ثوب النسيان.
وهؤلاء الكتاب الذين يتمثلون عصرهم ويصدر عنهم الأدب القومي، هم سادة الأدب والحاكمون على اللغة. هم الذين يبعثون في الألفاظ حياتها ويحددون كم هذه الحياة وكيفها. لن يستطيع أحد سواهم أن يجعل لكلمة قوة غير قوتها، ولا أن ينبش لفظا من قبور القديم ليعيدوه فتيا جديدا. ولن يستطيع غيرهم أن يختار لفظا ابتذله الناس فيخلع عليه رقة ووقارا. لحكمهم تخضع المعاجم، وبسلطانهم يعترف علماء اللغة، وإن آثروا الجمود والمحافظة، ولن يقدر سواهم للغة ولا لألفاظها ولا لأساليبها على شيء لا يرضونه ولا تناله حمايتهم.
وهذه اللغة العربية يصدق عليها في ذلك ما يصدق على كل اللغات، بل هذه معاجمها الواسعة كلسان العرب إذا أردت أن ترجع فيها إلى لفظ رأيتها في تحديدها معناه تعود بك إلى مواضع وروده في قصائد الشعراء وعبارات الكتاب. وذلك هو الشأن في معاجم اللغات جميعا. ثم أنت تراها تورد للفظ الواحد أوضاعا قد لا يختلف المعنى في بعضها عن بعض، لكنك تحس مع ذلك تمام الإحساس بأنها تتفاوت في مدلولها. وهذا التفاوت لا أساس له إلا أن كاتبا قوميا رأى لها هذا الوضع في عصره، فكان رأيه حكما على أهل زمانه، وساغ استعمال اللفظ على ما أراد.
وهذا التفاوت ليس مرجعه أصل اللغة، وإنما مرجعه طبيعة اللغة، وأنها كائن حي يتطور مع الحياة، ويمور مورها، ويخضع كما تخضع سائر الخلائق لحكم الإنسان القوي الذي يتمثل فيه عصره؛ وهو ليس مقصورا على الألفاظ ولا على العبارات، بل هو يتخطى إلى الأساليب في الشعر والكتابة والخطابة والتأليف العلمي وما سواها. وبحسبك أن ترجع البصر إلى العصور والدول المختلفة التي ترعرعت فيها الحضارة العربية لترى مصداق ما تقول. فليس أسلوب الجاهليين كأسلوب الأمويين، وهؤلاء لبست الأساليب في عصرهم ثوبا خلعته حين انتقلت إلى عهد العباسيين. والفرق أكثر وضوحا بين أساليب العربية في شبه جزيرة العرب وفي الأندلس. فأنت ترى البون كبيرا بين هؤلاء الذين أخذوا بحضارة أهل الغرب وأسلافهم في طرائق التعبير وفي أساليب الكتابة. ولم يكن من ذلك بد؛ لأن لكل حضارة زهرة هي الفن والأدب. فهما يموران مورها ويأخذان ألوانها ومظاهرها. والحضارة أثر من آثار الحياة الإنسانية. فيجب أن يخضع الفن والأدب للحياة الإنسانية وآثارها. ويجب أن يكون لأعلام الحضارة من رجال الأدب حكمهم على أداته؛ وهي اللغة.
أذكر أن جماعة من ذوي الفضل والعلم فكروا أثناء الحرب، ثم ألفوا هيئة «المجمع اللغوي المصري»، وجعلوا غايتهم من تأليفه التواضع على الألفاظ العربية التي تقابل ألفاظا أوروبية لم يتفق لأحد أداؤها أو اختلف الكتاب عليها. ومع سمو الغاية وكفاية أعضاء المجمع، فإن عملهم لم يظهر له أثر حتى اليوم فيما أعلم. ولم يكن هذا المجمع أول هيئة تألفت لهذه الغاية. بل كانت قبلها هيئات أخرى تجمع أعضاء ذوي فضل وعلم. لكن هذه الهيئات لم تكن أحسن من المجمع اللغوي حظا في آثارها. وذلك طبيعي محتوم؛ لأن الألفاظ الأوروبية لم توجد في لغات أهلها عفوا. وإنما جاءت نتيجة حضارة قوية وعمل جاد، ثم تقررت على لسان الكتاب الذين يمثلون عصرهم. فلم يكن لعلماء اللغة بعد ذلك كله إلا أن يعترفوا بها وأن يسجلوها في المعاجم.
ولكي تنتقل هذه الألفاظ إلى العربية لا يكفي البحث عن أصل اشتقاقها، بل لا يكفي تقصي تاريخها ثم وضع أقرب مقابل لها. إنما يجب أن تكون ثمت حضارة مستعدة لقبولها وأدب قومي هو مظهر هذه الحضارة وكتاب يمثلون عصرهم يبعثون فيها الحياة ويخلعون عليها القوة.
هذا الأدب القومي هو الذي يجب لذلك أن يكون مدار البحث. فهل هو كائن في الأمم التي تتكلم العربية في هذا الظرف الحاضر؟ وهل هو مشترك بينها جميعا؟ أم أن لكل منها أدبا قوميا خاصا هو مظهر حضارتها؟
ليس من ينكر على الشرق العربي شعراءه وكتابه وأدباءه، وليس من ينكر أن من بين هؤلاء الشعراء والكتاب فحولا لهم من الصور والمعاني ما يأخذ باللب وينسي الإنسان نفسه، لكنا مع شيء كثير من الأسف مضطرون للاعتراف بأن هؤلاء الشعراء والكتاب لا يمثلون حضارة معينة. بل هم ملتقى حضارات تختلف جد الاختلاف أحيانا وتبلغ حد التناقض أحيانا أخرى؛ لذلك لم يبرز من بينهم الأدب القومي الذي يطبع عصره بطابعه؛ لأنه زهرة هذا العصر والصورة الناطقة بكل ما فيه من كمال وقوة. بل وقف كل واحد منهم منفردا يتحدث إلى الناس بما لا يفيض عن نفسه مما عندهم، ولكن بالصور التي اجتمعت إليه من تلك الحضارات المختلفة المتناقضة أحيانا. فكان بهرهم لسماعه راجعا تارة إلى سحر لفظه وأخرى إلى واسع معارفه. لكنهم لم يصلوا يوما لتقديسه وتخليد آثاره؛ لأن هذه الآثار ليست صورة ما في نفوسهم وليست زهرة حضارتهم.
وليس يرجع ذلك إلى أن الشرق العربي لا حضارة له، ولكنه يرجع إلى أن حضارته طمست معالمها تحت سلطان الأمم التي تحكمت فيه، والتي عملت متعمدة على أن ينسى ماضيه وعلى أن يخضع لحكم حضارة هؤلاء المتغلبين. وإذا نسي الناس الماضي وخضعوا في الحاضر لسلطان مدنية غريبة عنهم ضعفت قوميتهم، وانحل تضامنهم، وطمس الظلم على الحضارة الخاصة بهم، ثم لم يكن لهم أدب قومي واضح الذاتية يعبر عن هذه الحضارة الدفينة.
