163

Fi Adab Hadith

في الأدب الحديث

Genres

ثقافته:

أعد البارودي ليكون جنديا، ولم يعد ليكون أديبا، بيد أنه حين وجد نفسه بعد أن تخرج في المدرسة الحربية متعطلا, أبت عليه نفسه الطموح أن يستمرئ اللهو والدعة، وعكف على كتب الأولين يقرؤها بشغف ونهم، ولم يقرأ كتابا من كتب اللغة، ولكنه قرأ كتب الأدب، ويقول الشيخ حسين المرصفي صديقه ومرشده1: "ولم يقرأ كتابا في فن من فنون العربية، غير أنه لما بلغ سن التعاقل وجد من طبعه ميلا إلى قراءة الشعر وعمله، فكان يستمع إلى بعض من له دراية وهو يقرأ بعض الدواوين، أو يقرأ بحضرته حتى تصور في برهة يسيرة هيئات التراكيب العربية، ومواقع المرفعوعات منها والمنصوبات والمخفوضات, حسبما تقتضيه المعاني والتعلبيقات المختلفة، فصار يقرأ ولا يكاد يلحن، سمعته مرة يسكن ياء المنقصوص والفعل المعتقل بها المنصوبين، فقلت له في ذلك فقال: هو كذا في قول فلان, وأنشد شعرا لبعض العرب، فقلت: تلك ضرورة، وقال علماء العربية: إنها غير شاذة، ثم استقل بقراءة دواوين مشاهير الشعراء من العرب وغيرهم, حتى حفظ الكثير منها دون كلفة، واستثبت جميع معانيها، ناقدا شريفها من خسيسها, واقفا على صوابها وخطئها".

والحق أن أثر القراءة والحفظ ظاهر في شعر البارودي، ومن يطلع على "مختارات البارودي" يشهد بحسن ذوقه، ودقة اختياره، وتأنقه في غذائه عقله، كما يشهد بكثرة محفوظه، ولا نعجب بعد هذا حين نرى البارودي ممتلكا ناصية اللغة, يتصرف فيها تصرف الخبير العليم بأسرارها, المطبوع على التكلم بها، وأغلب الظن أن مختاراته لم تحو كل ما حفظ من جيد الشعر العربي؛ لأننا نلمح أثرا للشعر الجاهلي في شعره: من كلمات، وعبارات, ومعارضات, وتشبيهات، مع أن مختارته لم تحو إلا شعرا عباسيا.

Page 183