واهتف به من قبل تسريحه ... فالسهم منسوب إلى الرامي1 # فجاء والحق يقال شعرا يأخذ بمجامع القلوب من حيث موسيقاه، وتماسك أبياته وقوافيه, وانسجام ألفاظه، وانتقاؤها انتقاء خبير ملهم:
فألق إليه السمع ينبئك أنه ... هو الشعر لا ما يدعي الملأ الغمر1
يزيد على الإنشاد حسنا كأنني ... نفثت به سحرا، وليس به سحر
كان البارودي يتخير الألفاظ المناسبة للمعاني التي يريدها فيرق ويلطف حين يقضي المقام الرقة واللطف كأن يتغزل أو يعتب، أو يصف منظرا جميلا, أو مجلس أنس وسمر، ويجزل شعره يجلجل لفظه، ويشتد أسره حين ينشد في الحماسة والفخر والمديح، وحين يصف البحر الهائج، والريح الزفوف والحرب الضروس.
إذا اشتد أورى زندة الحرب لفظه ... وإن رق أزرى بالعقود فريدة
إذا ما تلاه منشد في مقامه ... كفى القوم ترجيع الغناء نشيده
فجاء شعره مما يلذ للإنسان حقا إن ينشده بصوت مرتفع، يترنم به ليطرب, ويتأمل في نغمه وموسيقاه فيلتذ ويعجب، فلا بدع أن قال:
ولي كل ملساء المتون غريبة ... إذا أنشدت أفضت لذكر بني سعد2
أخف على الأسماع من نغم الحدا ... وألطف عند النفس من زمن الورد
كان البارودي يعلم أنه سيخلد بشعره لا بحسبه ونسبه، وإذا كان قد أخفق في بلوغ مناه وتحقيق آماله في هذه الدنيا، فإنه أدرك الغاية من السعي في الحياة العمل الصالح والمجد المؤثل، ألا وهي الخلود بعد الموت, وترديد اسمه عطرا على كل لسان، وفي ذلك يقول في شعره:
Page 189