والعجب أن العاملين في نهضات الشرق الحديث لم يفكروا في هذا ولم يحاولوا علاجه. وإنك لتدهش حين ترى جامعتنا المصرية تلقى فيها دروس الأدب القديم والحديث للأوروبيين والعرب، ثم لا يلقى فيها درس واحد عن الأدب المصري القديم والحديث، ولا يلقى فيها درس واحد عن التطور الفكري في مصر؛ وكيف تمثل ما ورد عليه من حضارات الشرق والغرب التي وردت عليه، وهل خلع عليها حلة من القومية المصرية بتاريخها القديم، وبطبيعتها المنسقة، وبسمائها الصفو، وبما يمتاز به أهلها من رقة في الخلق وظرف وكياسة، أم أن هذه الحضارة بقيت غير مهضومة حتى مرت وحل محلها غيرها؟
ندهش لذلك حقا. فإن هذه الدراسة تعتبر في كل الأمم المتحضرة أساسا من الأسس القومية التي يجب أن تمتلئ بها نفس أبناء الوطن لتزداد بينهم روابط الولاء لوطنهم. وهؤلاء الأمريكيون على حداثة عهدهم بالحياة المدنية، وعلى أنهم قوم لم يحظ بتاريخهم شيء من هذه القداسة التي تشتمل تاريخ الأمم القديمة كلها قد جعلوا من التعليم القومي وسيلة قوية منتجة لخلق القومية الأمريكية، فصادفوا من النجاح ما جعل الذين نزحوا إلى أمريكا ولم يولدوا فيها أكثر تعلقا بها منهم بأوطانهم التي أنشأتهم. ولقد كانوا أول عهدهم بالفن والأدب عيالا على أوروبا وعلى الأدب الإنكليزي بنوع خاص، ثم لم يلبثوا بفضل هذه النشأة القومية أن ظهر من بينهم أمثال لنجفلو وأمرسن شعراء وكتاب تمثلوا الحياة القومية الأمريكية، وكانوا المشخصين لمجموع هذه الحضارة الجديدة القائمة على أساس من النشاط العملي وحب الحياة.
والأمريكيون يعنون بهذا الجانب القومي وبغرسه في نفوس ناشئتهم برغم حداثة عهدهم به، وتأخرهم عن سواهم من الأمم فيه. وهم بهذه العناية قد خلقوه عندهم خلقا وجعلوا منه للأمريكي موضع فخر. أما نحن في مصر فقد أهملناه على ما رأيت في الجامعة المصرية، وأهملناه في مدارس الحكومة، وأهملناه في الأزهر وسائر المعاهد الدينية، وتعلق جماعة منا بالآداب العربية في غير مصر، وتعلق آخرون بالآداب غير العربية. ثم كانت هذه المعارك بين القديم والحديث، وكان أكابر كتابنا وشعرائنا يفيض إلهامهم أكثر الأمر بشيء غير مصري. فإذا نزع واحد منهم إلى الجانب المصري بدافع الحماسة الوقتية أو لظرف طارئ لم تشعر فيما كتب بما يجب أن يكون. لم تشعر بأن نفسه كلها وأن فؤاده وقلبه وذهنه وعقله، وكل قواه ومشاعره وعواطفه، انتقلت إلى لسانه وإلى قلمه، ففاضت بهذا السيال الروحي الغزير الذي يمثل أمة بحالها في عصر من العصور.
وسائر أمم الشرق ليست أحسن من مصر في هذا الباب حظا. وأنت قل أن تجد من بين كتاب جاراتنا وإخواننا في الشام والعراق وفي تونس والجزائر ومراكش، هذا الكاتب أو الشاعر القومي الذي يقف من أمته ومن عصره موقف هومير في اليونان أو جيته في ألمانيا أو الفرزدق وأبي نواس والمتنبي وأضرابهم في بلاد العرب.
ويرجع السبب في ذلك إلى ما قدمنا من عمل المدنيات الحاكمة، التي استبدت بهذه الأمم، وسعيها لطمس حضارتها. فقد كانت حضارة آل عثمان تعمل لتتريك الممالك العربية التي خضعت لحكمها ما استطاعت. وكانت إنكلترا وفرنسا أشد من آل عثمان بالحضارة العربية استبدادا أو أكثر إمعانا في طمس معالمها. وكذلك بقيت هذه الأمم المغلوبة كامنة حضارتها لا تجد متنفسا، ولا تجد من فنان أو شاعر أو كاتب علما لها تنير آثاره أرجاءها، ويجمع في شخصه ما كدسه الماضي من حضارتها.
على أن هذه الأمم العربية المتصلة بصلة الجوار، والتي يبلغ عدد سكانها أكثر من سبعين مليونا لها سبق في الحضارة وقدم راسخة في المدنية. وهي تشترك في كثير من مظاهر حضارتها، ويتميز كل منها بطابع خاص به، مستقل عما سواه، راجع إلى تكوينها الطبيعي وإلى جوها وإلى صور النشاط الموجودة فيها. ولقد تجد بين هذه الأمم من عامة الناس ممتازين يضعون أنواعا من الأدب الخاص بهم، يمتاز بطابع البلاد التي عاشوا فيها ويفيض بحياتها. لكن هذا النوع من الأدب العامي غير مهذب ولا يصلح بحال للبقاء. وأكثر ما يصلح له أن يكون مادة للمؤرخ أو الكاتب الذي يريد أن يقف على تاريخ هذه الأمم وتطورها في هذه العصور التي عاشتها محكومة بالاستبداد، مطموسا على السامي من مظاهر حضارتها. فهل ثمت سبيل لعود أدب قومي سام يميز كلا منها ويميزها جميعا؟ وبعبارة أخرى هل يمكن أن يكون لها في الحاضر وفي المستقبل القريب حضارة خاصة بها، يكون الفن والأدب زهرتها، ويقوم من بين كبرائها من يعتبر المثل الناطق بمعاني هذه الحضارة.
نعتقد أن الأمر ممكن إذا صحت العزيمة عليه، وإذا تضافرت القوى على خلق هذا النشاط القوي يشتمل كل طبقات الأمة، ويدفعها للسعي وللعمل في سبيل ظهور ذاتيتها بارزة ممتازة. في هذه الحال تسرع كل أمة إلى تمثل الحضارات التي ترد عليها فتصبح جزءا من حياتها، ويشعر الناس بها كأنها لهم وليست غريبة عليهم، وكأنها تحت حكمهم وليست متحكمة فيهم. وفي هذه الحال تظهر ذاتية كل أمة بماضيها البعيد المجيد، فيشترك الآباء والأجداد إلى عصور أول التاريخ في تشييد هذه الحضارة. فإذا تم ذلك لم يكن بد من ظهور الفنان القومي والكاتب القومي، ولم يكن بد من أن يكون للشرق العربي عامة، ولكل أمة منه خاصة أدب يميزه عن الأدب القديم، وعن هذا الأدب الحديث المدين بأكبر حظ منه للمدنية الغربية المتحكمة بسلطانها في الشرق وأممه.
ويومئذ يكون الأديب القومي هو المتحكم في اللغة، وهو الذي يملي على المجامع ما يضعه من الألفاظ لتثبتها المعاجم. وهو الذي يقرر الأسلوب الذي يحتذيه كل كاتب من كتاب الدرجة الثانية. ويومئذ يكون البحث في القديم والحديث بحثا قل أن يطرأ أو أن يجد من الحيز ما يجده في هذا الوقت الذي لا يعيش فيه الكتاب بأنفسهم، وإنما يعيشون عالة على القديم أو الحديث، ويومئذ يكون لنا أن نطمئن إلى أن هذا الجمود الذي وقفت عنده اللغة قد زال، وأن الحياة قد بعثت فينا فتية قوية.
لسنا مع هذا ننكر فضل فحول الشعراء والكتاب الذين جاهدوا - ولا يزالون يجاهدون - في سبيل التوفيق بين حضارة لنا كامنة وحضارات أخرى متحكمة مستبدة. فهؤلاء سيكونون في المستقبل حلقة الاتصال التي لا بد منها بين الأدب القومي في عصر من العصور والأدب القومي الذي سبقه. وهؤلاء سيكون حظهم حظ الأبطال الذين ظلوا حاملين العلم في ساعة التقهقر والهزيمة، حتى نجت أوطانهم بفضل ثباتهم وقوتهم. وهؤلاء سيعترف لهم الأديب القومي - الذي نرجو أن يكون قريبا زهرة حضارتنا وحضارة الشرق العربي - بأكبر الفضل وأعظم المجد.
