حلت بمصر الكارثة الأخيرة؛ كارثة تعطيل الحياة النيابية،
1
ولا ندري إلى أي حد، فإن ذلك موكول بالظروف، وليس خاضعا لإرادة رئيس الوزارة ولا لغيره من رجال الدولة، كبر شأنه أم صغر، ولم تكد تظهر بوادر هذه الحالة في الأفق السياسي، ولم يكد يفتح في سماء الأمل منفذ نور لأصحاب المعالي، حتى ولجه جمع منهم، ثم أخذوا يسددون منه نبال النقمة والانتقام إلى أقفية إخوانهم الذين تضامنوا معهم بالأمس.
وليت الأمر وقف عند هذا الحد، بل تعداه إلى قواعد ومبادئ مقدسة لا علاقة لها بأقفية الذين رماهم هؤلاء بنبالهم وسددوا إليهم سهامهم، ولكن ما دام النحاس رئيس الأغلبية، ولا أغلبية إلا بالدستور، فلنوجه النبال إذن إلى قلب الدستور، كما توجه إلى قفا النحاس وأصحابه، فإذا ساءلت نفسك: أية علاقة بين الأكثرية وتصرفها، وبين الدستور؟ وما هي علاقة الانتقام من النحاس بقتل الدستور؟ وما هي الرابطة بين ضرب الأغلبية وبين الحق العام الذي يملكه أصغر طفل في أصغر قرية، كما يملكه أكبر صاحب دولة من أصحاب دولاتنا؟ لما استطعت أن تقع على جواب ظاهر، اللهم إلا أن تلجأ في تفسير ذلك إلى الاعتقاد بأننا في مصر، وفي الشرق عموما، لم نستطع أن نفرق بين المبادئ والذوات، فالدستور ملعون لأن صاحب الأغلبية في مجلسيه هو النحاس، ولكن ماذا يكون من أمر الدستور إذا أصبح الأغلبية في مجلسيه هو صاحب الدولة محمد محمود؟ لا جرم يكون أكبر نعمة وآخر ما تجود به النظم على الحضارة المصرية من البركات، بل يكون أجمل حلة تخلع على الشعب المصري، الذي عراه الاستبداد عما يستر جسمه الضئيل من الحقوق التي اعترف بها للعبيد والهمج، وترك غرضا ترميه الألسن بأمر الكلم، كما تحدجه العيون بأخبث ما تستطيع أن توجه من نظرات الاحتقار.
أولا يكون إصلاح إلا إذا أظهرنا أهل الدنيا والآخرة على أن الشعب المصري لا يستحق الحرية ولا يعرف لها طعما؟ أولا يكون إقرار للحقوق إلا بأن يسلب الشعب من حقه الطبيعي؟ أولا يكون من انقلاب إلا إذا ظهرنا بمظهر المرغمين عليه المسوقين إليه؟ أولا يكون لنا من طريق إلى التنفيذ إلا تلك الطريق الملتوية المتعسرة التي نحفر فيها الأنفاق ونذهب فيها خفية متسللين تحت الثرى، كما تفعل الحشرات الدنيا؟
نظم الحكم
لا أستطيع أن أدرك أن حسن القوامة على الحكم قد يتأتى بغير نظامين؛ فإما نظام نيابي تتسع فيه الحريات بقدر ما يستطاع، وإما نظام دكتاتوري تنحصر فيه السلطة في يد شخص واحد، وليس بين هذين النظامين فراغ يمكن أن يسده نظام ثالث؛ ففي كلا النظامين الدستوري والدكتاتوري، تتوحد الأضرار كما تتوحد المنافع، ويحصر الخطأ كما يحصر الصواب، أما في النظام الثالث، وهو نظام لا بد من أن تتضارب فيه النزعات وتختلف فيه الأهواء على مقتضى ما تتجزأ السلطة وتتشعب وجهات النظر، فلا يمكن أن تحدد فيه المنافع والمضار، ولا يمكن أن يحصر الخطأ والصواب. ومن الأسف أننا نحكم اليوم، وفي مصر وفي القرن العشرين، بمقتضى النظام الثالث، فلدينا ثلاث سلطات متضاربة الأهواء لا يمكن التوفيق بين وجهات نظرها، إلا بأن يكون التوفيق على رأس فتيان القرى، وما على أهل القرى إلا أحد أمرين؛ فإما أن يخضعوا، وإما أن تسلخ جلودهم.
محكمة الضمير
يحتمي دكتاتوران في أوروبا هما موسوليني وبريموده رفيرا بالدستور، ويستظلان بمجالس النيابة، أما صاحب الدولة محمد محمود باشا، الدكتاتور الأول في أرض الفراعنة، ففي غير حاجة إلى الاستظلال بشيء من ذلك، فهو يترك نفسه معرضا لحرارة الشمس تلفح وجهه، ولهب الريح يتقاذفه، فأكرم بها من شجاعة فات فيها رئيس دولتنا، رئيس دولة إيطاليا وطاغية إسبانيا معا!
محكمة النفس العليا هي الضمير، وعلى أساس هذه المحكمة قام مذهب الفيلسوف الكبير عمانوئيل كانت في الأخلاق.
Unknown page