وهذا أصل نؤصله لنعتمد عليه فيما بعد إذ نشبعه بيانا.
وينظر قائلون في الثروة الأدبية العربية بعامة، بعد أولئك الذين نظروا في أصول ثقافتها الإسلامية، فينكرون بهذا النظر فكرة الإقليمية.
يقولون: ما هذه الثروة الأدبية في الأقاليم الإسلامية بمختلفة - كما تذكرون - في ألسنتها وألوانها، ثم ثقافتها التاريخية؟ إنما هذه الثروة الأدبية العربية رغم هذه الظواهر كلها تراث واحد ، لا يتعدد ولا يتفاوت ولا يختلف، توزعته فنون واحدة في الشعر، فلم يظهر منه فن في إقليم دون إقليم غيره، بل الشعر هو هو في أبوابه المعروفة، وموضوعاته المتداولة المشتركة، لا تجد فيه حول هذا اختلافا يلفتك، ولا تفاوتا ينبهك. كما توزعتها فنون من النثر أيضا هي هي، لا تتغاير في مشرق عنها في مغرب، بل جرت أبواب النثر على رسوم مؤصلة لم تختلف فيها بيئة عن بيئة، اختلافا من هذا الذي ترجون أن تكون الطبيعة قد عملت فيه عملها، أو تركت البيئة فيه أثرها. وما يزال المتأدب يقرأ القصيدة الشعرية في عهد من العهود وعصر من العصور، لا يستطيع أن يتبين فيها فرقا، مصدره أن قائلها عراقي شرقي، أو يمني جنوبي، أو مصري بعيد عنهما، أو مغربي موغل في البعد. وكذلك الحال في الرسالة أو المقامة أو غيرهما من النثر.
نعم قد تختلف الأعصر، ويتفاوت فن عن فن ذلك التفاوت الواقع في رجال القطر الواحد والعصر الواحد، وأما ما وراء ذلك فشيء لا نجده ولا نتبينه، فلا نقول به.
وهم يقدمون لذلك مثلا، يرونه صارخ الكفاية، قوي الإثبات؛ إذ يقرنون الأدب الأندلسي في أقصى المغرب، بالأدب العراقي في نائي الشرق، ويرون القدماء من قبلهم قد شعروا بوحدته، وقرروا ذلك؛ فهذا «الصاحب بن عباد» يرى كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه فيقول: «هذه بضاعتنا ردت إلينا.»
وهذا «ابن بسام» صاحب «الذخيرة» وهو أندلسي، يقول: «إلا أن أهل هذا الأفق - يعني الأندلس - أبوا إلا متابعة أهل المشرق، يرجعون إلى أخبارهم المعتادة، رجوع الحديث إلى قتادة، حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب، أو طن بأقصى الشام أو العراق ذباب؛ لجثوا على هذا صنما، وتلوا ذلك كتابا محكما» (ج1، ص2).
يحتج أولئك القائلون بمثل هذا، ثم يمضون قدما فينكرون الفروق المنتظرة من اختلاف الإقليم وتفاوت البيئة، ولهم في ذلك مكتوب أحور إليه، فهو من صنف ما قدمت أول هذا الموضوع، من قول الشباب المدون عن فكرة الإقليمية. ولعل أشد ما فيه - كما قلت - أنه من قول الشباب! ومن أهل الجامعة! ومن أبناء مصر! فهم يقررون اشتراك عناصر مختلفة في ماضي هذا الأفق الأندلسي، ثم ينكرون أن يكون لهذه العناصر أثر في الحياة العربية التي خلفت عليه، ويستظهرون أن تأخر النهضة العلمية والأدبية في الأندلس حتى القرن الرابع الهجري، هو الذي ساعد على اندثار هذه المدنيات دون أن يبدو لها شأن في الحياة العقلية، فيقولون:
ومهما يكن فإن أثر التراث العقلي القديم في الأدب الأندلسي كان ضعيفا، بل إن الإنسان ليلاحظ أن هذا الأدب مدين في نهضته للتراث العباسي، كما يلاحظون مع ذلك أنه لم تقم بالأندلس حركة ترجمة كالتي قامت بالمشرق، ولم يكن فيه طوائف دينية من مجوس وزنادقة كما كان هناك، إنما كان يقرأ الثقافات الأجنبية فيما يأتيه من المشرق. وإن الإنسان ليخيل إليه أن كل شيء في الأندلس قد أسس على نظام القوم هناك، كما كان الشأن في أمريكا الحديثة حين هاجر أهلها من أوروبا؛ فإنهم ظلوا يستمدون منها حتى القرن الحاضر ما شكلوا به حياتهم وعلمهم وفنهم. ويمضون في بيان هذه المشابهة بإسراف يجعلهم يرون «المجتمع الإسباني - أي الإسلامي - مدينا في كثير من نواحيه للمجتمع العباسي»، إلى حد القول بأن الناس فيه كانوا يعيشون على نحو يشبه معيشة العرب في المشرق. وقد عم التأثير كل شيء في الجانب الاجتماعي. وأما الجانب العلمي والأدبي فقد مثل التقليد فيهما في كل شيء؛ إذ لا نجد في الأندلس قبل القرن الرابع شيئا من ذلك مستقلا، إنما كل ما عندهم بضاعة مجلوبة. ونفس القرن الخامس، قلما نجد فيه فلاسفة أو علماء مستقلين، فما يزال الأندلسيون يلخصون أو يعلقون على الثقافات والمذاهب المشرقية. وإذا رجعنا إلى الآثار الأدبية التي خلفها القوم وجدنا ظاهرة الصوغ على نماذج المشرق واضحة؛ فالكتب والمؤلفات تؤلف على نمط ما في المشرق، ونماذج الشعر نفسها كأنها تصاغ على أنماط مشرقية خالصة، ففلان يتكلم على نمط فلان، وفلان ينظم على نمط فلان.
وعلى هذه الشاكلة لا يزال من يقرأ في آثار الشعر الأندلسي أثناء القرنين الرابع والخامس، يجد هذا التقليد للنماذج المشرقية، وهو تقليد لا يقف عند المشابهة في الوزن والروي، بل يمتد إلى المشابهة في المعاني والأساليب. والمذاهب الفنية في المشرق كانت تنقل نقلا إلى الأندلس، وكان الشعراء يقلدونها هناك، ولو أنه تقليد لهم يكن دقيقا، ويجمعون بين طرق ومذاهب مختلفة لغير شاعر واحد. ولم تحدث بالأندلس مذاهب جديدة في صناعة الشعر، بل وقفوا عند المذاهب التي عرفت بالمشرق. وإذا كان الأندلسيون قد أحدثوا شيئا من التغيير في الشعر العربي بموشحاتهم وما إليها من أزجال ونحو ذلك، فإن حدوث هذا لم يحدث ثورة على الأوضاع القديمة في الشعر العربي إلا من حيث الأوزان والقوافي.
ولا يزال الأمر من الوحدة عند صاحب هذا القول بحيث يقرر فيه أخيرا: «أن الطبقات التي كونها هذا الشعر أثناء هذه العصور - القرنين الرابع والخامس - والعصور التالية، كانت متماثلة، وأن تحليل إحدى طبقاته كاف للوقوف على معرفة ما انتهى إليه شأنه في الطبقات الأخرى، فحتى الفارق الزماني في العصور المختلفة لا يتحرج أصحاب الوحدة في الآداب العربية، من أن ينكروه على أدب الأندلس، وأن يروا أن تحليل إحدى طبقات الشعر في عصر كاف للوقوف على معرفة ما انتهى إليه شأنه في الطبقات الأخرى!»
Unknown page