الأدب واللغة القديم والحديث (2)
ثارت مسألة القديم والحديث مرة أخرى. وتلك مسألة إذا ثارت لم يكن يسيرا أن تهدأ. فهي عند بعض الكتاب صيحة حرب لا تلبث أن ترتفع حتى يهرع من يسمون أنفسهم أنصار القديم إلى صف القديم ينصرونه، ومن يسمون أنفسهم أنصار الحديث إلى صف الحديث يعززونه. وإذا انتظم الكتاب صفوفا للنضال عن كتابتهم فويل للمحابر والأقلام، وويل للأوراق والصحف. أما القراء فلهم البشرى. إن لهم من ميدان هذه المعركة خير منظر تتراشق فيه الحجج مطمئنة تارة محتدمة طورا، وتتجاوب الأدلة مستقيمة حينا ملتوية أحيانا. وما بالك بقوم يدفعون عن وجودهم ويذودون عن كيانهم. أوليست الكتابة حياة الكاتب. فدفاعه عنها دفاع عن الحياة؟ وإذا كان المزارعون من أهل الريف ينشب أحدهم أظافره في عنق جاره حتى ليقضي عليه إن حاول ليصد الماء عن مزرعته، فإن للكتاب بديلا من أقلامهم عن الأظافر يذودون بها عن حياض حياتهم كما يذود المزارع عن حوض حياته.
ومن العجب في أمر معركة القديم والحديث التي تنشب هذه السنين ما بين آن وآخر في مصر، أنها تنشب بين أقوام يعلنون جميعا أنهم على اللغة العربية وقواعدها حراص، في حين أن قوما آخرين لهم بين كتاب العربية اسم ومقام، ولهم فيها تواليف ورسائل، وغرضهم الظاهر في كتاباتهم العدول بالعربية عن أصولها وقواعدها وأساليبها وألفاظها، يبقون بعيدين عن المعركة ينتظرون ما ينجلي عنه غبارها، آملين أن يكون لهم من ورائها مغنم. وهل رأيت الريحاني أو جبران خليل جبران أو من شايعهما يعيرون اعتراض أنصار القديم أو أنصار الحديث عناية أو التفاتا؟ أم هم كأنما يقولون في سخرهم المطمئن وازدرائهم للمتنازعين: أولئك أقوام تعلقوا بالقشور دون اللباب. فليظلوا في معاركهم حول الألفاظ والتراكيب، فلن يكون لهم من ورائها إلا التناحر. يومئذ يكون لجديدنا نحن، هذا الجديد الممتلئ حياة وقوة، هذا الجديد الثائر على أمة العرب العتيقة المتهدمة، هذا الجديد الطامح إلى حياة الغرب وعلمه وأدبه، بل الطامح للفظه إن أتيح له بلوغه، يومئذ يكون لجديدنا نحن الفوز على حين يبقى هؤلاء في معاركهم التي تنشب لغير غاية، وتنتهي إلى غير نتيجة. وينجلي غيارها عن غير فكرة جديدة، أو أمل في التقدم نحو فكرة جديدة.
هذا من العجب حقا. فأنصار القديم هم الأساتذة: صادق عنبر ، ومصطفى صادق الرافعي، والشيخ علام، ومن نحا في أسلوبهم نحوهم. وأنصار الحديث هم: الدكتور عزمي، والدكتور صبري، وإخوانهما. فإن تسل ما قديم أولئك وما حديث هؤلاء ترى المقالات تواجه المقالات والرسائل تنقض الرسائل. لكنك ترى هذه المقالات والرسائل جميعا مكتوبة بأسلوب عربي مبين. لم يصفع أحدها قواعد النحو والصرف بما تصفعها به رسائل الريحاني وجبران، ولم تكره الألفاظ خلالها حتى لتراك في حيرة قبل أن تصل إلى ما يريده أصحابها منها. ففيم إذن هذه المعارك يحتدم فيها الجدال، وترتفع فيها جلبة الألفاظ وضجيجها حتى لتشبه فرقعة البارود وقعقعة السنان؟
ما القديم وما الحديث؟ مسألة يجب حلها لمعرفة حدود الخلاف بين الفريقين. فهل القديم في اللغة والأدب ما يرجع عهده إلى عصور الجاهلية الأولى؟ أم هو ما اجتمع أيام حضارة العرب إلى حين بدأ التدهور في أدبهم بعد أن تدهورت سيادتهم واستعجمت حضارتهم؟ ما نظن أحدا ممن يسمون أنفسهم أنصار القديم يريد قصر اللغة والأدب في عصرنا الحاضر على ما كانا عليه في الجاهلية الأولى. فهل يقول لنا أحدهم بعد هذا أي لغة وأي أدب عربي يفضل؟ ما نخالهم ينكرون أن لغة امرئ القيس وأدبه ليست لغة أبي نواس وأدبه. وإنك لتقرأ المعلقات وما عاصرها فترى فيها شيئا غير الذي تراه في شعر العباسيين أو في شعر الأندلسيين.
وإنك لتقرأ نثر الهمذاني فتراه غير نثر الجاحظ، وغير نثر ابن المقفع، وغير نثر أبي الفرج صاحب الأغاني. ثم أنت إذا عدلت عن الشعر والأدب إلى الفلسفة والتاريخ رأيت في رسائل الفارابي، وفي كتب ابن خلكان وابن خلدون صورا من النثر متباينة. فعن أي الصور في النثر والشعر يرضى أنصار القديم؟ وأي هذه الصور في نظرهم هي المثل الأعلى للغة وللأدب؟ وهل يرى أحدهم أن يقف في أدبه وكتابته عند ما اشتملت عليه؟
كذلك ما نظن أحدا ممن يسمون أنفسهم أنصار الحديث ينكر على هذا الميراث العربي في اللغة والأدب مجده وعظمته. بل ما نظن أحدا منهم ينظر إلى ثورة التجديد التي يحمل لواءها جبران خليل جبران وأصحابه بعين مطمئنة. ومهما يعجب أحدهم بما تنتجه مدرسة الثورة هذه من بعض الثمرات، ومهما يجد في مثل كتاب الأجنحة المتكسرة من فيض الخيال الشعري، فكل واحد منهم جد حريص على بقاء الصلة بين الحاضر والماضي وثيقة متينة؛ ذلك بأنهم يعلمون أن كل حاضر لا يتصل بالماضي وشيك الزوال.
فيم الخلاف إذا؟ الخلاف في رأي أنصار القديم أن هؤلاء «المحدثين» قد انصرفوا عن العرب وأدبهم إلى الغرب وأدبه، وأنهم لذلك جهلوا من أساليب العرب أفصحها لفظا وأبلغها عبارة، واكتفوا بالقليل الذي درسوا في مكاتبهم وحاولوا إكراه هذا القليل على احتمال ما امتلأت به رءوسهم من العلوم الحديثة، فنزل بهم ما عرفوا من اللغة وأساليب الأدب إلى الاضطراب والركاكة. والخلاف في رأي أنصار الحديث أن هؤلاء «الأقدمين» حبسوا أنفسهم في غيابات الماضي، ووقفوا من الألفاظ ومعانيها والعبارات وتراكيبها موقف العرب، جاهلين أو ناسين أن اللغة مظهر من مظاهر الحياة؛ وأنها لذلك يجب أن تحتمل أداء كل ما يريده الأحياء من صور ومعان على الوجه الذي يريدون أداءه به. فوقف بهم ذلك عن مجاراة الحضارة الحاضرة، وعجزوا عن أداء ما تريده الحياة من صور هذه الحضارة ومعانيها.
