هذا، وقد حفل زمان البارودي بأحداث عظام، فمن نهضة شاملة، وخلق لأمة متمدينة، إلى ثوراث وفتن وحروب ومعارك، ونفي وتشريد، وقد سافر البارودي إلى الآستانة مرارا، وشهد حرب "كريت" وحرب "روسيا" ورأى علما لم يعرفه من قبل، ومناظر جديدة، فتاثر بكل ذلك وانفعلت نفسه له، وهاجت هذه الأحداث شاعريته, فانطلق لسانه يردد خواطره وأحساسيسه, فكانت هذا الشعر الخالد.
وإذا أضيف إلى هذه الموهبة العظيمة، والدارسة الواسعة، والتجارب الحافلة, وراثة في قول الشعر سجلها البارودي بقوله:
أنا في الشعر عريق ... لم أرثه عن كلاله
كان إبراهيم خالي ... فيه مشهور المقالة
زالت دهشتنا حين نرى البارود قد كملت عدته، وهيأته الأيام ليبعث الشعر من رقدته، وينهض به هذه النهضة السامية.
شعره:
يقول البارودي في مقدمة ديوانه: "الشعر لمعة خيالية, يتألق وميضها في سماوة الفكر، فتنبعث أشعتها إلى صحيفة القلب, فيفيض بلألأئها نورا يتصل خيطه بأسلة اللسان، فينفث بألوان من الحكمة ينبلج بها الحالك، ويهتدي بدليلها السالك، وخير الكلام ما ائتلفت ألفاظه وائتلفت معانيه، وكان قريب المأخذ، بعيد المرمى، سليما من وصمة التكلف، بريئا من عشوة التعسف، غينا عن مراجعة الفكرة ، فهذه صفة الشعر الجيد، فمن آتاه الله منه حظا، وكان كريم الشمائل، طاهر النفس، فقد ملك أعنة القلوب، ونال مودة النفوس، ولو لم يكن من حسنات الشعر الحكيم إلا تهذيب النفوس، وتدريب الأفهام, وتنبيه الخواطر إلى مكارم الأخلاق, لكان قد بلغ الغاية التي ليس وراءها لذي رغبة مسرح، وارتبأ الصهوة التي ليس دونها لذي همة مطمح".
Page 185