كان عمره خمسة عشر عاما عندما التحق بالدومينيكيين في نابولي، ويقال إنه ألف كتابا في «سفينة نوح». أما السبب في التحاقه بزمرة دينية، ثم شكوكه التي ساورته في بعض العقائد الأساسية للدين النصراني كعقيدة التجسد، فلا يذكر له المؤرخون سببا، أو يروون وقائع تبين عن حقيقة ذلك الانقلاب المخيف في عقلية إنسان تملكه الإيمان، ثم تملكه الشك.
اتهم «برونو» بالمروق ثم بالكفر، واضطهد وطورد، فهرب من روما حوالي سنة 1576، ومضى يتنقل من بلد إلى بلد، ومن قطر إلى قطر، ثم استقر في «جنيف» سنة 1579. غير أن الجو الذي عاشت فيه تعاليم «كلفن» لا تعيش فيه تعاليم «برونو»؛ فتلك تعاليم تحددها النصوص والعقائد، وهذه تعاليم أساسها الشك وقوامها الفكر الحر.
هجر «برونو» مدينة جنيف طالبا السلامة لنفسه وفكره، ولاذ بمدينة ليون بفرنسا. ثم ما لبث أن هبط «تولوز »، ومن ثمة في «مونبلييه»، ثم لجأ إلى «باريس» في سنة 1581.
ما حل بمكان إلا وبشر بالآراء الجديدة، والمستكشفات الحديثة في عصره، سواء أفي الفلسفة كانت أم في العلم. تلك الآراء والمستكشفات التي كانت بداية ثورة عنيفة قامت في عالم الفكر الإنساني.
نهل «برونو» من منهل النهضة، حتى غص فكره، وامتلأت نفسه، وثبتت عقيدته على أن الفكر البشري لا ينتعش في بيئة تغشاها غيوم الفلسفة القائمة على سلطة اللاهوت وتقاليد الكنائس.
تكونت زبدة فكره من آراء «لوكريشيوس» و«الرواقيين» ومذهبهم في وحدة الوجود الطبيعي. وأخذ شيئا عن «أناكساغوراس»، واستمد من الأفلاطونية الجديدة. ولكنه استعمق في دراسة «نيقولاس دي كوزا»، الذي يوصف بأنه فعل في عالم التأمل ما فعل «كوبرنيكوس» في عالم الفلك. •••
لما نزل «باريس» تقبله الملك «هنري الثالث» بقبول حسن، وهيأ له كرسيا لتدريس الفلسفة، على أن يقبل أولا أن يتلقى «الأسرار المقدسة»، فرفض بكل إباء. وبالرغم من هذا سمح له أن يحاضر في الفلسفة، غير أنه لم يلبث على ذلك إلا ريثما يتهيأ للنزوح إلى إنجلترا سنة 1583، حيث أقام عامين تعلم فيهما أمرين: الأول، كيف يمقت جفاف الطبع الإنجليزي؛ والثاني، أن الأساطير تسيطر على جو «أكسفورد»، كما تسيطر على جو «جنيف».
هيأت له جامعة «أكسفورد» ندوة يحاور فيها بعض رجال العلم في مذهب «كوبرنيكوس» ومذهب «بطليموس» في نظام الأفلاك. وعلى إثر ذلك نشر كتابا أيد فيه صحة القول بدوران الأرض من حول الشمس كما يقول «كوبرنيكوس».
في سنة 1584 نشرت محاوراته التي عنوانها «طرد الوحش المستبد». وفي الأولى منها أفرغ برونو خلاصة فلسفته، وبدأها بأن قال: إن الآلهة حاولت أن تطهر السماء من الصور السماوية التي من شأنها أن يذكرهم وجودها بأعمالهم الخبيثة، لتضع محلها صورا تذكرهم بالفضيلة والأدب المثالي.
ومضى يهاجم اللاهوت الوثني، متخذا من ذلك قناعا يخفي وراءه نزعته إلى القضاء على كل عقيدة دينية تقوم على القول ب «التشبيه»: أي القول بأن الله مزود بما يشبه الخصيات الإنسانية.
Unknown page