ولئن صدق هذا التصوير فالخلاف ليس بين القديم والحديث، والقديم والحديث لا يمكن أن يكون بينهما خلاف، وإن كان أبدا بينهما اختلاف. بل الخلاف بين أدب اللفظ وأدب الفكر. فالذين يسمون أنفسهم أنصار القديم يريدون البقاء في دائرة حضارة العرب يستعيرون تصورهم للأشياء وتصويرهم إياها بالألفاظ، ويعملون على إكراه الحضارة الحالية في قوالب الحضارة العربية. والذين يسمون أنفسهم أنصار الحديث يحاولون الفرار من بيت الحضارة القديمة، ويعملون على أن يخلقوا لما أنشأته الحضارة الحديثة قوالب جديدة من اللفظ قد لا تتفق وما يرضاه فقه اللغة العربية وسرها.
مثل هذا الخلاف يرجع إلى قيام طائفتين اختلف تهذيب كل منهما، واختلفت ثقافتهما عن الأخرى، فتعذر عليهما التعاون الواجب لخلق روح قومية للثقافة والأدب. ولن يزال هذا الخلاف ما بقي الاختلاف بين الطائفتين في التهذيب والثقافة وما بقيت الأمة في علمها وأدبها كلا على سواها وعالة على غيرها. فيظل «الأقدمون» بين جدران قصور الماضي المجيد بحضارته وأدبه معجبين بمخلفاته، ناسجين ثمرات أفهامهم وخيالاتهم على منواله، قانعين بالنظر إلى الحاضر وأعماله وآماله من نوافذ هذه القصور، فرحين بما قد يجدونه فيه من مشابهات لما عندهم، مؤمنين بأن ما لديهم خير وأبقى، وبأن ما يرون من سناء ولألاء ليس إلا خلبا من برق وسرابا من آل. فإذا حسن ظنهم بالحاضر قالوا: إنما هو فروع هذا الجذع الذي جمعنا حوله وأوجب علينا أن نزيده قوة وصلابة. ويظل «المحدثون» في فضاء الحاضر الحر الدائم الحركة مأخوذين بما أبدع الغرب فيه من ثراء وغنى في الحكمة والعلم والشعر، ممتلئة نفوسهم بمحبته وإجلاله، متمثلة كل ما فيه من بهاء لا يبلى، وجدة لا يهرمها شتاء حتى يعقبه ربيع أكثر بهاء وجدة. فإذا أداروا رءوسهم إلى قصور «الأقدمين» التي منها درجوا حاولوا أن يتصل ما بين كنوزها وهذه الحضارة الجديدة، فإن تيسرت الصلة الصحيحة فذاك، وإن لم تتيسر فلا ضير أن تكون صلة أقل صحة ما دامت ترضي منهم هوى النفوس، وتكفي عندهم لبوسا للمعاني الجديدة والصور المستحدثة.
والحق أن اللغة العربية على ما خلفتها حضارة العرب كثيرا ما تستعصي على صور هذه الحضارة الحديثة. وليس عليها في ذلك ذنب، وليس في طبيعتها دون الوصول إليه عجز؛ ذلك بأن اللغة أداة إن لم يدم صقلها علاها الصدأ، ثم كان فيها تثاقل عن السير المطمئن إلى حيث يحتاج إليها الذهن الفياض بمعان وصور وجديدة. ولقد يبلغ من صدئها أن يقبرها. وهذه الهيروغليفية واليونانية القديمة واللاتينية والآشورية وما إليها من لغات، حملت أسمى صور الحضارة الإنسانية القديمة، ثم أهملت فصارت قبورا لهاته الصور، ينبش العلماء اليوم لاستخراج ما تحتويه من كنوز ودفائن تضيف إلى سلطان الحاضر وعظمته سلطانا وعظمة. ولا ريب في أن اللغة العربية تنطوي من الكنوز على ما لو اطلعت عليه جميعا لوقفت أمام جلاله وبهائه مبهورا مقدسا. وذلك سر سحرها الأقدمين وأخذها إياهم عن أنفسهم. لكن اللغة العربية كائن حي لا تزال ولن تزال. وكل كائن حي لا يستطيع القيام دون الاشتراك مع سائر الكائنات التي تتصل به اشتراك تعاون وتنافس. وقد هدمت منشآت الحضارة الحديثة ما بين الدول من حدود وما كان يحيط بثمرات الفكر من قيود. فأصبح العالم كله كتلة واحدة ذات حضارة واحدة. وأصبحت عقول السكسون والجرمان واللاتين والعرب والهندوس والصين تتجاوب ثمراتها، وتتنافس آثارها، وتتجاذب في نضال وتضامن. واندفعت الأمم العربية واللغة العربية، حتما مقضيا، تغامر في المضمار، وتعد كاهلها لاحتمال حضارة الإنسانية كلها بكل ما فيها من علم وفن وأدب. ولا مفر لها من أن يبلغ صفو صقالها ما يجعلها في حملها حضارة العالم تعدل كل لغة من لغاته. فإذا أتاح القدر لأهلها أن كان لهم على الحضارة الغلب يوما كانت بين اللغات جميعا زينة وسحرا وبهرا.
ولعل هذه المعارك القلمية التي تنشب بين «الأقدمين» و«المحدثين» إحدى الخطى في سبيل هذه الغاية. «فالأقدمون» يريدون أن يمسكوا «بالمحدثين»؛ لكي لا يندفعوا إلى ما يندفع إليه الريحاني وجبران خليل جبران. و«المحدثون» يحاولون أن يخرجوا «الأقدمين» من غيابات الماضي إلى نور الحاضر وحركته.
وذلك نضال غايته الكمينة حرص الطائفتين على التضامن والتعاون في الحياة القومية؛ لتؤدي كل ما أوجبته عليها الحياة لخير الإنسانية جميعا.
لكن هذه المعارك لا تزيد على أنها خطوة ضيقة. ودرك تلك الغاية السامية تعوزه خطى العمالقة وجهود الفحول. هؤلاء العمالقة الفحول هم النوابغ يقف الواحد منهم من قومه موقف الهادي تتعلق به الأنظار، وتنفتح لعبارته الأفئدة والقلوب. يعتصر ذهنه الفرد لب الحضارة جميعا، وينفثها من روحه القوي في أحاديث وقصص أو في قصائد منظومة أو في كتب علم وفن، فيتلقاها عنه قومه وقد لبست ألفاظه ثيابا من المعاني يجب أن تقرها معاجم اللغة راضية أو كارهة؛ ولهذا النابغة يخضع «الأقدمون» و «المحدثون» جميعا. ليكن في عبارته ما فيها على قواعد اللغة من خروج وشذوذ؛ هي لغة الحضارة وروح العصر؛ هي الجواب الكافي لحاجة في النفوس تتطلع لسدها؛ هي الأداء الصحيح لما يجول بخاطر الإنسانية من المعاني. والإنسانية ميراث متجدد يسفر كل صباح عن حظ منه جديد. فاللغة التي تؤدي حاجة الإنسانية وما يجول بخاطرها لا يمكن إلا أن تكون الثمرة الناضجة لهذا الميراث والجماع الكامل لكل ما كدسه الوجود من علم ووهم ومن حس وتصور.
