لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى ... لكا لطول المرخى وثنياه باليد2 # وبيت طرفة أحسن وأمتن؛ حيث شبه الإنسان بدابة، وحبلها بيد الموت يرخي لها فيه, وإذا شاء جذبها إليه فتقضي العمر, وأما أن الأيام منازل، وأنا فيها على سفر فمعنى قديم مطروق، وقد تكررت في الأحاديث النبوية، وفي أقول الزهاد والوعاظ.
وهكذا إذا أخذت أي قطعة للبارودي تجده يردد فيها كثيرا من المعاني القديمة المعروفة المشهورة, ولا يعني هذا أن البارودي لم يجدد في شعره وفي معانيه، بل له تجديد ملحوظ في شعره سنذكره فيما بعد.
وإذا كان البارودي قد طرق أبواب الشعر العربي الموروثة, ولم يجدد في أغراضه، فإنه كان واضح الشخصية في كثير من هذه الموضوعات المطروقة, فتراه يمثل نفسه، وزمنه، وبيئته، في قصائد شتى. فالبارودي ذاق حلو الزمان، ومره، وارتفع في مناصب الدولة حتى رئاسة الوزارة, ثم شرد ونفي، وقضى زمنا طويل يتحرق فيه شوقا إلى وطنه وأهله، ويتحسر على أيامه الخاليات، ويندب فيه حظه، وينعى على الأصدقاء الكاذبين خياناتهم وغدرهم، ويذم الحياة ويكيل لها السباب، وهو في كل ذلك صادق الشعور يصف ما به على طبيعته, فبرزت شخصيته واضحة لا لبس فيها ولا غموض.
وإذا كان البارودي قد قلد القدماء وحاكاهم في أغراضهم وطريقة عرضهم للموضعات وفي أسلوبهم، وفي معانيهم، فإن له مع ذلك جديدا ملموسا في شعره؛ من حيث التعبير عن شعوره وعن مشاهداته، وله معان جديدة، وصور لهم يسبق إليها، وإذا أردنا أن ننصفه, فعلينا دراسة الجديد في شعره حتى يكون حكمنا عليه عادلا، ونستطيع أن نضعه في منزلته الجديرة به في موكب التاريخ والأدب والنهضة.
ب- الجديد في شعره:
1- الوصف:
ولا تعجب إذا عددنا الوصف جديدا عند البارودي، وإن كان قديما منذ أن كان الشعر العربي، وما من شاعر إلا له في الوصف أبيات وقصائد, ولكن الجديد في وصف البارودي أنه أفرد له قصائد بعينها, ولم يأت به عرضا في ثنايا القصائد.
Page 196