متى يتاح للغة العربية أمثال هؤلاء النوابغ الذين ينشئون الأدب القومي، ويفرغون في قوالبه المصقولة حضارة الإنسانية بكل ما تنطوي عليه؟ ذلك سؤال جوابه للزمن. لكن أهل هذه اللغة بحاجة إلى مجهودات صالحة يقوم بها المئات والألوف من أبنائها في مثابرة وجد لاجتناء ثمرات مجهودات الأمم الأخرى، وبثها في جو البلاد العربية. سيجد هؤلاء المئات والألوف من مجهودهم مشقة وعنتا، وسيقع بعضهم إعياء ويفر آخرون يأسا. لكن الحضارة شجرة من الأشجار الضخمة العظيمة الجذع التي لا تسرع إلى الظهور والنمو، ولكنها تسير في سبيله مقاومة كل صعب متغلبة على كل عقبة، وتبدو أول ظهورها ضئيلة لا يطمئن من لا يعرفها إلى أنها بالغة ما يبلغه أمثالها من ضخامة وعظمة؛ ولذلك يصد عنها ولا يعنى بتعهدها. وهذا هو شأن الكثيرين من أهل الشرق اليوم. أولئك يريدون العاجلة فيهيمون باقتطاف زهر النبات الضعيفة سوقه السريع انقضاء أجله. وهم يكتفون بتفيؤ ظلال جذوع سقطت أوراقها وجفت أغصانها. أما ذوو العلم فلا يثنيهم عن تعهدها عجز ولا طمع. فإذا هي أورقت كان من ثمرها قطاف النابغة الهادي.
يوم يقيم النوابغ الأدب القومي، بعد أن ينشر المجاهدون العلم والثقافة القومية، تنتقل المعركة من ميدان القديم والحديث إلى التنافس حول الكمال والقرب منه والابتعاد عنه، ويومئذ يتشعب الكمال إلى ما يريد النوابغ من صور، ويومئذ يسلس قياد اللغة ويسرع تيارها الفياض إلى حيث يحتاج إليه الذهن. ثم يكون التعاون الصادق بين ثمرات الفكر. وتكون هذه الثمرات لذاتها هي الغاية أن أصبحت اللغة منهلا عذبا كثير الزحام. ويومئذ ترى هؤلاء المقتتلين من «الأقدمين» و«المحدثين» قد انصرفوا عن نضالهم الحاضر إلى ما هو خير وأبقى، ونرى اللغة اتصل ماضيها بحاضرها دائمة الأهبة؛ لتمثل ما تخلقه الحضارة من كل حديث.
لكن انصراف المقتتلين اليوم لن يحسم المعركة. وكيف تحسم في الحياة معركة والحياة تمور في نضالها الدائم الاتجاه نحو ما ترجوه الإنسانية من كمال. إنما يكون صلح الطائفتين المتنازعتين اليوم مثارا لقيام طوائف جديدة تقف في وجههما جميعا. ألم تر في نضال الفن كيف قام الآخذون عن الفلمنك، فأنشأوا اليوم شتى المذاهب، ووقفوا ينصرونها في وجه المدرسة اللاتينية العريقة الأصل والحسب؟ أولم تر إلى من قد يسميهم الأستاذ عزمي المكعبين
Les Cubistes . إذن فسيقوم عند بلوغها من صفو الصقال غايته أولئك «المكعبون» ومن إليهم من الثائرين. وسيكون أثر هؤلاء في اللغة أثر السموم تدخل إلى الجسم القوي فتزيده قوة وتؤتيه من المناعة ما يقيه ويحفظه. •••
لا نطلب اليوم إذن إلى «الأقدمين» و«المحدثين» أن يكفوا عن النضال ما دام نضالهم خطوة في سبيل الكمال. إنما الذي نرجوه ونطلبه أن يتضامن المئات والألوف من أهل اللغة العربية؛ لتتمثل لغتهم حضارة الإنسانية وليحتمل كاهلها كل ثمرات الذهن الإنساني من علم وفن وأدب. فإذا بلغوا من ذلك أن كان لأممهم حظ ونصيب من الثقافة القومية، فقد آذنت الساعة لقيام النوابغ الذين ينفثون في الشرق العربي روح حياة وقوة، ويخلعون على اللغة ثوب البهاء الذي يجدر بها أن تكسوه في هذه المدنية الحاضرة؛ لتكون به جديرة بأبناء هذا الشرق مهد أسمى الحضارات الإنسانية وأكبرها مجدا وعظمة.
العرب والحضارة الإسلامية
سبعون مليونا أو يزيدون يتكلمون اللغة العربية في هذا العصر الحاضر. ويقيمون في دول متجاورة تمتد حول الشاطئ الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط وتحيط بالبحر الأحمر، وتمتد داخل آسيا إلى العراق، وتتسلل بعده إلى بعض طوائف في العجم وأفغانستان وتركستان والهند. وهذه الدول المتجاورة يدين الأكثرون من أهلها بالإسلام. وقد خضعت كلها منذ أكثر من ألف سنة لمصائر متشابهة فسرت بينها مع وحدة اللغة والعقيدة والحظ وحدة في الفكرة وفي الحضارة، جعلت منها كتلة تتأثر بمؤثرات متشابهة وتنظر إلى المستقبل ولكل منها فيه ما لسائرها من رجاء.
هذه الوحدة في اللغة والعقيدة والمصائر يرجع تاريخها في هذه الأمم جميعا إلى تاريخ دخول الإسلام إليها مع العرب الفاتحين. أما قبل ذلك فكان لكل أمة منها لغتها وعقيدتها، وكانت أمم أفريقية تكاد تنفصل عن أمم آسيا خلا سوريا وفلسطين وما يتصل بهما، فكانت - في أكثر حقب التاريخ - وشيجة الاتصال بمصر وإن استقلت بلغتها الآرامية عن الهيروغليفية وغير الهيروغليفية من اللغات التي استقرت على ضفاف النيل. ولقد لعبت هذه الدول التي اتحدت لغة وعقيدة ومصائر بعد الإسلام دورا في تاريخ العالم من أكبر الأدوار، لا يزال له أثره بارزا. وقد أقرت هذه الدول في العالم حضارة لا يزال أثرها ولن يزول.
كان لكل أمة من هذه الأمم قبل الإسلام لغتها وعقيدتها، وكان مصير بعضها يتعلق تارة بدولة كبيرة أخرى كدول الفراعنة أو دولة الروم أو دولة الفرس، ويتحكم تارة في مصائر هذا الغير من طريق الغزو أو من طريق الدين، كما كان الأمر بعد ظهور اليهودية والمسيحية. أما العرب المقيمون في شبه الجزيرة والذين نشروا الإسلام في أقطار الأرض بعدما نزل وحيه على رجل منهم، فقد كانوا قبل الإسلام - كما هم اليوم - قبائل وعشائر تعيش في بلاد كانت - كما لا تزال - قاحلة لا يتجه نظر أحد للاستيلاء عليها إن لم يكن من هذا الاستيلاء، أية فائدة. ولذلك لم يفتحها اليونان والرومان كما فتحوا سائر الممالك المجاورة لها. وكانت تعتمد في قوامها الاقتصادي على التجارة أكثر من اعتمادها على الثمرات القليلة الضئيلة التي وهبها القدر إياها. وكانت بلادهم، بموقعها بين آسيا وأفريقية، بجدبها واضطرار أهلها للسعي في مناكب الأرض وراء الرزق، طريق التجارة بين الأمم المحيطة بها. وكان البر يومئذ وسيلة صالحة للنقل؛ لأن البحر كان لما يذلل متنه، ولما يخضع لحكم الإنسان عبابه. لكن العرب لم يكونوا لذلك تجارا، بل كانوا حماة للتجارة التي تمر بأرضهم من غزو القبائل إياها وعدوانهم عليها، كما كانوا أصحاب رواحل تنقل المتاجر من مصدرها إلى موردها. وهذه الحياة التي تقضى في الحماية من غزو المعتدي وفي نقل التجارة من بلد إلى بلد تدفع إلى النفس أسمى معاني البطولة والإقدام والاعتماد على النفس والاعتداد بالذات. لكنها كذلك حياة قاسية قليل ما تدره من الربح، كثير ما تستغرقه من وقت من يعانيها. وهي بعد حياة تجوال قل أن يستقر صاحبها إلى ذويه، وقل أن تسمح بقيام المدن وتكون الجماعات المتشابكة المصالح القائمة حياتها العامة على التضامن والتنافس جميعا. وما تزال تلك هي الحال الاقتصادية في جزيرة العرب إلى يومنا الحاضر. فالمدن فيها قليلة، والموجود منها قليل عدد سكانه. ولقد حرمت ما كان لها من قبل من مزية مرور التجارة بها بعدما أصبح البحر أكثر من البر أمنا، لكنها استعاضت عن ذلك بموسم الحج يدر عليها من فضل الله ما يقيم أهلها طوال عامهم.
مثل هذه الحياة الاقتصادية التي تقضي على أهل شبه الجزيرة بالعزلة والتجوال، وتحتم عليهم مواصلة العمل لكسب الرزق، ولا تيسر إنشاء المدن الكبيرة، ليس في طبيعتها أن تقر حضارة ثابتة القواعد باقية الأثر؛ ذلك بأن الحضارة ثمرة من ثمرات الاجتماع في الحضر، وهي لا تتفق وحياة البادية في كيانها على نحو ما هو ظاهر من لفظ الحضارة نفسه. ثم إن الحضارة فيض من عمل الإنسانية عن حاجاتها المادية والمعنوية والأدبية يزيد من هذه الحاجات، ثم يحفز الإنسانية في نفس الوقت إلى سعي جديد يكون من أثره فيض جديد. وهذا الفيض المتتابع هو الذي نقل الإنسانية من حياتها الأولى إلى تنعم به اليوم من ترف ورفاهية، وهو الذي سينقلها في حدود النظام والتقدم إلى أبعد مدى ترتجيه نحو الكمال. وقد كان العربي في وفرة من حاجاته الأدبية والمعنوية. لكن حاجاته المادية وحكمها القاسي الذي اضطره إلى البداوة وإلى عيش العزلة هي ركن من قواعد الحضارة لا سبيل لقيامها بدونه.
وهذا في ظننا هو أكبر السبب في غموض تاريخ العرب قبل الإسلام غموضا يكاد يكون تاما. فبينا يرجع تاريخ مصر لأكثر من ستة آلاف سنة، فيصور لنا حضارة عظيمة ثابتة الأركان والقواعد، تمتد من ضفاف النيل عبر البحر المتوسط إلى اليونان وروما، وتجتاز برزخ السويس إلى فلسطين وسوريا وما وراءهما، وتظهر فيها الحياة المادية والمعنوية والأدبية واضحة الحدود والثنايا، ثم هي ما تزال تزداد بالبحث والتنقيب ظهورا ووضوحا؛ وبينا يحدثنا التاريخ عن اليونان وروما، ويدل فيهما على حضارة ترجع إلى نحو ثلاثة آلاف من السنين؛ وبينا سائر الأمم التي كانت معروفة في تلك العصور النائية قد تأثرت بهذه الحضارات، وأثرت فيها، وكانت لها حضارات خاصة - بينا يكشف لنا التاريخ عن هذا إذا به لا يروي عن شبه جزيرة العرب قبل الإسلام بأكثر من مائتي سنة شيئا معينا.
وإذا رواياته عن هذين المائتين من السنين لا تدل على أكثر من أن العرب كانوا أهل بأس ونجدة وحياة معنوية فياضة. أما الحضارة ومظاهرها من علوم وفنون، أما هذا الفيض الذي يربو على حاجات الإنسانية ثم يندمج فيها ليخلفه فيض جديد يندمج ليجيء بعده فيض غيره، ثم ما يكون من ذلك من التقدم في سبيل الكمال، فلا يحدثنا تاريخ العرب قبل الإسلام عن شيء منه. بل لا يزال شبه الجزيرة في تاريخه من بعد الإسلام إلى يومنا خلوا من هذا؛ لأنه لا يزال كما كان خاضعا لسلطان الحياة الاقتصادية التي لا تجود بما يقيم الركن المادي من أركان الحضارة.
على أن الناحيتين، المعنوية والأدبية، كانتا قويتين في النفس العربية قبل الإسلام، ولا تزالان قويتين فيها إلى حد عظيم. وهذه القوة المعنوية أثر من آثار قسوة الحياة الاقتصادية العربية، أو هي تعويض عن هذه القسوة تجود به الطبيعة وتقيمه في الكائن الحي فطرة الاحتفاظ بالحياة. فلو أن الحرمان المادي قابله حرمان معنوي لما استطاع هذا البدوي المقيم على شظف العيش أن يجد في نفسه من الهمة ما يتغلب به على شدائد الدهر ونوائب الزمن. بل لو أن نفسه كان فيها هذا الاستسلام الوادع المطمئن إلى ما تجود به الطبيعة من عيش ناعم لقضى نحبه جوعا وظمأ. والقليل الذي بقي لنا من أدب العرب قبل الإسلام وفي صدره الأول يفيض بمعاني هذه الهمة وآثار تلك القوة التي كانت دائمة التحفز لمجالدة الطبيعة ومغالبتها. وماذا تسمي هذا الازدراء للتكسب بالشعر إلا أنه سمو عن المسألة واحتقار لكل من تحدثه نفسه بأن يعيش عالة على غيره وأن يكسب حياته من غير جده ونشاطه؟ ثم ماذا تسمي هذا الترفع من جانب الرؤساء عن قول الشعر - حتى كان امرؤ القيس عار أبيه - إلا أن هؤلاء الرؤساء كانوا يرون واجبهم في الدفاع عن عشائرهم والذود عن حياضها والحكم بين أهلها يقضي عليهم بالترفع عن القول إلى العمل، خصوصا إذا أوجب هذا القول ما يوجبه الشعر العربي من غزل لا يتفق ورياساتاهم الرفيعة. على أن الشعر الذي قاله الرؤساء وغير الرؤساء كان يفيض حماسة ونجدة، وينبئ عن رفعة في النفس تبعدها عن الدنايا وتدفعها إلى أسمى الغايات.
هذا الفقر في الناحية الاقتصادية والغنى في الناحية المعنوية، وهذه العزلة الدائمة التجوال، كل ذلك جعل من العربي رجلا خياليا لا يعرف من دقائق حياة الوجود إلا قليلا. ثم مع هذا يرد كل ما في الوجود إلى شخصه فيمتلئ بذلك زهوا وافتخارا. وأنت فيما ترجع إليه من أشعار العرب قبل الإسلام لا تجد إلا حديث الشاعر عن نفسه. فحبه وغزواته وكرمه ومجده ونسبه. وأنت تجد ذلك كله مذكورا بزهو أي زهو، وإعجاب أي إعجاب. فأما ما كان من مظاهر الحضارة في الشعر؛ أما هذا الوصف لحياة الجماعات ونشاطها وغزوات الدول الأجنبية إياها وفخارها بالنصر، وألمها للهزيمة مما تجده في إلياذة هوميروس، وأما هذه الفلسفة الدينية أو الوثنية التي تعبر عن إيمان الجماعة وآمالها في الحياة، وفيما بعد الحياة مما تجده في آثار المصريين واليونان والرومان، وأما هذه الفلسفة التي تعبر عن نظام الجماعة التي فرغت من سعيها لحياتها، وجلست تفكر في أمسها ويومها وفي الحياة والموت وما بعدهما، وأما هذه القصص التي يتلهى بها أهل المدن في مسارحهم وحين قصفهم ولهوهم؛ أما هذا وما إليه منآأثار الفكر والفن ومن ثمرات الحضارة، فلا تكاد تحسه في الشعر العربي قبل الإسلام. وكيف تطلبه إلى قوم حياتهم الاقتصادية ما رأيت ولهوهم هو هذا الغزل بالنساء والإشادة بالحب وذكره؟ والحب كما تعلم ليس إلا حديث بقاء النوع، كما أن الكفاح ليس إلا حديث الاحتفاظ بالحياة.
تلك كانت حياة العرب قبل الإسلام. أعدتهم الطبيعة لحياة العزلة والجهاد فظلوا قبائل لحمتها النسب وسعيها حماية الجار عربيا كان أو غير عربي. وأنت لن تجد في شعر الجاهلية معنى أسمى من هذه الحماية وبذل النفس في سبيلها واستعداء العشيرة على من يتعدى عليها. كما أنك لن تجد عند الجاهليين من دوافع الطبيعة غير الغزل جاوز عندهم ما تدفع إليه فطرة استبقاء النوع وتحسينه إلى أن صار فنا. يفكر الأعرابي في محبوبته على أنها أمل يتخيله وصورة يصل في وصفها إلى ما لم يصل إليه سواه. وذلك أن الشاعر العربي القديم كان يقاسي من ضرورات الحياة ما يقاسي، ثم لا يجد من صور الترف والنعمة سوى المرأة. فكان لذلك يسبغ عليها كل ما في عقله وقلبه وكل ما في بصره وبصيرته من الصور والمعاني.
أما ما سوى هذه المظاهر من صور الحياة فلم يذكر عنه التاريخ شيئا. وإذا كان بعض المؤرخين قد وجد في بلاد اليمن وفي بعض سواحل العرب شيئا من آثار الحضارة؛ فذلك لأن تلك السواحل كانت في حياتها الاقتصادية أحسن حظا من داخلية البلاد المحاطة بالصحراء، لكن حظها لم يكن من الوفرة بحيث ينيل ما وراءها من المتاع المادي الذي يقيم الحضارة في شبه الجزيرة أو في قسم منها ذي قوام خاص؛ لذلك بقيت حياتها البدوية أساس كيانها، وبقي لها من هذه الحياة كل ما سبق وصفه من الآثار.
ولما جاء الإسلام كانت شبه الجزيرة على حالها القديم منقسمة شيعا وقبائل كل منها ذات كيان مستقل بحاله من نسب وتقاليد ولهجة عربية، تختلف قليلا أو كثيرا عن لهجة قريش. لكنها كانت جميعا ذات حياة معنوية وأدبية ممتازة في القوة. وكانت هذه الحياة المعنوية غير متفقة مع ما كان سائدا بينها من عقائد أورثها إياها سلفها، وجنى عليها ما كان يرد إليها مع أبنائها حماة التجارة من عقائد القبائل والشعوب المجاورة؛ لذلك وجدت كلمة الإسلام في بساطتها وقوتها وحقيقتها مرعى خصبا في نفوس ترجو أن تطمئن، فلما اجتمعت كلمة العرب في شبه الجزيرة حول الإسلام، وتناصرت قبائلهم المتقاتلة، وأصبحوا أمة جمعت كل قوى العربي المعنوية، اتجهوا إلى الفتح؛ ليقيموا الدين ولو كره الكافرون.
أوغل العرب المسلمون إلى الشام والعراق والفرس ومصر، فألفوها بلادا ذات حضارة كاملة الأداة والمظهر، ووجدوا فيها ثمرات الاجتماع من فلسفة وعلم وفن. وتلك شئون ليس لشبه الجزيرة بها عهد. ولكنهم ألفوا الجانب المعنوي من هذه الحياة الحضرية ضعيفا متهدما نخره الترف وزعزعت أسسه المظالم. وهذا الضعف المعنوي، هذا الضعف في إيمان النفس بذاتها، هو الذي فتح أمام النفوس العربية - التي ازدادت بإيمانها الجديد قوة وحماسة - أسوار هذه الأمم. فبدأ العرب أول فتحهم هذه البلاد ينشرون الدين فيها ويقيمون العدل بين أهلها، ويعفون عما استقر من الحضارة بين ربوعها. وهذا يفسر لنا ما يقال من إحراق بعض دور الكتب، وعدم العناية بأي مظهر من مظاهر الفن. لكن فترة الغزو الأولى لم تلبث أن تمر ولم يلبث العرب أن اطمأنوا إلى معاني النعمة التي أفاضتها عليهم خيرات البلاد المفتوحة؛ حتى بدأوا يترددون في وجوب التعفف عنها. ولعل أول مظاهر هذا التردد صراحة انتقال حكومة الدولة من مكة والمدينة إلى دمشق. فليس شك في أن من الأسباب التي أدت إلى هذا الانتقال ما رأى العرب من فقر شبه الحزيرة وإقفارها، ومن استحالة قيام الحضارة فيها. وبانتقال الحكومة إلى دمشق وأخذ الخليفة من مظاهر الترف بنصيب بدأ هؤلاء الذين قضوا حياتهم إلى ذلك الحين في شظف من العيش ينالون من آثار النعمة ما يرفه عنهم مضض الجهاد، وما يزيدهم للغزو حبا وفيه إمعانا.
وإذ كانت الناحيتان الأدبية والمعنوية ناميتين عنده كما أسلفنا، وكان ذا حظ من الذكاء عظيم، فقد استطاع أن يتمثل حضارة البلاد التي مر بها. بل استطاع أكثر من ذلك أن يهضم الحضارات المختلفة، وأن يسيغها، وأن يجعل منها حضارة واحدة هي الحضارة الإسلامية. فهو قد وجد على شواطئ دجلة والفرات، ووجد في بلاد فارس صورا من الحضارة ماثلة في مظاهر الفكر والفن على غير الصورة التي مثلت بها الحضارة الرومانية على ضفاف النيل، وعلى غير ما وجد على شواطئ البردا بدمشق. مع ذلك جمع هذه المظاهر كلها ومزجها في فكره مزجا، وأبرز منها للحضارة الإسلامية صورة جعلت ترقى رويدا رويدا وتزداد باتساع الفتح رقيا، وتتمثل صورا ومعاني للحضارة جديدة، حتى كانت حضارة بغداد وحضارة قرطبة غاية ما وصل إليه التقدم الإنساني في تلك العصور. ولما تدهورت دولة العرب وقام الترك على حكم المسلمين وقفت هذه الحضارة الإسلامية التي ساغها العقل العربي، فلم تتقدم وظلت واقفة إلى زمن قريب من عصرنا الحاضر، ثم هبت عليها نسمات من الحياة تبعث في النفوس اليوم أكبر الأمل أن يعود لهذه الحضارة مجدها وسلطانها.
خرج العرب المسلمون إذن من شبه الجزيرة ولا حضارة لهم، ثم كانوا أداة اتصال بين الحضارات المختلفة القائمة في الفرس وفي مصر وفي الأندلس فتمثلوها، ثم خلقوا من مظاهرها جميعا ... وفنية كبرى. ولقد قام أهل البلاد التي فتحها الإسلام بهذه المجهودات فألفوا بها بين حضارتهم السابقة وحضارات الأمم التي اشتركت معها الحضارة ما اقتضاه قيام كل حضارة سبقتها من مجهودات عقلية، حضارة متحدة هي الحضارة الإسلامية. وقد اقتضى قيام هذه بعد فتح العرب إياها في نعمة الإسلام. أما العرب الفاتحون أنفسهم فقليل منهم من اشترك في هذه المجهودات الفكرية والفنية وإن كانت جميعا قد تمت بأمرهم وتحت إشرافهم. ولعل أكبر ما يقنعك بهذا أن الأدب العربي، الذي كان باقيا للعرب أنفسهم لم يشاركهم فيه من أهل الأمم المحكومة إلا قليل، قد بقي بطابعه العربي القديم مع قليل من التحول زمنا طويلا. ثم هو على كل حال لم يتأثر في غير الأندلس بمظاهر الحضارة الجديدة من وصف للمدائن والقصور وما تحتويه. وهو لم يتأثر ولا في الأندلس تأثرا ظاهرا بالأبحاث التاريخية والفلسفية والعلمية التي كان يعالجها أهل تلك الأمم، والتي بلغت في رفعة الحضارة الإسلامية مقاما محمودا، وكانت ذات أثر مباشر في تطور المدنية الغربية وفي بلوغها مكانتها الحاضرة.
وإنه لعجب حقا أن يدل الأدب العربي على أن العرب الذين تمثلوا حضارات الأمم التي حكموها ظلوا محتفظين بسحنتهم العربية، حتى لكأنما أنفوا أن يستعيروا من أدب غيرهم ما لم يكن في أدبهم قبل الإسلام من قوالب وصور. أم أنها لم تكن أنفة، بل كان الطبع العربي السريع التنقل والتجوال هو الذي احتبسهم في تلك القوالب القديمة؟ أرأيت شاعرا عربيا قحا عدا في أوزانه أوزان العرب الجاهليين؟ وهل رأيت كتاب العرب اختلفوا في نقل الروايات عمن سبقوهم؟ ثم هل جدد عربي في الأدب نوعا من الأنواع لم يكن معروفا من قبل؟ وهل وضع أحد القصة الطويلة أو الرواية التمثيلية، أو ما إلى ذلك مما عرفه أدب اليونان والرومان وما كان معروفا في مصر وفي غير مصر من البلاد التي خضعت للفتح العربي؟ أم أن الذين جددوا في اللغة العربية لم يكونوا عربا أعرابا، وأن الذين كتبوا كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة وقصة عنتر، وما إلى هذا من الأنواع الجديدة إنما كانوا من أهل البلاد التي دخلها العرب واتصل ما بينهم وبين أهلها برابطة الإسلام، فكان تعاون على إعلاء شأن الدين والحضارة التي لازمته.
أستغفر الله فقد ابتدعت في الأندلس صيغ وأوزان في الشعر جديدة أخذها مشارقة المسلمين عنهم. كما أن الشعر العربي والنثر العربي تأثرا بكل حياة جديدة مرا بها في تصويرهما المعاني. لكن أكبر عوامل هذا التجديد ليسوا العرب الأعراب، وإنما هم الذين دخلوا في الإسلام واتخذوا اللغة العربية لغة لهم. وقد يكون من الأعراب من تابعهم. لكن العرب الذين نزحوا من شبه الجزيرة ظلوا أغلب أمرهم محتفظين بكيانهم القديم، كما ظلوا أدوات اتصال بين الأمم التي شاركتهم دين الهدى والحق.
على أن أكبر ما يسر للعرب الإشراف على قيام حضارة مشتركة بين هذه الأمم المتجاورة ما تربط الطبيعة به هذه الأمم من أواصر، فهي جميعا ترجع إلى أجناس متقاربة، كما أن وسائل الاتصال بينها عريقة في التاريخ تقرب بينها اليوم كما كانت تقرب بينها من قبل. ميسورة بسبب وقوعها جميعا على شواطئ البحر الأبيض المتوسط أو على مقربة منه. ولقد كانت الحضارة التي قامت على شواطئ هذا البحر متقاربة أبدا. وكان التفاهم لذلك بين أممه ميسورا.
وكان فضل العرب الأكبر أنهم جاءوا إلى هذه البلاد في عصر انحلت فيه عناصر قوتها المعنوية وتخاذلت النفوس، فدفعوا إليها من قوتهم ومن إيمانهم الجديد نشاطا وقوة وتماسكا حفزتها للعود بحضاراتها إلى الإنتاج والتقدم كما قربت بين هذه الحضارات وأدمجتها في الحضارة الإسلامية. واتصال العرب بهذه الأمم جميعا اتصال جوار وجنس وتجارة مكن لهذه الحضارة الجديدة أن تؤتي كل ثمراتها، وأن تبدع في مظاهر الفكر والفن والعلم مبتكرات ما يزال أثرها إلى اليوم باقيا.
هذه الأواصر التاريخية القديمة التي تربط أمم الشرق العربي بروابطها المتينة إلى يومنا الحاضر هي التي جعلت اللغة العربية والحضارة الإسلامية تبقى في أكثر البلاد التي أقام فيها العرب واتصلوا فيها بروابط النسب والقربى. أما الدول التي لم تكن متينة الارتباط التاريخي بالحضارة الجديدة كالأندلس وفارس، فقد عادت إلى عناصرها لأول ما دخل على السلطان العربي الضعف والانحلال. وها نحن أولاء تشهد أعيننا اليوم كيف تنبض هذه الأمم بدقات قلب واحد حين بدأ يدب فيها من جديد دبيب الحياة والقوة برغم ما تعانيه من ذل وأسر. فهذا المظهر وحده يدل على أنها جميعا اليوم على أبواب جدة (Rénaissanee)
كجدة أمم الغرب في القرن الخامس عشر، ولا يمكن أن تنفرد إحداها بهذه الجدة ما دامت الحضارة الإسلامية التي نشر العرب لواءها هي مرجع هذه الجدة، وهي التي تطعم عليها حضارة الشرق العربي الجديدة، كما طعمت حضارة العرب أيام جدته على مدنية اليونان والرومان.
أليس عجبا أن نذكر في هذا الظرف الذي يحدونا فيه الرجاء، ويملأنا الأمل في أن نرى جدة مدنية الشرق العربي كيف كان هؤلاء العرب الأعراب - ولا حضارة لهم - سببا في تكوين الحضارة الإسلامية وفيما خلفت من آثار جمة في العالم، أوليس عجبا كذلك أن يظل هؤلاء العرب الأعراب إلى يومنا هذا ولا حضارة لهم لأن واديهم غير ذي زرع لا يصلح مستقرا للحضارة وأدواتها من فن وعلم وفلسفة. وأعجب من كل هذا أن أولئك الذين لا حضارة لهم قد أقروا في منابت أكبر حضارات شهدها التاريخ لغتهم، فربطوا بذلك بين أمم هذا الشرق بأوثق رباط، وصار حتما مقضيا على هذه الأمم أن تتفق حضارة ومصائر ما اتفقت لغة وعادات. ولكن لا عجب؛ فإنما الإيمان الذي رفع النفس العربية إلى المستوى السامي الذي يبعث النفس الإنسانية إلى التقدم نحو الكمال هو الذي بعث الحياة الإنسانية في نفس الأمم التي أضعفها الاستعباد والترف، فانتقلت بإيمانها طفرة إلى النشاط الصالح، وأقامت الحضارة التي بعثت إلى الكون حياته مئات من السنين.
ولقد كان الإيمان منذ بدأت الإنسانية هو القوة الدافعة إلى الرقي والتقدم، وكان قوام الحضارات في مصر وآشور واليونان ورومة كما أن الإيمان بالعلم وسلطانه هو قوام المدنية الغربية الحاضرة. وإيمان شعوب الشرق العربي في هذا العصر الحاضر هو الذي يبعث في كل نفس أكبر الأمل بأن أمم هذا الشرق ستقوم عما قريب بدور عظيم في أدوار حياة الإنسانية.
Unknown page